كانت مدرسة “التسامح الفلبينية التركية” أول مؤسسة تربوبة تلفت نظر الكاتب إلى حركة الأستاذ كولن وتدفعه إلى دراسة كتاباته، ليكتشف الغاية الكامنة وراء هذا المشروع التربوي الصادر عن رؤية الأستاذ كولن وأصحابه التربوية، خصوصًا وأن المدرسة تتواجد في منطقة يقطنها 50% من المسلمين و50% من المسحيين، ويغلب عليها طابع التوتر والتجاذب بين هؤلاء الأطياف، لكن المدرسة تعطي التلاميذ الفلبينيين مسلمين ومسيحيين دروسًا إيجابية وذات جودة عالية في كيفية التعايش مع الآخر.

لقد كان الكاتب يتوقع رؤية مظاهر إسلامية تقليدية وصارمة في منهاج وإطار المدرسة، لكن الواقع كان غير ذلك بحكم الطبيعة التعددية لنوعية التلاميذ الذين يترددون على المدرسة.

يحاول الكاتب  في هذه الدراسة بيان دور الأستاذ كولن مربيًّا ومفكرًا مسلمًا؛  فدوره كمفكر إسلامي ومعلم يستحق الفحص الدقيق، كما أن دراسة معمقة لفكره الديني المنفتح لا تقل أهمية، خصوصًا وأن هذا الفكر يمثل قراءة حديثة للنص الإسلامي “على حد تعبير الكاتب”.

 

كان أول ما عرفت في حركة الأستاذ كولن هو تلك المؤسسات التربوية التي يديرها أفراد الحركة. وهذا ما قادني إلى بدء دراسة كتابات الأستاذ كولن لأكتشف الغاية الكامنة وراء هذا المشروع التربوي الصادر عن رؤية الأستاذ كولن وأصحابه التربوية.

يجب في البداية الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعلاقة الأستاذ كولن بهذه المدارس، حيث يُطلَق عليها في الغالب، وبدون تبيّن، “مدارس كولن، “أو”مدارس حركة كولن”. يحب الأستاذ كولن أن يسمي نفسه مربيًا، في حين أنه يضبط مفاهيميًّا الفرق بين التربية والتعليم، فيقول: “قد يصير كثير من الناس أساتذة، لكن المربين قلائل”(1).

من الأفضل الاعتراف بأن الأستاذ كولن يرفض الجهود الرامية للقطع مع الماضي، وفي الوقت نفسه يرفض الجهود الرامية إلى إعادة تأسيس المجتمعات ما قبل الحداثية.

كما أنه لا يفتأ يكرر أنه لا يمتلك أي مدارس؛ فقد تأسست تلك المؤسسات جراء اتفاقيات بين الشركات الراعية للمدارس والجهات الرسمية في الدول التي توجد بها. ثم إن كل مدرسة تدار على حدة.

لقد كان أول تعرف لي على واحدة من هذه المدارس سنة 1995م في زامبوانغا، جنوب الفيليبين، وكان أول ما استرعى اهتمامي تلك اليافطة التي تحمل اسم “مدرسة التسامح الفلبينية التركية”.

كان هذا بالنسبة لي أمرًا مذهلاً لدرجة كبيرة، خصوصًا وأن المدرسة تتواجد في منطقة يقطنها 50% من المسلمين و50% من المسيحيين، ويغلب عليها طابع التوتر والتجاذب بين هؤلاء الأطياف، لكن المدرسة تعطي التلاميذ الفلبينيين مسلمين ومسيحيين دروسًا إيجابية وذات جودة عالية في كيفية التعايش مع الآخر. وقد أكد لي صديقي المسيحي، الأستاذ بنفس المدرسة، أن هذه الأخيرة حافظت على مستوى رفيع من التواصل مع مؤسسات مسيحية في المنطقة.

إن تميز هذه المدرسة واضح من خلال فوز تلامذتها الدائم بأولمبياد المواد المختلفة: لغة، رياضيات، علوم، تكنولوجيا، لقد كنت أتوقع رؤية مظاهر إسلامية تقليدية وصارمة في منهاج وإطار المدرسة، لكن الواقع كان غير ذلك بحكم الطبيعة التعددية لنوعية التلاميذ الذين يترددون على المدرسة: مسيحيين، مسلمين، بوذيين، هندوس، وقرغيز. إن أغلب خطاب المدرسة حول القيم الكونية كالصدق، والعمل الجاد، والتناغم، وتحكيم الضمير، وكان هذا الاكتشاف المذهل وراء محاولتي البحث في كتابات الأستاذ كولن وتتبع الأسباب التي جعلت منه مربيًا قادرًا على إلهام الآخرين.

