لأدرنه منزلة متميزة وأهميّة خاصّة في حياة الأستاذ فتح الله، لا سيما مسجد الشرفات الثلاث، ففيه نسَج شَرْنقة حياته الروحيّة والدعويّة؛ ويتحدّث عن سبب عودته لأدرنه ومشاعره تُجاه مسجد الشرفات الثلاث، فيقول: “مما حملني على العودة لأردنه حبي الجمّ لمسجد الشرفات الثلاث الذي بناه “المعماري خير الدين”، لعلي أعمل فيه مرّة أخرى، فهو أحب إليّ من مسجد السليمية، ولعلَّ هذه الرابطة والولَه لأني عملت فيه من قبل، وضمّني إليه وآواني ثلاث سنوات، أو لأمورٍ لم أفهمها يومئذ، فمسجد الشرفات الثلاث مهد لطفرة رائعة في الهندسة المعمارية ولولاه لما كان مسجد السليمية أعظم مفاخر التاريخ التركيّ؛ ومصيره كمصير المهموم العملاق الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّوْرسي الذي مهّد لفتحٍ إسلاميّ عظيم في الأناضول؛ وبين هذا المسجد والسلطان العثماني مراد الثاني توحُّد وتكامل؛ فهذا هو ما حبَّب إليّ مسجد الشرفات الثلاث بلا تشوف مني ولا إرادة”.

ودّ لو أنه يعود إمامًا لمسجد الشرفات الثلاث، إلا أنّه عُيِّن معلِّمًا في مركز لتعليم القرآن الكريم؛ ولم يتوقف عن الوعظ؛ فنشرت الصحف خبر تعيينه، وادّعت أنّ تعيينه هذا ليس مناسباً؛ وكانت الصحف والمجلات قد تناولت محاكمته أثناء الخدمة العسكرية، فذاع أمره في تركيا كلّها، خاصَّةً أنَّ بعض التيارات راحت تتعقبه خطوةً خطوة.

وبينما كان يعاني من الملاحقة والتضييق الأمنيّ، كان يلقى مثل ذلك من مسؤولين في مركز تعليم القرآن فيه تخالف أفكارهم أفكاره واعترضوا على تعيينه؛ وانقشعت تلك الفترة العصيبة ببداية أخرى للأستاذ فتح الله: مرِض إمام “مسجد دار الحديث” فعُيِّنَ هو إمامًا مؤقتًا، واتخذ من ركن في المسجد مسكنًا له، وسرعان ما صيّره مدرسة لتعليم الطلبة، فغدا أول أرضٍ طيبة تنثر فيها بذور خدمة الطلبة؛ وبهذا الصّدد يلفت الأستاذ حسين طوب في مذكراته الأنظار، فيقول: “كانت وزارة الأوقاف تقتطع بعض راتب الإمام السابق لغيابه عن وظيفته، وتعطيه للأستاذ فتح الله الذي قام مقامه، لكنه لم يكن يتصرف فيه، بل كان يردّه بتمامه كلّ شهر للإمام السابق، ولما سُئل قال: أستاذي شيخ مريض، فهو أحوج إليه مني”.

في تلك الفترة عُيِّن صديقه الأستاذ الدكتور “سُعاد يِلْدِرِم” مفتيًا لأدرنه، فاستأجرا منزلًا، كانت دقته وحسّه المرهف في حياته هو هو، ففي مذكرات الأستاذ سعاد يِلْدِرِم ما يكشف عن هذا التميز بوضوح، يقول: “كلّ أحواله تنبئك أنه شخص متميز، منظّم، أنيق، يتحرى الحلال في مطعمه ومشربه، منزلُه غاية في النظافة والتنظيم، يهتمّ به اهتمامه بمنظره وملبسه؛ ولو قلتُ: لم أره في السروال فحسب طول ستة أشهر قضيناها معًا، لكفى في وصف شخصيّته الرائعة وعاداته الحسنة”.

