مفهوم الجماعة وحركة التجمع

دخل مفهوم الجماعة –كحقيقة اجتماعية– إلى ساحة اهتمام المجتمع الحديث واهتمام علم الاجتماع المعاصر من جديد. وعلى الرغم من كونه من أعقد مفاهيم علم الاجتماع، إلا أننا لا نجد مفكراً لم يتناول تمحيصه وتدقيقه. ويأخذ هذا المفهوم أهميته، وكذلك تعقيده مع بروز “المجتمع الصناعي الحديث” الذي كان سبباً في انحلال الروابط والعلاقات التقليدية التي كانت تشكل ماهية المجتمع الغربي. وتشكل كذلك صور النظام الاجتماعي في الغرب. بل إن علم الاجتماع نفسه ولد كعلم في حضن هذا التغيير الجذري.

ولنقل من البداية بأننا لا ننوي تحليل وفحص الأسس الاجتماعية لمفهوم “الجماعة”. لذا فلن يجد القارئ هنا طبعاً أنموذجاً لهذا المفهوم. لأن تقديم هذا الأنموذج ليس من أهدافنا هنا.

ولكن لكي نفهم وندرك مفهوم “الجماعة” في العالم الإسلامي، كان من المفيد تناول مفهوم الجماعة في الغرب وكيفية تناوله هناك. وكذلك تناول هذا المفهوم في التصور الإسلامي وذلك بشكل موجز. وكذلك شرح أهم الأخطاء التي تقع فيها الدراسات الغربية عندما تقوم بتحليل الجماعات الإسلامية، وشرح الأسس الثقافية للغرب التي تشكل خلفية هذه التحليلات وتوجهها.

إن أسس وأسباب تشكّل الجماعات في الغرب وفي العالم الإسلامي وظهورها، تختلفان من الناحية الثقافية والتاريخية والمادية، ومن الناحية المعرفية (Epistemology). وهناك خطان في الغرب حول تحليل ظاهرة تشكّل الجماعة، وهما خط “ماركس” (Marx)، و”تونس” (Tönnies)، و”ويبر”، الذي يقول بأن الجماعة تكتل منظم ظهر قبل عصر الحداثة ويستند إلى تقاليد ريفية. وهناك فروق فرعية بين هؤلاء المفكرين في هذا الصدد. فبينما يرى “تونس” أن ظاهرة “الجماعة” و”التكتل” ظاهرة ريفية ظهرت قبل عصر الحداثة، واستندت إلى التقاليد والعادات التقليدية الريفية. يرى “ويبر” أن “الجماعة” يمكن أن تظهر في المجتمعات الصناعية أيضاً بدافع “الاستمرارية”. وهي وإن ظهرت في المدن الكبيرة العصرية إلا أنها تحمل خصائص تقليدية.

الملف الثاني

أما الخط الثاني، فيتناول ظاهرة “الجماعة” على أساس أنها ظاهرة اجتماعية أوجدها الفراغ الروحي والقيمي للحداثة. فهذه الحداثة قطعت العلاقات والروابط الدينية التقليدية للأفراد، وجعلتهم وحيدين في مصانع المدن الكبيرة. فالجماعة إذن، ناتجة من شعور اجتماعي للأفراد الشاعرين بالوحدة وبضرورة الاجتماع تحت مظلة اجتماعية لاكتساب هوية جماعية جديدة.

وكما يظهر، فإن كلا التحليلين يحددان مفهوم “الجماعة” من ناحية المنهج ومن ناحية الظهور بشروط معينة. ومع وجود فروق بينهما من الناحية المنهجية، فكلاهما خط غربي.

ولما كان “ماركس”، و”ويبر”، و”تونيس”، و”نسبت” (Nisbet)، و”ماكلفر” (Maclver)، و”دركهايم”، و”سمل” (G. Simmel)، و”كبلر”، و”روي”..الخ، من علماء الاجتماع في العصر الحديث، فقد قاموا بتحليل التحولات الاجتماعية التي أفرزتها الثورة الصناعية في المجتمعات الغربية، وفهم الجوانب السلبية والهدامة لهذه التحولات على الفرد وعلى الجماهير. ويعزو “ماركس” هذه التغييرات والتحولات إلى أسباب وأسس اقتصادية، مثل العمل ورأس المال والسلطة والمدينة. أما “ويبر” (Weber) فيعدّ أشهر مَن بحث وبالتفصيل، أشكال التنظيمات الجماعية وتأثير المدينة الحديثة على هذه التنظيمات. وقد تأثّر جميع علماء الاجتماع الذين جاءوا بعده بأبحاثه هذه. كان هؤلاء العلماء يشاهدون كيف أن جميع المجتمعات التقليدية بدأت تتمزق وتنحل. لذا فقد كثّفوا جميع أسس مفاهيمهم لعلم الاجتماع وطرق بحثهم على قاعدة هذا التغير الجذري. لذا فإن الخلفية الثقافية والاجتماعية حول ظاهرة “الجماعة” و”التجمع” في الغرب من جميع نواحيها، هي قصة تغير وتبدل المجتمعات الغربية تحت تأثير الحياة المدنية المعاصرة.

عندما بدأ علماء الاجتماع الأوائل (أمثال ماركس، ويبر، تونيس..الخ) بتدقيق التصرفات الاجتماعية للإنسان، بدأوا بوضع “مفاهيم اجتماعية” لهذه الدراسة. ونظروا إلى الإنسان وإلى المجتمع من خلال هذه المفاهيم.

كانت ظاهرة “الجماعة” إحدى هذه المفاهيم. وكانت هناك مفاهيم أخرى أيضاً عُدت مفاهيم رئيسية، ومفاهيم تقود إلى فهم الظواهر الاجتماعية، مثل مفاهيم “الأنموذج المثالي” و”قابلية القيادة والتاثير” و”السلطة والبيروقراطية”..الخ.

قام “تونيس” (Tönnies) في كتابه “الجماعة والمجتمع” باستخدام هذه المفاهيم. وعدّ مفهوم “الجماعة” مفهوماً رئيسياً في معرفة وتحليل التصرفات الاجتماعية للإنسان. ومن أراد معرفة علماء الاجتماع الغربيين الذين تناولوا تحليل الجماعات في العالم الإسلامي، فعليه معرفة المفاهيم التي استخدمها “تونيس”، لأنها سرت إلى جميع الدراسات الغربية في هذا الموضوع.

عندما قام “تونيس” بتحليل الجماعة والمجتمع، تناول سلوك الإنسان من زاويتين. الأولى: خصائص الروابط التي تكوّن الجماعة والمجتمع. الثانية: موضوع كيفية تغيّر إرادة الإنسان في الجماعة وفي المجتمع.

(70-69-68-67)

فإذا تناولنا الزاوية الأولى نجده يرى أن هناك ثلاثة عناصر وروابط تشكل “الجماعة” هي: صلة الدم (أي القرابة)، وصلة الجوار، وصلة الصداقة. وأفضل الأمثلة على ذلك عنده هي: العائلة، والريف، والعشيرة في الأرياف والقرى، ثم الجمعيات والتجمعات المهنية والدينية في المدن. ويرى أن “العائلة” أهم شكل من أشكال الجماعة وأقواها. ويقول بأن الروابط قبل الحداثة كانت روابط قوية ودافئة مثل الروابط العائلية. وكانت تقوم على أساس من التعاون والمشاركة والتساند. وهذه الروابط والعلاقات تنتج الأعراف والتقاليد المشتركة. وهذا هو الذي يجعلها قوية. ولكن كلما توسعت المجتمعات ذات الطابع الصناعي وسيطرت على الحياة، تقلصت أشكال الجماعات الريفية وانحلت الواحدة بعد الأخرى. وتبدأ الروابط العقلية (Rational) بالحلول محل الروابط والتقاليد الريفية. أي يظهر في المدينة شكل آخر من الروابط والجماعات الاجتماعية.

ويقول “تونيس”، بأن العامل الثاني في تغيير شكل الروابط الاجتماعية هو “الإرادة الإنسانية”. وهو يصنف الإرادة الإنسانية إلى “إرادة طبيعية” و”إرادة عقلانية”. ويرى أن “الإرادة الطبيعية” هي التي أنشأت شكل الجماعة التقليدية في الريف والقرية. ولمثل هذا الشكل من الجماعة أسس من روابط مادية مثل رابطة الأرض ورابطة الصداقة، وروابط نفسية كذلك. فالعائلة مثلاً تملك روابط الدم والقرابة وروابط نفسية قوية.

أما مجتمعات المدينة فتنشأ –حسب رأى تونيس– من الإرادة العقلانية للإنسانية، ووجدت كنتيجة من نتائج الحداثة والثورة الصناعية. وحلت روابط عقلانية في هذه المجتمعات محل الروابط القديمة المتمثلة في التعاون والتساند. الأفراد في مجتمع المدينة غرباء بعضهم عن بعض، والروابط بينهم منقطعة. لذا فالعلاقات بينهم ليست دافئة كما كانت في الجماعات التقليدية في الريف، بل هي روابط مصطعنة ومخططة وموضوعة على أسس عقلانية.

الفرد هنا موجود لنفسه فقط ومعزول عن الباقين. والعلاقات قائمة على المصالح المتقابلة، وتستند إلى المنافسة وإلى البيع والشراء. نرى هنا أنموذج الإنسان التاجر الساعي دائماً وراء الكسب والربح، بدلاً من الفرد والإنسان العاطفي، الباحث عن الصداقة والمستعد للبذل.

ويمكن أن نرى أن جذور فكرة “تونيس” تعود إلى “ابن خلدون” الذي ذكر وأشار إلى نوعين من المجتمعات: مجتمع البداوة، ومجتمع الحضر. وإن كلا منهما يستندان إلى مفهوم “العصبية”. وما تحليل “تونيس” إلا الشكل الحديث لهذه المفاهيم.

ويعد “ويبر” (Weber) أيضاً، من علماء الاجتماع الذين تناولوا مفاهيم الجماعة والمجتمع بالتحليل، وهو يؤكد على ديناميكية المجتمع وعلى ديمومته. فالناس في رأيه يقومون بتكوين مجتمعات أو جماعات مختلفة عندما تكون هناك مصالح مشتركة أو آراء وأفكار مشتركة بينهم. وكما كانت الرغبة في تكوين المجتمعات موجودة قبل الحداثة فهي موجودة في المجتمعات الصناعية كذلك. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فهو يرى أن الجماعة المتكونة بهذا النمط ستفقد هويتها الاجتماعية في المجتمع الحديث آجلاً كان ذلك أم عاجلاً. وهو يقول أن الفعالية الاجتماعية تظهر بشكلين:

  • المجتمع

2-الجماعة.

فإن كانت الروابط الاجتماعية تفرز فعاليات عاطفية وتقليدية (72-71) فهي إذن، تنظيم “جماعة”. وإن كانت تفرز روابط عقلانية، فهي إذن، تنظيم “مجتمع”. وهناك فرق بارز بين “ويبر” (Weber) و”تونيس” (Tönnies). لأن “ويبر”، لا يقيم العلاقات الإنسانية على أساس “الصداقة والتعاون”، بل على أساس “الصراع”، لأن المجتمع الحديث قائم –حسب رأيه- على أساس من الروابط العقلانية وروابط غريزة المصلحة.

على الرغم من التحليلات العميقة لـ”ويبر” فقد أظهر الزمن أن ظاهرة “الجماعة” تستمر في الوجود حتى في أكثر المجتمعات حداثة وعقلانية. ولكن على أشكال وصور مختلفة.

أما “دوركهايم”، فيرى أن هناك سلوكين للإنسان في هذا الصدد.

1- التساند والتعاون الآلي: ويستند إلى وحدة الفكر والشعور.

2- التساند العضوي: ويستند إلى تقسيم المهن والأعمال. فالتساند الأول بدائي ونشاهده في المجتمعات الريفية، أما الثاني فهو سمة المجتمعات الحديثة.

تحتل نظريات “تونيس” و”ويبر” في تحليل الظاهرة الاجتماعية للجماعة من الناحية المفاهيمية والمنهجية، مكانة كبيرة في الفكر الغربي. ففي كل تحليل لهذه الظاهرة في الغرب نرى إشارة إلى هذه النظريات والتحليلات. إن ظاهرة “الجماعة” التي عاودت الظهور في قلب المدن الحديثة تمثل ثقافة ضواحي هذه المدن. والتي هي مزيج من ثقافة الريف وثقافة المدن الحديثة. فشعور الارتباط في الجماعة أثر من آثار الروابط الإنسانية التي كانت موجودة قبل الحداثة. فعلاقة الدم والقرابة في ضواحي المدن على شكل رابطة المحلة، تستقي جذورها من الروابط الحميمة الموجودة في الريف وفي القرية. ولكون هذه الضواحي لا تنال نعم الحداثة حتى الآن بشكل كامل، فهي لم تنظم بعد إلى طراز الحياة الحديثة. ولكنها ستنضم إلى هذه الحياة آجلاً كان أم عاجلاً.

(74-73-72)

تطعيم أيدولوجي لعلم الاجتماع

ذكرنا فيما سبق أراء المحللين الغربيين، وقلنا أن النوع الأوّل يمثله علماء الاجتماع الأوائل من أمثال “تونيس” و”ويبر”. ومع أن كلا هذين العالمين كانا يملكان نظرة معينة في الحياة وفي السياسة، إلا أنهما حللا هذا الموضوع تحليلاً علمياً اجتماعياً، واستعملوا المصطلحات والمفاهيم الاجتماعية الصرفة.

وهناك نوع ثانٍ من المحللين لا يقوم تحليلهم على أسس وعلى منهج علم الاجتماع الصرف، بل ربما قاموا باستعمال هذا المنهج كأساس لأيدولوجياتهم. لذا فلا يمكن أن نعد هذه التحليلات تحليلات اجتماعية، بل الأفضل عدها تفسيرات مستندة إلى علم السياسة. وأفضل مثال على هؤلاء هما “كبل” (Kepel) و”روي” (Roy).

إن استعمال الحقائق الاجتماعية في سبيل أهداف امبريالية ليس أمراً أو تصرفاً جديداً، فقد اهتم الاستشراق وعمل في هذا المجال منذ عصور. فالعديد من العلماء قاموا بهذا بدءً من “أرنولد توينبي” وانتهاءً بـ”هونتكتون”، فقد زرقوا في علم الاجتماع مصلاً أيدولوجياً واشتهروا بهذا. بل إنك لا تستطيع فهم المصطلحات الاجتماعية لتحليلات هؤلاء، إلا بعد أن تعرف نظرتهم السياسية وموقفهم من النزوع الامبريالي للدول القوية في ساحة السياسة الدولية. بل إن العديد من الفلاسفة الذين عُدّوا “دهاة” استعملوا فلسفاتهم أداة لأيدولوجياتهم الامبريالية والسياسية، مثل “مارتن هيدجر” (Martin Heidegger) و”كارل شميت” (Carl Schmitt) و”وولتر بنجامين” (Walter Benjamin) و”ميشيل فوكولت” (Michel Foucault) و”ج. دريد”([1]) (J. Derrida).

ونحن نتساءل: ما أسباب تناول هذا الموضوع بهذا الأسلوب، وما المنهجية المتبعة هنا؟ إن أسلوب عالِم السياسة، لم يعدّ القيام بتحليل وفهم ظاهرة “الجماعة” و”التجمع” وبحث وتدقيق أسسها على ضوء علم الاجتماع، بل أصبح عبارة عن تعيين قواعد كيفية تصرف جار خطر –وقد يكون عدوا– ووضع تحاليل وتفاسير لهذا التصرف المتوقع. ويقوم كل من “كبل” (Kepel) و”روي” (Roy) بتناول حركات الجماعات في العالم الإسلامي بهذا المنظار النفسي والسياسي. وينطلق كل منهما –وغيرهما من المحللين الاجتماعيين السياسيين– من منطلق أن جميع الحركات الإسلامية “أعداء خطرون”. فهم يرون أن هذه الجماعات وهذه الحركات تشكل تهديداً للحداثة من جهة، وللدول الغربية وقيمها من جهة أخرى. ويؤميء العديد منهم –وبعضهم يقولونها صراحة- أن الإسلام أكبر خطر وأكبر عدو للمدنية الغربية. وهذا التصرف تصرف أيدولوجي تماماً. فهم لا يحاولون الفهم، بل يحاولون خلق أعداء. كما أن هذا التصرف تجديد لعملية خلق “الجهة الأخرى” أو “الطرف الآخر” المُعادي الذي قام به المستشرقون في القرن التاسع عشر. ويسهل هنا فهم، لماذا يحاول العديد من التحاليل الاجتماعية وبإصرار إلى عدّ تكوين الجماعات أمراً سابقاً للحداثة. والحداثة عندهم تشكل (75-74) أفضل وأنصع صفحة في التاريخ الإنساني. ولم يبلغ الإنسان وكذلك المجتمع مرتبة الكمال إلا بفضلها. وأنموذج الدولة والمجتمع وطرز الحياة والصناعة وصلت بفضلها إلى المرحلة الأخيرة والنهائية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها. لذا فكل حركة وكل تنظيم اجتماعي لا يتقبل هذه الحداثة فهو رجوع إلى الوراء.

وهذه النظرة أنتجت طرزين من السلوك: الأوّل هو “لننتظر”، لأن الحداثة ستنتشر حتى إلى أصغر قرية وأبعد مكان، ولا بد لها أن تنتصر عاجلاً كان هذا أم آجلاً، وتنشر قيمها في كل مكان. لذا فإن الصراع مع أعداء الحداثة لا ضرورة له.

والطرز الثاني، هو وجوب إعلان الحرب على أعداء الحداثة إن لزم الأمر، واستعمال الشدة معهم. وهذا هو ما يفسر الحركات العسكرية التي تقوم بها بعض القوى الحاكمة. وهذا يفسر أيضاً لماذا تتوسل العديد من الدول الإسلامية إلى سياسة الشدة ضد الحركات الإسلامية؟ لأن الحداثة عندها أهم أيدولوجية معلنة.

(78-77-76-75)

 2- أزمة الهوية وعد الحركات والتجمعات تهديداً

تقوم التحليلات الكلاسيكية الحديثة، بعدّ العديد من الحركات الاجتماعية والحركات المدنية الجديدة التي تؤسس الجماعات والهويات السياسية المعارضة خطراً من زاويتين:

الأولى: إن هذه الحركات تحاول أن تكون البديل للحكومات المركزية.

والثانية: إنها تشكل تهديداً للمدنية الحديثة في نطاق عالمي.

إن عدّ هذه الحركات كتهديد من الناحية الاجتماعية والثقافية، كانت نظرة سائدة في علم الاجتماع في أوائل العصر الحديث. أما علماء الاجتماع الجدد فهم يميلون إلى النظر إلى هذه الحركات من زاوية “التعددية” التي هي سمة المجتمعات الديمقراطية، ومع أن الديمقراطية الغربية تبدو في الظاهر وكأنها تعبير عن التعددية. إلا أن الحداثة في الحقيقة مستمرة في فرض القالب والأنموذج الواحد. ويحاول علماء الاجتماع الجدد توسيع نطاق الديمقراطية لكي تستوعب هذه الحركات الجديدة. إلا أن هذا سرعان ما يتغير عندما يتعلق الأمر بالحركات السياسية والاجتماعية والمؤسسات المدنية في العالم الإسلامي. حيث يتم تناسي الدعوة إلى التعددية، وينقلب الأمر إلى الاستناد إلى النظريات الكلاسيكية للأزمات. وهذا هو المشاهد أيضاً عند الطبقة المثقفة في العديد من الدول الإسلامية. وبدلاً من الغوص في الأسس الحقيقية للمشاكل السياسية والدينية والاقتصادية، يتم التوجه إلى استعمال تدابير سطحية وأيدولوجية تجاهها.

ونظريات الأزمة هي نوع من أنواع القراءة التي تقوم بها أيدولوجية الحداثة، وتزعم أن الفراغات الموجودة في الحداثة تنتج هذه الحركات. ولكن ما إن تسود الحداثة جميع الأماكن وتصل بنعمها إلى جميع الناس وإلى جميع المجتمعات، حتى تموت هذه الحركات وتختفي. بل يتقدمون خطوة أخرى فيقولون إن الدين نفسه سيختفي. وستقوم الثورة الصناعية والتجمع في المدن والعقلانية والاقتصاد العالمي بإذابة الدين في بوتقته والقضاء عليه. ولكن هذا لم يحدث، على العكس من هذا فقد ظهرت حركات دينية ومدنية وسياسية، وحركات اجتماعية وثقافية عديدة في قلب الحداثة ومركزها.

لقد أنتجت هذه الحركات الجديدة طلبات وحاجات ومُثل جديدة، وأجبرت الحداثة على التخلي عن استهداف خلق أنموذج وقالب واحد إلى استهداف التعددية.

عندما ندقق ظاهرة التمدن (أي ظاهرة الهجرة إلى المدن والسكن فيها)، نرى أنفسنا وجهاً لوجه مع أيدولوجية “الإسلام السياسي” و”الأسلمة” (أي الرجوع إلى الإسلام). لأن الشكل الأيدولوجي للدين ظهر في هذه المدن الحديثة. لذا فإن هذه الأيدولوجية، أيدولوجية حديثة بكل معنى الكلمة، لأنها ظهرت في مراكز المدن الحديثة. لذا كان من الضروري تناول ظاهرة “الجماعة” الإسلامية، كحقيقة اجتماعية، وفصلها عن الحركات الأيدولوجية الدينية والسياسية الأخرى. وعلينا أن ننوه في بداية الأمر على أن مصطلح “الأسلمة” أو “الإسلام السياسي” مصطلح مخترع في الغرب. ومع أن هناك حركات إسلامية عديدة ومختلفة فيما بينها، إلا أن الغرب يقيمها كلها تقييماً واحداً على أساس أنها حركات أيدولوجية سياسية. فمثلاً، هناك فروق كبيرة بين حركات “الإسلام السياسي” في مصر وباكستان، وبين الحركة الإسلامية التي ظهرت في تركيا وانتشرت بعد عهد “التنظيمات”. ولكن الغرب يصرف نظره عن هذه الاختلافات والفروق ويهملها. ولا نستطيع هنا طبعاً الدخول في التفاصيل.(81-80-79-78)

ونحن نعتقد أنه لا يجوز النظر إلى ظاهرة انبثاق الجماعات، وظاهرة الإسلام السياسي في العالم الإسلامي، وكأنها مشكلة، كما هي في النظرة الغربية. أجل، هناك حركات سياسية إسلامية أيدولوجية، ولكن هناك -إلى جانبها- حركات إسلامية ذات قواعد مدنية، منها حركة محمد فتح الله كولن. وسنحاول شرح فروق هذه الحركة وهويتها في هذا الكتاب.

3– الحداثة والدنيوية (Secularism) والدين:

منذ القرن الثامن عشر، اعتقد العديد من العلماء أنه بنسبة انتشار الحداثة سينزوي الدين ويضعف تأثيره. وكان علم الاجتماع يعتقد أن الدين دخل في مرحلة الاحتضار، وأنه يعيش سنواته الأخيرة. لأن علم الاجتماع كان مرتبطاً منذ بدايته بالفلسفة الوضعية، والفلسفة الوضعية ترى أن الدين أثر من آثار العهود البدائية للإنسان ورواسب من رواسبها، وأن الإنسان عندما ينتقل إلى عهد التنوير وعهد العلم، فإنه (الدين) سيزول حتماً ويختفي، وأن الدين ليس سوى خرافة من الخرافات. وليس هذا الاعتقاد منحصرا في علم الاجتماع، بل هناك علوم أخرى ادعت هذا أيضاً. منها؛ علم النفس والأنتروبولوجيا. وهي تقول بأن الإنسانية ستتخلص من الدين الذي وصفه “فرويد” بأنه خيالات الطفولة ونشأ في عهد طفولة الإنسانية.

كان فكر وعقل النهضة منتشراً في أوروبا حتى قبل ولادة علم الاجتماع. وعندما ولد كانت القيم الوضعية والعقلية قد تبوأت مكانة القداسة فيها. لذا فقد أخذنا نحن الحداثة منذ البداية ضمن فكر مسبق. وكانت “الدنيوية” (Secularism) جزءً من هذا الفكر المسبق ونتيجة من نتائجه.

لقد آمن العديد من المفكرين منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، بأن نهاية الدين أصبحت قريبة، فهذا هو ما نشاهده في العديد من العلماء والمفكرين، بدءً من “ت. وولستون” (T. Woolston)، و”فريديك الأكبر” إلى “فولتر” (Voltaire) إلى “ف. أنجلز” (Engels)، ومن “م. موللر” (M. Müller) إلى “فرويد” (Freud) و”ماركس” و”أ. ي. لرؤلي” (A. E. Lrawley)، إلى مفكري الستينات والسبعينات من أمثال “ب. برغر” (P. Berger) و”براين ولسون” (Brayn Wilson).

كانت الأيدولوجية الدنيوية (Secularism)، تعتقد بأن الدين سينمحي نتيجة عوامل أربعة هي: زيادة الصناعة، وتحول المجتمع إلى مجتمع صناعي، والتمدن (أي العيش في جو المدينة، مما يعني ترك التقاليد والأعراف الريفية، ومنها الدين)، وسيادة العقلانية (Rationalism)، وهي السمات الرئيسية للحداثة. وهذا يلخص أيضاً نظريات الحداثة.

لقد شاهد ممثلو الحداثة، كيف أن عدد أعضاء الكنيسة ومرتاديها في تناقص شديد. ولكن هذه الظاهرة تشير فقط إلى تناقص الثقة بالكنيسة كمؤسسة، ولكنها لا تقوم دليلاً على تناقص الإيمان في الأفراد.

(84-83-82-81)

ومع أن بعض العلماء اتخذوا هذه الظاهرة كدليل على تناقص التدين مع مرور الزمن، إلا أن بعض رجال العلم ذكروا بأن مثل هذا الاستنتاج لا يقوم على أي أساس من علم الاجتماع، منهم العالم “ديفيد مارتن” (David Martin) الذي اعترض على نظريات “الدنيوية” (Secularism) منذ البداية. وهو أول عالم اجتماع في العصر الحديث يقوم بهذا، بل ذهب إلى أكثر من هذا فاقترح إخراج مفهوم ومصطلح “الدنيوية” (Secularism) من مفاهيم ومصطلحات علم الاجتماع. وكانت حجته في هذا، أنه ما من دليل علمي مقنع وأكيد، على أن مفهوم ومصطلح “الدنيوية”، سيستمر في التوسع أو يتخذ خطاً صاعداً على الدوام، وأن نظريات “الدنيوية” ليست سوى نظريات أيدولوجية وضعت من أجل الجدل.([2])

وما أن حل عام (2000)، حتى بدأ الضعف والوهن يأخذ بتلابيب الأيدولوجية الدنيوية. لأن التغيرات الاجتماعية لم تأخذ المسار الذي كانت هذه الأيدولوجية تتوقعه، بل كانت على عكس هذه التوقعات تماما. فقد ظهر التدين وزاد في قلب ومركز الحداثة والدنيوية (Secularism) ولكن بصور جديدة. وقد وصف الكثير من العلماء هذه الظاهرة باعتبارها “عودة للقداسة”، بينما قال آخرون: “إن القداسة لم تكن قد غابت أو اندثرت قط”. أي إن هذه النظريات قد أفلست في واقع الحياة. ففي روسيا بدأ الناس يقبلون على الكنائس بعد سقوط الماركسية فيها.

وهناك بلد آخر لم تحرز فيه نظرية “الدنيوية” (Secularism) أي نجاح، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنها أكثر البلدان حداثة. فالتدين في تصاعد هناك على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الجماهيري. ويشير عالم السياسة الأمريكي “أ. توغويللي” (A. Tocgueville) إلى هذا الأمر في كتبه التي نشرها في أربعينات القرن التاسع عشر. ويقول بأن هذه النظرية لا تتلائم مع الحقائق على أرض الواقع. وإن الجهل هو مصدر ضعف الإيمان في أوروبا. وبعد مرور أكثر من 15 عاماً على آراء “توغويللي” لم يضعف التدين في أمريكا، بل زاد عدد مرتادي الكنيسة ثلاثة أمثال العدد السابق. والظاهرة نفسها موجودة عند أصحاب الأديان الأخرى في أمريكا.

أما تناقص التدين في غربي أوروبا وشمالها فمسألة فيها نظر. لأن هذا التناقص لا يعزى إلى سيادة الأيدولوجية الدنيوية، بل إلى الأحداث الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي ضربت هذه المناطق كالحروب والثورات. كما أن علماء الاجتماع يشيرون إلى أن أوروبا لم تكن في الماضي أكثر تديناً مما هي عليه الآن. ولم يعد السؤال المتكرر في أوروبا الآن هو: “لماذا لم يعد الناس يؤمنون؟” بل هو: “لماذا لا يزال الناس مصرين على الإيمان على الرغم من تأثيرات الحداثة والدنيوية؟”.

كان “بيتر برغر” (Peter Berger) من أكثر المدافعين عن أيدولوجية “الدنيوية”، في أعوام الستينات من القرن الماضي، وهو يعترف الآن ويقول: “إن الدنيوية الحديثة، لا تقدم أي سلوان للإنسان لا من ناحية فعالياته الفردية ولا من ناحية عدم وجود عدالة في الدنيا، ولا إلى الذين يتعرضون إلى الحرمان المادي والمعنوي والذين يعيشون آلاماً جسدية، ومن أبسطها اضطرارهم لتحمل آلام زواج فاشل.. لمثل هؤلاء لا يستطيع، لا أسطورة الدنيوية (86-85-84) ولا الأهداف الكبيرة لها، ولا النجاحات الكبيرة التي حققتها العلوم الطبيعية، ولا استقلال الأمم، ولا الحركات الثورية، أن تهب لهم شيئاً. لقد فقدت الدنيوية لعصر التنوير كل قابلياتها الكامنة، لذا اكتسبت قابلية السلوان للدين أهمية وثقة لدى الإنسان”.([3])

ولكن هذا المفكر اهتم بالعامل المعنوي والاجتماعي للدين أكثر من الدين نفسه، وهذا ما فعله “ويبريان” (Weberyen)، فقد قلّص دور الدين إلى مجرد أداة سلوان. ويقوم معظم علماء الاجتماع بالإشارة إلى الدور النفسي والاجتماعي للدين.