رؤية الأستاذ كولن التربوية

لم يتقبل العديد من الأتراك الملتزمين والمحافظين الطريقة التي تبنت بها الجمهورية التركية الحديثة “تحديث” جميع قطاعات الدولة في عشرينيات القرن المنصرم، وكان أول ما آخذوا به الدولة هو ذاك التقليد الأعمى للحضارة الأوروبية، وقد رأوا في العلمنة نتيجة قصدية تضاد الدين، ولم يستطيعوا أن يروا فيها مسارًا تاريخيًّا عاديًّا.

لقد كانوا يتصورون أن العلمانية جاءت نتيجة لاقتناع مؤسسي تركيا الحديثة بأن الدين يعرقل التقدم، ولذلك وجب استبعاده من نطاقات المجتمع، والاقتصاد، والسياسة إذا أردنا للأمة أن تتقدم. وقد كان لهذا النقاش الذي ما زال محتدمًا، حول علمنة أو أسلمة التعليم أن يدفع المفكرين والباحثين إلى إعلان ولائهم لأحد الطرفين على حساب الآخر. وفي رأيي، فقد كانت واحدة من الأسباب التي دفعت باليمينيين واليساريين وبالعلمانيين والإسلاميين إلى مهاجمة الأستاذ كولن هو أن هذا الأخير رفض بشكل صارم أن يتبنى واحدًا من الموقفين المتضادين في هذه القضية؛ لقد قدم الأستاذ كولن، وعلى عكس طرح هؤلاء، مقاربة استشرافية تتجاوز محدودية هذا النقاش، فجاء برؤية تربوية توفيقية بين التحديث والعلمنة وبين تأصيل القيم الإسلامية الكونية، بحيث استطاع أن يستجيب لمقتضيات العالم الراهن المتحولة.

إن مقاربة الأستاذ كولن لا تتماشى مع ما يريده البعض من المطالبة بإحياء أمجاد الماضي، أو الوقوف عند بعض التقاليد من أجل استعادة دولة الخلافة أو الأثر العثماني بشكل حرفي وساذج. ويبدو ذلك واضحا في قوله: “إذا لم يكن هناك تلاؤم مع الأوضاع والشروط الراهنة، فالنتيجة دائمًا هي الزوال”.(2)

إن الأستاذ كولن يضيف مؤكِّدًا أن الإغراق في كل من الطرفين، أي التحديث أو التقليد، لا يؤدي إلى نتائج حميدة. المطلوب إذن هو عدم القطع مع القيم التقليدية، لأنه من دونها قد نعرض الشباب إلى خطر تربية جوفاء قد تجعل منهم قطعانًا من الموظفين النفعيين داخل نظام السوق المعولم، خالين من القيم غير المادية. إن الشباب المتعلم يحتاج في تربيته إلى قيم مثل عمق التفكير، ووضوح الفكر، وأصالة الإحساس، والتعاطف الثقافي، والاهتمام بالجانب الروحي.(3)

تهدف مظاهر الحياة الإسلامية إلى إنتاج أفراد شرفاء ومستقيمين أخلاقيًّا. ويمكن الزعم -من خلال هذا المعنى العام عن الإسلام، أنَّ مدارس حركة “الخدمة” تستلهم رؤيتها الأخلاقية من جذور الإسلام.

هناك حساسية مرهفة في رؤية الأستاذ كولن لمسألة التربية والتعليم، فهو يرى أن أغلبية الخريجين الجامعيين يُهَيَّؤون لكي يكونوا موظفين مفرَّغين من الداخل. وبالنسبة له فمثل هؤلاء الخريجين لا يستطيعون الوصول إلى الحرية الإنسانية بمعناها الفسلفي؛ فالقادة في كل من المجالين الاقتصادي والسياسي يفضلون دائمًا التعليم الخالي من القيم، والذي يكوِّن طلبة عاملين ونفعيين، لأن ذلك يمكِّن أصحاب السلطة من السيطرة بسهولة على الأطر الشغيلة “المتدربة” وليس على “المتعلمين المهذبين”. ويؤكد الأستاذ كولن على “أنك إن أردت أن تجعل الجموع تحت سيطرتك، فقط جوِّعهم معرفيًّا. فهروبهم من الاستبداد لا يتم إلاّ من خلال التربية والمعرفة. إن الطريق إلى العدالة الاجتماعية ممهد بأسس التربية السوية والكونية، والتي ستسمح للناس بفهم معاني التسامح والتعايش واحترام الحقوق”(4)