واصل المواعظ ومدارسة الكتب رغم صرامة الرقابة حينئذ وتناوب الشرطة على المسجد. ورأى واحد ممن يحضر حلقة الدرس رؤيا ألهبت أشواقهم، رأى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها تشير إلى الخمسة المتحلِّقين في الدرس وتسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، هؤلاء يسألون: هل أنت عنهم راض؟” ، فقال صلى الله عليه وسلم: “نعم، أنا راضٍ عنهم عامَّة… وعن أحدهم خاصَّة… وعن أحدهم خاصّة”؛ وفعلَت هذه الرؤيا فيهم الأفاعيل؛ فاستمرت الدروس رغم كلّ محاولات القمع والمنع، وسرعان ما ناف عددهم على ثلاثين.

جاء العيد فقام الأستاذ فتح الله بطبع بطاقة تهنئة، عليها حديث شريف يحض على تمسك المسلمين بدينهم مهما بلغت المشقة والبلاء الذي يتعرضون له[1]؛، فوقعت جلَبة كبيرة، واقتحمت الشرطة المسجد، فاعتقلوه، وَسِيق إلى التحقيق مرّة أخرى، وكانت أسئلتهم مأساة ومهزلة، مثلًا: ما كل هذا الإخلاص في المواعظ؟! وما السبب في تحمل كل المشاق في سبيل الدين؟ وما الذي يبكيك وأنت تعظ؟ بل سألوه: لماذا تأمر النساء وأنت تعظهنّ يوم الثلاثاء بقولك: “انظرن أمامكنّ، ولا تنظرن إليّ”؟! كادوا له ليوقعوا به أثناء التحقيق، وشهد ضدّه محامٍ كان يصلي معه التروايح ودعاه غير مرّة إلى الإفطار عنده، لكنه أنكر أنه يعرف الأستاذ فتح الله، فطلب الأستاذ فتح الله الدفاع عن نفسه، وقال: “سأعقِّب على السيد المحامي، ثم قيِّموا الموقف بناءً على ذلك؛ هذا الرجل صلى معي التروايح سنوات، والمئات يشهدون، ودعاني أنا والأستاذ سليم آرِيجي للإفطار أكثر من مرة، وجلسنا في أماكن لا أحصيها وشربنا الشاي معًا؛ فإذا كان صلى التراويح خلف رجل، وأكل وشرب معه على مائدة واحدة، ثم يأتي ليقول: “لا أعرفه”، فيمكنكم أن تقيسوا باقي كلامه على هذا”؛ وكان لشهادة رِفعت بك في الدروس والمواعظ وقعٌ كبير، إذ كان من قبل ضالًّا، ومثارَ إزعاج للناس جميعًا، قال: “السادة القضاة أنتم أعلم بما كنت عليه، أيام كنت أصيح في “قلعه اِيتشي”، فيفزعون جميعًا، هكذا كنت، وأنا الآن كما ترون، تغيّر سلوكي بفضل هؤلاء، كنت أتردّد عليهم، فوجدت ضالّتي وعرفت الحق فاهتديت بعد الضلال”.

كان محافظ أدرنه يومئذ يفعل ما بوسعه لعرقلة حَراك الأستاذ فتح الله؛ ألغى له رخصة الوعظ، ومنعه من التدريس في مراكز تحفيظ القرآن، وهمّ بحبسه عشر سنوات، ووضعه تحت المراقبة الدائمة، فتحولت أدرنه إلى “كابوس” كما يقول الأستاذ فتح الله، لقد ضيقوا عليه الخناق، فذهب إلى أنقرة في 31 تموز/يوليو 1965م يلتمس النقل إلى محافظة أخرى، فنُقِل إلى محافظة “قِرْقْلَارْ أَلِي”.

لقِي ما لقي في أدرنه، ورغم ذلك كان يُعنَى بالناس فينفق راتبه كلّه عليهم بل وقتَه أيضًا؛ ليقيهم فتنة التنصل من التدين باسم المدنيّة.