لقد أصبح من الاعتيادي تناول “الدنيوية” (Secularism) مقترنة وملتصقة بالحداثة. وبينما أدت الحداثة خدمات كبيرة للإنسان، وقدمت له إمكانيات عديدة ومفيدة، أدّت من جهة أخرى، إلى مشاكل نفسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي. وعندما أضيف التغير، في البنية الاقتصادية والسياسية، إلى التغيرات في الحياة الاجتماعية ضعف التماسك الاجتماعي، وأبعد الأفراد عن هوياتهم الثقافية وعن روحهم الاجتماعي. ويقول “برغر”: “إن ردود الفعل هذه ضد الحداثة وجدت على الدوام”. أي يريد أن يقول، أن ردود الفعل هذه موجودة في أسس الحركات الدينية في العالم الثالث.([4])

بينما نرى أن الحركات الدينية في العالم الثالث وفي أوروبا والعالم الغربي، كانت موجودة على الدوام طوال التاريخ. أحياناً تراوح في مكانها، وأحياناً تنشط وتتوسع. وكانت ممتزجة بالحياة سواء في العصور القديمة أو الجديدة. ولكن أنصار الأيدولوجية الدنيوية لم يستطيعوا مشاهدة هذا، أو لم يريدوا مشاهدتها. فهؤلاء لا ينظرون إلى المجتمع وإلى التغيرات الاجتماعية إلا من هذه الزاوية. وهم لا ينظرون إلى ظاهرة “الإيمان” إلا من الخارج. وبدلاً من محاولة فهم الدين، نراهم يصبون كل اهتمامهم إلى تدقيق الآثار الاجتماعية للدين وللتدين.

إن النظر إلى الحداثة وكأنها حولت كل أوجه الحياة إلى شكل دنيوي قد كلفت الإنسانية ثمناً باهظاً. لذا نرى أن الرجوع إلى الدين في العديد من البلدان، كان رد فعل لهذا الأثر السلبي للحداثة. وكان هذا ما حدا بعلماء الاجتماع إلى النظر إلى الحركات المقاومة للحداثة بأنها حركات دينية. ومع أن هذه النظرة فيها مبالغة، إلا أنه لا يشك بأن الدين قد وطد له أساساً جماهيرياً وثقافياً. ولم يستطع حتى علماء الاجتماع الملحدين –الذين يعدون الثقافة الدينية خرافة وسمة من سمات عصور ما قبل الحداثة– من إنكار دور الدين في هذه الحركات الجديدة.

(88-87-86)

ويعترف هؤلاء العلماء بأن النظرية الدنيوية فشلت حتى في الاتحاد السوفيتي، الذي فرض بالقوة هذه النظرية كبديل اجتماعي وثقافي ضد الدين. إذن، فإن فشلت النظرية الدنيوية في بلد يأخذ موقفاً عدائياً من الدين فهي أكثر فشلاً في البلدان الأخرى.

إلى جانب هذا، فقد قامت بعض الدول الإسلامية بتطبيق نماذج من الدين المصبوب في قالب الدنيوية. وقامت بواسطة مؤسساتها التعليمية بوضع مفاهيم للدين عدتها خالية من المشاكل. ولكن لم يتبن الناس في أي بلد أي مفاهيم دينية مفروضة عليهم.

أنا أعلم أنني قد أطلت وأضجرت القارئ. ولكن ما حاولت إيضاحه هو أن تصاعد الموجة الدينية ليس خاصاً بالعالم الإسلامي. وإن ردود الفعل الدينية ليست ضد الحداثة، بل ضد الدنيوية التي تحاول الحداثة فرض أيدولوجيتها في المجتمعات. فكلما زادت هذه المحاولات، زادت ردود الفعل ضدها. لذا يجب ألا يحسب أحد أن الدين تهديد للحداثة. وليس للدين –لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماهيري– أي مشكلة مع النمط الحديث للحياة. فإن ظهر أن هناك مشكلة –مثل الإرهاب– فمن المؤكد أن الدين ليس مصدرها، بل مصدرها المثل والأهداف السياسية والأيدولوجية والتعصب.

(90-89)

4- نشوء النماذج الحديثة

  • نحو نظرية البنية المولدة للازمات

يقول علماء الاجتماع بأن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تقوم بدور المساعد المهم، بل المسرع للحركات الراديكالية. لذا تقوّم جميع الحركات الاجتماعية كرد فعل لمثل هذه الأزمات. فما هي البنية التي تولد الأزمات؟ بشكل عام هي كل بنية تؤدي إلى ضمور آلية العدالة الاجتماعية. ومثال على هذا؛ كل ما يؤدي إلى ضعف الهوية الاجتماعية بسبب مجموعات بعض العناصر الداخلية أو الخارجية، وبسبب الأزمة الاقتصادية الناشئة من الهوة الكبيرة بين الطبقات الغنية والفقيرة، والتغير العشوائي للديموغرافية السكانية بسبب الهجرة، والتجمع العشوائي في المدن، ووقوف القيم الريفية وجهاً لوجه تجاه القيم الليبرالية للمدنية في مجتمع المدينة. فهذه العناصر تكوّن بنية الأزمات.

إن الهوة الكبيرة بين الطبقات الناتجة عن التوزيع غير العادل للدخول تؤدي إلى خلق طبقة غنية ومرفهة من جانب، وطبقات فقيرة ومتوسطة الحال من جانب آخر. ويزداد فقر هذه الطبقات الأخيرة مما يشكل جواً صالحاً للحركات الأيدولوجية والراديكالية، ويؤدي إلى تزايد الأزمة الاقتصادية، وتزايد الاعتراضات على المشروعية السياسية للنظام القائم، مما يشكل أهم عامل منطقي وعاطفي في توسيع قاعدة هذه الأنواع من الحركات الراديكالية.

ومع أن هذا التقويم لعلم الاجتماع يعد صحيحاً بالنسبة لبعض الحركات، إلا أن مثل هذا التعميم ليس صحيحاً، ويفتح الباب أمام انتقادات كثيرة ومن زاوايا عديدة.

ومن العوامل الرئيسية التي تستند إليها بنية الأزمات، هي عامل الهجرة إلى المدن. لذا سنتناوله باختصار.

  • ظاهرة التمدن (الهجرة إلى المدن) وأزمة الهوية.

هناك عوامل اجتماعية وثقافية وضرورات اقتصادية تدفع سكان القرى والريف إلى الهجرة إلى المدن للبحث عن العمل في مصانعها. ومثل هذه الهجرات تقوم بتغيير البنية الديموغرافية للبلد. مثل هذه الهجرة تتم دون أي مقاومة وبشكل مستمر. وتسبب هذه الكتلة المهاجرة أزمة للحياة الاجتماعية والثقافية من ناحية قابلية الاندماج فيها. فهي تحس على الدوام بأنها محاصرة من كل جانب ومعزولة. ويستمر هذا الوضع حتى زوال وانمحاء الهوية (93-92-91) الريفية عندهم. وينجح بعضهم في التكيف مع الجو الثقافي والاجتماعي للمدن. ولكن معظمهم يعيشون في جو من الأزمة. لأنهم يتعرضون إلى سيل من قيم غريبة عنهم. لذا يبدأون بالبحث عن ملجأ اجتماعي ومعنوي، وعن طريق للخلاص في بعض التجمعات المدنية والسياسية والثقافية. وهم يشكلون في الحقيقة كتلة وصنف “المستضعفين” من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية. ويكونون على استعداد لتقبل وتبني الأيدولوجيات الراديكالية. وهم بأفكارهم وأقوالهم الراديكالية هذه، إنما يعبرون عن هوياتهم الفردية والاجتماعية.

 

جـ– نقد موجز

لقد اتخذت دراسة المجتمع وتقويم ظواهره استناداً إلى نظرية “بنية الأزمة” ظاهرة وحالة عامة، وتقوم الطبقة الحاكمة في كل بلد بالاستعانة بهذه النظرية، لفهم وتحليل الحركات الاجتماعية التي تهدد حكمهم، وتشكل اللجان والهيئات لهذه الدراسة. ولكن لم ينفع كل هذا، لا في كبح جماح هذه الحركات الراديكالية، ولا في منع ظهور حركات اجتماعية راديكالية أخرى. ولكن العيب الكبير في أمثال هذه التحاليل وهذه النظرة هو صيغة التعميم. فهي تنظر إلى جميع الحركات بهذا المنظار. ويراها في الخط نفسه. لأن من الخطأ عدّ جميع الحركات الاجتماعية وكأنها ردود فعل للأزمات ولبنيتها. لأن هناك حركات ليست نتيجة فرعية ورد فعل للأزمات، بل هي حركات تريد إنشاء هوية جديدة تحت مظلة اجتماعية، ولها أهداف اجتماعية جديدة. ويُرتكب هذا الخطأ على الدوام عند تناول الحركات الدينية الجديدة في العالم الإسلامي.

لذا فلا تحمل مثل هذه التحاليل للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي قيمة كبيرة.

 

5- مفهوم أزمة الهوية

نشأت الفلسفة الفردية نتيجة للحداثة. وأدّت هذه الفردية إلى ضعف الهوية العالمية وهوية الملة الواحدة. ولن نتناول هنا ما كتب عن الهوية من تحاليل. لأن موضوعنا هو تحليل ظاهرة “الجماعة” وكذلك التقويم الجاري حالياً للحركات الاجتماعية على ضوء نظرية “بنية الأزمة”.

إن النظرة الحديثة تتناول موضوع الهوية والاختلاف، والهوية الملية، والهوية الريفية، وهوية المدنية (هوية الساكن في المدينة)، والهوية الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية..الخ بالتحليل والدراسة. وهذه الدراسات إضافة إلى أنها تفتح أمامنا أبواباً جديدة فهي تجلب معها مشاكل جديدة أيضاً. والظاهر أن التعاريف حول الهويات الجديدة ستجلب صداعاً للديمقراطية المعاصرة. لأن جميع هذه الهويات مفردات للتعددية، وستأخذ مكانها في الفكر السياسي.

مما لا شك فيه أن الحداثة تشكل تهديداً جديداً لهويتنا الفردية ولهويتنا الاجتماعية والسياسية. فالعولمة التي تنتشر بسرعة في دنيانا بدأت تهدد جميع الهويات والثقافات المحلية. وبدأت(95-94-93) تحاسب جميع القيم المحلية والملية حسب موازينها وقيمها. وهذا لا يعني أنني أشير هنا بالضرورة إلى نظرية “هونتكتون” حول صراع الحضارات، وهي النظرية التي تحاول بناء أساس أيدولوجي لاستعمار عالمي جديد. فعمله هذا كان إسهاماً في الأيدولوجية الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومساهمة في تعيين الهوية السياسية بين الدول في ظل النظام العالمي الجديد. ونظريته وإن بدت وكأنها نظرية أكاديمية بريئة تتناول العلاقات الدولية، إلا أن النقاشات التي أثارتها بين أوساط المثقفين أظهرت أنها تجاوزت مجرد كونها رياضة وتمريناً ذهنياً.

إن النماذج الاجتماعية الجديدة تتناول مفهوم الهوية وكأنه مرتبط على الدوام بالأزمة السياسية والاجتماعية. فكأن كل أزمة تخلق نقاشاً حول الهوية الاجتماعية. وكأن هناك علاقة سببية بين الأزمة وتعيين الهوية. والصحيح أن جو الأزمات يلعب دوراً ثانوياً وجانبياً فقط في تعيين الهويات. لأن الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إن طالت، فإنها تؤدي إلى إضعاف الوحدة الاجتماعية، وإضعاف الوعي الاجتماعي، وتوهن روابط الأفراد مع المجتمع. وتجعل المجتمع غريباً عن قيمه. وتساعد على ظهور بنية اجتماعية قابلة للتفتت، وحسب تعبير “دوركهايم”: “مجتمع دون ضوابط”.

هذا هو أساس ارتباط أزمات الهوية مع الأزمات الاجتماعية. فإن قمنا بتطبيق هذا الأساس على الحركات الاجتماعية وعلى عوامل ظاهرة الجماعة، يمكن -إن استعملنا منطقاً سطحياً- أن يتم استنتاج النتيجة الآتية:

“إن مثل هذه التجمعات والجماعات، تظهر عند مرور العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية من عنق الزجاجة (Bottleneck). وهي تحمل سمات هوية بديلة لهوية المجتمع السياسية والاجتماعية. فهي تعزل منتسبيها وأفرادها عن الوحدة الاجتماعية وتلقنهم أيدولوجية مناقضة لأيدولوجية المجتمع. وتبدأ هذه الأيدولوجية المناقضة بالانتشار بين الجماهير بسرعة حتى تنقلب إلى معارضة سياسية. وسرعان ما تقوم بعض الفئات السياسية بالتلاعب بها واستغلالها. وهذه تهز ثقة المجتمع بالأيدولوجية الرسمية للدولة، وتدفع الأفراد نحو أفكار راديكالية أو هامشية ليصبحوا أداة تهديد للنظام القائم”.

اعتبرت الدول الديكتاتورية غير الديمقراطية جميع الحركة المدنية الاجتماعية وكافة أشكال التجمع والجماعة تهديداً موجهاً إليها.. صحيح أن جميع الحركات الراديكالية تملك هذه الهوية وهذه الأيدولوجية، وأن لها جاذبية خاصة لاستقطاب الآلام النفسية العميقة وآلام الجماهير وآمالها. بيد أنها في الوقت نفسه حركات إذا ملكت قيادة قوية (كاريزماتيكية)، فليس من الصعب إيقاعها في كمين عمليات إرهابية لا مخرج منه. لذا يجب أن نكون حذرين من توسع قاعدة العنف السياسي والاجتماعي، ومستعدين لها دائماً (97-96-95) دون أن يتحول هذا إلى “فوبيا” سياسية أو إلى رعب سياسي. لأن مثل هذا الرعب يقضي على جميع أوجه الإبداع الجماهيري.

ولكن أسس ظاهرة “التجمع” و”الجماعة” وأسس الحركات المدنية ذات الطابع الاجتماعي، تختلف عن الأسس الاجتماعية للحركات المتطرفة وللحركات الهامشية اختلافاً تاماً. لأن الهوية التي تخلقها هذه الحركات لا تكون بديلة عن الهوية الجماعية للمجتمع. بل تقوم بتوسيع هذه الهوية وفتح آفاق جديدة أمامها. ولا يتوقع منها أي طلب معنوي أو اجتماعي للانفصال عنها؟؟؟. بل يمكن عدّها مظلة اجتماعية ورداعا تحمي أبناءها من الحركات الراديكالية.

والآن لنقف قليلاً أمام أحد العوامل التي تفتح الأبواب أمام مثل هذه الحركات الهامشية والراديكالية في تركيا وفي الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي. فبشكل عام نرى أن النظم السياسية في هذه البلدان تقاد منذ البداية وحتى الآن من قبل الفئات المثقفة. إن دول العالم الإسلامي وزعماءها الذين استندوا إلى أساس ضعيف من المشروعية منذ البداية، كانوا محرومين من الأساس السياسي والديمقراطي الضروروي لإنشاء الأركان الرئيسية المؤثرة للنظام العام في المجتمع. وحتى في بلد مثل تركيا التي كانت ظروفها مناسبة وملائمة، فإن الآلية السياسية فيها كانت متصنعة، ومسيرتها الديمقراطية كانت متقطعة وقابلة للإنكسار والتشتت. مما ولدت أزماتٍ وتفسخاتٍ سياسية واسعة أدّت إلى فشل الطبقة المثقفة في الاجراءات الاجتماعية تطوراً وازدهاراً، وإلى هزّ مشروعيتها –التي كانت في الأصل ضعيفة– وإلى اللجوء لاستعمال القوة للاحتفاظ بحاكميتها السياسية وبسيطرتها. بل إن استعمال وسائل القوة والإكراه أثّر أحياناً على حياة الجماهير اليومية تأثيراً عميقاً. لذا فمن المفيد النظر إلى موضوع أزمة الهوية من هذه الزاوية أيضاً.

هل يمكن أن يوجد أي أساس ديني أو أي أساس ديمقراطي حديث في أنظمة الحكم المطلق في الشرق الأوسط؟ يظهر أن تركيا هي البلد الوحيد الذي يؤمل أن يكون موطناً للاستقرار في هذه المنطقة. كما أن الخطوات التي تمت فيها في الأعوام الأخيرة تعطي أملاً في هذا الخصوص. ولكن ظهر من التجارب الديمقراطية في السنوات الأخيرة في تركيا، أن توسيع وتجذير المؤسسات المدنية وتعميق نشاطاتها لا يزال ضعيفاً هشوشاً معرضاً للانفراط. فما من نشاط إسلامي إلا عُدّ –من قبل أصحاب بعض الأيدولوجيات- تهديداً موجهاً إلى النظام القائم، ومحاولةً تسعى إلى تغيير الهوية في تركيا. حيث تعرضت هذه النشاطات من حين إلى آخر لضغط كبير، بل لاستعمال القوة والإكراه ضدّها. صحيح أن تركيا شهدت حركات إسلامية راديكالية تطالب بإقامة الدولة على أسس إسلامية. ولكن انهيار الأخلاق في تركيا –وفي غيره من البلدان– كان هو المحرك الرئيسي لأمثال هذه الحركات التي لم تنجح في جذب قطاعات شعبية واسعة.

إن الحركات التي تكون نتاج ردود أفعال ضد الأزمات، تحمل في العادة طابعاً سلمياً وإحيائياً ونهضوياً. ومن صفات هذه الحركات أنها تتكرر. وفي أعوام سيطرة الامبريالية الغربية على الشرق الأوسط نرى الجذور الإسلامية حتى في الحركات الشعبية، حيث تحمل هذه الحركات التي تتسم بالثورية، هوية وطابعاً اجتماعياً ومعنوياً مهماً. وهذه الحركات ردّ فعل للإنهيار الخلقي في الداخل، وللتدخل الامبريالي من الخارج الذي يحاول تمزيق الهوية الثقافية في هذه البلدان. أي أن ردود (99-98) الفعل ضد أزمة الهوية تكون هنا موجهة في الأغلب نحو الخارج. ولا يصح النظر إلى ردود فعل هذه الحركات في الداخل بالمنظار نفسه. ثم إن هناك تجمعات اجتماعية تظهر دون أن تكون نتيجة ردّ فعل لأي أزمة، والعديد من المؤسسات المدنية تظهر على هذا الشكل. فهوية سكان ضواحي المدن الكبيرة مثال على ذلك. لا يمكن استخدام نظرية الأزمات عند تحليل هذه الهوية. فبدلاً من النظر إليهم من فوق ومن الخارج والقيام بتصنيفهم وتعريفهم يجب القيام بفهم هذه الهويات، وفهم مثلهم وكيف يرون أنفسهم وأين يضعون أنفسهم. وإلا فلا مناص من الوقوع في الخطأ في الفهم وفي التقويم.

أ- أزمة الهوية من زاوية تصاعد الحركات الإسلامية

من ينظر من الزاوية السياسية يشاهد أن من أهم النتائج التي ظهرت بعد تفكك الوحدة السياسية للدولة العثمانية، هي دخول الهوية الفردية والجماعية للمسلمين في أزمة شديدة. إن الإنهيار التدريجي للدول الإسلامية –الدولة العثمانية والدولة الفارسية– أدّى إلى تصاعد الأيدولوجية القومية المستندة إلى الهوية اللغوية. وهذا الشكل الجديد كان يختلف طبعاً عن الهوية الإسلامية التقليدية. حيث كان الإسلام يقدم نظاماً متكاملاً يشمل الدين والدولة والشريعة (نظام الحقوق)، ويغطي ساحات الحياة بأكملها. لذا كان من الصعب جداً قيام الهوية القومية الجديدة بتغطية ساحات الحياة هذه كما فعل الإسلام.

وبعد زوال الدولتين الإسلاميتين –الدولة العثمانية والدولة الفارسية– ظهرت ثلاث هويات قومية في هذه المنطقة: القومية التركية، والقومية الإيرانية، والقومية العربية. لم تستمد هذه القوميات هوياتها من القيم الإسلامية ولا من التقاليد التاريخية الإسلامية مباشرة، بل رجعت إلى جذورها القديمة قبل الإسلام. فمثلاً أخذ المفكر القومي التركي “ضياء كوك ألب” إلهامه من الحضارات التركية القديمة التي نشأت في الأناضول، مثل الحضارة السومرية والحضارة الحيثية (Hitite)، ودعا إلى قومية تركية (Pan-Turkism). وفي إيران ظهرت القومية في عهد متأخر من عهد شاه رضا، واستمدت جذورها من العناصر الآرية-الفارسية، فظهرت القومية الإيرانية (Pan-İranism). أما التجربة العربية فقد امتدت في مصر مثلاً إلى القومية الفرعونية القديمة. وجرت في هذه المنطقة حتى أعوام الثمانينات محاولة التوفيق بين هذه المشاريع القومية وبين القيم الإسلامية.

وشهدت الهوية الإسلامية في العالم العربي تجارب مختلفة، فقبل الحرب العالمية الأولى وبعدها تعرضت القومية العربية لتيارات وتأثيرات مختلفة، منها التيار الإسلامي والاشتراكي والغربي والحكم الملكي. إن دخول الهوية الإسلامية على المستوى الفردي والجماعي في مثل هذه الأزمة إلى حركات نتيجة ردود فعل سياسية، أنتجت ما أطلقوا عليه اسم الإسلام السياسي أو “الإسلامية”. وعندما أضيفت إلى هذه، الفوضى الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي في المجتمعات الإسلامية، تحولت (101-100-99) الحركات الإسلامية إلى حركات يمكن تحليلها على ضوء النظرية الغربية للأزمات.

ومع أن خواص كل ردّ فعل إسلامي مرتبطة بظروف الأزمة المحيطة به، وبشخصية قائد الحركة، إلا أنه نتجت في النهاية هوية إسلامية سياسية عامة. ولكن هذه الهوية بدت غامضة من الزاوية الاجتماعية، ولم تصل إلى المستوى المبالغ والمرعب كما تصوره المحللون الغربيون.

وقد رفعت حركات “الإسلام السياسي” مقولات مستندة إلى الثقافة الإسلامية وقريبة من قلوب الجماهير. مثل مقولة “المجتمع الإسلامي”، تعبيراً عن شوقهم إلى إنشائه وعلى أمل أن تقوم هذه المقولة -ضمن هذه الفوضى الاجتماعية– بتوحيد الطبقات المختلفة.. كجماهير المدن والضواحي، والطلاب، والمثقفون السياسيون، والطبقات البرجوازية المختلفة…الخ. وقد وجدت هذه الحركات ساحات انتشار لها بين الطبقة البرجوازية في المدن الصغيرة، والطبقة الغنية والوسطى. وانتشرت في الأرياف والقرى، وبين النازحين منها إلى المدن والذين لم يتكيفوا بعدُ بحياة هذه المدن. ولكن هذه الحركات اضطرت إلى تخفيف الكثير من شعاراتها السياسية المتطرفة.

ليس من الممكن ذكر طبقة معينة جماهيرية تستند إليها حركة الإسلام السياسي. وصعودها المتعلق بظروف البلد يدل على أنها لم تستند إلى كتلة بعينها. كما أنها –أو معظمها– لم تضع أمامها أهدافاً اجتماعية وعملية على المدى البعيد. علماً بأن جاذبية ونجاح أي أيدولوجية تقاس بدرجة ارتباطها بالأهداف الاجتماعية. ولم تنجح حركة الإسلام السياسي في إحداث تأثير دائم في القيم الاجتماعية المركزية والأساسية للمجتمعات الإسلامية. وتأثير هذه الأزمة موجودة منذ سنوات عديدة في خلفية الحوار السياسي والاجتماعي بين الأوساط المحافظة والحداثيين.

وقد تركزت انتقادات أنصار الإسلام السياسي نحو الإداريين الرسميين ونحو المؤسسات الرسمية، بأنها لا تراعي الحساسيات الإسلامية والاجتماعية. لذا فهي لا تملك مشروعية، ولا توجد لحكمها أسس أخلاقية. والحقيقة أن المسؤولين والحكام والإداريين في البلدان الإسلامية يعيشون منذ عصر ونصف عصر تقريباً مع شعوبهم مشكلة مشروعية الحكم. فطبّق هؤلاء الحكام نظام حكم لا أثر فيه لحرية الرأي للشعب. ومثل هذا النوع من الحكم –إضافة لتطبيق المبدأ العلماني والدنيوي المتسم بالإكراه– وارتباطه بالغرب لا يدع فرصة لأي تجديد أو تغيير في نطاق السياسة والاجتماع. وهذا يؤدي إلى توسيع الهوة بين الطبقة الحاكمة التي تدير شؤون البلد وبين جماهير الشعب، وإلى تناقض الثقافة والمبادئ والأهداف بينهما.

(103-102-101)

ب – مغزى تصاعد الوعي الإسلامي، والإسلام السياسي:

لا يفهمن أحد من العنوان أعلاه أن هناك علاقة متلازمة بين الطرفين (أي بين الوعي الإسلامي المتصاعد والإسلام السياسي). لأن هذا هو من أهم الأخطاء المرتكبة في هذا الخصوص. وهذا الخطأ إنتاج غربي. فالنظرة الغربية هي التي تنظر إلى كل نشاط أو حركة إسلامية من زاوية سياسية. وهي ترى أن زيادة الوعي الإسلامي لا بد أن تنقلب في العالم الإسلامي إلى حركات اجتماعية تؤثر في المجتمعات الإسلامية روحياً واجتماعياً واقتصادياً، وتؤدي من جهة أخرى إلى حيوية وتصاعد سياسي أيضاً. وهذا يعني تشكيل خواص المجتمع الإسلامي وقيمه من جديد في العصر الحديث.

تعد هذه النظرة طبيعية في العقلية الغربية، ولا سيما في هذه الأيام التي أُرهقت الأذهان بالمشاكل الاقتصادية والأمنية. وبدأ الاستعمار الدولي يحاول إرساء أسس جديدة لإضفاء الشرعية عليه.

لذا فإن الغرب لا يتردد مطلقاً من الالتجاء إلى الأساليب غير الديمقراطية وإلى الأساليب الاستعمارية. وهذا ما يجعل مثل هذه التقويمات للحركات الإسلامية طبيعية وملائمة لهم. ثم إن أسس الدين المسيحي عند الغرب، لا تجعل للدين مثل هذه الإحاطة الشاملة لحياة الإنسان. فالدين المسيحي لا يلعب دوراً مركزياً في حياة المؤمن المسيحي. فالمخيلة الدينية الغربية تنظر بهذا المنظار إلى الأديان الأخرى. بينما يقوم الدين الإسلامي بتوجيه وتشكيل حياة المسلم الاعتيادي في جميع مناحي الحياة. وهذا أهم سبب في عدم فهم الغرب للحركات الإسلامية والتقويم الخاطئ لها.

إن العديد من الشعائر والتوجيهات الدينية في الإسلام، كالزكاة والصدقة والصلاة والحج والصوم، والعدالة والمساواة والاستقامة والخلق القويم..الخ، يربط الفرد المسلم بوشائج قوية مع الهوية الإسلامية.

وما دام الغرب لا يفهم مثل هذه الإحاطة الديناميكية الشاملة للإسلام، فإن النماذج الاجتماعية السياسية الموجودة في ذهنه تكون منحرفة فيما يتعلق بالإسلام. وهم يتجاهلون في جميع تحاليلهم السمة الشاملة للإسلام الذي يوجّه حياة المسلم في جميع الأنشطة الاجتماعية والثقافية. ولكن هناك استثناء واحد لا يتجاهلونه، وهو عندما يكون الموضوع مرتبطاً بالإسلام السياسي. فهم عندئذٍ يقومون بتدقيق جميع الآليات الاجتماعية والعبادية للإسلام. ولا سيما في الفترات التي تظهر فيها بعض النشاطات الاجتماعية والثقافية التي تكون لها بعض التداعيات السياسية. وسرعان ما يقوم الغرب بعزو هذه النشاطات إلى الإسلام السياسي، ويعدونها دليلاً على تصاعده. ومثل هذه النظرة والتقويم تحقق لهم فائدتين: الأولى، على صعيد نظرية المعرفة. حيث يستدلون بها على أن الإسلام دين يعزز الراديكالية، ويحللون هذه النشاطات من منطلق نظرية الأزمات. (106-105-104-103) والفائدة الثانية، على الصعيد السياسي والأيدولوجي. لأن تصاعد الإسلام السياسي يشكل تهديداً ضد الآمال الامبريالية للغرب في العالم الإسلامي. ولكن نظراً لأنهم يبالغون في خوفهم من هذا التهديد ويحولونه إلى “فوبيا” وإلى رعب. فإنهم يحاولون إرساء أسس قانونية دولية تخولهم اتخاذ أي تدابير قسرية ضد هذه البلدان الإسلامية، واستعمال صور عديدة من استعمال القوة والعنف معها.

من الواضح هنا وجود حركة سياسية تحاول تطويق مستقبل العالم الإسلامي والإسلام. وذلك بتصوير المسلمين قوة إرهابية كامنة. أي يوجد هنا خطأ في التقويم.

لا شك أن هناك بعض التجمعات الإسلامية في العالم الإسلامي التي لها شعارات تؤيد استعمال العنف. ولكن هذا لا يعني أبداً إعطاء حكم عام وشامل على الإسلام وعلى المسلمين. لذا فإن مثل هذه التجمعات لا تملك إلا قاعدة ضيقة من الأنصار.