وبالتالي ففي رؤية الأستاذ كولن، لا يتعثر تأسيس أسس العدالة بقلة التربية والتعليم، ولكن يتعثر كذلك بقلة الاعتراف بحقوق الإنسان، وبعدم الاهتمام بمواقف قبول الآخر والتسامح معه. فإذا كان الناس قد حظوا بتربية جيدة تدفعهم للتفكير في أنفسهم وتحفزهم على احتضان قيم إيجابية كالعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والتسامح، فإنهم سيتحولون إلى عملاء تغيير يغرسون هذه الأهداف النبيلة في نفوس المحيطين بهم.

وحتى يتحقق هذا المستوى الرفيع والمطلوب من التربية والتعليم، وجب الاهتمام بشكل جدي بتكوين الأساتذة. ولذلك ينبه الأستاذ كولن إلى حقيقة أن “التربية تختلف عن التعليم. فغالبية الناس قد يصبحون أساتذة، لكنَّ المربين فيهم قلائل”(5)، الفرق بين الاثنين يكمن في أنَّ كُلاًّ من الأساتذة والمربين يكتسبون مهارات التدريس والمعرفة، لكن المربي هو شخص لديه القدرة على دعم شخصيات التلاميذ حتى تتفتق، وهو شخص يدفع بهم إلى التفكير والفكر، ويبني لديهم قوة الشخصية، ويساعدهم على تطوير قدرات السلوك الحسن الخاص بهم، وعلى الاهتمام بقيم التسامح، وحس المسؤولية. كما أنه يصف أولئك الذين يدرّسون من أجل كسب المال، من دون اهتمام بشخصيات التلاميذ كـ”أعمى يقود أعمى”.

لقد أدى هذا الصراع على مناهج التعليم بين أطراف متعصبة إلى ما يسميه الأستاذ كولن بـ” الصراع المرّ الذي لم يكن ليقع: صراع الدين مع العلم”. (6) هذه المفارقة الخاطئة، والتي استهلكت خلال القرنين 19 و20 طاقات المفكرين والسياسيين ورجال الدين أدت إلى تقسيم الفلسفات والمناهج المتعلقة بحقول التربية والتعليم؛ فقد رأى المربّون العلمانيون الحداثيون في الدين مضيعة وقت على أقل تقدير وعرقلة للتطور على أكثر تقدير، ورأى رجال الدين في التحديث والعلمنة الشيء نفسه.

لقد أدى هذا النقاش العقيم إلى نبذ الحداثة والدين معًا، وقد نُظر إلى هذا الأخير “كإيديولوجية سياسية عوض النظر إليه كدين بمعناه الصحيح”(7).

إن الأستاذ كولن يدرك أنه فقط ومن خلال نهج تربوي ينفتح فيه رجال الدين على تكوين رصين في العلوم وينفتح فيه العلماء إلى القيم الدينية والروحية، قد ينتهي هذا الصراع الطويل بين الدين والعلم أو على الأقل قد نتنبه إلى سخافته”.(8)

وإلى أن نصل إلى هذا المبتغى، يبقى تبني أسلوب جديد في التربية ضرورة ملحة، يقول عنه الأستاذ كولن: “إنه أسلوب يجب أن يضع المعرفة الدينية والعلمية في بوتقة واحدة مع الأخلاق والروحانية، حتى نتمكن من تخريج أناس متنورين وذوي قلوب رحبة وعقول مليئة بالأشياء الإيجابية، أناس مستعدين للعيش وفقا للخصائص الإنسانية والقيم الأخلاقية، ومدركين للظروف السوسيواقتصادية والسياسية لوقتهم”.(9)

هناك العديد من المصطلحات التي تتكرر في كتابات الأستاذ كولن حول التربية، وتحتاج إلى توضيح لئلا تتسبب في سوء الفهم. وأول هذه المصطلحات هو الروحانية أو القيم الروحية؛ هناك من سيقرأ هذا المصطلح كرمز للدين، بحيث يُستعمل بغرض التغطية على الإجحاف في حق التدين في المجتمعات المعلمنة والحداثية، غير أن الحقيقة هو أن الأستاذ كولن يريد بهذا المصطلح معناه العام، فبالنسبة له لا تحتوي الروحانية فقط على التعاليم الدينية، بل كذلك على الأخلاق، والمنطق، والسلامة النفسية، والانفتاح العاطفي. وهناك أيضا مصطلحات مفاتيح كالرحمة والتسامح، ويبقى الدور الأساس على التربية والتعليم لكي ترسخ مثل هذه الخصائص “غير القياسية” في أذهان وقلوب التلاميذ، بالإضافة إلى تدريبهم على نهج السلوك “القويم”.