وهذا مؤذن مسجد السليمية خمسة وثلاثين عامًا السيد “نادي أَرْصُوي” سكن مع الأستاذ فتح الله في أدرنه، فوصف شخصيته وحياته المتميزة في مذكراته قائلًا: “دقيق مرهف الحسّ، أظنني تعلمت النظام وكيّ الملابس منه. فملابسه نظيفة أنيقة، يعتني بمظهره بين الناس، ولا يلبس ما ليس بمكوي وما كان سيّئَ المنظر، عنده بنطال رماديّ، يغسله جيّدًا كلّ يومين لعله تقذّر وهو ماشٍ في الشارع أو أثناء قضاء الحاجة مع أنّه يشمِّر عن ساقيه عند قضاء الحاجة؛ لا يملك مكواة، فيضع البنطال تحت فراشه ليغدو كأنّه مكويّ – وأنا أعجب لهذا الحال وأحزن – فإذا لبسه بدا أنّه كذلك فعلًا، ويظلّ كذلك، ولا أدري أكان ذلك من جودته أم من نوع قماشه؟ كنت أراه دائمًا منظمًا، أنيقًا، نظيفًا؛ وكأنّي تطبعت بمثل طبعه في حياته المنظمة ومظهره الحسن”. فهذا يكشف عن أن دقته وحسّه المرهف في أيام دراسته ما زالا على حالهما رغم ما هو فيه، ويُظهر شمائل صارت له خلقًا من: نظافة، ونظام، ودقة، وأناقة.

ويقول السيد نادي أرصوي: “منه تعلمت الأدب”، ويكشف في مذكراته عن أدب الأستاذ فتح الله وحسه المرهف واحترامه للصغار ولأترابه ناهيك عن الكبير، يقول: “سكنّا في منزل من غرفتين، إحداهما للدراسة والأخرى للنوم، فكنّا ننام معًا، في الغرفة سرير معدني، تركته له وفرشت على الأرض؛ فلما تأخّر عن النوم قلت له: أستاذي أتدري كم الساعة الآن؟ حان وقت النوم، نم أنت على السرير وأنا أنام على الأرض، فأبى إلا النوم على الأرض؛ فلما تدثّر باللحاف، كنت جالسًا على طرف السرير، فأرق وتقلب يمينًا ويسارًا، فنظرت فإذا وجهه أحمر وعروق جبهته تكاد تنفجر، ففهمت الأمر، فهو يستحيي أن ينام وأنا في الغرفة، فقلت: لحظة من فضلك أستاذي، تفضل، نم على السرير، وأخذت الفراش واللحاف إلى الغرفة الأخرى وتركته وحده، وقلت: إن شاء الله سينام ويستريح”.

ولما نزل في قِرْقْلَارْ أَلِي استأجر منزلًا، واقترض ليفرشه بسجادتين، فهما كلّ ما يملك، وكان يدفع أجرته وأجرة منازل في أدرنه؛ فعلاوةً على وظيفته كان يتردد على أدرنه عدة مرات كل أسبوع، ليتفقد طلابه فيها؛ ولم تكن تحقيقات أدرنه قد انتهت، فلم يرعوِ الحاقدون عن ملاحقته والتربص به، فاستهدفته الصحافة المحليّة بمقالاتها، وحُقِّق معه في خطبة جمعة ألقاها في قِرْقْلَارْ أَلِي، فلم يثبت ما يُدينه، وسرعان ما أخذ البراءة؛ ورغم كلّ ما كان لم تخبُ جَذوة فعالياته ونشاطه؛ يقول: “نظّمنا أنشطة عدّة، ففي منزلنا الصغير الذي يشبه عش البلبل كنا نتدارس كل ليلة، ويأتينا الناس من كل الجماعات، فكان بيننا تآلف وتناغم طيب”؛ وعقب مؤتمر دعا إليه الشاعرَ التركي المشهور نجيب فاضل وجد فرصة للتحدث إليه طويلًا، فأظهر نجيب فاضل اهتمامًا بالغًا به، وكتب بعدئذ عدة مقالات يقرِّظ فيها رسائل النور.

[1]  عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا فَقَالَ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. (رواه البخاري)

فهرس الكتاب