إن مسألة زيادة الوعي الإسلامي سواء على الصعيد الفردي أو على الصعيد الاجتماعي تختلف تماماً عن مسألة تشكل تلك الجماعات المتطرفة. إن المسلمين يعيشون الحماسة الإسلامية منذ ظهور الإسلام وحتى الآن. حيث لونت هذه الحماسة حياتهم الاجتماعية والثقافية في جميع المستويات. وأحياناً تزداد هذه الحماسة وتبدي وعياً اجتماعياً عالياً. ومن ناحية علم الاجتماع، فإن الوعي الإسلامي يهب للفرد هوية دينية نشطة. ولا تعني هذه الهوية الدينية النشطة أنها تكون حبلى بأيدولوجية سياسية أو إرهابية. فمثل هذا التقويم هو حكم مسبق وسوء حكم وسوء نية. إن القاعدة الاجتماعية لبعض حركات العنف في العالم الإسلامي ليست دينية ولا إسلامية، بل هي بمقياس كبير حركة رد فعل تتحدى قوى الامبريالية الدولية وتقاومها.

لقد اتخذ الغرب من بعض الحركات السلفية المتطرفة دليلاً على الإسلام الإرهابي. ولكن مثل هذه السلفية –أي الحركات التي تتبنى العنف السياسي- لم تجد لها قاعدة عريضة في المجتمعات الإسلامية. لذا فليس من العدل ولا من الإنصاف الحكم على العالم الإسلامي كله من خلال تعرفات جماعات هامشية معزولة. والنصوص الإسلامية تحاول الاحتفاظ بالوعي الإسلامي بشكل ديناميكي. وهذا أمر يجب ألا ننساه. ولا يعني الاحتفاظ بوعي إسلامي عالٍ أنه سيولد حتماً أيدولوجية سياسية إرهابية. فهذا ادّعاء سطحي وحكم مسبق. لأنه يجب ألا يغيب عن البال بأن هذا الوعي الإسلامي أنتج حضارة عظيمة في مجال الأخلاق وفي المجال الاجتماعي وفي مختلف فروع العلم والفن.

إن الوعي الإسلامي وعي مشترك فوق الجماعات والفرقاء. ولا يمكن إرجاعه إلى مصلحة جماعة معينة أو فريق بعينه. وإذا كنا نعني بالوعي عدم الاكتفاء بتدين بسيط فهذا صحيح، وهو يتماشى مع أسس الإسلام (القرآن والسنة والإجماع). وهو يشكل جواباً أو حلاً لهوية المسلم التي تعرضت للتخريب بسبب الانحدار الاجتماعي–الاقتصادي، والاجتماعي- الثقافي. وهذا لا يعني أن الوعي ليس بالضرورة أن يكون بديلاً ضد الأزمة الاجتماعية والثقافية. لأن وضع وإنتاج الهوية السياسية هو من وظيفة الأحزاب السياسية. ولا يمكن اختصار أهداف الدين الإسلامي على نطاق الفرد والمجتمع إلى مجرد وعي سياسي. ثم إن أبسط الأهداف الدنيوية ومثلها مرتبطة به بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحياة الأبدية ومع السعادة الأخروية. ولا يمكن للأهداف الدنيوية الضيقة والعقيمة، والأهداف السياسية استيعاب واحتضان أهداف الإسلام الممتدة إلى اللانهاية. لذا ليس من الصحيح (108-107-106) قراءة تصاعد الوعي الإسلامي على ضوء الأهداف الدنيوية والسياسية البحتة، لأن هذا يعني هدم مُثل الإسلام اللانهائية والأبدية. وهذا ما لا يقبله حتى المسلم الاعتيادي.

والحقيقة فقد أصبح من المعروف النية الحقيقية للذين اعتادوا أن يرجعوا جميع أنشطة المسلمين وكأنها موجهة لتحقيق أهداف سياسية. فهم لكي لا يواجهوا ردّ فعل جماهيري غاضب إن قاموا بعداء واضح للإسلام بشكل مباشر، فقد اختاروا –لإخفاء عدائهم هذا– عدّ كل نشاط أو حركة إسلامية وكأنها حركة سياسية. فالإسلام السياسي (أو الإسلامية التاريخية) على أي حال متهم على الدوام.

وقد وجهت حركة محمد فتح الله كولن ضربة إلى هذا الوهم الذي يملك ماضياً طويلاً. فقد أرادوا أن ينظروا إلى هذه الحركة بالمنظار المعتاد نفسه، أي باعتبارها حركة إسلامية ذات أهداف سياسية. ولكنهم لم يستطيعوا الحصول على أي دليل في هذا الصدد. ولن يستطيعوا أن يجدوا.. لأن جميع آليات وديناميكيات هذه الحركة وماضيها التاريخي لم تتوجه إلى أي هدف سياسي أو غاية سياسية.([5]) لذا فهي حركة مثالية تجمع القيم الدينية مع القيم الإنسانية والاجتماعية في وحدة متكاملة. وهي تقدم تجربة فريدة في هذا الخصوص. وأنا أرى أنها –ولا سيما بعد نجاحها الفذ في مجال التعليم والتربية– قدمت حلاً وجواباً لمشكلة الأزمات الثقافية التي تعمقت عندنا سنوات عديدة وطويلة

إن حركة محمد فتح الله كولن حركة ديناميكية نشطة قد أفرزت روحاً تعبوياً عاماً، بحيث يجد كل شخص فيها وفي مؤسساتها العديد ما يناسبه من ألوان النشاط. وهذا هو السبب في تأثيرها على مختلف أنواع الكتل الجماهيرية. وهي تطالب منتسبيها بتضحيات جسيمة. كما أنها لا تشبه الحركات الأيدولوجية التي تحاول جمع الأنصار والسيطرة على الشارع بإطلاق الشعارات. ولا تستمد قوتها وتأثيرها من الشارع، بل من قلوب الناس الذين نذروا أنفسهم للخدمة. وعادة ما نرى أن الحركات الأيدولوجية بشكل عام لا تستطيع إجراء أي تأثير اجتماعي قبل سيطرتها على الشارع. بينما نرى أن الفئات المختارة التي تسيطر على نواحي الاقتصاد والاجتماع والسياسة قد أبعدت الكتل المكونة للشارع، والتي تتألف من جماهير الأحياء الفقيرة وأحياء الضواحي الذين تراكمت عندها مشاعر النقمة والانتقام، وتكون موجة معارضة اجتماعية عنيفة. وغالبا ما يستولى على الشوارع من قبل المتذمرين من الحياة والناقمين عليها، والذين يُتوقع منهم كل مكروه. وتقوم الحركات المرتبطة بالشارع بتهيئة منتسبيها ليكونوا قدوة في الدولة الأيدولوجية التي يطمحون في تأسيسها، والتي تحمل قيماً معارضة لقيم المجتمع وغريبة عنه.

بينما تستند حركة محمد فتح الله كولن إلى الوعي الإسلامي ورُقيِّه وإلى الإنسان المتوازن المستقر. (109-108) لذا فهي ليست حركة لاستقطاب فئة الناقمين في المجتمع لفرض تحريك الشارع، بل هي حركة ترى في الأمة بكافة شرائحها رصيدها الذي لا ينفد.

 6- حركة تنشيء قيمها بنفسها

لم تظهر حركة محمد فتح الله كولن –مثل الحركات السابقة لها– على مُثل وُجدت نتيجة جو من أجواء الأزمات. لأنها أنشأت تقاليدها بنفسها وأقامت مظهرها ومؤسساتها ومهمة الامتداد والتوسع والتبليغ والدعوة، ومؤسساتها التعليمية والتربوية. ولم تستمد العون –عند بلوغها مستواها الحالي– من أي أيدولوجية سياسية ولا من أي ميراث اجتماعي وثقافي وإسلامي سابق لها. بل استمدت الحركة سرعتها من الشخصية الفذة لـ”محمد فتح الله” وتشجيعه المستمر، ومن علمه الراسخ، وخطبه الحماسية البليغة، ونشاطاته الاجتماعية. وبالتالي من تكوّن كتلة من الناس حوله وتأييدهم لهذه الحركة مادياً ومعنوياً. ولم تتأثر أسس هذه الحركة ونشاطاتها الدينية والمعنوية بأي حركة أخرى سياسية كانت أم اجتماعية. فمساهمة بديع الزمان “سعيد النورسي” في حركة النور لم تكن على صلة مباشرة وعضوية، إنما كانت ضمن إطار معنوي وروحي منبثق من آرائه.

ومما لا يرقى إليه شك أن كليات رسائل النور أحدثت تأثيراً بالغاً في القوى الداخلية للحركة وغذتها فكريا ومعنويا. ثم إن رسائل النور وحّدت فكر وعقائد الحركة وألفت بين قلوب أفرادها ووقتهم من التشتت والضياع. والجدير بالذكر أن رسائل النور –على مدى العصور- هي مؤلفات فريدة من نوعها، وقيمة في مضامينها ومواضعها، ومدوّنات دوّنت في ضوء العقيدة الإسلامية، ونبّهت على المسائل الإيمانية وانتهجت منهج السنة والجماعة.. وقد أحدثت تأثيراً معنوياً واجتماعياً في نفوس أبناء المجتمع الذي يتداولها. وقد تكون هذه الرسائل هي المؤلف الوحيد –منذ عصور عدة– الذي يمكن إعادة قراءتها مرات ومرات دون ملل ودون أن يُفقد شيئاً من قوة تأثيرها المعنوي والروحي معاً. لذا فلها تأثير معنوي قوي على الحركة بشكل واضح وبديهي. وقد لا تملك هذه الرسائل، المنظومةَ التي تملكها الكتب العلمية الحديثة من ناحية الترتيب والتنظيم. إلا أن كيفية تناولها للموضوعات والحلول الجذرية التي تقدمها، تجعل لها تأثيراً كبيراً في الحياة الاجتماعية والإنسانية. ولا تكتفي بإثارة المشاعر الدينية والعقائدية والإيمانية، بل تؤسس روابط قوية بين أفراد الجماعة وتقيم بينهم الأخوة. وهذه الرابطة الأخوية القوية تحفظ الجماعة من التشويشات والتأثيرات الخارجية فكرياً وعقائدياً.

فهذا هو المقصود من مساهمة رسائل النور في حركة محمد فتح الله كولن. أي، إن هذه المساهمة ليست عضوية بل روحية، ومعنوية، ومعنوية شخصية. نعم، ثمة أناس من مختلفي الجهات يقرأون رسائل النور ويتابعونها عن قرب، هذا ما يجعلهم يجتمعون تحت قبة معنوية واسعة. بيد أن هذه الوحدة كما ذكرنا آنفا هي وحدة فكرية وقلبية وتأثر عميق. علماً بأن القوى المحركة الداخلية لهذه الحركة تشكلت حول الشخصية المعنوية والقوية والعلمية القوية لـ”محمد فتح الله كولن” وحول شخصيته العلمية الواسعة وقيادته المثالية والمؤثرة، وقد تبلورت هذه المعالم في الساحة الاجتماعية (111-110) واستقطتب حولها أناساً شتى. وهذا ما قصدناه عند قولنا بأنها: “حركة أنشأت جذورها وتقاليدها بنفسها”. أما مهمتها الإنساني ونشاطها الديني فيتغذيان من النصوص الإسلامية المعروفة، (الكتاب والسنة والاجماع..الخ) ومن التقاليد التاريخية المتبوعة، والتجارب الإسلامية الماضية، والخبرات المتراكمة. ولكن هذه التجارب والخبرات المتراكمة لم تكن حاضرة متحضرة ولم تكن مهيأة وميسرّة للممارسة قط. وإنما لأن هناك حاجة ماسة إلى قريحة علمية وقادة لاستلهام هذه التجارب التاريخية المختلفة وهذه الخبرات المتراكمة. وما تعنيه من قيم في ضوء الكتاب والسنة، والتعبير عنها في ضوء تجارب العصر الحديث وخبراته، وإعطائها شكلاً جديداً وتفسيراً جديداً مناسباً للعصر. فلا يوجد هناك أي كتاب ولا أي ميراث تاريخي أو أي تجارب اجتماعية وإنسانية تستطيع وحدها توفير هذا للإنسان. وهنا تبرز أهمية التجربة الشخصية لـ”محمد فتح الله كولن” وخبراته وقريحته. فقد استطاع مزج الماضي والمستقبل في البوتقة الدينية وفي الحركة الاجتماعية. وقدّم للإنسان المعاصر وللمسلم المعاصر رؤية عالمية شاملة مهمة ومنظمة. فلم ينظر إلى الحاضر وإلى واقعه ولا إلى المستقبل الغمض مهملاً ميراث الماضي. وسنقوم لاحقاً بتناول موقفه من العصر النبوي الشريف وعصر الراشدين وكيف أنه جعلهما مثالاً يحتذى. وهذا دليل على مدى ارتباطه بالإسلام وعلى عمق نشاطه الديني. والمسألة في نظره لا تنحصر في تأويل التقاليد والأعراف ضمن جهد قليل وعقلانية ضيقة. بل عيش هذه القيم ضمن إطار وجد وعشق ديني، وضمن عاطفة دينية مشبوبة في الوقت نفسه. لذا فهو يُعد زاهداً عصرياً سائراً على تقاليد وعادات عصره. وهذا هو التأثير المعنوي الكبير وراء حركته.

ومن ميزات حركة محمد فتح الله كولن أنها، بخلاف الحركات الإسلامية المعاصرة الأخرى، لا تملك زمناً ماضياً ولا سلفاً مولياً.لا تملك سلفاً لهاً (؟؟؟). فمثلاً هناك اليوم -في المشرق والمغرب- العديد من الحركات التي نُشر فيها الكثير من المقالات والبحوث والتحاليل، والتي كانت عنوانا للمحاور السياسية والاجتماعية، ظهرت امتداداً لبعض التجارب السابقة لها. وإن امتداد الأيدولوجية الدينية أو السياسية ومواكبة استمراريتها، هو مظهر طبيعي من مظاهر تاريخ الحركات. وليس في هذا بأس. ولكن هناك حركات تقوم بمحاولة إحياء أيدولوجيات مندثرة، فسرعان ما تسبب هذه المحاولات المشاكل في الممارسة السياسية والاجتماعية. فراحت تظهر اليوم في كافة أرجاء العالم كمثل هذه التطورات شيئا فشيئاً. والحركات الدينية السياسية التي ظهرت في العالم الإسلامي، قومت في بعض التحاليل على أنها حركات أصولية(!). فعادة ما يتم تناول هذه الحركات بمعزل عن ظروفها الواقعية وعن تطور هذه الظروف. وكثيراً ما يقوم المحللون السياسيون والاجتماعيون الغربيون بإهمال التأثيرات التاريخية وتأثيرات واقع وظروف هذه الحركات عليها، ولا يأخذون بنظر الاعتبار تأثير المبادئ والأصول الإسلامية الأساسية عليها. لذا تتعرض كل حركة دينية إلى نقد (113-112-111) وهجوم في التحاليل السياسية الغربية. وهذا يُصعِّب قيام هذه الحركات بحوار بعضها بعضا والاستفادة من تجاربها الخاصة.

فمثلا تقوم بعض الأوساط المعينة في تركيا بمقارنة حركة محمد فتح الله كولن بحركة الإخوان المسلمين عن قصد، أو بأنها متأثرة بالحركة من الحركة الشيعية السياسية في إيران ومدعومة من قبلها. علماً بأنه لا يوجد أي أساس علمي لمثل هذه الادّعاءات، ولا تستند هذه المزاعم إلى أي قوة من القوى الداخلية المحركة لحركة محمد فتح الله كولن. ومع أن ميزة حركة محمد فتح الله كولن واضحة أمام الرأي العام، فإن هذه الأوساط تحاول جر الطبقة المثقفة التي تتبنى الأيدولوجية الرسمية للدولة إلى اعتقادات خاطئة، فتنشر هذه الادعاءات. لذا فمن المفيد بيان ميزة حركة محمد فتح الله كولن عن هذه الحركات بإيجاز:

تعتقد الأوساط الغربية أن أساس الراديكالية(!) الدينية المعاصرة وُضعت من قبل حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة الجماعة الإسلامية في باكستان. وإن الثورة الإيرانية كذلك امتداد راديكالي لهاتين الحركتين. وقد أخذ هذا التحليل مكان الصدارة والاتفاق بين المحللين الغربيين. وترى هذه التحاليل أن جميع الحركات الدينية في العالم الإسلامي تتشابه مع هاتين الحركتين، ولها روابط تاريخية معهما. حيث أظهر هذا الأمر طبيعة العقلية الغربية. لأن تاريخ الفكر السياسي في الغرب يقوم على أساس أن المذاهب والمدارس المختلفة هناك ظهرت باندماج العناصر المختلفة لهذه الحركات، أو ظهرت كردود فعل نتيجة الصراعات بينها. هذا ما جعل المخيّلة الغربية العلمية والاجتماعية تنظر بعين المنظار إلى الحركات المعاصرة. وهم يقوّمون هذه الحركات إما على اعتبار أن إحداها امتداد للأخرى أو أنها مناقضة لها وفي صراع معها. ولكنهم اتحدو على أن جميعها تأثرت ببعضها بشكل من الأشكال. ربما هناك شيء من الصحة بأن هاتين الحركتين – حركة الإخوان المسلمين وحركة الجماعة الإسلامية- كانتا مصدر إلهام للصحوة الدينية والسياسية في العالم الإسلامي في العهد الأخير، بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن إن لم تتم مناقشة الأدلة التي تستند إليها التحليلات الغربية من الناحية المنهجية لا يمكن بيان مدى هذا التأثير ومستواه الحقيقي بشكل صحيح. لأن هذه التحليلات لا تملك أساساً صحيحاً في تحليل التغيرات الاجتماعية الإسلامية، لا من ناحية النظرية ولا من ناحية التحاليل الاجتماعية والسياسية. ولا تملك أدلة صحيحة تستطيع بقيام أي تحليل اجتماعي لأي مجتمع الإسلامي. ولا معرفة التأثير البالغ للدين الإسلامي على أشكال المنظمات الجماهيرية هناك. لذا كان من الضروري الوقوف موقف الحذر من التحليلات الغربية لحركة الإخوان المسلمين وحركة الجماعة الإسلامية.

من المحتمل أنه كان لهاتين الحركتين نوعاً من التأثير في ظهور بعض الحركات أو ظهور بعض المنظمات الفكرية في العالم الإسلامي. ولكن لم يكن لهما أي تأثير جدي في الجماعات الإسلامية في تركيا. ولا بد من التنويه على أننا لا نعمل بهذه الأقاويل إلى استنباط أي حكم أو عيب في مشروعية أو هوية هاتين الحركتين. وإنما قصدنا أنه لا يوجد أي دليل تاريخي أو اجتماعي على هذا التأثير. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، لا تزال هناك العديد من التحليلات للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي توحي بأن جميع هذه الحركات قد ظهرت من قاعدة ومن ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية واحدة. وهذا يشير إلى معايب وضعف التحاليل وعِلَلها تجاه الحركات الاجتماعية المعاصرة.

(114-113)

وكما ذكرنا أعلاه، لم تكن حركة محمد فتح الله كولن امتداداً لأي حركة أو أيدولوجية أخرى، ولا تمثل قاعدته الجماهيرية أي طبقة اجتماعية معينة، ولا أي فئة قومية أو عنصرية. ولا تستند قاعدته الجماهيرية إلى أي فئة اجتماعية أو دينية معزولة عن المجتمع، أو مضطهدة. أي إنها تتميز بسمتها هذه عن الحركات الراديكالية ولا توصف بصفتها. ومن جهة أخرى فإن الحركات الاجتماعية الكلاسيكية تستند في الغالب إلى جماهير الريف والمدن الصغيرة، والفئات الاقتصادية والاجتماعية التي تمثلها. وقد استغلت الحركات الراديكالية هذه الفئات الاقتصادية والعنصرية مدة طويلة. ونتيجة لمشاعر الحرمان التي تعاني منها هذه الفئات كانت مستعدة في كل آن لأي حركة متطرفة. وكل نوع من أنواع المعارضة تُكسب هذه الحركات هوية اجتماعية وسياسية. لذا فالراديكالية من هذا المنطلق تُكسب هذه الجماهير والفئات هوية معينة.

بينما كتل الجماهير التي تستند إليها حركة محمد فتح الله كولن ليست طبقة معزولة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً عن المجتمع. بل تكتسب التأييد والعون من الفئات والجماهير المختلفة الريفية منها والحضرية. إن قاعدتها الجماهيرية متكونة من الطبقات الدنيا والوسطى والغنية في الريف وفي المدن. أما جهاز الحركة فيسيّر من قبل أفراد معلَّمين ومثقفين قد تخرجوا من نُخَب الجامعات في المدن المختلفة. ولا تتصرف هذه الفئات المختلفة للحركة بدافع مشاعر العزلة عن القيم الاجتماعية والسياسية المركزية للبلد، ولا تحمل أي ضغينة أو حقد للطبقة المنتجة التي تدير البلد، ولا للأوساط الاجتماعية والاقتصادية الحاملة للقيم الغربية. لذا لا يمكن مشاهدة أي ميل انفصالي وراديكالي عندها عن المجتمع مثلما يلاحظ في الحركات الراديكالية الكلاسيكية، ولا مشاهدة أي أيدولوجية معاكسة ومعارضة. فنشاطاتها موجهة بأجمعها وجهة إيجابية. وبدلاً من عرض البدائل في كل ساحة وإبداء المعارضة والمخالفة، فهي تفضل عرض الحلول الإيجابية في جو من الائتلاف وسماع الآخر. والهوية التي تكسبها الحركة لأفرادها ليست معزولة عن هوية القيم الاجتماعية والدينية المركزية للمجتمع، بل هي تقوي تلك القيم وتدعمها. وقد جلب لها هذا، انتقادات كثيرة من اليمين الراديكالي.

ولا شك أن هناك من نظر إلى الهوية الدينية والاجتماعية لهذه الحركة نظرة مختلفة، وحاولوا تفسيرها بشكل مختلف. إلا أن الهوية الاجتماعية والثقافية والأيدولوجية لهؤلاء غريبة عن عقائد المجتمع وقيمه ومختلفة عنها. ونظراً لكونها لا تستسيغ الهوية الدينية لحركة محمد فتح الله كولن، فإنها لا تتردد من كيل التهم لها بل لا تتردد من اتهامها بأنها تحمل أهدافاً سياسية بل حتى أهدافاً امبريالية. بينما تاريخ هذه الجماعة (أي جماعة محمد فتح الله كولن) البالغة أكثر من ربع قرن يكذب هذه الادعاءات. فهذه الجماعة لا تحمل أي هوية سياسية أو أيدولوجية إلى درجة أنها تعرضت لاتهام بعض الأوساط الدينية، وانتقدت لأنها بقيت خارج الحلبة السياسية. إن عدم حمل هذه الجماعة لأي هدف سياسي من الوضوح إلى درجة أنه ما من حركة سياسية ادّعت أنها قريبة منها. أما علاقتها مع الطبقة السياسية ومع الإداريين للبلد فقائمة على المصالح الواقعية. فمن الطبيعي أنها وقد اهتمت بالتعليم -الذي يعد من أهم نشاطاتها– أن تكون لها علاقات واقعية(116-115) مع القائمين بإدارة البلد. وقد تحققت هذه العلاقات دون أن تنقلب إلى أهداف أو آمال سياسية، بل بقيت محصورة في الساحة التعليمية وكيفية أداء الخدمة فيها وتطويرها، ولا يمكن أصلا تصور العكس. لذا فلا تعني هذه العلاقة أن للحركة أهدافاً سياسية. ولو كان لها أهداف سياسية لظهرت في الساحة السياسية على شكل تشكيل حزب سياسي. والسبب الذي حدا بنا إلى طرق هذا الموضوع هو لبيان أن هذه الحركة لا تستند إلى أي كتلة سياسية، ولبيان أنها تختلف عن الحركات الإسلامية السياسية. لذا فلا يمكن اتهامها بأنها حركة راديكالية سياسية.

ثم إن محمد فتح الله كولن لم ينخرط في أي وقت من الأوقات في أي فعالية سياسية أو حزبية. فمثل هذه الفعاليات عادة ما تكون مغامرات ذات عمر قصير. لذا فقد كثّف نشاطه ليهب المجتمع فوائد اجتماعية وثقافية على المدى البعيد علاوة على كل ما يتعلق بسعادته الأخروية والأبدية، وبكل ما يؤدي إلى تشكيل مجتمع مؤمن. وحياته التي قاربت السبعين عاماً ونشاطاته لخمسين عاماً، شاهد بارز على هذا. إن القيام بحفظ منافع المجتمع وحقوقه السياسية وتطويرها وتمثيلها هو من مهمات السياسيين. وهو كمؤمن حريص على إيمانه وكمواطن مدني اعتيادي توجه إلى الساحات المدنية بنشاطه. وتتطلب هذه الساحات تضحيات كبيرة، وعملاً لسنوات طويلة دون انتظار أي مقابل، وتتطلب أناساً نذروا أنفسهم في صالح المجتمع وفي سبيل إسعاد مستقبله. أما الحركات السياسية فهي تتوقع –مهما كانت الأسماء وراءها– منافع معينة. بينما يجب على المسلم وعلى المؤمن الخالص الإيمان، ألا يتوقع من المجتمع أي منافع خاصة. لذا لا تقبل حركة محمد فتح الله كولن أي عمل –حتى بشكل مؤقت– يهدف للوصول إلى أغراض سياسية.

أثارت بعض الأوساط عن قصد شبهة أن هذه الحركة تسعى وراء انقلاب إسلامي مثل الإنقلاب الإيراني. ولا تستطيع هذه الأوساط بالطبع، إيراد أي دليل على هذا الإدعاء. ولو استطاعوا ذلك لأقاموا الدنيا وأقعدوها. والغاية من إرسال هذه الإفتراءات، إثارة بعض القوى الحاكمة في البلد ضد هذه الحركة، والحط من منزلة الحركة أمام الرأي العام. بينما يعلم أصحاب هذه الفرية جيداً أن حركة محمد فتح الله كولن لا تسعى وراء أي مشروع سياسي، ولا للقبض على زمام الدولة. ولا أدري ما الذي يدفع شخصاً -اعتنى عناية خاصة بالابتعاد في أقواله وأعماله عن السياسة حتى اليوم وجعل هذا الامر أهم شعار له- للسعي وراء إسلام سياسي، أو وراء محاولة تأسيس دولة دينية؟!. علماً بأن الأنموذج الإيراني الشيعي لم يجد له قبولاً في عالم أهل السنة على الرغم من مرور كل هذه السنين. إن الانقلاب الإيراني يستند إلى مفاهيم وأسس اجتماعية وتاريخية معينة، ولا يمكن تكراره أو تقليده في العالم السني، ولا سيما في تركيا التي عاشت مشاكل كبيرة وصراعات عديدة في التاريخ مع إيران. فهذا غير ممكن من الزاوية الاجتماعية. ولا أجد هنا حاجة لإيراد الفروق بين الذهنية المذهبية الشيعية وبين البنية الاجتماعية والذهنية السنية في العالم السني. وإنما اكتفي بالقول بأن هذه الفروق المذهبية والعقائدية تؤدي إلى فروق في النظام الاجتماعي وفي شكل التنظيم السياسي بين المجتمعين الشيعي والسني.

صحيح أنه لا يمكن القول بأنه لم يحدث أي تأثير للانقلاب الإيراني في العالم السني. ولكن (118-117-116) هذا التأثير كان قصير النفس، ولم يظهر إلا في أقوال وشعارات بعض الجماعات الهامشية، ولم يجد له قاعدة جماهيرية واسعة.

والافتراء الآخر حول حركة محمد فتح الله كولن، هو أنها تمول من الخارج. وهو افتراء مضحك لا يستحق الوقوف عنده. ولكن أذكر ملاحظة حول حساسية معينة، أرى أنها تساعد على تحليل هذه الحركة فأقول؛ إن من أهم أسباب ثقة الجماهير والرأي العام بهذه الحركة هي هذه الحساسية، أي إن الحركة إضافة إلى قيامها بوضع قيمها الاجتماعية والثقافية بنفسها، فهي تصنع مصادرها المادية بنفسها أيضاً. إن الأعباء المادية والمعنوية للحركة تقع على كاهل المواطن التركي المؤمن والمضحي، وعلى المسلمين الممتلئين بمشاعر الحب لعقيدتهم ودينهم. ولم يقبل محمد فتح الله كولن أي مساعدة خارجية في أي أمر من الأمور، أو في أي ساحة من الساحات. لأنه عدّ هذا إهانة لهذه الأمة.([6]) وأنا أعتقد بأن هذا التصرف يكفي لرد الاتهامات عن الحركة في هذا الصدد.

7- مرجعية عصر النبوة في حركة محمد فتح الله كولن

لا شك أن من أهم المثل التي تمثل الجانب الإسلامي الاجتماعي والتاريخي في حركة محمد فتح الله كولن، هي اتخاذه عصر النبوة والراشدين مرجعاً. فهذه المثل والقيم ترجع –كما في الحركات المشابهة الأخرى– إلى العصر الإسلامي الأول وتتمسك به. فمنظومة هذه القيم تستند بمقياس كبير إلى طراز حياة الصحابة. كما أن هذه الفترة التاريخية القصيرة نسبياً هي التي شكلت الخطوط العريضة للتفكير السني بكل جوانبه، وهي التي أعطت مثالاً عملياً وواقعياً له.

إن هذا العصر يشكل لحركة محمد فتح الله كولن –ولغيرها من الحركات المشابهة– العصر الذي عاش فيه الأسلاف التاريخيون العظماء. ففيه المثال الطاهر والصافي للإيمان الإسلامي. ولا يوجد فيه أي شائبة أيدولوجية أو سياسية أو تطرف. فهناك نرى طبقة متوسطة في الغالب، ولكنها تتكون من جيل متناسق ومتفاهم ومحترم. فهو العصر الذي انتظم فيه أناس اعتياديون مخلصون، الواحد منهم بجانب الآخر وكأنه عقد من اللؤلؤ. وهذا هو العصر الذي عاش فيه ذلك الجيل المخلص المضحي، حياة زهد خالية من البهرجة. ولكنها كانت حياة مفعمة بالمشاعر وبالبهجة وبالارتباط الصادق بالدين.. هذا العصر يشكل الجذور المثالية لحركة محمد فتح الله كولن وأهم أسسها وقواعدها. لذا فهي لا تحتوي (119-118) على ميول وأهداف أيدولوجية وسياسية متطرفة. وقد ظهرانحدر جيل ذلك العصر من بين أناس قساة القلب غلاظ، ظالمين جهلاء.. رغم ذلك فقد نجحوا في تكوين أمة جديدة. هؤلاء الأفراد الذين انحدروا من تقاليد بيئة جاهلية تبرر النهب والسلب بين القبائل.. انحدروا وهم يلتمعون التماع الدرر واللؤلؤ. عاشوا في ذلك الجو أطهار دون أن تتأثر مشاعرهم وأخلاقهم وإنسانيتهم بظلمات تلك الجاهلية. وقد اكتشفهم الإسلام واصطفاهم ليشكل منهم نسلاً ذهبياً. ذلك الجيل الذهبي الطاهر المخلص والمضحي هو الجيل الذي ارتبطت به هذه الحركة من ناحية القدوة الفردية والاجتماعية. كان ذلك العصر عصراً لم يتلوث إنسانه بعد بأي أهداف دنيوية أو سياسية.