إن أغلب خطاب المدرسة حول القيم الكونية كالصدق، والعمل الجاد، والتناغم، وتحكيم الضمير، وكان هذا الاكتشاف المذهل وراء محاولتي البحث في كتابات الأستاذ كولن.

هناك مصطلحات أخرى يستعملها الأستاذ كولن تحتاج إلى درس أكثر. فهو غالبا ما يتحدث عن الحاجة إلى قيم ثقافية(10)وتقليدية أصيلة(11). وقد أُوِّلت دعوته هذه إلى إدماج القيم الثقافية والتقليدية في التربية والتعليم من طرف النقاد كدعوة للرجوع إلى المجتمع ما قبل العثماني؛ فهو الذي اتُّهم بالرجعي وحتى بالأصولي. وهذا اتهام لم يتقبله أبدًا الأستاذ كولن. وحتى يوضح موقفه يقول: “إن كلمة رجعي تعني الرجوع إلى الماضي أو حمل الماضي إلى الحاضر، وأنا شخص أخذ على عاتقه الخلود هدفًا، وليس الغد فقط. إنني أفكر في مستقبل بلدنا وأحاول قصارى جهدي في ذلك، ولم يكن في نيتي يومًا ما أن أُرجع بلدي القهقرى في أي من كتاباتي، أو خطبي، أو أنشطتي. ولا يحق لأحد أن يصف الاعتقاد في الله، أو العبادة، أو القيم الأخلاقية أو أن يزعم أن الأشياء اللامحدودة بالزمان رجعية”(12).

إن الأستاذ كولن باقتراحه إدخال القيم الثقافية والتقليدية في التعليم ينظر إلى تاريخ تركيا كتراكم متمهّل للحكمة، التي ما زالت تعطي دروسًا للناس الحداثيين، كما أن الكثير داخل الحكمة التقليدية لازال فيه ما يستفاد منه في حاجيات المجتمعات الراهنة.

إن الماضي لا يجب أن يُهمل بسبب هذه الحكمة المتراكمة، لكن في مقابل هذا فإن أي محاولة لإعادة بناء الماضي تبقى قاصرة ومحكومة بالفشل. من الأفضل الاعتراف بأنه في حين نجد الأستاذ كولن يرفض الجهود الرامية للقطع مع الماضي، فإنه في الوقت نفسه يرفض الجهود الرامية إلى إعادة تأسيس أو إعادة خلق المجتمعات ما قبل الحداثية.

إن هذا التوجه الذي نجده عند بعض الإصلاحيين المحدثين والذي يصبو إلى “التحرر من قيود الماضي” يرى فيه الأستاذ كولن رحمة مزدوجة. فعناصر التراث التي كانت تتسم بالقمع والجمود، أو التي فقدت غايتها الأصلية وإلهاميّتها لا بدَّ لها من أن تُخلف، لكن هناك عناصر أخرى تحريرية وإنسانية يجب علينا ترسيخها حتى تتمكن الأجيال الجديدة من بناء مستقبل أفضل. ومن الواضح أن تفكيره يتجاوز النقاش الداخلي حول التوجهات السياسية في تركيا، كما أنه يتجاوز مستقبل المجتمعات الإسلامية، فرؤيته التربوية تعانق مجتمعات العالم أجمع؛ إنه يسعى إلى تكوين مصلحين محصّنين بنظام قيمي يعتبر كلا من المظاهر الفيزيقية واللامادية للإنسانية، وفي هذا الصدد يقول: “إن أولئك الذين يريدون أن يصلحوا العالم يجب عليهم أولا أن يصلحوا أنفسهم. ومن أجل أن يدعوا آخرين إلى طريق السفر إلى عالم أفضل، يجب عليهم أن يطهّروا عوالمهم الداخلية من الحقد، والكراهية، والحسد، وأن يجمّلوا عوالمهم الخارجية بكل أنواع الفضائل. أما أولئك الذين لا يبالون بتزكية أنفسهم أو الانتباه إلى سلوكهم فقد يبدون جذابين وأصحاب بصائر في النظرة الأولى، لكنهم لن يتمكنوا من إلهام الآخرين بشكل مستمر كما أن الأحاسيس التي يُذكون عاجلاً ما تتوارى”(13).

ويضيف الأستاذ كولن أنه: “لا يمكن اعتبار شخص ما إنسانيًا بحق إلا بعد أن يتعلم ويعلم ويلهم الآخرين. ومن الصعب اعتبار شخص ما إنسانيًّا بحق إذا كان جاهلاً ولا يمتلك الرغبة في التعلم. كما أنه يبقى في عداد النقاش كل شخص متعلم لا يحيِّن تعليمه ولا يجدده أن يكون قدوة أو أن يكون إنسانيا بحق” (14)..

يتمثل الطرح الأساسي هنا في كون الأستاذ كولن مربيًّا؛ فدوره كمفكر إسلامي ومعلم يبقى موضوعًا يستحق الفحص الدقيق، كما أن دراسة معمقة لفكره الديني المنفتح لا تقل أهمية، خصوصًا وأن هذا الفكر يمثل قراءة حديثة للنص الإسلامي. غير أن مثل هذه الأسئلة، للأسف لا تمثل محور هذا المقال، على أن دراسة لرؤيته التربوية لن تكتمل من دون نظرة ولو خاطفة لكتابات الأستاذ كولن عن الإسلام، ولدى الأستاذ كولن أكثر من 30 كتابًا، البعض منها تأليف لمجموعة من الخطب والمواعظ التي سبق وألقاها بين طلبته ومرتادي المساجد، والآخر أجوبة لأسئلة طُرحت عليه في مناسبات مختلفة. تتطرق مضامين هذه الكتب إلى مواضيع مختلفة، فمن حياة الرسول محمد  إلى التعريف بالتصوف، والقضايا المرتبطة بعلم الكلام، مرورًا بالثيمات المتعلقة بالعقيدة. وتستهدف هذه الكتب في الغالب عوام المسلمين المتعلمين، لا المتخصصين.

إن أول ما يجلب انتباه القارئ عندما يتعلق الأمر بمقاربة الأستاذ كولن التأويلية للنصوص الإسلامية الأساسية وللتقليد، هو هذا التركيز الكبير على الأخلاق والفضائل، والواضح من خلال كتاباته أنه يرى في الأخلاق قضية محورية داخل النطاق التديني الذي يرويه القرآن الكريم أكثر منه ممارسة طقوسية. وفي حين يؤكد على أهمية العبادة، يعتبر الاستقامة الأخلاقية في صميم الباعث الديني، يقول في هذا الإطار: “الأخلاق هي جوهر الدين، وهي الجزء الأساسي في الخطاب الرباني، فإذا كان بطوليًّا أن تكون صاحب فضائل وأخلاق، فأعظم الأبطال هم أولاً الأنبياء، ثم من يتبعون تعاليمهم بصدق والتزام. فالمسلم الحقيقي هو من يمشي بين الناس بأخلاق كونية، وبالتالي إسلامية” (15). ويؤكد الأستاذ كولن على طرحه هذا بحديث نبوي شريف: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (أخرجه أحمد في مسنده).

تهدف جميع مظاهر أسلوب الحياة الإسلامية إلى العمل من أجل إنتاج أفراد شرفاء ومستقيمين أخلاقيًّا. ويمكن الزعم أنه ومن خلال هذا المعنى العام عن الإسلام، أي الخضوع إلى الله تعالى، فإن مدارس حركة “الخدمة” تستلهم رؤيتها الأخلاقية من جذور الإسلام، فعندما يتحدث الأستاذ كولن عن تكوين طلبة “يكرسون حيواتهم وفقا لخصائص الحياة الأخلاقية، ويجمّلون عالمهم الخارجي بكل أنواع الفضائل”، فإنه يقترح نوعًا كونيًّا من النظام الشّفري الأخلاقي تَعلَّمه بنفسه من الإسلام. ومن البديهي أنه لا يعتبر أن هذه الفضائل والأخلاق الكونية ملكًا للإسلام وحده؛ فالتلاميذ من غير المسلمين مرحب بهم داخل المدارس، ولا توجد أدنى محاولات لإكراههم على اعتناق الإسلام.