إن المثل العليا لحركة فتح الله كولن، تكمن بشكل مباشر أو غير مباشر مع التطبيق العملي لهذا العصر. لذا فعلى من يرغب في تحليل هذه الحركة، أن يضع في اعتباره، تمسك هذه الحركة ومن ثم تمسك هذه الجماعة بقيم عصر النبوة. فجميع القوى الداخلية المحركة للجماعة متلائمة ومتناغمة مع قيم ذلك العصر. فإن تم إهمال هذا الأمر فلا يمكن تحليل حركة فتح الله كولن بشكل حقيقي وصحيح.

إن أي حركة إيجابية لا تحمل فيها مشاعر وغايات خفية. وهذا الفهم موجود في مثل هذه الحركة التي تتخذ عصر النبوة مثالها الأعلى. ولا يوجد في أساس هذه المثل حق الحديث باسم ذلك العصر الذي لم يعد موجوداً ولا مشاعر الحسرة عليه. لأن التحسر على الماضي أصبح سمة للعديد من الحركات. بينما يمثل عصر النبوة والراشدين في حركة فتح الله كولن مثالاً أعلى من جهة، وأنموذجاً للحياة الواقعية الحالية من جهة أخرى. والدليل على هذا، أن العديد من الذين وهبوا قلوبهم لهذه الحركة، قاموا بتضحيات لم يشاهد مثلها في التاريخ الإسلامي، إلا في عصر السعادة (عصر النبوة والراشدين). أما الجماهير التي حملت قيم هذه الحركة، فقد أبدوا إخلاصاً وتضحيات قريبة من إخلاص ذلك العصر وتضحياته. لذا فإن عصر السعادة لا يبقى مثالاً جامداً، بل مثالاً حركيا. لأن هناك خطورة من انقلاب مثل هذه المُثل إلى مجرد حنين مشلول مرتبط بالماضي. وأي حركة تتحول إلى جماعة تتحدث باسم مجتمع لم يعد موجوداً، ستدخل في مرحلة التفتت والاضمحلال. وقد أثارت حركة محمد فتح الله كولن في قلوب الشباب حماسة التمسك بهذه المثل وحالت بذلك دون انقلابها إلى حنين جاف إلى الماضي.

إن هذه الخصائص الحساسية لهذه الحركة تختلف عن الحركات التي تدعو بالرجوع إلى الحياة الإسلامية السابقة، وترفع هذه الدعوة كشعارات وكقوالب تصرفات معينة. لأن مثل هذه الشعارات تتبنى برنامجاً سياسياً يريد البدء من القمة إلى القاعدة. وبتعبير آخر، تتطابق مع نماذج الحركات الإسلامية الكلاسيكية التي ترى أنه إن لم يتم تحول سياسي من القمة إلى القاعدة، فلا يمكن الرجوع إلى أنموذج الحياة الإسلامية. بينما لا تنظر حركة محمد فتح الله كولن إلى عصر السعادة بهذا المنظار. بل ترى البدء بالأفراد وبالقاعدة الشعبية. فمن ثم لا يوجد هناك شيء بـ”العودة إلى الإسلام”. أو بتعبير آخر؛ إنّ الفرد -أينما كان وكيفما وجد- إذا كان مؤمناً فهو مسلم وعليه أن يتصرف كمسلم. وقبل كل شيء، هو الفرد الذي يحس الإسلام في أعماقه ويعيش في حبه ووجده. وأفضل مثال على هذا، هو عصر السعادة والتطبيق العملي للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فالصحابة كانوا يعيشون الإسلام ويرتبطون به ارتباطاً وثيقاً وصافياً. ولم يكونوا مرتبطين في عيشهم هذا، بأي أيدولوجية أو بأي برنامج سياسي. وقد حاولوا (121-120) أن يبلغوا هذا الإسلام –الذي يعيشونه ويحبونه– بكل صفائه ونقائه إلى الآخرين. وعلى الرغم من الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بالصحابة، فإنهم لم يؤجلوا القيام بدعوتهم، وعيش خلقهم الإسلامي حتى حلول ظرف سياسي أو أيدولوجي مناسب. ولا يوجد مثل هذا الادعاء في الحياة الإسلامية النقية في الأصل.

إذن فإن اتخاذ عصر السعادة قدوة في حركة فتح الله كولن، لا يعني الرجوع إلى الوراء، بل عيش الإسلام بشكل واعدٍ وصافٍ. والصحابة الكرام هم الذين مثلوا هذه الحياة الإسلامية الواعية الصافية. لذا فإن تقديم موضوع العودة إلى الأصول الإسلامية، وإلى العهد الإسلامي الأول في التحاليل التي تتناول الحركات الإجتماعية الراديكالية والإسلامية (المتطرفة!)، وكأنه رجوع إلى الوراء وإلى الأنموذج الإسلامي الأول، لا يملك أي مقدار من الصحة في حركة فتح الله كولن، التي تتخذ عصر السعادة أنموذجاً لها.

ولا ننسى أن نقول هنا بأن حركة محمد فتح الله كولن، مع أنها تتخذ عصر السعادة مثالاً لها من الناحية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، فإنها استطاعت أن تقيم جميع قيمها الثقافية بنفسها. وهذا أمر مهم للغاية. أي إنها لم تقم كغيرها من الحركات الأخرى بتبني ميراث ثقافي أو حركي سابق أو حالي جاهز! فجميع قيمها الثقافية ونشاطاتها الحركية، وجميع مؤسساتها ذاتية أصيلة وغير مأخوذة من الآخرين.

إن اتخاذ عصر السعادة قدوة ومثلاً أعلى، مسألة مشتركة بين جميع التيارات الدينية الإسلامية، كاشتراكها في تبني القيم الإسلامية عامة. ولكن من الخطأ وضع جميع الحركات الإسلامية في سلة واحدة لكونها مشتركة في بعض القواعد. إن المسلمين، الراديكاليين منهم وغير الراديكاليين، السياسيين منهم وغير السياسيين، وحتى أنصار العنف الديني(!) يشتركون -بشكل من الأشكال- في الارتباط بالإسلام من الناحية الاجتماعية والنفسية. صحيح أن هناك قاسماً مشتركا أصغر من القواسم التي تعيّن هوية الإنسان ووعيه، غير أن اتخاذ هذه القواسم المشتركة أساساً، وإهمال الفروق العملية الموجودة بين الحركات الإسلامية لا يعد صحيحاً. وقد أدى هذا إلى ظهور الفكرة الغربية التي ساوت الإسلام بالإرهاب والعنف. واليوم راح يُنظر إلى الإسلام في الغرب بهذا المنظار. وقد واصلوا هذه الدعاية القوية في وسائل الإعلام، إلى درجة أنها لم تؤثر فقط على الرجل الغربي الاعتيادي، بل أثّرت حتى على الطبقة السياسية الحاكمة -المتأثرة بالغرب- في العالم الإسلامي. مما دفعهم إلى اتخاذ تدابير عنيفة ضد المسلمين وضد الحركات الإسلامية. وكما هو معلوم، فإن إدارة هؤلاء الحكام تتصف بعدم الديمقراطية وعدم الإهتمام بحقوق الأفراد. وعندما أضيفت هذه التهمة، ازدادوا عنفاً ضد المسلمين وضد الحركات الإسلامية، وازدادت سياسة الضغط والظلم الاجتماعي، وتمت (122-121) تغذية الفكر السياسي بالحقد الذي أدام العداء، والحقد ضد هذه الحركات. لذا فمن الواجب القيام بتحليل أعمق للأسباب وللعوامل التي ولدت العنف والإرهاب، والنزول إلى الجذور التي تولد مثل هذه الانفجارات غير المنطقية. ويجب تحليل هذه الأسباب والعوامل بموضوعية رجال العلم، ومحاسبة رجال الحكم من زاوية وجوب احترام الحقوق الإنسانية، ثم إظهار الضعف الأخلاقي والإنساني في عمليات العنف والإرهاب للوصول إلى حل لهذه المعضلة. وهكذا تتم الحيلولة دون استعمال شعارات العنف والإرهاب في اتهام جميع المسلمين.

8– معنى تحليل حركة بقواها المحركة الداخلية

ذكرنا من بداية هذا الكتاب أنه لا يجوز تحليل خصائص جماعة إسلامية على ضوء ما ورد في علم الاجتماع الكلاسيكي في تحليل الحركات. لأن النظرة الكلاسيكية هنا تستند بأجمعها إلى نظريات الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهي تميل إلى اعتبار هذه الحركات نتيجة من نتائج بنية وطبيعة الأزمات. ومثل هذه النظرة وهذا التحليل تهمل عادة القوى الداخلية المحركة لهذه الحركات. حيث تعد هذه ظاهرة خاصة بالجماعات في العالم الإسلامي. إن الظهور التاريخي والاجتماعي للجماعات الدينية لا يتم كرد فعل للأزمات الاجتماعية الثقافية، بل الظهور بالعوامل الداخلية والقوى الدينية والملية والثقافية المحركة لها. بينما يندر أن تلتجئ النظريات الكلاسيكية والحديثة لمثل هذه القوى المحركة. وحتى اليوم فإن تحليل ظهور الحركات الجماهيرية، سواء الدينية منها أو السياسية أو الأيدولوجية المدنية، استند في النظريات الكلاسيكية إلى الأسس الخمسة الرئيسية الآتية:

  • إنها حركات ردود فعل.
  • إنها حركات تقليدية ومحافظة.
  • إنها حركات تجديدية وإصلاحية.
  • إنها حركات انقلابية وانفصالية.
  • إنها حركات تعبيرية تحمل شعارات فقط.

أي إن أيّ حركة من الحركات الجماهيرية سواء أكانت حركات دينية أو سياسية أو أيدولوجية، فلا بد أن تدخل ضمن التصنيف أعلاه. يُعرض وكأنه تصنيف علمي وضروري لا مناص منه. بينما يلاحظ على هذا التصنيف أنه تصنيف يغلب عليه التعميم، ويستند إلى زاوية نظر معينة، ويتصف بأنه تصنيف قالبي. أي يريد صب كل شيء في أقوال معينة وجاهزة. صحيح أن البحوث الحديثة بدأت تخرج بعض الشيء عن حدود هذا التصنيف القالبي الجاهز، إلا أن النظرة الثقافية العامة لا تزال متأثرة به إلى حد كبير.

(124-123) وهذا التصنيف القالبي على الرغم من سعته، لا يصلح كل وقت في تحليل الحركات السياسية والأيدولوجية. فمن جهة، ليس من الضروري أن تكون النتائج السياسية والاجتماعية لأي حركة جماهيرية ضمن الأهداف المبنية في هذا التصنيف.

ومن جهة أخرى، فإن التعابير في هذا التصنيف تعابير عامة ومطاطة، إلى درجة أنها تملك حدوداً واسعة لا نهائية حتى في أي مجتمع منغلق على نفسه، بل حتى بين مؤسسات دولة واحدة. فمثلاً هناك مؤسسة عدلية في كل دولة تمثل الآلية القانونية والحقوقية فيها، ومن خصائصها أنها مؤسسة محافظة أكثر من مؤسسة الطاقة والتكنولوجيا في الدولة نفسها. والمؤسسة العسكرية تبدي في بعض المواضيع ردود فعل أكثر من المؤسسات الأخرى. وقد تكون المؤسسة التعليمية تجديدية وإصلاحية وتكون الجامعات فيها تعبيرية.

ما نعنيه هنا أنه من الممكن أن تحمل كل حركة ملامح –مؤقتة أو دائمية– من جميع الصفات الموجودة في هذا التصنيف، وهل يمكن لأي إنسان عاقل ألا يبدي ردّ فعله لأي تشوه أو تعفن سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي في المجتمع؟ وهل هناك إنسان مؤمن صافي الإيمان، لا يبدي رد فعله عندما يرى أن الدين –وهو شيء مستند إلى الوحي الإلهي– يتعرض لهجوم شرس، تغذيه الأطماع البشرية تحت ستار الإصلاح والتجديد؟ وهل يمكن لأي إنسان ألا يبدي ما يطلقون عليه “سلوكاً محافظاً وتقليدياً”(!) أمام مثل هذه المحاولات التغييرية الجذرية لدينه؟. لا شك أن هناك لكل حركة تعبيراً معيناً ورد فعل لهذا التعبير.

والخلاصة، إنه قد يسهل التصنيف العام والقالبي في تحليل بعض الحركات، هذا صحيح. ولكن الصحيح أيضاً وبنفس المقياس، أنه يتجاهل القوى المحركة الداخلية للحركات. إذن فلا بد لأي تحليل موضوعي أن يأخذ القوى الداخلية للحركات بنظر الاعتبار، وكذلك الأهداف التي من أجلها ظهرت هذه الحركات وطرق التعبير عن نفسها. وبعد القيام بهذا التحليل يمكن الانتقال إلى السمات الواقعية ومظاهرها الاجتماعية. وهذا التصنيف الخماسي يقوم بتفصيل ملابس جاهزة للحركات أكثر من محاولة فهمها. ولا شك أن عملنا سيكون أسهل عندما نلبس أي حركة لباساً جاهزاً.

وهكذا وبدلاً من صرف مجهود فكري وثقافي لفهم أي حركة، فإن تعريفها وفق هذا التنصيف ووفق هذا القالب الجاهز الموضوع أمامك سيكون أسهل. هذا كل ما في الأمر. وهذا الأسلوب يعطي نتائج عملية في الأنظمة الديكتاتورية. إذ يتم الوصول إلى نتائج قطعية وسريعة وعن طريق واحد لا غير.

(125-124) عندما ننظر من هذه الزاوية إلى تقويم الغرب للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، نرى أن هذا التقويم يستند إلى أن جميع هذه الحركات تظهر كحركات معادية للاحتلال وكردود فعل لها، ولا تملك أي عمق فكري أو فلسفي أو روحي أو معنوي وثقافي. ولكن كحركات جماهيرية هذا حكم جائر بالنسبة لمعظم الحركات الإسلامية. فهذه ألبسة جاهزة لهذه الحركات وغير مناسبة لها. لذا فهذه الحركات تضطر إلى إظهار معارضتها للبس هذه الملابس أكثر من قيامها بشرح مبادئها. ولا شك أن هذا الأمر يكلفها ثمناً باهظاً من الناحية السياسية والأيدولوجية في المنابر الدولية. فالعديد من المسلمين يضطرون إلى دفع بدل باهظ عند قيامهم بتصحيح هذه الأحكام المسبقة عليهم.

إذا ظهرت حركة أو جماعة إسلامية في النظام الديكتاتوري في العالم الإسلامي أو في الغرب، ودعت إلى تغيير اجتماعي أو سعت إلى تشكيل رأي عام، فسرعان ما توصم بأنها حركات سياسية وحركات ردود فعلية. بينما ترتبط الاتجاهات الاجتماعية بالعديد من الشروط، وتنتشر أحياناً حتى تصبح حركة جماهيرية، وتبقى أحياناً حركة ثانوية ضعيفة. وليس هناك أي معطيات علمية ولا أي قناعات عامة، بأن كل حركة يجب أن تحمل هدفاً سياسياً أو أيدولوجياً. هذا ما نلاحظه في توسع الحركات الإسلامية في المجتمعات الإسلامية من حين لآخر.

لا يوجد أي إسهام سياسي مباشر ولا أي ردود أفعال في مثل هذه الحركات. ولكننا نسارع إلى القول بأن بعض المفاهيم الموجودة في صعيد التغيير الاجتماعي الاعتيادي مثل “محاولة تكوين رأي عام أو محاولة تغيير اجتماعي” تختلف تماماً عن المفاهيم الاجتماعية للطبيعة الاجتماعية للحركات. إن الميل الذاتي للأسلمة الذي يُلاحظ في المجتمعات، لا يمكن وصفه بأنه ميل أيدولوجي. وهذا هو الفارق الأساسي بين الأسلمة والإسلامية. ويجب أن يوضع هذا الفارق نصب العين على الدوام عند القيام بتدقيق ظاهرة “الجماعة”، فظاهرة الجماعة كثيراً ما تظهر بنفسها وتتوسع في المجتمع نتيجة ميل ما أو اتجاه ما. ولا يظهر هنا –كما في الحركات الراديكالية والأيدولوجية– أي بديل ضد الهوية العامة للمجتمع على الإطلاق. ففي الحركات الجماهيرية والاجتماعية يقوم المجتمع –بشكل من الأشكال- بإظهار قابليته في التعبير عن نفسه بصورة مختلفة. حياناً بشكل منظمة مدنية وأحياناً بشكل جماعة دينية وأحياناً بشكل حزب سياسي… ومن الطبيعي جداً أن تقوى الميول الدينية في مجتمع إسلامي من حين لآخر. وتعبر هذه الميول عن نفسها أحياناً بشكل منظمات، وأحياناً بشكل موجة حركة جماهرية. ولكنها ليست -كما تدعي الأنظمة الديكتاتورية– بشكل حركة أيدولوجية.

وقد حاولت بعض المقالات والبحوث التي تناولت تحليل حركة محمد فتح الله كولن، إضعاف مشروعية هذه الحركة وإظهارها كحركة أيدولوجية وضمن القوالب التي ذكرناها سابقاً. أي كأنها حركة رد فعل تحاول(127-126-125) تقديم بديل للهوية الاجتماعية. ولكنها لم تنجح طبعاً في هذا المسعى. لأن هذه الحركة وجدت في جو القيم المركزية للمجتمع، وهذا هو السبب وراء مشروعيتها الاجتماعية. وعلى الرغم من حملات التشنيع ضدها، فإنها لم تستطع هزّ مشروعيتها في وجدان الأمة. إن حركة محمد فتح الله كولن ليست حركة منظمة أيدولوجية. فهي لا تبتغي تطبيق أي ضغط أو إكراه؛ لا على المجتمع ككل، ولا على أفكار منتسبيها وقراراتهم الوجدانية والاجتماعية، ولا على سلوكهم وتصرفاتهم. بل هي تعدّ كل نوع من أنواع الضغط الاجتماعي والأيدولوجي مناقضاً لروح الدعوة الدينية. فالدعوة الدينية تخاطب الإرادة الحرة والوجدان الحر والاختيار المستقل بشكل مباشر. وتتوجه إلى الآليات الطبيعية الموجودة في فطرة الإنسان. لأن الخالق سبحانه تعالى وضع في فطرة كل إنسان وفي وجدان كل فرد، آليات يُعرّف بها نفسه له، ولكي يعرّف بها الإنسان ربه إلى الآخرين. فهذه هي الساحة التي تخاطبها الجماعة الدينية: الشعور السليم والوجدان والفطرة السليمة.([7])

وعندما تقوم حركة محمد فتح الله كولن بمخاطبة الفرد والمجتمع، لا تستعمل الأساليب الدعاية والأساليب الفكرية المستوردة من الخارج. وكما ذكرنا مراراً، فهذه الحركة أصيلة ذاتية، وضعت طرز حركتها الداخلية وأسس ديناميكيتها، وطرق تبليغها وحريكيتها بنفسها. لذا لا نستطيع تحليل هذه الحركة بالمفاهيم الاجتماعية المستخدمة في تحليل الحركات التي تتسم بأنها حركات ردود فعل أو حركات راديكالية، أو حركات ضد الاحتلال والاستعمار.([8]) لأن هذه المفاهيم وضعت في تحليل الحركات التي تهدف إلى انفصال جذري عن الوحدة الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وانفصام عنها. وهذا الانفصام الشعوري والأيدولوجي يجعل هذه الحركات من أكثر الحركات تطرفاً. وأصحابها يهدفون إلى مجتمع جديد تمام الجدة وإقامة نظام سياسي جديد. ولا مكان لمثل هذه الميول والاتجاهات الهامشية في حركة محمد فتح الله كولن. فهي قبل كل شيء لا تهدف إلى أي انفصام نفسي واجتماعي عن المجتمع. على العكس تماماً، فهي تهدف إلى التلاؤم مع هذا المجتمع وإلى الإسهام فيه، وتدعو إلى الأخوة أبدية. ولا تتصرف في صدد العلاقات الاجتماعية بشكل انتقائي، مثلما تتصرف الحركات الأيدولوجية. بل تخاطب كل الكتل الجماهيرية وتخاطب كل عائلة وكل فرد. ولا تسعى إلى تطوير أي حركات انعزالية في الشارع أو في السوق أو في النادي أو الجمعيات..الخ. وتعارض أي حركة اجتماعية انعزالية تصادم روح الحياة الاجتماعية. وكما سنرى فيما بعد فإن القوى المحركة الرئيسية للحركة تتوجه إلى كل فرد. وتحاول قلب كل علاقة دنيوية (128-127) إلى علاقة أخروية وأبدية. وكل نشاط من أنشطتها مزينة بسمة من سمات الآخرة. لذا تأخذ العلاقات الداخلية للحركة سمة الوفاء والتضحية وتكون الأولوية لها. ولا تدعو إلى أي هدف نفعي دنيوي. فهذه هي المَثَالة التي تتمسك بها حركة محمد فتح الله كولن. ويقوم كل مجتمع ضعفت فيه القيم الأخلاقية والإنسانية، وبهتت فيه الأهداف الفطرية النبيلة، بالتوجه إلى خلق حركات كمثل هذه الحركات. حيث ولا توجد كهذه القيم في الحركات الهامشية والأيدولوجية. الصبر، التحمّل، التضحية واللا أنانيّة، لسيت من المثُل الأخلاقية التي تستطيع الروح الراديكالية والارتكاسية إنجابها. بل هي قيم أنتجتها حركة وأدمغة اعتمدت على الحركات الإيجابية في نطاق فردي واجتماعي. وحركة فتح الله كولن اتخذت الحركة الإيجابية أساساً لها.([9]) لأن الشجار والصراع والنقد والانعزال يهدم هذه المثُل العليا.

فلا يكمن في كيان الحركة الإيجابية نمو مشاعر حاقدة أو نوايا حادة. إن نجاح أي حركة وتناسق طبيعتها الداخلية، مثلما تعود إلى الموهبة غير الاعتيادية لقيادتها، كذلك تعود إلى تحقق أهدافها داخل أفراد الجماعة. ولا يمكن استيراد مثل هذه الحماسة والعاطفة الجياشة من الخارج. ولا يمكن أن تتلاءم مع اتجاه الحركات التي تتخذ النقد والصراع والعراك هدفاً لها. وكيفية الحركة الإيجابية تستوجب على الدوام التلاؤم والمشاركة والتضحية من أجل الآخرين. كما لا يمكن الاحتفاظ بمثل هذه الحماسة بقيم مستعارة من شعارات وقوالب جامدة. لذا فحركة فتح الله كولن (خلافاً لكثير من الحركات الأخرى) برزت كحاجة وضرورة اجتماعية. وقد استمدت محركاتها الداخلية والخارجية من التجارب والنشطات الاجتماعية لأفراد لهم صلة وعلاقة وثيقة بها. بينما تقوم الحركات الأيدولوجية برسم ووضع خريطتها وسقفها الأيدولوجي أولاً. ثم تقوم بتعيين المراحل الاجتماعية والسياسية للمجتمع حسب هذا السقف وهذه الخريطة. وهذا ما يجلب الجدل والصراع والاصطراع لا مناص. أي تقيم مثل هذه الحركات طرازاً سلبياً من طراز الحركات. ولا شك أن لكل حركة قيماً تلتزم بها. ولكن ما يميز الحركات الأيدولوجية والهامشية، أنها تهمل المرونة وتهمل المراحل الاجتماعية.

إذا رجعنا مرة أخرى إلى ما نحن بصدده نقول بأنه، إن لم نقم بتحليل أي حركة على ضوء قواها الديناميكية وعلى ضوء أهدافها ومبادئها، وقمنا بتناولها على ضوء الشعارات والقوالب الجاهزة، فلن نستطيع الوصول إلى نتيجة صحيحة من جهة، ونكون قد أثرنا بشكل سلبي على الوجدان العام للمجتمع من جهة أخرى. ولا نحتاج أن نكون كهاناً لنعرف الأضرار المتولدة من هذا. فهذا من أهم أسباب الأزمة الناجمة في مجال العلاقات السياسية الدولية بين العالم الإسلامي والتحليلات الغربية. ولم يستطع الغرب منذ عصرين إنشاء علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي. ويعود السبب في هذا الأمر (علاوة على قيام الحركات الهامشية والأيدولوجية في العالم الإسلام باستخدام العنف والاهارب) (130-129-128) إلى التقويم الخاطيء والفكر المسبق الغربي لهذه الحركات الراديكالية، وكذلك للحركات التي تتخذ المنطق السليم والأسس الأخلاقية للمجتمع، هدفاً أساسياً من أهدافها. هذا وقد غضضنا الطرف عن قيام الدول المتقدمة تكنولوجياً باتباع سياسة استعمارية تجاه العالم الإسلامي. وعندما ننظر نظرة عامة وشاملة إلى أهم العوامل التي تولد العنف والإرهاب، والتي تهدم العلاقات الدولية، نرى أن هناك حاجة إلى تحليلٍ ذي مستوى أعلى وأفضل أو تحليل موضوعي وصادق. وعلى أي حال فإننا نؤكد مرة أخرى على تقويم الحركات في ضوء ديناميكياتها الداخلية، وعلى طرق التعبير عن نفسها، ومقولاتها الاجتماعية والسياسية، بدلاً من الحكم عليها بأحكام وقيم وأفكار سابقة.

9- الجماعة والتحول إلى جزء من المجتمع

كثيراً ما يقال أن ظاهرة التجمع والانتظام في شكل جماعات، ظاهرة لا تتماشى مع المجتمع الحديث. ويعود السبب في هذه القناعة عند أنصار هذه النظرة إلى أن أيدولوجية الحداثة تقوي النزعة الفردية في المجتمعات الحديثة. فهذا صحيح بمقياس معين، ولكنها نظرة وقناعة لا تصلح لنظامم كل مجتمع من المجتمعات. ومن الخطأ عدّها قانوناً اجتماعياً عاماً. وهذه من القيم التي يكثر النقاش حولها في الغرب. فالحداثة جعلت الفرد بؤرة اهتمامها، لذا لم تشجع الناحية الجماعية والاجتماعية عند الأفراد. وقد عدّ الغرب الاهتمام بالفرد أهم تطور في فلسفته الحديثة. ولكننا نرى –من الناحية الأخرى– أن الأنموذج الاجتماعي في الغرب يقوم حالياً بتشجيع النموذج الاجتماعي في الأفراد.(؟؟؟) وقد يبدو هذا تناقضاً. ولكن الحقيقة هي أن صراعات الهوية الفردية أدّت إلى التعددية الثقافية، أي إلى التعددية في جميع الساحات.. التعددية الدينية.. التعددية القومية والعرقية.. التعددية الثقافية.. التعددية الأخلاقية..الخ. وهذا يعني تآكل الوعي الاجتماعي والسياسي المركزي وقيمه. ويعني أيضاً تقدم الهوية الفردية والمصلحة الفردية لدى الأفراد على الهوية الاجتماعية والسياسية (الرسمية منها). وقد تفاقمت هذه الظاهرة الاجتماعية في الغرب حتى أصبحت تهدد الهوية الاجتماعية والسياسية في المجتمعات الغربية، بل تهدد بقاءها. والظاهر أن الليبرالية السياسية والاجتماعية لم تكن تتوقع هذه النتيجة. هذا جانب من الأمر.

أما الجانب الآخر، أدّت الحداثة إلى وحدانية الأفراد وجفاوتهم. أي أصبح الأفراد يحسون بأنهم وحيدون أمام المراحل والقوى الاجتماعية، والتدابير الاقتصادية دون حول ولا قوة. وهذا أدّى إلى دافع وأساس لتشكيل الجماعات وظهور المؤسسات المدنية في قلب الغرب. (132-131-130) أي أن وجود ظاهرة “الجماعة” و”التجمع” ليست ظاهرة قاصرة على المجتمعات غير الحديثة أو المجتمعات في بداية مراحل الحداثة. أما في العالم الإسلامي فتستند هذه الظاهرة إلى قاعدة اجتماعية وتاريخية طويلة وواسعة وعميعة. لأن الدين الإسلامي يشجع على التساند والتعاون والمشاركة. وهو يشجع المؤسسات الخيرية الاجتماعية والثقافية، ويدعو المؤمنين إلى استثمار مشاعر الخير عندهم في مؤسسات وتنظيمات جماهيرية. وقد ظهرت جميع المؤسسات الخيرية في التاريخ الإسلامي، استناداً إلى مشاعر التعاون الكامنة في الإنسان، وإلى المبادئ الدينية التي تحث على التعاون والتساند ومساعدة الآخرين. لذا لم يظهر في التقاليد الإسلامية أي صراع بين الطبقات الاجتماعية أو الاقتصادية. ومن هذا المنطلق لا يمكن تحليل المجتمعات الإسلامية بنظريات صراع الطبقات.

قامت المراجع الرسمية والحكومية في العالم الإسلامي، مع الأسف، بتناول ظاهرة الجماعة وكأنها ظاهرة هامشية، واعتبرتها تهديداً موجهاً لوجودها الشرعي. وهي تتصرف بذلك تصرفاً أيدولوجياً. وقد عدّت هذه المراجع، جميع هذه التجمعات والجماعات كجماعات هامشية ومتطرفة وأصولية. وهذا فكر مسبق وغير صحيح من الزاوية الاجتماعية حيث يؤدي إلى جو من الصراع.