إننا بهذه الطريقة قد نفهم أن الإسلام “طريقة تؤدي بالإنسان إلى الكمال البشري، أو تساعده على إعادة اكتساب الحالة الملائكية الفطرية”(16). وإذا كنا نرى في الإسلام طريقًا نحو الكمال البشري، فإن تطور التصوف يجب أن يعتبر تطورًا طبيعيًّا ومحتومًا داخل التقليد الإسلامي. إن الأستاذ كولن يقترح تعريفًا أخلاقيًّا للتصوف، فيقول: “إن التصوف يشبه هذا السعي الحثيث للتخلص من العادات السيئة والإغراء الشيطاني والتوق إلى اكتساب المزيد من الفضائل”(17)، ويثني الأستاذ كولن على أهل التصوف في التاريخ الإسلامي، بحيث يعتبرهم كالقادة الروحيين الذين عرضوا طريق الكمال البشري على أجيال من المسلمين، لقد أدت للأسف قراءته هذه للتصوف إلى اتهامه بإنشاء طريقة صوفية جديدة داخل حركته. وفي حين ينكر الأستاذ كولن أنه ينتمي إلى أي طريقة صوفية، فإنه يستغرب كيف يكون له أن يُنشئ طريقة صوفية جديدة بالمرة، ويؤكد الأستاذ كولن أن اتهام الصوفية أو البعد الروحي في الإسلام هو بمثابة اصطدام بالعقيدة الإسلامية وبروح الإيمان: “لقد صرحت غير ما مرة أنني لا أنتمي لأي طريقة دينية؛ إن الإسلام دين يركز بشكل فطري وطبيعي على مملكة الروح، ويتخذ من تدريب الأنا مبدأ عامًّا، كما أن الزهد، والتقوى، والصدق، وحسن الخلق أسس ضرورية فيه، وقد كان التصوف تلك الشعبة التي تداولت هذه المعاني في التاريخ الإسلامي. ومعارضة كل هذا قد يكون بمثابة معارضة روح الإسلام، لكنني، أكرر أنني لم أنضم أبدًا إلى أي طريقة صوفية، ولم تكن لدي أي علاقة بأي واحدة”(18)

الهوامش

(1) 1، الموازين أو أضواء الطريق (إزمير: كيناك، 1998)،

(2) 36، لين إميلي ويب، فتح الله غولن: هل هناك أكثر من له يلتقي العين ؟

(3) 106، نحو الجنة المفقودة.

(4) 16، “م. فتح الله غولن:صوت الرحمة والحب والتفاهم والحوار”، مقدمة إلى م. فتح الله غولن، “ضرورة الحوار بين الأديان”، مقدمة ل م. غولن، “نيسيسيتي أوف إنتيرفيث ديالوغو: أ مسلم أبروتش ، “قدم في برلمان الأديان في العالم، كيب تاون، سوت أفريقيا، 1-8 ديسمبر

(5) 33، المصدر السابق.

(6) 36، “ضرورة الحوار بين الأديان”

(7) 39، المرجع نفسه.

(8) 20، المرجع نفسه.

(9) 39، المرجع نفسه.

(10)  “القليل من الاهتمام والأهمية يعطى لتعليم القيم الثقافية، على الرغم من أنه أكثر للتعليم.إذا كان يوم واحد ونحن قادرون على ضمان أن يعطى أهمية، ثم سنكون قد وصلت إلى هدف رئيسي”. الموازين أو أضواء من واي، 1:

(11) 35، راجع نحو الجنة المفقودة. 16، والموازيين أو أضواء الطريق، 1: 44

(12) 45. ويب، فتح الله غولن

(13) 95. “ضرورة الحوار بين الأديان”

(14) غير محدد المصدر من الكاتب

(15) 30. نحو الجنة المفقودة،

(16) 30، النور الخالد، محمد مفخرة الإنسانية

(17) 54، المفاهيم الأساسية في ممارسة التصوف

(18) 1، ويب، فتح الله غولن، 102-3

About The Author

الأب الدكتور توماس ميشيل، (مستشار البابا ومستشار الفاتيكان للشؤون الإسلامية سابقاً)، درَّس اللغة الإنجليزية في أندونيسية وهناك بدأ اطلاعه على الإسلام، انتقل إلى القاهرة لتعميق معرفته بالعربية والإسلام، ودرَس في الجامعة الأمريكية ودار العلوم والأزهر، عمل سكرتيرًا لمجلس أساقفة آسيا للحوار بين الأديان، ثم سكرتير الأمانة اليسوعية للحوار بين الأديان في روما، درَّس في كثير من جامعات العالم، وله عديد من الكتب والمقالات بلغات مختلفة.

Related Posts