إن الحركات المتطرفة والهامشية تعدّ تحدياً مباشراً أو غير مباشر لسلطة الدولة. وعادة ما تكون قاعدتها الجماهيرية من الفئات المحرومة اقتصادياً والمعزولة اجتماعياً. وهذا يدفعهم إلى تأدية دور فعال في المنظمات والحركات المتطرفة.

نقد

إن ظاهرة “الجماعة” لم تدخل في أي تناقض أو صراع مع الهوية الاجتماعية لأي بلد ولا أي غربة عنها. لأن الصراع مع الهوية والجُفاء عنها تتناقض مع أهداف إنشائها ومع أهدافها الاجتماعية والمدنية. إن كل جماعة نابعة من قيم الإسلام الخيرية والتعاونية تقوم بتطوير الهوية الاجتماعية الموجودة، وتسعى بهذا التطوير إلى تحقيق أهدافها ومثلها العليا، وليس بتكوين جماعات تكون معزولة عن المجتمع اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. ثم إن هذه الجماعات تأخذ بنظر اعتبارها جميع الحساسيات الموجودة في المجتمع، وتقوم بتطوير الأفكار والنشاطات والمؤسسات التي تخدم حاجات المجتمع. وهي بذلك تتميز عن المؤسسات المدنية الأخرى التي تقوم كل مؤسسة منها باختيار ساحة واحدة خاصة بنشاطها.

فإن حركة محمد فتح الله كولن، من زاوية علم الاجتماع وظاهرة التجمع، أنموذجا مثالياً. كما ذكرنا سابقاً، فإن أرضيتها الجماهيرية ليست محصورة بالطبقات الفقيرة والوسطى، وبالنازحين من القرى والأرياف إلى المدن، أو غير محصورة بالطوائف المحرومة والفقيرة والمعزولة عن المجتمع. بل إن معظمها من الأفراد الذين لهم مكانة مرموقة وسمعة طيبة، ووظائف مهمة، وخدمات يُركن إليها في المجتمع، وهم من الذين اتحدوا وتأقلموا بهوية المجتمع كاملاً. ثم إنهم من المتمرّنين المتدرّبين واسعي الآفاق، ومن المنفتحين على العلاقات الاجتماعية، مسهمين في مجتمعهم، مهتمين بمظهرهم وهندامهم المعاصر. (134-133-132) من ثم فليس هناك أي مشكلة لهذه الحركة مع الهوية السياسية والاجتماعية الموجودة في البلد. وليس هناك أي معارضة مباشرة وغير مباشرة تجاه سلطات الدولة وكيانها الثقافي أو السياسي. بل إنها على وفاق تام مع الهوية التاريخية ومع التعامل الاجتماعي والتقاليد الدينية والثقافية للدولة. بل إن هذه الحركة نقلت أفرادها إلى علاقات اجتماعية أشمل وأوسع.

فقد كانت الحركات الراديكالية ترى وجوب الانفصال المعنوي الاجتماعي عن الطبيعة الاجتماعية التي وصمتها بالاثم. أما الحركات الأخرى ولا سيما حركة محمد فتح الله كولن، فهي على العكس، تقوم بتشجيع أفرادها بتقوية علاقاتهم مع المجتمع. صحيح أن المجتمع يبتعد أحياناً عن بعض القيم الأخلاقية. ولكن الحل لا يكمن هنا برجم هذا المجتمع والابتعاد عنه، بل القيام بإصلاحه. وتنحرف العلاقات الاجتماعية بتأثير بعض تيارات الموضة وتروج لحركة ما، مما يؤدي إلى إثارة القلق لدى بعض الأوساط المرتبطة بالقيم الأخلاقية ارتباطاً وثيقاً. هناك حدود تحمّل للانحراف الأخلاقي حتى في المجتمعات المرنة القوانين. فإن بذلت محاولات عنيفة لتوسيع هذه الحدود أُصيب الضمير العام للمجتمع بالإهانة، وبرزت حركات سياسية واجتماعية وأخلاقية عديدة معارضة بمختلف الصور والأشكال. من ثم إن حركة محمد فتح الله كولن تمثل موقفاً أخلاقياً فردياً واجتماعياً، وتحمل سمة أخلاقية في مراحل التحول الاجتماعي والثقافي. لذا لا يمكن تحليل جماعة محمد فتح الله كولن بنظريات الأزمات الكلاسيكية مثلما يتم التعامل مع الحركات الهامشية المتطرفة. ويجب ألا ننسى أنها بجوانبها الاجتماعية والتعاونية والازدهارية تفتح آفاقاً جديدة ومفاهيم غنية للبنية الاجتماعية. فهذه الحركة تقوم بدور المحرك الباعث إلى تضامن الأفراد بالمجتمع وزيادة المساهمة فيه. ولا سيما في هذه الأيام التي زادت فيها أنانية الأفراد وتهالكهم على منافعهم الشخصية وانكفائهم على أنفسهم، وتناقص المشاركة الجماعية في المجتمع. ولا شك أن النظرة إلى مثل هذه الحركات الدينية والاجتماعية وكأنها تقوم فقط بدور المحرك المسرّع لعملية التضامن الاجتماعي غير صحيح. فلمثل هذه الحركات أهداف أخلاقية وإنسانية واسعة وشاملة. ولا ريب أنها تعد إحدى أهم ركائز المجتمع الحديث. وليس من الضروري على المجتمع الحديث أن يفكر بنمط وببُعد وبلون واحد. كما تقوم الجماعات بتشكيل مظلة واقية للأفراد تحفظهم من الهزات العنيفة الناتجة عن عمليات التحديث (العصرنة) السريعة، والتي تؤدي إلى أزمة واضطراب أيدولجي اجتماعي في هوية المجتمع. وهي تحفظ ذوات الأفراد وشخصياتهم الدينية والاجتماعية والثقافية من التمزق. وتعيد الثقة من جديد إلى الأفراد الذين تمزقت شخصياتهم وذواتهم في مراحل التغيير الاجتماعية.

أما الفرضيات القائلة بأن الجماعات تخلق هويات بديلة للهوية العليا الرسمية(135-134) للمجتمع، فتستند إلى تعميمات واسعة. فهوية كل جماعة هي هوية فرعية في كل مكان. وكما ذكرنا سابقاً فإن الدعوة إلى إعادة قيم المجتمع، وإلى الانفصال عنه معنوياً واجتماعياً من أجل خلق هوية بديلة لا تتفق مع أهداف الجماعة ومع حكمة وجودها.

عندما ننظر إلى المسألة من جهة تركيا، نرى أن طبقة الصفوة فيها تنظر بشكل عام إلى الحركات الدينية والاجتماعية نظرة أيدولوجية متوجسة. وكأن هذه الحركات تحاول صب المجتمع في قالب خاص. واستندت هذه الفئة في جميع تقويماتها إلى نظريات الأزمات الكلاسيكية. فقد قيل على الدوام:

“لم تستطع طبقة الصفوة في تركيا، التي تدير البلد وتملك النفوذ السياسي فيه حتى اليوم، صنع زعيم أو قائد بارز يملك صفة القيادة الحقة. ولم تستطع مختلف الحكومات التي توالت على الحكم، القيام بوضع أيدولوجية تربي شباب التركية وتكسبهم إلى المجتمع. أما الخطاب الرسمي للدولة فقد كان على الدوام يحمل طابع الإكراه والضغط واتباع أسلوب وطريق غير ديمقراطي. وعندما أضيف هذا إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، كانت النتيجة هي دفع الشباب إلى البحث خارج القيم الاجتماعية والسياسية الموجودة. أي أن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية أصبحت العامل الأساسي في ظهور حركات اجتماعية ودينية جديدة. واستمدت هذه الحركات أسباب وجودها إلى جو هذه الأزمات. وبسبب الفراغ الأيدولوجي الذي أحدثته الصفوة السياسية في تركيا، فقد تحول جو الأزمة إلى ظاهرة دائمية. وتم سد هذا الفراغ من قبل أنصار هذه الحركات الاجتماعية والدينية. من جانب آخر امتلكت هذه الحركات قوة دعائية كبيرة من الناحية الأيدولوجية، وكذلك من الناحية التنظيمية وبدعايتها المستمرة ضد النظام. واستطاعت جر الملايين من الشباب إلى موقف معارض من النظام القائم، ومن الخطاب الرسمي للدولة”.

كمثل هذه التفسيرات المستندة إلى الأزمات موجودة منذ السابق. حيث تستر بجدارة عيوب أنظمة الحكم التي تسبب الأزمات.. ولم تقم هذه الذهنية أبداً بأي تحليل عميق لعوامل ولأسباب هذه الأزمات. فقد عدوا كل حركة اجتماعية وكأنها لا تظهر إلا في أوقات الأزمات. بينما أصبحت القاعدة الاجتماعية العامة القائلة: “لا يمكن أن يتم إرجاع الحوادث الاجتماعية إلى عامل واحد” من البديهيات. بينما بدأ علم الاجتماع الحديث بتناول فروق الهويات والحركات الاجتماعية، وظاهرة بروز الجماعة بجرأة أكبر. هناك نصيب من الصحة الاجتماعية التي تستند إليها نظريات الأزمة الكلاسيكية، ولكنها تبقى قاصرة اليوم عن تحليل الحركات الدينية والاجتماعية الجديدة بسبب طبيعتها التعميمية. ثم لكون هذه النظريات تؤمّن أساساً من المشروعية الاجتماعية للأنظمة الديكتاتورية، فقد عدت اليوم إرثاً سلبياً لعلماء الاجتماع السابقين.

(136-135)

علماً بأنه لو تم التعاون والتساند بين الدولة والمؤسسات المدنية والحركات الدينية والاجتماعية، لأمكن التغلب على الأزمات في وقت قصير. فمثلاً لم تستطع الدولة لوحدها القيام بتضميد جراح المتضررين في أعقاب الزلزال الكبير عام 1999 في تركيا. ولم يتم السماح للمنظمات الاجتماعية والدينية بمساعدة المتضررين. فقد تصرفت الجهات الرسمية هنا تصرفاً أيدولوجياً. وعلاوة على الحيف mağduriyet الذي لحق بالجماهير، فقد ضعفت الثقة بالدولة وكان هذا ضرراً ثانياً. لذا فقد انعكست الآثار الاجتماعية والنفسية العميقة والسيئة على الجماهير. علماً بأنه حتى في البلدان العربية كثيراً ما تقوم الصفوة الحاكمة من حين لآخر، بمخاطبة المشاعر الدينية للجماهير لكي تُكسب علاقاتها معها نوعاً من القرب والأنس، وتؤكد احترامها لروح الإسلام وعقائده، وارتباطها بالمشاعر الإسلامية للجماهير مع أنها مقصرة في ساحة التطبيق الواقعي.

ومع أن السياسة في تركيا أكثر ديمقراطية من تلك البلدان، فهي لا تستطيع القيام بذكر أي قيمة من القيم الإسلامية حتى وإن كان هذا على مستوى الشعارات، إذ ربما عدّ هذا جريمة وانتهاكاً للدستور. لذا يتم الابتعاد عن هذا الأمر بحساسية ودقة بالغة. وليس هذا فحسب، بل قد ترى أن أي فعالية تقوم بها المؤسسات أو الجماعات المدنية، وتخاطب بها الضمير الإسلامي في المجتمع ليست مشروعة. وقد عاشت فعاليات الجماعات والمؤسسات المدنية، أزمات كثيرة مع الخطاب الرسمي للدولة سنوات طويلة. فالدولة لا تريد الدخول في أي علاقة مع أي هوية اجتماعية لمواطنيها. بل تريد أن ترى أمامها مجرد أفراد من قالب واحد ومتجانس دون فروق ودون ألوان متعددة، وتريد مجتمعاً من هؤلاء الأفراد المتماثلين. وإن لم تصرح بذلك علناً، فهي تريد هذا في واقع الأمر. والمجتمع التركي مجتمع ضعيف من ناحية نشاط المؤسسات المدنية إن قمنا بمقارنته بالمجتمعات الأوروبية. وهو متجانس من ناحية الهوية الاجتماعية وساحات نشاطاته، وقاصرة في هذه النشاطات وغير منتجة ولا فعالة. والخطاب الرسمي يريد مثل هذا التوجه الاجتماعي ويطلبه. والأفراد حذرون في موضوع المشاركة الاجتماعية. لذا نرى أن غالبية النفوس حتى في المدن الكبيرة تتأخر في عملية الإندماج الاجتماعي.

(137-136)

10- مفهوم الإسلام السياسي والأسلمة:

  • نظرة عامة على صورة الإسلام في النظرة الغربية

لقد تأسست في الغرب نظرة ضد الإسلام منذ القرون الوسطى حتى الآن. كانت نظرة سياسية في بداية الأمر ثم نظرة أيدولوجية ثم تطورت إلى نظرة تصم الإسلام بالإرهاب والانحراف. ومع أن الإسلام دين قائم على التوحيد الخالص، فقد انطبع في نظرة الأوروبي وفي خياله وكأنه دين وثني وكافر.

دخل الإسلام إلى العالم الأوروبي خلال سنوات 715-720م عندما اجتاز البربر البحر وفتحوا إسبانيا. ومنذ ذلك التاريخ، فلا تزال صورة المسلمين في مخيلة الغرب مرادفة للوحشية والنهب والسلب والبربرية. وقد انطبعت هذه الصورة وهذه القناعة في الذهن الغربي انطباعاً قوياً طوال عصور عديدة، واندمجت مع عناصر سياسية وثقافية وأيدولوجية حتى أصبح من الصعب تغييرها وتعديلها.

وقد طاف العديد من السياح الأوروبيين العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه في القرون الوسطى، وكتبوا كتباً عديدة حوله، ملأوها بالأكاذيب وبالقصص الخيالية. وقدموا صورة مزورة عن المسلم. فهو حسب هذه الكتب، عبد للشهوة وكافر وبربري ونصّاب. حتى أنهم ربطوا قوة المسلمين وسيطرتهم السياسية بالغريزة الجنسية القوية لديهم(!) وبربريتهم ووحشيتهم. كانت الشهوة والظلم والبربرية –حسب رأيهم– هي العناصر التي شكلت الشرق الإسلامي.

لم يتورع الشاعر “دانتي” في كتابه “الكوميديا الإلهية”، من وضع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الدرك الثامن من جهنم وعذابها. كما قام العديد من الكتاب والمفكرين الاوربيين بتصوير المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم –حاشاه- كرمز للشهوة والظلم والقسوة، وسجلوا هذه الصورة المشوهة في كتبهم. ومن أمثال هؤلاء “ماكيافيل” (Makyavell)، “سيمون اوكلاي” (Simon Ocklay)، “بولانفيللر” (Boulanvilliers)، “ديدورات” (Didorat)، “موللر” (Molyer)، و”فولتير” (Voltair).

بل إن شاعراً فرنسياً معروفاً بصداقته للعثمانيين مثل “بيرلوتي” (Pierre Loti) صوّر المرأة المسلمة بأنها فتانة ومغرية للأوروبي، وتملك جاذبية كبيرة وهي في الوقت نفسه تجلب الشؤم(!). هكذا أهان المرأة المسلمة. وقام أديب قصصي فرنسي ومؤرخ(!) في الوقت نفسه بتصوير الحياة في مصر إبان الاحتلال الفرنسي، فقال بأن بعض الأشخاص الشهوانيين كانوا يقومون بالزنا مع الجواري في أشهر ميادين القاهرة وأمام الآلاف من الناس(!).

كان الشرق في النظرة العامة، عالماً ساحراً من الناحية الانتروبولوجية من جهة، ورمزاً للشهوة والقسوة والاعتداء والخشونة والظلم والبربرية من جهة أخرى. رمز الترف.. ورمز الشهوة.. يعيش أهله في جو ألف ليلة وليلة. وكما يتوهمون، فإن الإسلام وضع قواعد صارمة في موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن على المرأة أن (139-138) تلبس ملابس غريبة باسم الحجاب. ولا يفكر كيف يقوم الإسلام بستر المرأة من رأسها حتى قدميها، ثم يتصور أن من الممكن أن يسمح بعمليات الفحش والزنا في وضع النهار وأمام الناس(!) وبمراسيم معينة في ميدان في القاهرة وأمام الناس. ولم يتساءل هؤلاء كيف يمكن أن تتلاءم صورة الدين الإسلامي –الذي جاء بأحكام صارمة تحد من الشهوة ومظاهرها العلنية– مع هذه الصورة الكاذبة التي قام بتصويرها السياح الأجانب في العالم الإسلامي. لم يتساءلوا ولم يشعروا بأي حاجة لمثل هذا التساؤل حول التناقض الصارخ بين الصورتين اللتين انطبعتا في ذهن المواطن الغربي العادي.

ويشرح “ج. جاساري” (J. Cesari) سبب هذا التناقض فيقول:

“يجب أن نبحث عن ذلك في تاريخٍ أنتجته الصراعات بين العالم الإسلامي وأوروبا في إقليم بحر الأبيض المتوسط منذ العصور الوسطى.” ثم يضيف:

“إن العديد من الأمور المتعلقة بالإسلام والتي نظن أننا نعرفها، تعود في الغالب إلى الاختلاف الديني والسياسي الذي استمر بيننا وبين المسلمين طوال عصور عديدة. وهذه النظرة أوروبية النزعة ونتاج من نتاجاتها. وقد غابت الحقيقة حول الإسلام والمسلمين –سواء على المستوى الفردي أو الجماعي– تحت ثقل أركام من رواسب التصورات والخيالات التي استمرت طوال قرون عديدة”.([10])

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فهناك جهل سائد حول الإسلام. وكانت المعلومات حول الإسلام  والمسلمين خلال أزمة البترول لمنظمة “اوبك” (OPEC) في السبعينات لا تتجاوز بضع كلمات. وكانت المعلومات الأولى للرأي العام الامريكي حول العالم الإسلامي، قد استقيت من وسائل الإعلام الامريكية أثناء الحرب بين إسرائيل والعرب وأثناء أزمة البترول. ولم تكن توجد في الكتب الأنتربولوجية التي ألفت قبل هذه الحرب حول الإسلام، أي عداء مباشر أو أي نفور. إلا أنه كانت ترد الإشارة في بعض الأحيان إلى غرابة الإسلام في نظرهم، وإلى وجود العنف والشدة في تركيبه. ومع أن هذه الكتب لم تكن تحتوي على أفكار مسبقة سلبية حول الإسلام. إلا أنه كان من الصعب الحصول منها على معلومات صحيحة. أما الكتب المكتوبة للمدارس الثانوية فهي إضافة إلى عدم إعطائها معلومات كافية عن الإسلام، فكانت تحتوي على معلومات تثير الشبهات في مواضع إسلامية عديدة، كمفهوم “الله” في الإسلام، ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف الإسلام من أهل الكتاب. فمثلاً كانت العبارات الآتية ترد في هذه الكتب:

“يعبد المسلمون إلهاً يُدعى: الله” “يجتمع المسلمون تحت إدارة الخليفة والزعماء الدينيين. تؤلف مجموعة متخصصة من العلماء في ساحة الفقه وغيرها من الساحات الدينية لجنة روحية عليا، حيث يجتمعون في القاهرة”. وإضافة إلى ذلك فإن هذه الكتب تعطي (140-139) صورة غير حقيقية عن الإسلام. حيث تشير إلى أنه دين متعصب لا يملك أي نصيب من المسامحة واللين. هذه هي المعلومات الأنتروبولوجية التي كانت مقدمة حول الإسلام والمسلمين حتى السبعينات والثمانينات. ولكن بعد الحرب العربية-الإسرائيلية في السبعينات، وبعد أزمة النفط، وبعد الانقلاب الإيراني في 1979، زاد الاهتمام بهذه المنطقة. واليوم، فإن الرأي العام الأمريكي يملك معلومات أكثر عن العالم الإسلامي. ولكنها معلومات مستقاة من وسائل الإعلام العالمية التي ألصقت تهمة الإرهاب والعنف إلى الإسلام والمسلمين. ويمكن مشاهدة أصابع اللوبيات العالمية ودورها في تقوية هذه التهمة وهذه الصورة المشوهة.

لا نرى حاجة هنا إلى مزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع. لأن ما نريد التأكيد عليه هو أن هناك فروقاً بين الأسس الثقافية للإسلام، وبين طرق التفكير الغربي والذهنية الغربية في كل أمر من الأمور المتعلقة بالإسلام، والذي يجري النقاش حوله.

ولا شك أن صورة الإسلام لم تتشكل في الذهن الغربي من مدوّنات السياح طوال القرون الوسطى. فقد بدأت الدراسات العلمية حول الإسلام منذ بداية القرن التاسع عشر. وقد أدّت هذه الدراسات فيما بعد إلى تشكيل منظومة فكرية معينة وهي “الاستشراق”. ولكن كان هناك دائماً وراء هذه الدراسات المكثفة صورة “الآخر”. ولم تنجح هذه الدراسات الأنتروبولوجية حول الإسلام في إنقاذ فكر الأوروبي من الأفكار والأحكام المسبقة. بل ربما زادتها قوة، حيث أكدت أن الإسلام هو العدو الأول للقيم الغربية وللعلم والمانع الأول للتطور والتقدم. كانت هذه الدراسات توسع معلومات الغربيين حول الإسلام على الدوام من جهة، وتقوم بزرع الحقد عندهم ضد الإسلام والمسلمين من جهة أخرى. لقد قام الاستشراق بصنع تقليد علمي وفكري قائم على حاجز اختياري بين الشرق والغرب. كما هيأ من الناحية السياسية أساساً أيدولوجياً مشروعاً لعمليات الاستعمار والاحتلال، التي استمرت طوال العصر الثامن عشر والتاسع عشر.

لقد أدّى الاستشراق بوجه عام إلى نتيجتين مهمتين حول الإسلام والعالم الإسلامي. الأولى تناول الإسلام من زاوية “الفيلولوجيا” (Philology)،([11]) وقام بإرساء قواعد نظرة موضوعية و”عقلانية” (Rational) في هذا الموضوع. والثانية حاول إظهار الإسلام كدين يبيح العنف والشدة ويعادي العلم.

كان محور البحوث الفيلولوجية هو إفراغ الوحي القرآني من محتواه. وكانت هذه البحوث تنصب على محاولة إظهار أن جميع القيم الإنسانية والحضارية التي أتى بها الإسلام، لم تكن تستند إلى الوحي الإسلامي، بل مأخوذة ومقتبسة عن الحضارات الآرية السامية التي كانت سائدة في تلك المناطق. كما أن العديد من القيم الفردية والاجتماعية كالمروءة والشجاعة والكرم، اقتبست –حسب نظرة هذه البحوث– من عرب الجاهلية وهم منحدرون من الأقوام السامية والآرية. وهذه البحوث الفيلولوجية كانت تستند من جهة إلى العادات الجاهلية القديمة وميراثها، وتشير من جهة أخرى إلى أن المصطلحات الرئيسية التي جاء بها الإسلام، مثل الجهاد والقتال (142-141-140) والتوسع والنهب والسلب، قد تجمعت حول محور استعمال القوة والشدة. وهم يؤكدون على الدوام على أنه لم يتم الفصل بين الساحة الدينية والساحة السياسية في الإسلام، وأن النظام السياسي والاجتماعي في دولة المدينة أسس على هذه القاعدة. لقد أوجد الاستشراق نظرة أيدولوجية قامت على اعتبار أن الإسلام مبني على أساس الحرب والجهاد والتوسع. وتم التأكيد على هذه النظرة، إلى درجة أنها أعطت مشروعية لكل الهجمات العسكرية والغارات التي تمت على العالم الإسلامي.

وأكدت النظرة الاستشراقية نفسها على أن الإسلام دين رجعي، وهو يعد كل بحث من البحوث العلمية ذنباً وجريمة دينية، ودمغه بالخشونة والغلظة والبربرية. ومع أن ما كتبه المستشرق “رينان” (Renan) حول الإسلام والمسلمين لا يحمل طابع الإهانة والتهجم، إلا أنه مهم لكونه هيأ الذهن الاستشراقي لتقبل هذه الصورة المزيفة. فهو يقول:

“إن الشيء الذي يميز المسلم هو نفوره من العلم، واعتباره أن البحوث لا فائدة منها ولا هدف، بل تكاد تكون كفراً. وهو ينفر من العلوم الطبيعية، لأنه يتصور أنها تحمل سمة المنافسة مع الله.” ولم يشعر “رينان” بأي حاجة للبرهنة على ما يقول ويكتب. وهو لم يكن مختصاً بالإسلام. لأنه كان باحثاً حول العبرانية أو بالأصح حول التقاليد السامية. ولكن بحوثه كانت تحمل طابع العداء للسامية. ولعل هذا العداء ما جعله يتخذ موقفاً سلبياً من الإسلام. وفي محاضرته المشهورة تحت عنوان “الإسلام والعلم”، ذكر أن عدم تقدم العلم في الشرق الأوسط يعود إلى الإسلام. وهو يرى أن الإسلام –مثله في ذلك مثل الأديان السامية الأخرى– لم يوجه اهتمامه للعلم وللتفكير العلمي، بل اهتم بالكهانة والسحر والشعر. ونظرته المهينة هذه إلى الدور التاريخي للإسلام نظرة متكررة ومعادة في التفكير الاستشراقي الكلاسيكي. لذا فلم يحس أحد بحاجة إلى البحث عن مدى مصداقية هذه النظرة أو محاولة سوق الأدلة والبراهين على صحتها. ثم إن مثل هذه الأحكام المسبقة والإهانات في حق الإسلام آنذاك، كانت موجودة ومنتشرة في كل مدينة أوروبية. لذا فلم يحس أحد أي حاجة لإعادة النظر في مثل هذه الأحكام التي أصبحت لديهم بديهية لا تُناقش. وما ذكره رينان عن الإسلام يذكرنا بموقف الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى تجاه العلم: فالموقف العقلاني الذي تم اتخاذه في عهد النهضة والتنوير أريد تكراره هنا تجاه الإسلام، وهذا أدّى إلى تقديم الإسلام في الصورة التي اختلقتها أكاذيب السياح الغربيين للعالم الإسلامي.

ولم يحدث في لب النظرة الغربية تحول يذكر في هذا الصدد. فمن الممكن مشاهدة الآثار العميقة للنظرة الاستشراقية في كل ساحة. ووسائل الإعلام الغربية تساهم في نشر هذه النظرة المنحرفة عن الحقيقة سواء على المستوى الرمزي –أي على مستوى الصورة العامة للإسلام– أو على مستوى المفاهيم الثقافية للإسلام.

فوسائل الإعلام هناك تقوم الآن بإعادة وتضخيم صورة التعصب والعنف التي قام الاستشراق الكلاسيكي بلصقها بالإسلام، وبتجديد هذه الصورة المشوهة في مخيلة الغرب. ثم إن وسائل الإعلام هذه لا تقدم الإسلام والعالم الإسلامي إلا ببعد واحد، وهو البُعد الرمزي والسياسي (143-142) وفي قالب من التعصب الأيدولوجي والاصولية، ولا تتناول الأبعاد الأخرى للإسلام. وهذه الصور المشوهة لا تسمح للمواطن الغربي الاعتيادي، ولا للجماهير الغربية التي تكتفي بأخبار التلفزيون أن تتعرف على جوانب الإسلام، ثم إنها لا تسمح بأي فرصة أو إمكانية في هذا الصدد. لذا يصعب للجماهير الغربية المحاطة والمحاصرة بوسائل الإعلام هذه، أن تعرف أو تستوعب ماهية الألاعيب التي تجري اليوم في الجزائر ومصر وإيران وأفغانستان والعراق وتركيا. فإن لم تصل إليهم معلومات وأخبار صحيحة عن الإسلام فلا يملكون –أمام هذه الصورة المشوهة– سوى الشعور بالرعب والفزع، ولا يستطيعون معرفة حقيقة اللعبة التي يلعبها الغرب في العالم الإسلامي. فالصحوة التي يشهدها العالم الإسلامي، وتصاعد الوعي الإسلامي فيه، يبدو لهم وكأنه قرين لتصاعد العنف والإرهاب الدولي.

وتقوم بعض الحركات في العالم الإسلامي بتعزيز هذه الصورة وهذه القناعة وتقويتها. وطريقة البث التي قامت بها سائل الإعلام الغربية عن الانقلاب الإيراني، وأزمة السفارة الامريكية، واغتيال أنور السادات، وحادثة سلمان رشدي، وأزمة الجزائر وأفغانستان، وأخيراً أزمة الخليج.. وضع الإسلام كعدو جديد للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وشكل كتاب “صراع الحضارات” لـ”هوتنكتون” وكتاب “نهاية التاريخ” لـ”فوكوياما” الأساس النظري لهذه الفترة. فقد أشار “هوتنكتون” إلى أن الصراعات الآتية لن تكون اقتصادية ولا أيدولوجية، بل ستكون بين ثقافات الحضارات. وكانت هذه الأفكار تشير في الحقيقة إلى أن الصراع سيكون بين الغرب والحضارة الإسلامية. أما “فوكوياما” –وإن لم يثر ضجة كبيرة بين أوساط المثقفين مثل هوتنكتون– فقد أشار إلى أن قيم الغرب كالديمقراطية والليبرالية هي أعلى قمة يمكن أن تصل إليها البشرية كهدف. إذن فقد أكمل الغرب مسيرته ووصل إلى نهاية التاريخ. وبينما كانت هذه الأفكار تُناقش إذا بالعمليات الإرهابية وبصوت القنابل التي فجرتها بعض التنظيمات الإرهابية(!) في العالم الإسلامي تدوي في المسرح الدولي. وهكذا وضحت ساحات الصراع السياسي والأيدولوجي. وتعينت الساحة الجغرافية التي يجري فيها هذا الصراع. وكلما توالت أنباء أعمال الجماعات الإرهابية الإسلامية(!) زادت نظريات الصراع قوة. والحقيقة أن الإرهاب الدولي وضع أمامنا خريطة معقدة. فالحوادث المتشابكة التي تحققت على المستوى الدولي، لا يمكن تفسيرها بالأحكام المسبقة للاستشراق الكلاسيكي من أن الدين الإسلامي دين سيف، وأنه يبجل القوة ويدعو إلى الصراع العسكري. لأننا نعلم اليوم أن الأساس الاجتماعي للعنف لا يستند إلى المثل الدينية فقط.

وعلى الرغم من قيام العنف الدولي بتقديم خارطة متشابكة ومعقدة، إلا أن الإعلان بأن الإسلام والعالم الإسلامي هما عنوان الإرهاب، ليس إلا محاولة إخفاء الصبغة الدولية للإرهاب. لقد أكسبت حوادث 11 أيلول مشروعية للنظام الدولي الجديد. فلم يتأخر التدخل في أفغانستان. لقد سيق اهتمام الرأي العالمي نحو بؤرة واحدة: “الإسلام والإرهاب”. كان هذا التدخل إيذاناً لمحاولة تكوين جيل يؤمن جانبه في العالم الإسلامي، الذي كان يقاوم الاحتلال الغربي وحركات التقليد الغربي منذ عصرين مقاومة شديدة. وعلى الرغم من إثارة الولايات المتحدة عاصفة كبيرة نتيجة تدخلها في أفغانستان، فإنها لم تتورع عن التدخل في العراق في منطقة الخليج بعد أقل من سنة. ومن الغريب أن بن لادن سقط من اهتمام وسائل (144-143) الإعلام العالمية فجأة. كانت هذه المناورات البارعة تحاول في الحقيقة إرساء نظام جديد للاحتلال والاستعمار والصراع. وكان التدخل في العراق يشكل بعداً جديداً لهذا الصراع. وتراجع الإرهاب الإسلامي(!) بمناورة بارعة إلى المرتبة الثانية من الإهتمام. وظهر أن البنية الدينية والعرقية والسكانية للشرق الأوسط، تهدد في المدى البعيد مصالح دولية لبعض القوى. لذا كان من الضروري مد خط آمن ضد هذا التهديد. فقامت الدول الكبرى –بهذا التدخل في العراق– برسم هذا الخط بنفسها. وعلى الرغم من المعارضة العالمية، فقد تم احتلال العراق دون أن يكون لهذا الاحتلال أي شرعية دولية أو قانونية أو إنسانية. بل تم الإعلان -في هذا العهد الجديد من الاحتلال السياسي والثقافي– بأنه من أجل جلب الديمقراطية. وهنا لا يملك المرء نفسه من التساؤل: أكانت وراء جهود رسم صور الإرهاب، القيام بتهيئة أساس مشروع لهذه الحروب الاستعمارية؟ لم تستطع الولايات المتحدة الامريكية ولا الدول الاوروبية الكبرى، تقديم أي سبب مشروع يبرر هذا الاحتلال. أو أي دليل وبرهان يقنع العالم. ولا شك أن العراق سيدار وسيحكم بمنطق الاحتلال وبالنظم الإدارية التي كانت موجودة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وتحت حكم الولاة الغربيين حتى تستقر الأوضاع على الأقل.

والظاهر أن السياسة الدولية تتجه إلى عهد الاستشراق الكلاسيكي وإلى عهد الاستعمار الكلاسيكي من جديد. لهذا السبب فنحن نقول، أنه لا بد من وجود علاقات دولية للإرهاب الديني في العالم الإسلامي. وقد يحصل أهل العراق على بعض التحرر والديمقراطية، ولكن ثرواتهم المادية والثقافية سيتبادلان مواقعهما. كانوا من قبل يملكون نفطاً ولا يملكون حرية. والآن سيملكون حرية نسبية ولكن سيفقدون نفطهم.

ولا شك أنني لا أحاول إرجاع هذه الحادثة إلى مجرد وجود منابع الطاقة في هذه المنطقة. لأن مواجهة الغرب مع الإسلام لم تحدث في هذا المستوى فقط.

(146-145-144)

ب – العوائق أمام الغربي في الفهم والاستيعاب

وردت هذه العبارة كعنوان في كتاب “باسم الإله” لمؤلفه “دانييل بَيبَس” (DanialPipes). وقد وضع المؤلف كتابه هذا، حول تأثير الإسلام السياسي الذي صعد على المسرح السياسي العالمي بعد الانقلاب الإيراني وأزمة النفط. وقد حاول المؤلف في الفصول الأولى من كتابه هذا، شرح، عدم فهم المخيلة الغربية الدين الإسلامي –أو أي دين آخر– الذي استطاع حتى في أواخر القرن العشرين الظهور كقوة سياسية.

وهو بهذا يحاول التحليل والإشارة إلى الأحكام المسبقة الخاطئة للمفكرين والباحثين الغربيين حول الإسلام. ولكن ما إن نتقدم في الفصول الأخيرة حتى نرى أنه يحاول في الحقيقة إيضاح أنه ما من أحد أدرك مدى الخطورة العالمية التي يمثلها الإسلام.

أجل، إنه أمر جديد بالنسبة للغربيين أن يمثل أي دين قوة وقدرة سياسية على المسرح الدولي. لأن التأثير الاجتماعي للدين في الغرب تضاءل في القرون الخمسة الأخيرة، وتقلص إلى درجة أنه يصعب على الفرد الغربي الاعتيادي وعلى المثقفين خاصة، فهم الأهمية السياسية والاجتماعية لأي دين.

ويقول المؤلف أن هناك ثلاثة عوامل تلعب دوراً مهماً: مفهوم العلمانية، والمادية، والحداثة. لقد دُفعت المخيلة الغربية بعد عصر النهضة بصورة دائمة إلى عالم مهتم بأمور الدنيا فقط “الدنيوية” (Secularizm).

لقد دفعت المرحلة العلمانية في الغرب بالفكر الديني وتطبيقه في الحياة، وبمؤسساته خارج التأثير في الحياة. وترسخ هذا الأمر لأن هذه المرحلة كانت طويلة. وقد تم تجريد المجتمع والساحة العامة من الدين بكل إصرار وبكل عناية إلى درجة أنه لم يبق هناك أي تأثير لأي شيء مقدس وأي أهمية له في حياة الإنسان. ولا شك أن هناك فئات وإن كانت قليلة، يحملون مشاعر دينية قوية. إلا أن المثقف الغربي لا يسلم بوجود هذه العاطفة الدينية في الغرب. لأنه يعد الدين رمزاً للجهل والرجعية. ويرى البعض منهم أن الحياة اليومية لا ترتبط بأي عقيدة مقدسة. وهناك ضرورة إلى نظرة أخرى مختلفة تماماً إن أُريد تقويم الأحداث بنظرة دينية. لذا فإن قيام بعضهم بنذر أنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الدين، شيء غير مفهوم في منظومة القيم المعاصرة للغرب، وفي الحياة المادية والعقلانية للغرب.

من جهة أخرى تحدث حوادث لها صبغة جماهيرية تتناقض مع العقلية المادية للغرب، حيث لها صبغة وعوامل دينية. ويقوم الغربيون بتقويم هذه الحوادث وإرجاعها إلى عوامل مادية واجتماعية. ويقول العديد من المحللين هناك، بأن هذه الحوادث الدينية في الحقيقة أحداث اجتماعية ووطنية واقتصادية أُلبست لباس الدين. لذا يمكن القول بأن العقلية الغربية قد تم حصرها في نطاق تفسير جميع الحوادث في إطار العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي تستبعد على الدوام العوامل الدينية.

وقد لعبت النظرة المادية دوراً كبيراً في صياغة هذه العقلية الغربية. فلم تعد ترى سوى العوامل والمراحل المادية، وروجت هذه النظرة المادية حتى اقتصرت المشاعر الإنسانية على الحياة الدنيوية والحياة المادية. لذا نرى أن التيارات الفكرية والسياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر،(147-146) كانت تيارات مادية وعقلانية فقط. لقد خُططت جميع التفسيرات والتقويمات السياسية والاجتماعية بمؤسسات تقوم بتجريد الفرد عن كل ما هو مقدس.

لقد كان الدور الفردي والجماعي للرأسمالية والماركسية والليبرالية، هو حصر الفرد والمجتمع داخل إطار التطور العلمي، والنهوض الاقتصادي، والحياة الدنيوية. لقد أرجعت المادية التاريخية الماركسية حياة الفرد والمجتمع إلى العلاقات الاقتصادية فقط. ورغم وجود فروق بارزة بين الماركسيين القدماء والمعاصرين، غير أن تفسيرهم بأن العلاقات الاقتصادية هي التي تؤثر بل تعين نمط حياة الفرد والمجتمع، لا يزال قائماً وسارياً. لقد أنزل التفسير المادي الإنسان إلى مخلوق ذي بُعد واحد.

كان من الممكن العثور على المئات من الحوادث الاجتماعية، ومن الحركات التي كان للدين دور كبير فيها في التاريخ القديم والمعاصر، إلا أن نظرة المادية التاريخية ونظريتها، كان لها تأثير كبير وعميق على المجتمعات الغربية من الناحية النفسية والاجتماعية. وأصبح من المستحيل للفرد الغربي الاعتيادي القيام بتفسير أي سلوك أو تظاهر ديني دون ربطهما بعوامل خارجية. وتزداد هذه الاستحالة عندما يكون الأمر متعلقاً بالدين الإسلامي الذي –خلافاً للأديان السماوية الأخرى– لا يمكن إرجاع مثله ومبادئه إلى مجرد منافع اقتصادية.

يرتبط الفكر الغربي بالمادية من جهة، وبالعلمانية والحداثة من جهة أخرى. لأن هذا هو ما صب في عقل المجتمع الغربي منذ عصرين أو ثلاثة عصور. وعلاوة على هذا فقد وضعت نظرية الحداثة في العهود التي كان الغرب يعيش عصره الذهبي، من ناحية الثروة الاقتصادية والتطور العلمي الذي ظهر كقوة لا تقاوم. وكانت من بديهيات هذه النظرية ومن مسلماتها، أن على جميع الأمم والبلدان اتباع الخط الذي خطته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، واتباع قيمهما لكونهما من أوائل الدول التي خطتا في طريق الحداثة. وحسب تعبير “دانيال بيبس” (Danial Pipes)، فإن هذا يعني في عالم السياسة: أنموذج مجتمع المدينة والتحول إلى العلمانية. واعتبر الدين عائقاً أمام الحداثة ومانعاً من تقدم الأمم.

ومع أن هذه الأفكار فقدت قيمتها وتأثيرها في نهاية السبعينات من القرن الماضي. إلا أن الذهن الغربي لا يزال حتى الآن مرتبطاً بمقياس كبير بالمادية وبالقيم “الدنيوية” (Secularizm). وعندما وقع الانقلاب الإيراني ظهرت أول حركة دينية وسياسية على المسرح الدولي، بعيدة عن الأهداف والمثل الغربية في القرن العشرين، وغير مرتبطة بها. وقد فوجيء المحللون الغربيون وذُهلوا. لأنه كان من المستحيل في نظرهم ظهور مثل هذه الحركة في هذا العالم الذي خطا فيه السياسيون كل هذه الخطوات في التقدم المادي، (149-148-147) والذي ارتبط بأمور الدنيا وقيمها كل هذا الارتباط. ولكنهم لم يضعوا في حسبانهم ظهور الخميني. ومع أن ظهوره كان متماشياً مع الأحداث السياسية، إلا أنه كان يعني في الحقيقة رجوع الدين (أي العامل المقدس) إلى الميدان مرة أخرى. وهذا كان معناه أن العاطفة الدينية وتأثيرها على المجتمع وعلى الجماهير قد بعثت من جديد، على الرغم من محاولات الفكر الغربي وحركته السياسية منذ عهد النهضة القضاء على هذه العاطفة. أو على الأقل إضعاف تأثيرها الاجتماعي. وقد كان زعماء جميع الحركات المعاصرة وقادة التغييرات الاجتماعية الكبيرة حتى ظهور الخميني، متأثرة إما بالأفكار الليبرالية أو الماركسية أو الفاشية وإما كانوا من حاملي الفكر الأوروبي على الأقل. ومع أن العديد من القادة غير الغربيين، من أمثال مصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، وأحمد بن بيلا ونيكروما، وروبرت موغابي، ومهاتما غاندي، وبول بوت، وهو شي منخ، وسوكارنو، وفيدل كاسترو..الخ،([12]) تبنوا قيما لا تخالف القيم الوطنية لبلدانهم. وخططوا تنظيماتهم الاجتماعية حسب النموذج الأوروبي.

ولكن الخميني كان مختلفاً. فهو على الرغم من تأثره بالفكر الأوروبي، إلا أنه كان في الواقع العملي حذراً منه ولم يقترب من تبنيه، ولم يكن يهتم بالغرب من هذه الزاوية. وعندما كان في فرنسا -في المنفى- قبل أعوام من قيام الثورة كان في الموقف نفسه. فهو على الرغم من سكنه لمدة 4-5 أشهر في قرية (Neuphic-Lechateav) التي لا تبعد عن باريس إلا 20 ميلاً، لم يقم بزيارة باريس ولو لمرة واحدة. لقد كانت أهداف الخميني وجذور هذه الأهداف إسلامية كلها. فقد فضل الخميني العيش مثل أسلافه السابقين دون التعرف على قيم التطور الغربي.([13])

لقد أثبت الخميني أن نشوء المجتمع الصناعي لا يؤدي بالضرورة إلى تقليل أثر الدين. وأنه ليس شرطاً لازماً أن تقترن الحداثة بالعلمانية على الدوام. أو أثبت على الأقل أن الوقت قد حان للبرهنة على أن العلمانية التي تنبذ الدين أمر وقتي وخاص بالغرب.

ويقول “بيبس” (Pipes): “إن وسائل الإعلام الغربية تُعتّم على الرأي العام الغربي مسألة أن نظريات العلمنة والمادية والحداثة لم تستطع التقليل من الدور السياسي للإسلام ولا من قوته،([14]) لأن هذه النظريات كانت قد أعلنت أن الدين وكذلك طراز الحياة الدينية قد مات ودفن. بينما ظهر على المستوى الدولي مدى قوة الإسلام، بالانقلاب الإيراني. كما ظهر إفلاس هذه النظريات عندما يكون الأمر متعلقاً بالإسلام وبالعالم الإسلامي.” وهو يرى أن التأثير الدولي للإسلام وقوته السياسية جلب أنظار المحللين الغربيين في منتصف الخمسينات للقرن الماضي، عندما أرسى الاتحاد السوفيتي علاقات قوية مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ومع بلدان الشرق الأوسط، مما أثار الخوف على المصالح الغربية.

وكان العديد من المحللين الأمريكيين والأوروبيين يرون أن الإسلام آنذاك يمكن أن يكون سدّاً مانعاً أمام الشيوعية. لأن عقيدة الإيمان بإله واحد كانت تحصن المسلمين ضد أي أيدولوجية ملحدة. والحقيقة أن الاتجاه الفكري والسياسي في مصر وفي الشرق الأوسط، كان يميل آنذاك إلى الفكرة القومية أكثر من ميله إلى الاشتراكية. وقد أبعد هذا الحدث الشرق الأوسط المسلم عشرين عاماً عن بؤرة الاهتمام. ولكن الحرب الإسرائيلية-العربية (150-149) عام (1967–1968)، أرجع الإسلام في المسرح الدولي إلى بؤرة الاهتمام الغربي. واضطر الغربيون ولا سيما بعد ظهور الخميني، إلى الاعتراف بالدور المتعاظم للإسلام. والغرب يتابع في ذهول تعاظم قدرته وقوته، فهو يبدو وكأنه عصي ومنيع ضد جميع القوى.

وقام “بيبس” وآخرون بهذا التفسير لتلملم العالم الاسلام وصحوته. وتم تقديم الإسلام من الزاوية الإيرانية إلى المسرح الدولي بشكل قوة سياسية متصاعدة اكتسبت أهمية كبيرة. وهذا أمر يحتاج إلى نقاش. نعم، لقد جلب الإسلام الأنظار إليه بعد الانقلاب الإيراني. فقد اتجهت أنظار العالم إلى هذه المنطقة. ولكن لم يكن هناك اهتمام بهذا المستوى لبقية العالم الإسلامي وخاصة القسم السني منه.

وكما قال “بيبس” بأن النقاش حول الصحوة الإسلامية الذي جرى خلال السبعينات، لم يكن يجري بشكل صحيح، ولكن الذي كان “بيبس” يعنيه هو أن الغرب لا يزال يجهل القوة السياسية للإسلام وتأثيره –وليس الإسلام بحد ذاته– أي، أن الانقلاب الإيراني كان يرمز فقط إلى استيقاظ المارد الإسلامي شيئاً فشيئاً، وأن الغرب بدأ يكتشف هذا. وكان يقول بأنه من الخطأ الاقتراب لفهم العالم الإسلامي من وجهة نظر مسيحية.

أجل، هناك جوانب متعدددة تبدو وكأنها مشتركة بين الدينيين. ولكن المثل الاجتماعية والسياسة للمسيحية تبقى في نطاق الأقوال، ويستحيل تحولها إلى حركة. بينما تبدو القدرة والقوة الاجتماعية للإسلام صالحة في كل حين للتحول إلى حركة.([15]) لقد اكتسب الإسلام في تونس هوية جماهيرية، وفي باكستان أداة في يد الدولة. وأصبح رمزاً في الاتحاد السوفيتي لمناهضة نظام الدولة. واستولى على إدارة الدولة في السودان. وتحول إلى حركة معارضة للقيم الغربية ونظم الإدارة الغربية في بعض الحركات الإسلامية في مصر وتركيا. أي أن الإسلام يملك تأثيراً اجتماعياً في كل مكان. وحتى لو رغب المسيحيون إلى تطبيق عقائدهم بكل حماسة فلا يتحول هذا الأمر إلى حركة اجتماعية، ولا يطالبون بأي مطالب اجتماعية، فهم غير مستعدين ذهنياً لهذا.

إن الهوية الإسلامية تملك نفوذاً اجتماعياً وثقافياً قوياً إلى درجة أن بعض الملحدين في الاتحاد السوفيتي –التي كانت دولة تقصي الدين وتقصي الإسلام كما هو معلوم عن الحياة– كانوا يفتخرون بأنهم مسلمون مع أنهم لا يؤمنون بالله.([16])

لا تختلف نظرة “بيبس” للإسلام عن النظرة الغربية العامة. فهو لا ينظر نظرة بريئة إلى الإسلام مثلما ينظر إلى الأديان الأخرى. والنظرة الغربية للإسلام تحتوي باستمرار على نظرة سياسية. ولكي ينظر الغرب إلى الإسلام على أنه دين وأنه ثقافة ونظام اجتماعي للحياة ويفهمه على حقيقته، فلا بد من تغيير علم السياسة هناك وتغيير وسائل التحليل وأدواتها.

والحقيقة أن الإسلام يهب للفرد المسلم مُثلاً اجتماعية. وقد يصح هذا الأمر في دين آخر أو لا يصح. وإن عدم وجود مثل هذا الوعي الاجتماعي والثقافي وبهذه القوة في أي دين آخر لا يجب أن يكون سبباً في اتهام (152-151-150) الإسلام، ولا في الوصول إلى قرار باتهامه وإدانته. إن المسلمين يشعرون في كل مكان وفي جميع الظروف الاجتماعية بالمُثل الاجتماعية الإسلامية. وقد افترض منذ السابق أن تركيا وتونس، قريبان إلى النمط الغربي أكثر من غيرهما. ومع أن الكثير تبنوا النمط الغربي في أمور عديدة منها اللباس، مثل استعمال ربطة الرقبة (كرافتة) وأشكال تصنيف الشعر، إلا أنهم يعيشون على النمط الاجتماعي والثقافي الإسلامي أكثر من عيشهم على النمط الغربي. وهذا ينطبق على القسم الأعظم من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، والبعيدين عن جو وظروف الثقافة الإسلامية. إن التأثير الديني والثقافي القوي للإسلام يطبع صورة حية وديناميكية في الإنسان المسلم. والإسلام يملك هذه الخاصية القوية التي تهب آلية دفاع قوية تجاه التأثيرات الداخلية والخارجية.

ومن الضروري على المسلم الملتزم أن يكون نافعاً للمجتمع ومساهماً فيه بإيجابية. لأن الدين الإسلامي يحث على هذا ويشجعه. ومصطلح “في سبيل الله” في الإسلام مصطلح واسع يمتد من التعاون الاجتماعي والتساند حتى قرارات الحرب التي تتخذها الدولة. والدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله بالنفس والمال، وتنظيم الأسواق ومراقبتها لصالح المجتمع ومساعدة كل ظاهرة إنسانية وأخلاقية. وعندما يكون هنا “مصلحة اجتماعية” فإن الأمر يكتسب أهمية وديناميكية كبيرة. ومن جهة أخرى فإن جميع الحوادث -فردية كانت أم جماعية- تحمل غايات أخروية وأبدية. لذا لا يستطيع علم الاجتماع الغربي المعاصر، الذي يقتصر على تحليل المراحل المادية فقط، تحليل الباعث للفرد المسلم، ولا تحليل النصوص الإسلامية والمثل الموجودة وراء هذا الباعث والمحرك. من ثم إن التحليلات التي يقوم بها علم الاجتماع وعلم السياسة الغربي حول العالم الإسلامي، لا تستطيع الإحاطة بكل جوانب الإسلام والمسلمين. فهي تحصر اهتمامها بالإسلام بالمنافع المادية وبمصالحها.

ظهرت علاقات الدول الغربية الكبرى بالإسلام والمسلمين في الماضي القريب في مجالين؛ في إنتاج النفط في الشرق الأوسط، وفي إبعاد دول الشرق الأوسط عن الاتحاد السوفيتي. وقد حددت أسعار البترول والسياسة المتعلقة به في السبعينات وبعض أعوام الثمانينات، صورة الإسلام وسمعته في الغرب. ولم يكن هناك شك في أن السيطرة على منابع البترول ستدعو الدول الكبرى إلى التدخل الساخن في هذه المنطقة. لذا من الواضح كان وجود الإسلام بالنسبة للغرب مرتبط بظاهرة سياسية. ولم يجد الإسلام كدين أي اهتمام في الغرب. وتجسدت قوة الإسلام الاجتماعية والسياسية في نظر الغرب في هذا الإطار السياسي فقط. وساعد الانقلاب الإيراني ثم انهيار الاتحاد السوفيتي –وهما حدثان مهمان للغاية– على تحريك الذهن الغربي، وجلب نظره إلى الأهمية السياسية للإسلام ودوره في هذه المنطقة. أي أن التحول في الذهن الغربي كان مرتبطاً بالدور السياسي العالمي للإسلام، ولم يكن له علاقة بالإسلام كدين. هذا كل ما في الأمر. ويؤكد “بيبس” على هذا في كتابه ويذكر بأن القوة السياسية الحقيقية للإسلام لا تكمن في أوامر وإرشادات القرآن، ولا في الرابطة المتأسسة بين الدين والسياسة. بل في علاقات البلدان الإسلامية المتشابكة مع الحضارة الغربية ومع مجرى الأحداث.([17])

(153-152)

وحتى منتصف القرن الماضي كان كل ما هو مرتبط بالإسلام في الغرب، منحصراً في الساحة الانتروبولوجية([18]) وفي ساحة العلاقات الدولية. وعلى الرغم من كل هذا الاهتمام(!) لم يتم تأسيس فرع أو كرسي حول العلوم اللاهوتية لدراسة الإسلام. وهذا يشير إلى أن الذهنية الغربية تصر على تناول الإسلام من الزاوية السياسية. ولا شك أن هناك الكثير مما يمكن أن يُقال حول طبيعة النظرة الإسلامية الغربية. ولكننا نكتفي هنا بهذا لنتحول إلى تحليل آخر عن الإسلام كقوة سياسية وعن بعض المفاهيم المتعلقة بالإسلام.

جـ- مفهوم الإسلام السياسي

لم يتم تناول مفهوم الإسلام السياسي، لا كمفهوم ولا كحركة سياسية ظهرت في عهد معين، ولا على صعيد “الدين” ولا على صعيد “موقع السياسة ومكانتها في الدين” تناولاً صحيحاً وبشكل يحيط بأطراف الموضوع. لم تتركز التحليلات المحلية والغربية على تحليل الدين ولا على تحليل السياسة، بل نظرت إلى الإسلام على أنه أيدولوجية سياسية بجانب كونه ديناً. وتتركز أيضاً على أفكار وفعاليات القائمين على هذه الحركات الإسلامية السياسية. ولكن لم يتم في هذه التحليلات تقديم تحليل شافٍ لعلاقة الدين بالسياسة، ولا لموقع السياسة في الدين، ولا مدى إمكانية قلب النصوص الدينية إلى أيدولوجية سياسية. ومن جانب آخر، لم تقم الحركات التي قدمت الإسلام كقوة وكحركة معارضة أي برنامج سياسي أو اقتصادي. لذا ظهرت خلافات كثيرة بين هذه الحركات عند تناولها للقرآن الكريم ولرسالته ولكيفية التعبير عنها اجتماعياً وسياسياً.

هناك جانبان في هذه الحركات تثيران الإهتمام؛ الأول، محاولتها إظهار الإسلام في القرن العشرين وتحت تأثير الأيدولوجيات وكأنه نظام سياسي صرف. الثاني، مقولة “الرجوع إلى الذات”. ولاشك أن هذه حركة فكرية جديدة. فهي لا تدعو للرجوع إلى التقاليد التي ترسخت طوال 14 قرناً، ولكنها تدعو للرجوع إلى النصوص الإسلامية مباشرة (أي إلى الكتاب والسنة)، وتريد التوجه إلى المجتمع الإسلامي الأول وإلى طراز وجو معيشته. والتحليلات المتعلقة بالإسلام السياسي –إن استثنينا الدراسات المنهجية للمفاهيم الإسلامية للمستشرقين– هي التحليلات التي تتوجه إلى دراسة أفكار ونشاطات هذه الحركات، لا إلى دراسة الإسلام ذاته. وهذه هي الساحة التي يهتم بها العاملون في علم السياسة في الغرب. ونرى أن الإسلام السياسي في هذه التحليلات يوصف بـ”الإسلامية” وهي بالأصح “انتحال الإسلام”. لذا فسنقوم نحن هنا أيضاً باستعمال هذين المصطلحين بالمعنى نفسه.

الإسلامية، حركات معاصرة من الناحية الاجتماعية ومن الناحية الفكرية. وإن الريف والطبقات المتوسطة تشكل قاعدتها. إلا أن المدن تضم كذلك(154-153) عوائل سكنت في المدن، ودرس أبناؤها في المدارس والجامعات الحديثة وأخذوا منها صبغتهم السياسية، وشاهدوا هناك المجموعات الماركسية والقومية، والانقلابيين ودعاة العنف. وتبنوا بعض الجوانب السياسية وأشكال تنظيماتهم، وطرق المعارضة الجماعية عندهم، ونقلوا كل هذه الأمور إلى أيدولوجيتهم الإسلامية، مشكلين ما نطلق عليه “الأيدولوجية السياسية الصرفة للإسلام”. من ثم فالإسلامية بالمعنى الاجتماعي، حركة مدينية ومعاصرة،  ومع أنها تدعو إلى الرجوع إلى الماضي وإلى الصفاء الإسلامي في عهده الأول، فإن جميع ألوان نشاطها وفعالياتها متلائمة مع أيدولوجيات العهد الحديث.

من جانب آخر فقد ابتكرت الإسلامية السياسية مقولات حول ارتباطها بالجوهر الإسلامي العالمي، وأشارت إلى أنها بريئة عن كل السلبيات التاريخية والاجتماعية. إلا أن هذه الحركات الإسلامية ذات الطابع السياسي الصرف تعرضت في صدد حركاتها وفعالياتها، وفي شعاراتها إلى العديد من المشاكل والاعتراضات الفقهية والكلامية والسياسية. ثم اتجهت نحو جهات فكرية وحركية مختلفة مع أنها كانت سلفية النزعة. فبعضها مثلا فضلت العودة إلى العهد الإسلامي الأول الطاهر بالاهتمام بشكل الملابس والقيافة، وكيفية تناول الطعام، والعلاقات الاجتماعية، أي فضلت الانعزال اجتماعيا وسياسيا في جميع الساحات، واتجه بعضها بشكل حاد إلى العنف والإرهاب. وطالب بعضها الآخر –انطلاقاً من السياسة- المجتمع الذي حوصر بالقيم الغربية وتفسخ بها، بالرجوع إلى الإسلام مرة أخرى، وسعى إلى تغيير هيكل المجتمع وصورة التكنولوجيا الحديثة من جديد. كما عارضوا الانتهازية السياسية وتفسخ السياسيين، والعادات العصرية المتفسخة، وانتشار الفساد، ونسيان القيم والنصوص المقدسة، وتعرض المجتمع إلى التأثيرات الأجنبية.

وعندما دعت الإسلامية السياسية بالرجوع إلى نمط العيش الإسلامي في عهده الأول (أي الدعوة السلفية)، كانت تؤكد مراراً على الطابع العالمي للإسلام. وبمرور السنين أصبح هذا شعاراً لصيقاً بها. ولكن المشاكل التي مرت بها، جعلتها تفترق من حين لآخر عن الهوية الإسلامية العالمية. ولم تستطع هذه الحركات تمثيل الطابع العالمي للإسلام من الناحية الاجتماعية. بيد أننا عندما نتكلم عن دين مثل الإسلام إنما نتكلم عن نظام عالمي شامل لا يتقيد بزمن أو بعصر معين.

والحق يقال أن الغربيين غير مستعدين لقبول الثقافة الإسلامية الشاملة المتكاملة غير المرتبطة بزمن معين. لأن ذهنيتهم السياسية والاجتماعية والثقافية متعودة على قبول كل شيء –ومن ضمنه الدين- كحادثة تاريخية. لذا يصعب عليهم قبول نظام ديني غير مرتبط بالزمن، له قابلية استيعاب واحتضان كل شيء، بدءً من الحياة السياسية إلى تنظيم المدن معمارياً، إلى أفكار العلماء وأفكار معارضيهم. بل إنهم يعدون مثل هذه السعة والاستيعاب تهديداً لجميع المكاسب السياسية والثقافية للغرب.

ونرى هذا بشكل جزئي عند “ويبر” (Weber) خلال تناوله الأديان بالتحليل. ولمثل هذه التحليلات الغربية نصيب من التأثير في عدم قبول شعارات هذه الحركات حول عالمية الإسلام. والسبب الكامن وراء عدم قبول الغرب عالمية الإسلام، هو أنه يعد الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية الوحيدة، ويرى الحضارة الغربية هي مصدر جميع مكاسب الحداثة. وقد وجدت دولة الحقوق والقانون الحديثة التي تفصل بين الساحة الدينية والساحة السياسية، بنظامها العلماني والديمقراطي والليبرالي في (157-156-155) في الغرب على الدوام. من جرّاء ذلك فتقدم الغرب في جميع الساحات وتحديه لكل مخالفيه، يبيّن لنا أن النموذج السياسي والثقافي الغربي هو الوحيد الذي لا نموذج سواه في العالم.

في مثل هذا الجو ظهرت الحركات السياسية الإسلامية. ومع أنها تقبلت العناصر التقدمية للحضارة الغربية، إلا أنها لم تعترف بأنها الحضارة العالمية الوحيدة، ولم تعترف بأن المبادئ السياسية لهذه الحضارة صالحة لكل زمان ومكان. وذكرت أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي لا تتقيد بالزمان والعصور. ولكنها كانت أمام تحدي حضارة أخرى غير حضارتها. ووجدت هذه الحركات الإسلامية السياسية وجودها وكيانها كجواب لهذا التحدي في الساحة السياسية، وربطت نفسها بالصبغة العالمية للإسلام بسهولة. لأن الإسلام كان يبدو في ظل هذه الفوضى والتخبط السائد في العالم الإسلامي، وكأنه القوة الوحيدة والنظام الوحيد الذي يستطيع إعلان النفير العام للنهضة، والأيدولوجية الوحيدة التي تملك هذه القابلية. لذا قام أصحاب هذه الحركات الإسلامية والسياسية باستعمال هذه القوة في ساحة التنظيم السياسي، كتنظيم سياسي بديل للأنموذج السياسي الغربي.

من شعارات هذه الحركات أن للإسلام جوهرا واحداً، وهو الذي أعلنه وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وأنهم يمثلون هذا الجوهر الظاهر في نظامهم السياسي. ومع أنهم دعوا للرجوع إلى الحياة الإسلامية الأولى، إلا أنهم تبنوا جميع القوالب السياسية الحديثة والقوالب الأيدولوجية والثقافية الحديثة. بل حتى أشكال ردود الفعل الجماهيرية، ولم يروا أي بأس من تبني شعارات ماركسية أو شعارات الداعين للحرية وشعارات بعض الحركات المسلحة. وتصرفوا في هذا المجال كأصحاب أيدولوجيات معاصرة، إلى درجة أن شعاراتهم وحواراتهم ونقاشاتهم الأيدولوجية انحرفت أحياناً، وأصبحت غير متلائمة وغير متماشية مع النصوص الإسلامية (أي مع الكتاب والسنة). لهذا السبب تعرضت إلى جميع المشاكل التي تعرضت لها الأيدولوجيات الحديثة الناشئة في المدن.

أجل، إن الإسلام السياسي أيدولوجية حديثة. والتصور السياسي الذي قدمته، لا يرتبط إلا بالسمات والرموز السطحية للأصول الإسلامية. لأن نقطة استناد هذا التصور السياسي هي سيادة المفاهيم الأيدولوجية. ولا شك أننا إن قمنا بمقارنة المفاهيم السياسية لهذه الحركات مع النظم السياسية الحاكمة في العالم الإسلامي، نرى أن برامج وخطط هؤلاء الإسلاميين أقرب إلى النصوص الإسلامية من تلك النظم. لا بد من الإشارة إلى أن النظم الحاكمة في العالم الإسلامي، والإسلاميين لا يمثلان بدورهما الثقافة الإسلامية. ومعظم التحاليل الغربية تتناول الإسلام من زاوية المفاهيم السياسية التي قدمتها هذه الحركات. والنادر من هذه التحاليل، تقوم بالتفريق بين المفاهيم السياسية والإسلام. ومع أن “روي” (Roy) لا يقوم على الدوام بهذا التفريق إلا أنه يهتم به. وسبب هذا التشابك يعود -في رأيه- إلى التأثير الواضح للإسلام -وإن كان هذا رمزياً- على هذه الحركات وعلى النظم الحاكمة في العالم الإسلامي، وإلى الطابع الشامل للتطبيق الإسلامي في عهده الأول. فهو يقول: “لم يقم الإسلام على أكتاف أي مؤسسة ولا أي صنف من صنوف الرهبان أو العلماء. بل وُلد (158-157) كجماعة دينية وسياسية ومذهبية ومجتمع. وكان النبي محمد هو الشخص الوحيد الذي يوجه فعاليات ونشاطات وسلوك الناس، كمبلّغ وحيد ومفسر للقانون الإلهي. وكان هذا المجتمع مجتمعاً تسود فيه المساواة وتختفي فيه الفوارق تحت حماية شخص واحد موحى إليه، وإن لم يقم بوضع أسس الإدارة لهذا المجتمع. وقد خطط هذا المجتمع ونظر إليه ككل، ولم يكن له أي تصنيف حسب الساحات المختلفة. أي حسب الساحة الاجتماعية والفردية والعبادية والسياسية والاقتصادية..الخ. ومع أن شكل هذا الأنموذج الأول من الجماعة لا يمكن تحقيقه فيما بعد، إلا أنه قام بتعيين العلاقات بين الإسلام والسياسة بشكل نهائي. حيث رفض هذا الأنموذج الأول، الانشقاق والانفصال عرقياً كان أم جماهيرياً، وربط وحدته بقائد فذّ. إذ سيتحول هذا الأنموذج لدى الأيدولوجية القومية العربية إلى شكل علماني”.([19])

هذا التقويم أو التفسير المقدم من قبل “روي” (Roy) محاولة لإيضاح شعار الإسلاميين السياسيين حول العودة إلى المجتمع الإسلامي المثالي، بصرف النظر عن مدى حقيقته التاريخية، وحتى لو كان هذا التفسير صحيحاً بشكل جزئي، فإن هدف “روي” (Roy) من تناوله والهدف من استعماله يستند إلى قاعدة استشراقية. فهو ينظر إلى طراز هذا المجتمع الأول المتماسك المتوحد، الذي يردّ الفرقة والاختلاف والتفتت، ويتبنى الوحدة والمساواة والعدالة من خلال الإطار السياسي المعاصر. ويرى بأن هذا هو السبب في عدم تأسس الديمقراطية في العالم الإسلامي. لأنه يرى أن نقيض الظلم والديكتاتورية في التصور الإسلامي هو العدل وليس الحرية. وشعار المعارضة ليس الديمقراطية بل القيم الخلقية. وهذا يفتح الباب على مصراعيه لجميع أنواع استغلال الدعاية الجماهيرية. والحرية لا تطلب هنا في ساحة السياسة بل في جو العائلة وفي ساحة محارمها. أما القيم المطلوبة عندهم في الساحة السياسية فهي العدالة والوحدة والتساند. لذا فالمعارضة الإسلامية حسب رأيه، ليست موجهة ضد الديكتاتوريين بل ضد تفسخ الآلية الاجتماعية للعدالة. أما الشعارات المطروحة في الساحة السياسية حول طلب تحقيق الحرية من قبل هذه الحركات، فهي في رأيه ليست من أهدافهم الأصيلة بل نوع من الدعاية الشعبية.

والحقيقة أنه يمكن تطبيق هذا المفهوم على الديمقراطيات الغربية. إذ يحق لنا أن نتساءل: هل صحيح أن الشعارات الغربية السياسية تطلب تحقيق الحريات كما يقول “روي” (Roy)؟ لأننا إن أتينا إلى الحقوق السياسية للأجانب الذين يعيشون في الغرب، نرى أن المحتوى الديمقراطي يتوجه لا إلى الحريات الأصلية، بل إلى ساحة وحدة الشعب والأمة. أي أن محاولة “روي” وأمثاله من الادعاء، أن “الحرية” من مكتسبات الغرب ومن مبادئه، والديكتاتورية من نتاج الشرق ليس صحيحاً. فهذا هو ما نصادفه في كل جزء من أجزاء كتابه. إن كتاب “روي” مثال واضح للخلط بين الإسلام الحق وبين الإسلام السياسي. ومع هذا فهو يحاول أحياناً الخلاص من أسر الذهنية الغربية. وهو يُعرّف المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات مدنية لا ترتبط بروابط قوية مع الدولة. ولكن عدم الارتباط هذا واللا أُباليّة، لا تولد في رأيه “الديكتاتورية الشرقية المشهورة”.

فقد تكونت ساحة حرية في الإسلام منذ القرن الهجري الأول. ولكن لم يتم تطور أي فكر سياسي لساحة الحرية هذه. فاعتباراً من نهاية القرن الهجري الأول، حدث انفصال فعلي بين السلطة السياسية (الأمير، السلطان) والسلطة الدينية (الخليفة)، (160-159-158) وتجذر هذا الانفصال بشكل مؤسسات. ولكن “روي” يذكر بأن هذا الانفصال يختلف عن الانفصال الذي تم في الغرب بين الدين والدولة. فهو يقول بأنه لا يتوقع أن تقوم مثل هذه السلطة الحاكمة بإصدار أي قانون إيجابي. ونظراً لأن الإسلاميين يعدون هذا الانفصال انحرافاً، فقد اتخذوا الموقف الموحد (أي توحد السلطة السياسية مع السلطة الدينية) في العهد الإسلامي الأول قدوة لهم ومثلا أعلى.

أما العلماء التقليديون فقد قبلوا هذا الانفصال الذي حدث في نهاية القرن الأول الهجري بين السلطتين السياسية والدينية. إن نظرة “روي” (Roy) لأسس المشروعية السياسية في الإسلام، ليست سوى تحليل سطحي لما جرى في الواقع التاريخي. ومع أن الهدف المثالي للمشروعية السياسية لهؤلاء الإسلاميين يحتوي مستوى مختلفاً، إلا أن المسلمين طوال عهود التاريخ نظروا إلى الحياة من الناحية الثقافية نظرة كلية ولا يزالون. وهذه النظرة الكلية تحولت عند الإسلاميين إلى هدف سياسي. ولكن هذا لا يغير من الخريطة الذهنية للمسلم. فالإسلام يتوجه نحو الأمور المادية والأمور المعنوية في الوقت نفسه. أي يتوجه إلى الدنيا وإلى الآخرة. ثم إنه لا يفصل تماماً الساحة السياسية عن الأهداف الأخروية. علماً بأن هذه الساحة تعد ساحة دنيوية صرفة في الغرب. ثم إن الثقافة الإسلامية لا تطلب من الساحة السياسية، -كما يقول روي- العدالة الدنيوية المادية أو العدالة الاقتصادية والسياسية فحسب. إنما تطلب منها أيضاً، أن تتجه نحو الأهداف الأخروية والأبدية. لأنه ينبغي على المشروعية السياسية أن تجمع بين الأهداف الدنيوية والأخروية. قد تستطيع القوة ورأسمال المال والثروة والسلطة والدولة المنحصرة في أيدي فئة صغيرة أن تحقق العدالة الاجتماعية. ولكن هذا لا يكون شيئاً أخلاقياً ولا مناسباً للحياة الأخروية. لأن الإسلام يرى أن الثروة إن كانت متداولة بين الأغنياء فقط،([20]) أو في يد الدولة، وإن كانت القوة السياسية والثقافية بيد الدولة فقط.. فالإسلام لا يرى هذا أمراً أخلاقياً، أي، إن أساس المشروعية ليس دنيوياً فقط، بل يجب أن يتم محاسبته من الناحية الأخلاقية والأخروية أيضاً.

إن العنصر الأساسي للأيدولوجية عند هؤلاء الإسلاميين، هو قفزهم من المراحل والحقائق الاجتماعية الملموسة إلى القيم والمثل الإسلامية. وهذه نقطة خلاف بين العلماء التقليديين والمثقفين الإسلاميين. فالعلماء التقليديون ينتقلون من النصوص الإسلامية إلى المراحل والاجتماعية الملموسة، وهم لا يقومون بإهمال بعض النصوص كما يفعل التقدميون، أي لا يتصرفون بشكل انتقائي. فهم يعرضون كل حادثة أو مرحلة اجتماعية –وإن كانت حادثة أو مرحلة ثانوية– على النصوص. في مقابل هذا يقوم الإسلاميون في هذه الحركات السياسية في أحيان كثيرة بتحويل بعض النصوص الإسلامية إلى مجرد رموز. وهذا يقلب المعاني الحقيقية للنصوص إلى مجرد رموز متجمدة في الأذهان. ولو بحثنا هذا الأمر بشكل أعمق لتبين لنا أن هذا الأسلوب من التعامل مع النصوص يعني تغييراً في المعرفة الإسلامية التقليدية. ومن جهة أخرى فإن قلب القيم الإسلامية إلى عالم من الرموز، وعالم من الطابع يحول الثقافة الإسلامية إلى مقولة نفسية وأداة إشباع.

(161-160)

وهناك سبب آخر وراء استناد هذه الحركات إلى خطط ومشاريع سياسية. وهو تشكيل جواب ضد ادعاء المستشرقين، بأن الإسلام يحول دون ظهور سياسة مستقلة، ودون ظهور دولة حديثة.

وسواء تطابقت أم تناقضت مع مفاهيم الغرب السياسية، فقد وضع هؤلاء الإسلاميون أنموذجاًً سياسياً معيناً. وفي هذا الصدد لم يتجهوا إلى الغرب بل إلى الأصول الإسلامية. فقد نقلوا الطابع العام لأحكام الأصول الإسلامية الاجتماعية والسياسية إلى الساحة السياسية الصرفة، فأنتجوا بذلك المعايير الأساسية لسياستهم. وعلاوة على إشارتهم للأصول الإسلامية فقد نقدوا أسس مشروعية النظم السياسية التي يعيشون في ظلها. وعندما اتهم الاستشراق، المجتمعات الإسلامية بعدم المبالاة بالمراحل السياسية، راح الإسلاميون بخلق نظرية إسلامية سياسية ذات  طابع مركزي. كانت موقف العلماء التقلديين، سلبيا من والوتيرة السياسية أو الإدارة الحاكمة. فكانوا يوجهون الانتقادات على السلطان أو الخليفة أو رئيس الدولة  من ناحية الخلق السياسي السائد والخلق الإنساني. وكان أساس مشروعية الإدارة والحكم مستنداً إلى تأسيس العدالة الاجتماعية، والمحافظة على الإسلام وصيانته. إذ لم تكن الدولة في محتواها هدفاً بل وكانت سيلة. ومن جراء ذلك كانت كتب القانون تتضمن مواضيع نتفيذ أحكام السلطة. ولا يستحق الحاكم الرئيس طاعة شعبه، إلا إذا حافظ على هذين العنصرين بحق. أي عليه أن يقوم بتطبيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي إتاحة الفرصة للرعية بالعيش حسب أوامر الدين الإسلامي والمحافظة على الإسلام من جهة أخرى. وهكذا تتحقق مصلحة الشعب والجماهير. وينظر إلى هذه العلاقة من الزاوية السياسية باعتبارها مجرد اهتمام أخلاقي. أما التدخل والمشاركة في المراحل السياسية وفي اتخاذ القرارات السياسية، فيتطلب مشاركة أكبر وتدخلاً أوسع وعلاقة سياسية أقوى. لذا كانت المشاريع والأهداف السياسية للإسلاميين السياسيين تُعد إسهاماً أكبر في السياسة من العلماء التقليديين. أجل لقد ذكر هؤلاء الإسلاميين بأن السلطات والنظم الحاكمة في عهودهم فقدت مشروعيتها من الناحية السياسية ومن الناحية الأخلاقية. فهم يرون أن السلطات والنظم الحاكمة في العالم الإسلامي ومجتمعاته، سقطت سقوطاً مريعاً من الناحية السياسية ومن الناحية الأخلاقية. وأن هذه النظم ليست نتاج الثقافة الإسلامية وثمارها. بل هي ظاهرة للعالم الثالث -الذي لم تتأسس بنيته فيه بعدُ- نتيجة الإدخال العشوائي للأنموذج الغربي إلى مجتمعاته. حيث نرى في هذا الأنموذج عائلة أو قبيلة أو جماعة، تستولي على جهاز الحكم وتقوم باستغلال المجتمع من جميع النواحي؛ تتحكم به وتضيّق عليه وتخويفه وتخضعه بالقوة. فالإسلاميون السياسيون يرون أن هذه الدول تنقصها الشرعية، وهي دول زائفة بقيت في حكر جماعة معينة. لذلك اتجهوا نحو هدف دولة إسلامية لها أساس مشروع. ولا بد من التنويه أن أصحاب هذه المشاريع الإسلامية قاموا باستعمال أدوات الأنموذج الغربي أو تعاطو معه. فكما أن الغرب –بجوانبه الإيجابية والسلبية– (163-162-161) موجود في الأشكال السياسية في العالم الإسلامي، كذلك فهو موجود في النماذج التي أنتجتها هذه الحركات الإسلامية السياسية. فلو ألقينا نظرة فاحصة لوجدنا أوجه القرابة الفكرية بين هذه النماذج. فهناك قرابة في موضوع أدوات الكفاح وقيم الاستهلاك والعقلانية السياسية. ومع هذا فأصحاب هذه الحركات يرون أن المستعمرين الغربيين هم السبب في التلوث السياسي الموجود في العالم الإسلامي.

يعبر “و. روي” (Roy) عن هذه الحقيقة بصورة جيدة عندما يقول: “هناك جذور تاريخية للدولة في الشرق الأوسط. والغرب موجودة في الأشكال السياسية في العالم الإسلامي. وقد بدأت هناك مرحلة إنشاء الدول قبل حركة الاستعمار (في المغرب ومصر وإيران بل حتى في أفغانستان). وفي القرن التاسع عشر كانت البلدان الثلاثة الأخيرة والامبراطورية العثمانية تحكم من قبل طغاة مثقفة مستعينة بالجيش. وبدأت بنوع من التغيير من قمة الهرم إلى القاعدة مستعينة ببعض مؤسسات الدولة كالمدارس والجامعات. وهناك حقيقة أخرى وهي أن أوروبا في تلك الآونية بذلت كل ما في وسعها لقص أجنحة هذه الدول التي كانت جذورها قد امتدت دون نظام معين. فالحركات العسكرية (عام 1850 في مصر، وعام 1907 في إيران، وعام 1953 ضد مصدق في إيران..الخ) وكذلك رسم الحدود بشكل كيفي (مثلا في معاهدة موندروس عام 1918) كان يعوق بشكل دائم إنشاء دول مستقرة. ولم تعقب حرب الخليج عام 1990 أي محاولات لتنظيم الصورة السياسية. وقد حافظ اللاعبون على النظم نفسها بقيام الأدوار نفسها حسب علاقاتهم المختلفة للقوى الاستراتيجية. والخلاصة أن هدف الساسة الغربيين بدءً من “دزرائيلي” إلى “كلمنصو”، ومن “كيسنجر” إلى “بوش” لم يتوجه أبداً نحو إرساء نظام سياسي حديث في الشرق الأوسط. ومع هذا فإن الدول القومية موجودة في الشرق الأوسط سواء أكانت مشروعة أو غير مشروعة. وأصبحت هذه الدول إقليد جميع أنواع المساومات بعد كل أزمة. وصمدت هذه الدول أمام جميع الدعوات القومية والإسلامية. وقلب القوميون العرب مفهوم “الأمة” إلى مفهوم علماني. ولا تعترف هذه الحركات نظرياً بالدول المرسومة الحدود. فـ”مصر” (الاسم الرسمي لها هو “الجمهورية العربية المتحدة)، وترغب سوريا والعراق أن تكون جزءاً من الأمة عربية التي يهدف إنشاؤها. ومع هذا فقد فشلت جميع مشاريع الوحدة. ورجعت الحماسة العربية في كل محاولة إلى الدولة (القومية) القائمة سابقاً. لم تظهر أراضي المملكة التي تحمل سمات الدولة المعاصرة، ضمن إطار “العروبة” أو “المخيلة الإسلامية”، بل ظهرت حسب توازن القوى العالمي. إن هوية الكويت معلومة. فقد كانت هويتها ضعيفة قبل الحرب، إلا أنها أصبحت واقعية بعد الحرب. لا سيما أيقنت أن وجودها –تحت مظلة الحماية الأمريكية– سيستمر إلى الأبد”.

(165-164-163)

د- الأيدولوجية الاجتماعية الحديثة للأسلمة (للحركات الإسلامية السياسية)

إن ظهور الإسلامية في المدن كأيدولوجية حديثة ومعاصرة، ثم مواكبتها موكب الثقافة سهّل تناولها من الزاوية الاجتماعية. وإن علاقة المدينة بالبيئة المحيطة بها، كأفراد وقوة واقتصاد وسياسة وثقافة خلقت علاقة معقدة جداً. فالصناعة جلبت عوامل الثقافة الريفية إلى مركز المدينة في أمكنة شتى. ثم أثرت على الحياة والتقاليد والثقافة الريفية إلى درجة كبيرة. بحيث أن جميع الحركات الأيدولوجية التي ظهرت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانت وليدة ظاهرة النزوح إلى المدن. فمن ثم ولد علم الاجتماع الحديث، لتحليل الأزمات والمشاكل والتحولات التي نشأت من هذه الظاهرة.

وقد قام ملايين البشر بالنزوح من الأرياف الشعبية والثقافات التقليدية، إلى المدن والربوض في ضواحيها وتعرّضوا للتأثير المديني بشكل واضح. حيث كانت الضواحي هي الأماكن التي يظهر فيها مزيج (Synthesis) غريب من العادات الريفية والعادات الحضرية. ولكن هذا المزيج لا يكون ناجحاً في معظم الأحوال، لأن الكتلة الأساسية التي تحمل وتشكل الثقافة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمدينة لا تسمح بهذا. لذلك يشعر هؤلاء النازحون بانعزال اقتصادي وساسي. ثم يتحول هذا الشعور مع مرور الأيام إلى انفجار أيدولوجي. وعادة ما تستند الأيدولوجيات المتطرفة إلى هذه الكتلة المبعدة عن تقاليدها وعاداتها، والتي تحس بالحنين للرجوع إلى هذه التقاليد. ولكنها لا تستطيع تحقيق هذا تماماً، لأنها تكون قد اكتسبت عادات جديدة تحول دون ذلك.

ومع أن ظاهرة النزوح هذه لا تؤدي إلى النتائج نفسها في جميع أنحاء العالم. إلا أن التزايد السكاني وتنقله أدى إلى ازدحام المدن، وإلى مشاكل كثيرة ومصاعب كبيرة؛ في تقديم الخدمات، ومجالات العمل، وفي تضييق البُنية التحتية وتخطيط المدن. وهذه الصعوبات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية تدفع العديد إلى البحث عن أيدولوجيات مختلفة. فيتحول معظم الجماهير إلى عمال. وتبدأ شرعية النظام السياسي بالضعف والاضمحلال تدريجياً. وعادة ما يقوم المحللون الغربيون –كما قلنا سابقاً– بتقديم نظريات الأزمات هذه، في تحليل الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية.

ومع أن القواعد الاجتماعية والتاريخية للعالم الإسلامي مختلفة عما هو موجود في المجتمعات الغربية. إلا أن دوله الحديثة عانت أيضاً من مشاكل اجتماعية وثقافية؛ كالتزايد المفرط في عدد السكان، وعيش الطبقة المتوسطة في فاقة، وبطالة أصحاب الشهادات، وعدم انسجام النازحين إلى المدن مع حياة المدينة، وعدم انسجام الجماهير مع النظم الحاكمة..الخ. لقد حصلت هذه الأزمات في جميع الدول القومية والعلمانية والقومية والماركسية. وظهرت الحركات السياسية الإسلامية وسط هذه الأزمات. وقد ظهرت أزمة شرعية في الدول القومية الحديثة نتيجة عدم التحامها مع الجماهير، فتوجهت الجماهير نحو أيدولوجيات مختلفة.

لقد كتب الكثير حول الأسس السياسية والاجتماعية للحركات السياسية الإسلامية. ومن الطبيعي أن هذه الحركات لم تعرض شكلاً واحداً في جميع الدول الإسلامية. وعادة ما يتناسى المحللون الغربيون هذه الفروق ويهملونها. فقد حللوا جميعها في إطار نظريات الأزمات. إن هذه الحركات ظهرت (167-166-165) بعد ظهور الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلدان الإسلامية. لذا عدت أن هذه الحركات تقدم البديل لأزمة الشرعية في الدول القومية الحديثة وكجواب لها. لذا فإن التحليل الغربي لهذه الحركات وقيامه بإرجاع أسباب ظهورها إلى نظريات الأزمات صحيح نوعاً ما. إلا أننا يجب ألا نغفل أن الإسلام السياسي أو الإسلامية التي ظهرت في مصر وفي إيران وفي الهند وفي تركيا، قدمت بدائل مختلفة وأشكالاً سياسية مختلفة. وإن اشتركت في الأصول الإسلامية إلا أنها اختلفت في تنظيماتها حسب تجاربها وأسسها الثقافية المحلية. والقاسم المشترك بينها هو إيمانها بالإسلام كدين وكنظام أيدولوجي وسياسي. لأن أصحابها لم يتخرجوا من المدارس الدينية التقليدية التي تخرج العلماء التقليديين، بل من المدارس والجامعات الحديثة. وتأثروا هناك بالحركات والتيارات الفكرية والسياسية، فقاموا بتقديم الإسلام كأيدلوجية بديلة في هذا الصراع الفكري والأيدولوجي القائم.

وأصحاب هذه الحركات الإسلامية السياسية يرون أن المجتمعات الإسلامية والنظم السياسية فيها قد تفسخت نتيجة غزو المفاهيم والقيم الغربية لها. لذا كان على هذه المجتمعات وعلى نظمها السياسية الرجوع إلى الإسلام. وعند تناولهم المفهوم السياسي الإسلامي، قاموا بإنشاء نظام في محتوى قريب من المحتوى الاجتماعي الغربي، ونظروا إلى الإسلام من زاوية المدينة وما تنتجه من المشاكل، ومن زاوية المشاكل السياسية المعاصرة. ورأوا أن المفهوم الإسلامي في الريف أو المفهوم الإسلام التقليدي، غافل عن مفاهيم العصر الحديث. كانوا يرغبون قبل كل شيء في إنشاء مجتمع يملك حساسية واهتماماً سياسياً. ولما كانت المدينة مركزاً للسياسة والاقتصاد ولطراز الحياة الحديثة فقد نظروا إلى الإسلام من هذه الزاوية العقلانية للمدن. كان هناك صراع سياسي واقتصادي وفكري وأيدولوجي في المدن. قرأ أصحاب هذه الحركات الإسلام من جديد على ضوء هذه المشاكل والصراعات، وقدموا أنموذجاً إسلامياً للسياسة والاقتصاد حسب اجتهادهم. فالإسلام في نظرهم نظام سياسي وأيدولوجي أكثر من كونه منظومة قيم قلبية وروحية وأخروية. كان على الإسلام –في نظرهم– أن يقول شيئاً في حق جميع القيم التي أتت بها المدن الكبيرة المعاصرة، كقيم الاستهلاك والنوادي والمقاهي والسينما والموسيقى..الخ. ولم يكن هذا هو الإسلام التقليدي الذي ألفته الجماهير الإسلامية. كان هؤلاء يرغبون أن يقوم الإسلام بالتأثير في جميع الساحات سواء أكانت فردية أم جماعية، علمية كانت أم اجتماعية. كانوا يريدون منه مقاومة الاستعمار في فلسطين ولبنان والجزائر وتونس. وأن يقوم إضافة إلى هذا بحل المشاكل الاقتصادية في مصر والهند. وأن يحل مشاكل الحداثة في تركيا وإيران. وأن يكون له رأي في جميع الأفكار والمبادئ، كالماركسية والليبرالية والقومية..الخ. كما رأوا أن الإسلام أيدولوجية تستطيع تحريك الجماهير الواسعة وتعبئتها.

إن تم النظر إلى هذه الحركات من زاوية الإسلام التقليدي، نجد وجود خلاف بينها، وبعض النقاط السلبية وما فيها من ضعف. مع أنها لم تنفصل (169-168-167) عن الإسلام وعن قيمه. ولم يحدث هذا التحول السلبي في هذه الحركات السياسية الإسلامية، بل في جميع العلاقات الإنسانية وفي النظم السياسية والاجتماعية وفي جميع المشاكل التي أفرزتها المدن، كطبيعة الاستهلاك وعلاقاته. فقد تحولت السياسة والدولة والقوانين والعلم، وأصبحت أجنبية وغريبة عن هويتها السابقة.

مع أن هذه الحركات أشارت إلى العديد من المفاهيم العائدة للدولة، إلا أنها لم تنتج أيدولوجية معينة للدولة. فكما قال المفكر التركي “علي بولاج”: “إن ذهنية المسلم من ناحية علم الكلام، لا ترى في الدولة هدفاً. لذا فهي لا تجعلها شيئاً مقدساً، فهي في نظرها واسطة وأداة. لذا فإن نظرة “هيجل” إلى الدولة باعتبارها هدف التاريخ وتحقيقاً للإرادة الإلهية نظرة بعيدة عن ذهن المسلم”.([21]) من ثم فإن أقصى ما تطمح إليه هذه الحركات هو تحولها إلى أيدولوجية جماهيرية.. أيدولوجية معاصرة تعبئ المسلمين وتشركهم في جو الديمقراطية. علماً بأن عوامل التغيير الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية كانت في يد المدينة المعاصرة التي تبنت القيم الغربية. فالأيدولوجيات الحديثة سعت إلى النفوذ إلى جميع الساحات التي كانت الأديان الكبرى تشغلها. وهكذا واجهت المجتمعات الإسلامية تغييرات جذرية. حتى يمكن أن يقال أن البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي اكتسبتها هذه المجتمعات طوال عصور عديدة، بدأت تتفتت في القرن التاسع عشر تحت تأثير الاستعمار الأوروبي وحركة التقليد الغربي (أي حركة الاستغراب). وراح الإسلام يتحول في ذهن المثقفين من دين إلى مجرد نظرة دنيوية. حيث تأثر المثقف المسلم في تلك الآونة من الحركات القومية ومال إليها، وبدأ ينظر إلى الإسلام في قالب قومي أو وطني.  ووأصبح يتفحص مدى انطباقه (الإسلام) واستجابته لضرورات الحياة الاجتماعية والسياسية، بنظرة عقلانية (Rational). حيث كانت المشروعية الدينية منذ القدم، تعبّر عن نفسها باستنادها إلى الوحي الإلهي وضمن حب روحي. إضافة إلى ذلك، فقد أدت الأيدولوجية الإسلامية إلى فقدان الإيمان بالآخرة، وإلى تحول الإسلام إلى عرض دنيوي بحت. ([22])

أراد أصحاب هذه الحركات الإسلامية السياسية تحويل الإسلام إلى أيدولوجية قائمة على ردود الفعل. وعند قيامهم بهذا، رفضوا الاستناد إلى التقاليد التي تشكلت خلال 14 قرناً (الحركة السلفية). لأنهم اعتقدوا بأن الإسلام التقليدي اكتسب هوية وبنية القرون الوسطى الجامدة. وأن من الصعب على هذه البنية حل المشاكل التي أتى بها القرن التاسع عشر حلاً سليماً ومنظماً. كانت الإسلامية تؤكد على الأصول الإسلامية (الكتاب والسنة) وعلى العهد الأول للإسلام. فادعت بأن الإسلام لم يضع إلا قواعد عامة. وكان هذا ادعاءً جديداً في تاريخ الفكر الإسلامي. لأن الإسلام جاء في مواضيع كثيرة وقدم تفاصيل عديدة. فلهذا لم يتجه أصحابها إلى القيم الفقهية التي نُفّذت منذ عصور عديدة، بل إلى الأصول الإسلامية (الكتاب والسنة) التي اعتقدوا بأنها اكتفت بوضع أسس عامة. وتم تفسير هذه الأصول من جديد، حيث جعلوها تُقدِّم العقل الإنساني وجهوده على كل شيء. وأرادوا بذلك تبديل المفاهيم؛ كالتوكل والطاعة والرضا بالقدر… التي حبّذها الإسلام التقليدي، إلى تمجيد العقل الإنساني وإلى إبراز النصوص التي تدعوا إلى إجراء العمليات. وبينما جعل الإسلام التقليدي الله (172-171-170) هو محور الحوادث والوقائع، جعل هؤلاء الإنسانَ محور هذه الحوادث. كان هذا انحرافاً في المحور ورداً للثقافة الإسلامية التقليدية التي تراكمت على مر العصور، أو على الأقل إهمالاً لها. والخلاصة، إن هذه الحركات السياسية الإسلامية –لكونها نشأت في مجتمعات حديثة– قطعت علاقاتها مع فكر العلماء التقليديين ومع جو مجتمعاتهم. وقامت بقراءة سياسية واجتماعية جديدة للقرآن الكريم للبرهنة تجاه الغرب بأن الإسلام قادر على إنتاج قوالب حديثة.

وقد أدت محاولات تجديد الإسلام سياسياً إلى ظهور قيم جديدة، مثل قابلية الإسلام على التطور وعلى الحداثة. ومع ذلك فلم يفقد المسلمون تمسكهم بمصادر ثقافتهم، مع أنهم تعرضوا لرياح التغيير الغربي.

ذكرنا بأن الإسلام السياسي انفصل عن الفكر الإسلامي التقليدي بشكل كبير. ولكن على الرغم من هذا الانحراف فلم ينفصل عنه تماماً. ويمكن القول بأن الجانب المتميز عند أصحاب هذه الحركات السياسية، هو رغبتهم بعرض الإسلام كأيدولوجية وليس بعرضه كدين.

هـ– ظهور الإسلام السياسي وأشكاله المختلفة

عندما ندقق الأسباب التي أدت إلى ظهور الإسلام السياسي، نرى أن فكر التنوير في القرن الثامن عشر، قدم العقل الإنساني وأعطاه المنزلة الأولى. فأصبح هذا العقل يعطي تفسيراً شكلياً لكل شيء. وسادت القناعة بأن العقل والعلم سيكشفان كل مجهول في هذا الكون. وسيحل العلم محل الدين في المجتمعات. وحسب هذه النظرة فإن الدين ولد بسبب المجاهيل التي كان الإنسان يخشى منها. وهو ولد في عصر ما قبل العلم. وكلما قام العلم بالكشف عن هذه المجاهيل ابتعدت الإنسانية عن الدين، ولم تعد تحس بالحاجة إليه. هكذا كانت نظرة الفلسفة الوضعية (Pozitivisim). ثم قامت الثورة الصناعية بتأكيد دور العقل، كما أثرت على جميع العلاقات الاجتماعية والسياسية. ووصل هذا التأثير إلى ساحة الدين والعقيدة أيضاً. ثم قامت أوروبا بحركة استعمارية لدول العالم الثالث مستعينة بتقدمها التكنولوجي. وقد أدت مواجهة العالم الإسلامي للثقافة الغربية إلى إحداث تأثيرات عميقة وواسعة وطويلة المدى. وقد أظهرت هذه المواجهة مدى التفوق الأوروبي. وبدأ العالم الإسلامي يبحث عن الخلفيات الفكرية والسياسية لهذا التفوق.

لقد كانت هناك دون شك خلفية فلسفية واسعة وشاملة وراء التفوق الغربي. لذا كان من الطبيعي أن من أراد اقتباس العلم الغربي أن يواجه هذه الفلسفة. كانت هذه الفلسفة –بشكل عام– تستند إلى المادية (Materialism)، والوضعية (Pozitivisim)، والعقلانية (Rationalism). وكانت هذه المواجهة تعني تغييراً أساسياً في النظم الثقافية. مثل استعمال التكنولوجيا والمطبعة والتجهيزات العسكرية والقيافة وأساليب السياسة وطرز تشكيل الجماعات الدينية والاجتماعية.

انقسم موقف المسلمين نحو الغرب بعد الانتصار الساحق الذي حققه الغربي في القرن (175-174-173-172) الثامن عشر والتاسع عشر، في جميع المجالات الفكرية والسياسية والتكنولوجية، إلى فريقين: فريق يرى الاكتفاء بأخذ العناصر التكنولوجية والعلمية التي كانت وراء هذا التفوق الغربي مع التمسك بالإسلام. وفريق يرى أخذ الحضارة الغربية ككل متكامل وبجميع عناصرها. كان هذا هو الجو الفكري النشط في العالم الإسلامي، ولا سيما في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك القرن نرى أن الفكر الإسلامي يحاول الإجابة على المشاكل وعلى التجديدات التي طرحها الغرب، ويحاول التكيف مع هذه التطورات. وجلبت التطورات الأولى معها محاولات التجديد. كما أظهر المجتمع المسلم العثماني ردود فعل ضد التدخل الأوروبي في شؤونه. فقد جابهت التنظيمات وفرمانات الإصلاح ردود فعل لكونها ذات طراز أوروبي. وعندما جلب شعار “المساواة”، المساواة بين المسلم وغير المسلم، خشي المجتمع العثماني أن ينقلب هذا ضد مصالح المسلمين.

أدى دخول الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي -وهو التهديد الأول- إلى تشويش وإساءة فكري فيه. إلا أنه تيسر بواسطة الاستقرار السياسي، التخلص من هذا التشوش الفكري في مدة قصيرة. ثم جاء التهديد الثاني في أوائل القرن الثالث عشر بالغزو المغولي. وأدى هذا الغزو إلى هدم طابع وحدة العالم الإسلامي، وإلى هدم وتخريب بغداد، حيث كانت حاضرة العالم الإسلامي آنذاك. ولكن العالم الإسلامي استطاع على الرغم من هذا التخريب الواسع حل خلافاته الفكرية، ووسع مؤسساته واستمر في إنشاء حضارته، متغلباً على آثار هذا التخريب. ولم يدم التخريب المغولي طويلاً، بل ذاب في الحضارة الإسلامية وفي ثقافتها. وربما أدى هذا التخريب فيما بعد إلى استقرار سياسي طويل المدى في العالم الإسلامي.([23])

ولكن عندما جاء القرن التاسع عشر لم يكن الوضع هكذا. لأن الحضارة الأوروبية كانت قد سجلت انتصاراً كاسحاً من الناحية الفكرية والسياسية، ومن الناحية العسكرية والتكنولوجية. وكان العالم الإسلامي في مواجهة تحدي لم يسبق مثيل له طوال تاريخه. كان هذا التفوق الفكري والتكنولوجي الغربي يستند إلى الفلسفة الوضعية التي طردت الدين وأبعدته عن الحياة. وبدأ الغرب -بما يملك من قوة وثقة- بالاتجاه لاحتلال دول العالم الثالث واستعماره، مذيباً جميع ثقافات وأديان العالم في بوتقة القيم الوضعية، ومنظماً الحركات الفكرية التي تربط العالم بقيم الغرب. وتأتي حركة الاستشراق على رأس هذه الحركات. ولم يجابه المستعمرون الغربيون في أي مكان في العالم الثالث مقاومته كالتي أبداها العالم الإسلامي ضد هذه المحاولات. فقد حطموا كل مقاومة ضد آمالهم الاستعمارية. ولكي يحطموا المقاومة في عالم الإسلام أيضاً فقد توجهوا إلى نظم فكره وعقيدته وتقاليده. وبدأوا بوضع الإسلام على المشرحة ودراسته، بدءً من تاريخ الإسلام إلى الفقه وعلم الحديث والتفسير..الخ، دراسة متأنية وعلى المدى البعيد.

وأدت حركة احتلال العالم الإسلامي خطوة خطوة إلى تقاطر ممثلي الدول الإسلامية إلى العاصمة العثمانية، طالبين العون منها ضد هذه الفعاليات الاستعمارية. مما أدى إلى ظهور فكرة الاتحاد الإسلامي في إسطنبول. ولكنها لم تكن كافية لظهورها (أي ظهور فكرة الاتحاد الإسلامي) كأيدولوجية جماهيرية. كانت هناك حاجة إلى ظهور طبقة مثقفة وصحافة جديدة. وفعلاً انتشرت هذه الفكرة بواسطة هذه (177-176-175) الطبقة وهذه الصحافة. وبدأت الجماهير تقرأ بفضول كبير عن بلدان ودول إسلامية لم تكن قد سمعت بها من قبل.([24]) في هذا التاريخ بدأ فكر “اتحاد الإسلام والمسلمين” بالانتشار من مركزه في إسطنبول إلى المدن الأخرى. والجو الذي صدرت فيه فرمانات التنظيمات والإصلاحات، أدى إلى تمسك الجماهير وطبقة المثقفين بالإسلام بقوة أكثر، وبفهم أعمق. لأن تأثير الفرمانات على المسلمين العثمانيين كان عميقاً، حيث وجه ضربة كبيرة إلى حقوقهم الشرعية التي كانوا يتمتعون بها منذ قرون عدة، والتي جعلتهم ملتحمين مع الدولة. لقد كانوا هم العناصر الرئيسية الذين أخلصوا للدولة وسفكوا دماءهم في سبيل الحفاظ على كيانها. كما كانت هذه الفرمانات تعطي بعض الامتيازات للرعايا غير المسلمين، وذلك نتيجة ضغوط قامت بها الدولة الغربية الاستعمارية.

ونتيجة للهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي ومحاولة تمزيقه، تمسك مثقفو عهد التنظيمات بالإسلام، وبدأوا بقراءته من جديد للأجابة على المشاكل الجديدة المثارة. وكانوا يرون أن هذا الأسلوب الجديد في قراءة الإسلام، سيؤمّن وحدة العالم الإسلامي من جهة، ويساعد على بعث جديد لعناصر الحضارة الإسلامية في مواجهة تفوق الحضارة الغربية من جهة أخرى.([25])

هذه هي باختصار الأسباب الاجتماعية التي حولت الإسلام في أذهان المثقفين المسلمين في عهد التنظيمات، من دين إلى أيدولوجية جماهيرية. بينما كان مفهوم الإسلام في المجتمع ينحصر في مجتمع ضيق وفي علاقات اجتماعية ضيقة، وفي عالم ضيق يحبس الإنسان مع محيطه ومع عالمه الآخر. بينما كان فكر اتحاد الإسلام لمثقفي عهد التنظيمات، والأخبار المتعلقة بالعالم الإسلامي التي كانوا يجمعونها وينشرونها، يخدم نظرة اجتماعية وثقافية أوسع للفكر الإسلامي. وحاولوا إيجاد قوالب أيدولوجية يستطيعون بها تأمين الوحدة السياسية والثقافية للمسلمين. سعوا إلى العثور أو إلى تكوين أساس اجتماعي للمطالب الديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى إلى تأمين استمرار الدولة العثمانية، والحيلولة دون سقوطها بوضع مفهوم جديد للـ”ملة” أو لـ”الأمة”، مستند إلى الشعور القومي والوطني، على أن تكون هويته هوية “الدين الإسلامي المبين”. أي سيقوم الإسلام بمدّهم أيدولوجياً. أي حاولوا إلباس الإسلام لباس القومية ضمن القوالب التي استوردوها للإسلام من الغرب.

توجد هنا ناحية مهمة كثيراً ما يهملها المحللون الغربيون. وهي إهمالهم لدور مثقفي عهد التنظيمات في تطوير الحركة السياسية الإسلامية. بينما كانت هذه الحركة موجودة في أذهان هؤلاء المثقفين بشكل ثقافي وأيدولوجي قبل جمال الدين الأفغاني. ونحب أن ننوه إلى أن فهم الإسلام السياسي لدى المثقف العثماني، يختلف عن فهم العربي والهندي بشكل بارز. ففي المنطقة العربية والهندية تأسست الحركات الإسلامية على أساس (180-179-178-177) فكرة “الجهاد”، والتعبئة ضد الاستعمار كرد فعل للأاستعمار الغربي الدولي. بينما كانت هذه الحركات عند المثقفين العثمانيين متوجهة إلى استيعاب الحركة التقدمية في أوروبا وإلى القيم العصرية، وتفسير الإسلام ضمن هذا الإطار. بينما كانت الحركات الإسلامية الأخرى، ترد جميع القيم العصرية وتدعو للرجوع إلى العهد الإسلامي الأول، والتي وجدت رموزها في الحركة السلفية وفي قيمها، وذلك كرد فعل ضد الغرب وقيمه.

الحركة السياسية الإسلامية التي أنتجها المثقفون العثمانيون، لم تكن ككل حركة رد فعل، ولم تكن تشترط الانفصال عن المعاصرة تماماً. ولعل السبب في هذا يعود إلى أن مركز الدولة العثمانية (أي تركيا الحالية)، كان البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي لم يتعرض للاحتلال. أي أن المثقف العثماني كان يتقبل تفوق الغربي في ساحة العلم والتكنولوجيا. ولكنه لم يكن من الناحية النفسية يتعامل مع الغربي ولا ينظر إليه كمحتل لبلده.. أما الذين وضعوا ردود الفعل في مركز هذه الحركات السياسية الإسلامية فهم، “المودودي” و”سيد قطلب” والمثقفون من بعدهما. لأن حركة “الأفغاني” و”محمد عبده” (وهي حركة سلفية)، لم تكن تدعو إلى الانفصال التام عن الغرب. بل إلى إنشاء التقاليد الإسلامية ضمن منظومة القيم المعاصرة من جديد.

أجل، كانت هذه الحركات حركات نهضة وإصلاح. ولكن طرقها ومسارها كانت تختلف في أولوياتها عن حركات النهضة الغربية التي كانت ترى إقصاء الدين تماماً والتوجه إلى الوضعية. بينما كانت هذه الحركات الإسلامية تتوجه إلى الدين، وكانت ترى أن سبب الانحطاط في العالم الإسلامي يعود إلى النظم الديكتاتورية وإلى عدم فهم الدين. ثم إن التقدم الغربي كان محصوراً في عالم المادة والتكنولوجيا، أما نظم عالم الروح والمعنويات والأخلاق فيه فكانت متدهورة جداً. بينما كان التقدم الإسلامي يرى وجوب التقدم في كلا العالمين، عالم المادة وعالم الروح. ولهذا السبب كان من الضروري قراءة التقاليد الإسلامية (سواء في الساحة الاجتماعية أو المادية) في ظل إطار عقلي معاصر جديد. واستندت هذه الفعاليات العقلية إلى أساس عدم وجود أي صراع أو تناقض بين الإسلام والعلم، وبين القيم الديمقراطية الغربية والإسلام. وامتدت النقاشات إلى الساحات الإدارية والسياسية، حتى بدأوا بنقاش الأسس النظرية للخلافة العثمانية. وهكذا بدأ ظهور مخطط يهدف تحقيق أيدولوجية وحدة إسلامية مستقلة وعقلانية.

ويجب ألا يغرب عن البال، بأن هذه النقاشات التي كانت الحركات الإسلامية السياسية تجريها، إنما كانت تجري في ظل وجود سياسة استعمارية غربية للعالم الإسلامي. لأنها (أي الحركات الإسلامية السياسية) كانت تفكر في الهوية الإسلامية وعزتها المتجهة نحو الزوال. وكانت ترى أن الهوية السياسية التقليدية التي تكونت خلال عصور عديدة، لم تعد تصلح للأجابة على المشاكل العصرية.

تقوم الحركات السياسية الإسلامية الحالية، بالتوكيد على الهوية وعلى الثقافة الإسلامية الذاتية وغير المنحازة. ولكن عندما تأتي إلى الأسس النظرية التي ستكون جسم الدولة القادمة، نجد اختلافاً كبيراً بين النماذج التي يقدمونها للدولة. ولكن من المهم التوكيد على أن أي نموذج من هذه ليس أنموذج الدولة الدينية الصرفة المتجانسة، التي تقوم بإزالة جميع الفروق الثقافية والاجتماعية، (182-181-180) كما يدعي المحللون الغربيون بإصرار.

ومع أن هذه الحركات التي يصمها الغربيون بـ”الأصولية” وبـ”الغلو الديني” لم تجد لها مناصرين على مقياس كبير في العالم الإسلامي وبقيت هامشية. إلا أن الغرب يحاول المبالغة في قوتها ودرجة نجاحها وانتشارها.

بعد مواجهة الغرب ظهر هناك اتجاهان في العالم الإسلامي؛ اتجاه يتبنى الديمقراطية المعاصرة الغربية بما يتلائم مع التقاليد الإسلامية، بشرط أن يلبس لباس الغرب المسيحي، ويعزل الإسلام عن كل صراع مع الغرب. أما الاتجاه الثاني، فهو الاتجاه الذي يرى أن التقاليد الإسلامية (في تركيا والبلدان العربية والهند..الخ) لا تتلائم ولا تتعايش مع الديمقراطية الليبرالية الغربية. ولا شك في وجود نظرات أخرى تتوسط هذين الاتجاهين. ولكن النقطة التي وصل إليها العالم الإسلامي اليوم، هي ضم الديمقراطية مع التقاليد الإسلامية، مع وجود اتجاهات أخرى ترى التوكيد على سن القوانين التجارية والجزائية والمدنية حسب الشريعة الإسلامية. ولا تريد هذه الاتجاهات طرد الديمقراطية وإنهاء صلتها بها، بل تريد ديمقراطية متلائمة مع روح الشرع الإسلامي.

ليس الإسلام –كما ادعت التحليلات السطحية– واسطة سياسية في يد الجماهير الغفيرة. إذ يجب ألا ننسى أن قسماً كبيراً من الجماهير يسعى بالاستعانة بالإسلام إلى التخلص من السياسيين الملوثين، الذين فقدوا شرعيتهم وأهليتهم في ممارسة السياسة، والتحول إلى إقامة النظام السياسي على أساس مشروع.

وعلى أي حال فإن جميع أشكال الحركات السياسية الإسلامية عبارة عن أيدولوجية، وتنحصر محاولاتها وإن كانت بنسب مختلفة، في الساحة السياسية. لذا فهي لا تمثل بأي شكل من الأشكال الإسلام كدين. وهناك في العالم الإسلامي من يصف تحويل الدين إلى أداة سياسية بالانحراف.

كانت ظاهرة “الجماعة” أحدى هذه المفاهيم وكانت هناك مفاهيم أخرى

 

 

186-187-188

الأصولية في العالم الإسلامي

نرجو ألا يُفهم من هذا العنوان أننا سنتناول الحركات الدينية الحديثة التي ظهرت في العالم الإسلامي. لأنه خارج موضوع هذا الكتاب. ولكن العديد من الباحثين، والمختصون بالشرق الأوسط، والمستشرقون والمحللون السياسيون لما يحدث في العالم الأسلامي، اعتادوا على تناول الثقافة الإسلامية والتقاليد الإسلامية من قالب نظرية الأزمات. لذلك قدموا هذه الحركات أو الجماعات وكأنها حركات انفصالية عن البنية السياسية والاجتماعية والمادية والمعنوية القائمة في البلدان الإسلامية. كما قدموها وكأنها ردود فعل ضد الحداثة، وتسعى إلى الرجوع إلى قوالب المجتمعات التقليدية التي كانت موجودة قبل الحداثة. وزعموا أن الحركات الدينية الراديكالية تتبنى مبادئ أصولية تهدف للرجوع إلى الحياة الإسلامية القديمة.

تستند الأيدولوجية الأصولية إلى تفسير انتقائي لمراحل التاريخ الإسلامي. وتتحدد مُثُلهم حسب المرحلة التاريخية الإسلامية التي يختارونها قدوة لهم. أي أن النشاطات الأصولية متوجهة لإحياء الماضي في سبيل تشكيل المستقبل، مستفيدة من جو التوتر الحالي. وتشمل المحاولة الأصولية الصراع بين القيم المحلية والثقافة الغربية.

من جهة أخرى، تحاول هذه الحركات الأصولية (باستخدام الوسائل الثقافية والاجتماعية للمجتمعات ما قبل الحداثة) إنشاء مجتمع سياسي حديث. فهي ترى أن النظم الحاكمة اليوم فقدت مشروعيتها في الداخل وتبنت القيم الغربية والأساليب القمعية. وبما أنها حكومات غير مشروعة، فيجب معارضتها والقيام ببناء هذه الحكومات حسب النصوص الإسلامية من جديد، والصراع من أجلها. لذا فهؤلاء المحللون الغربيون يرون بأن الحركات الدينية في العالم الإسلامي عبارة عن صورة للإسلام الكلاسيكي. هذه هي باختصار تحليلات علماء الاجتماع الغربيين للحركات في العالم الإسلامي.

تحمل هذه التحليلات في خطوطها العريضة خشية المستشرقين الكلاسيكيين وهواجسهم. وهم يرون أن أعداءهم في العالم الإسلامي، هي الحركات السلفية التي تنتج الأيدولوجية الإسلامية. لأن أصحاب هذه الحركات كانوا معاصرين لعهد الاحتلال العالمي وللمستشرقين الذين مهدوا لهذا الاحتلال من الناحية الفكرية والثقافية. وهذه الحركات السلفية السياسية التي ظهرت في العالم الإسلامي لمقاومة الاستعمار الغربي، نشأت مع الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، وكانت جنباً بجنب معها. بينما لم تكن هذه الحركات -كما صورها المحللون الغربيون- موجهة ضد الحداثة مباشرة. إضافة إلى ذلك، فإن التحاليل الغربية، وصفت -وعن قصد- اتخاذ الحركات في العالم الإسلامي العصورَ الإسلامية الأولى مثالاً وقدوةً لها، بالأصولية. وهذا غير صحيح من جهة، وانحراف عن محور الموضوع من جهة أخرى.

188-189

أوَليس شعور المسلمين بالحنين إلى العودة إلى الحياة الإسلامية أمر طبيعي طالما أن الإسلام كدين، له تأثير كبير من الناحية الفردية والاجتماعية على جميع المؤمنين؟ هذا في الوقت الذي يقوم الغربيون بإرجاع جذور عهد نهضتهم من الناحية الثقافية والسياسية إلى العصر اليوناني القديم، ولا يرون في هذا بأساً، ولا يصفونه بأنه “أصولية”، ولا يتهمهم أحد بأنهم ضد الحداثة!. ولا شك أن العصور الأولى للتاريخ الإسلامي، ليست مجرد أهداف سياسة فحسب، بل لها معان وأبعاد أخرى. فلا شك أن العهد الذي عاش فيه نبي الإسلام، هو أطهر العهود الإسلامية التي طبق فيها الإسلام بكل صفاء وبأفضل وجه في نظر الأمة الإسلامية. فهو العهد الذي تشكلت فيه الهوية الإٍسلامية بكل نقائها، دون وقوع أي انحراف عقائدي أو ثقافي أو تاريخي أو أيدولوجي. لذا فإن اتهام هذا العهد بالأصولية أو بأي شعار سياسي آخر، ومحاولة تلويثه بأي مزاعم، عُدّ إهانة للمسلمين.

والجدير بالذكر أنه يمكن على أي حركة في هذه الدنيا، أن تضع هذه العهود التاريخية الإسلامية ضمن شعاراتها السياسية. ويمكن تحويل هذا العهد الأول للإسلام، إلى مشروع سياسي عملي من أجل أهداف أيدولوجية سياسية. فهذا هو ما نشاهده عند بعض الحركات الإسلامية الكلاسيكية. غير أننا نود هنا أن ننبه إلى أن هناك فرقاً بين تقديم هذا العهد كمشروع وكخطة سياسية وبين تقديمه كمُثل أعلى من الناحية الاجتماعية والثقافية. يجب أولاً وعي هذا الفرق. والمحللون الغربيون لا يريدون أن يضعوا هذا الفرق موضع النتفيذ. لذا نراهم يتناولون جميع الحركات في العالم الإسلامي، وكأنها حركات متماثلة تحمل نفس المشاريع ونفس الخطط ونفس المُثل. ولا يأخذون بنظر الاعتبار الأسس الاجتماعية والثقافية المختلفة التي أدت إلى نشوء هذه الحركات، ولا حساسية هذه الحركات غير المتشابهة، ولا حاجاتها الاجتماعية وأهدافها. ولا شك أن هناك محللين جدداً راحوا يأخذون هذه الاختلافات بنظر الاعتبار، وهم في الوقت نفسه ينتقدون علم الاجتماع الكلاسيكي الذي يسند هذه الحركات إلى الأزمات الاجتماعية.

([1]) Lilla Mark, İlkesiz Deha, Gelenek yay. 2004

([2]) انظر إلى: Secularism، ص: 41-42

([3]) Sekülerizm Sorgulanıyor, Yayına hazırlayan, Ali Köse, Ufuk yay., s. 77

([4]) Sekülerizm Sorgulanıyor, Yayına hazırlayan, Ali Köse, Ufuk yay.,  s. 79

([5]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 40; Kendi Dünyamıza Doğru, s. 157; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 193; Kur’andan İdrake Yansıyanlar, 2/307-313; Kalbin Zümrüt Tepeleri, 1/72; Fasıldan Fasıla, 4/109-111; İsmail Ünal, Amerika’da Bir Ay, s. 16, 164

([6]) M. F. Gülen, Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 16 (takdim); Kendi Dünyamıza Doğru, s. 55; Prizma, 3/158-160; Mehmet Gündem, M. F. Gülen’le 11 Gün, s. 193-195; Nevval Sevindi, M. F. Gülen’le, New York Sohbetleri, s.15.

([7]) M. F. Gülen, Kendi Dünyamıza Doğru, s. 185; Asrın Getirdiği Tereddütler, 4/164-167; Dar Bir Çerçevede Din ve Vicdan Hürrüyeti, Yeni Ümit, Nisan 2004; Fasıldan Fasıla, 2/50; İnancın Gölgesinde, 2/27.

([8])  المقصود ليست حركة أنتجتها ردود الأفعال ومنها رد الفعل ضد المستعمر. ولا يعني أن المؤلف لا يؤيد الحركات ضد الاستعمار، بل يريد بيان طبيعة هذه الحركة. لأن مثل هذه الحركة تكون قصيرة العمر وتزول بزوال الاحتلال. (المترجم)

([9]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 112-113, 131; Işığın göründüğü Ufuk, s. 216; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 138; Ölçü veya Yoldaki Işıklar, s. 101-102, 212; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 29, 181, 214-221; Gurbet Ufukları, 3/63, 68, 86; www.herkul.org, Anarşist Ruhlar ve Modern Karmatiler, 1. Aralık 2004; www.herkul.org, Hitap Çiçeği ya da Dil Zakkumu, 21. Aralık.2004

([10]) Cesari J, İslam’dan Korkmalı mı? s. 9

([11]) الفيلولوجيا: فقه اللغة التاريخي والمقارن، أي دراسة اللغة على الأخص بوصفها أداة التعبير في الأدب وحقلاً من حقول البحث يلقي ضوءاً على التاريخ الثقافي. (المترجم)

([12]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 15.

([13]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 16

([14]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 16

([15]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 18-19

([16]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 21

([17]) Pipes Daniel, Tanrı Adına, Yaprak yay., s. 25

([18])  الانتروبولوجيا (Anthropology) علم الإنسان: علم يبحث في اصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته. (قاموس المورد.

([19]) Roy O., Siyasal İslamın İflası, Metis yay., s. 29

([20]) يشير المؤلف إلى الآية ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾(الحشر: 7)، (المترجم)

([21])  İslamcılık, c. 6., İletişim Yay. 2004.

([22])  Mümtaz’er Türköne, İslamcılığın Doğuşu, s. 27-28.

([23]) Mümtaz’er Türköne, İslamcılığın Doğuşu,

([24]) Mümtaz’er Türköne,İslamcılığın Doğuşu, s. 50 vd.

([25]) Mümtaz’er Türköne, İslamcılığın Doğuşu, s. 50 vd.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.