في أزمنة الردة تتحول سيرة العالِم إلى “فتوى-إِطار” في تفاصيلها وكلياتها، إذ كل مسلك منه يصير موضوع تلقي واقتداء الأتباع، ذلك لأن تصديه للنكوص يغدو بالنسبة إليه فرض عين للاعتبار الأدبي الذي يجسده، بكونه من ورثة النبوة
النورسي حين أيقن بوقوع الردة على مستوى قيادة بلاده، سارع إلى الاعتراض بما رآه لازما وعاجلا من المواقف والأحكام، فطلق النظام عملا بقوله تعالى ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (الْمُجَادِلَة:22)، ثم كف نفسه وجمّد دائرة تعاملاته بالانعزال، وتجنّب كل ما من شأنه أن يتسبب في دعم الوضع الارتدادي الجديد.. فانعزاله عن الحياة سبق حال الحجر التي فرضت عليه لاحقًا.. ثم تصدى في سيرة الانقطاع التي عاشها يرسم خطة التحصين، فكان أن ألهمه الله الكتابة والتدبر في كوامن القرآن، الأمر الذي نتج عنه ظهور رسائل النور، وهي في بعض جوانبها مستحضر لحمية ترياقية ذات نجاعة باهرة في الوقاية من أدواء الروح والقلب والتحطم النفسي وفقدان المناعة الايمانية.
كان مرتكز الفتوى والاجتهاد عند النورسي هو الثبات عند عتبة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.. إذ إن التجريف كان يستهدف استئصال روحية التوحيد تفريغا للنفوس من محمول الإيمان فيها، تمهيدا لملئها بالريح العقيم.. وسارت تجربة الرسائل على هدى الدعوة المحمدية، بسيطة، محدودة الأتباع والقراء، ثم مع الزمن استطاع الطلائع الصادقون من التلاميذ والأتباع أن يوسعوا نشرها في الآفاق، الأمر الذي هيأ تيارا مضادا لواقع الحال التغريبية التي كانت السياسة دائبة على تعزيزها بشتّى الاتجاهات والمستويات.
سد النورسي باب الاجتهاد مخافة أن تغدو الفتوى أداة يسخرها الأذيال خَدَمَةُ النظامِ، فيضللوا بها المؤمنين، ويسوغوا لهم الاغتراب الذي كانت أمواجه العاتية تزحف عليهم من بين أيديهم ومن خلفهم.
رغم سد باب الاجتهاد ظل النورسي يقظا، يُفَعِّلُ الأحوال والتقلبات بما يراه يناسب كل ظرف طارئ وكل تحول مستجد، فقراءاته التي طفق يفسر بها القرآن وتعليماته للأتباع والمتعاطفين والتزاماته التي قررها لنفسه ولخاصته، شكّلت جميعها مدونة فقهية سلوكية سماها “الفقه الأكبر”، مانعت بكل استماتة وجابهت المد التغريبي.. وإن مميزات تلك السياسة الانضباطية التي تعهد بها النورسي نفسه وألزم بها صحبه وسائر الأتباع يومئذ، لهي من صميم الفقه، فقه الاعتراض والمواجهة.. إذ النازلة لم تكن آنذاك محصورة الأذى والضرر في حالة مفردة أو فئة بعينها، بل كانت النازلة من الفداحة بمكان، لأنها كانت انقلابا روحيا، شاء أن يحول المجتمع عن دينه وأصالته وحضارته.
في ظل تلك الشدائد التي كان الإسلام يواجهها بتركيا، نشأ فتح الله كولن، وشب في كنف أسرة قرآنية محافظة، استطاعت بتشبثها الروحي المستميت أن تنهض بمسؤوليتها إزاء أفرادها وإزاء محيطها، وأن تصون دينها بما تهيأ لها من جو تقليدي ومن تعاليم فقهية وصوفية وأخلاق ريفية صلبة ساعدتْها على الثبات على الخط، والشد على الجمرة، في مناخ مكفهر من الترصد والتجسس والتضييق الخانق على كل من تشتمّ منه رائحة القرآن والإيمان.
كولن.. مؤسس فقه النهضة والتعمير
يحتل كولن اليوم مقدمة الصفوف بين صفوة العلماء والمفكرين الأتراك الذين جعلوا من قضية الإصلاح والانبعاث همَّهم الأوكد، وشاغلهم الرئيس، يحدوهم إلى ذلك حس ديني يملأ الصدور، وإرث حضاري شواهده العينية الفخيمة لا تفتأ تستنهض الإرادات، وتُذكِّر أهل النعرة بأمجاد الماضي، وتُشرِّع في وجوههم آفاقَ مستقبلٍ معالِمُه مرسومةٌ، إذ هو طريق مهيّأ لأن يمضي بلا انقطاع ولا انحراف، ويسترسل وفيا للروح التي كفلت للأمة العزة التاريخية والريادة الحضارية في العالم، على مدار عشرة قرون.
لا يزال كولن يعلن في كتاباته بأنه يمثل حلقة ضمن سلسلة ذهَبية من الأسلاف المباركين انبثّوا عبر العهود والمراحل، وعاشوا متفرّغين للكدح والتنسك والدعوة إلى الله، وإرساء أسس الإحسان وخدمة الأمة.
وإن وثاقته الروحية المعلنة مع سلك أسلافه الأعلام والأقطاب الأتراك العاملين، لتُعَدُّ أولَ شاهدٍ على أصالة الوجهة الإصلاحية التي ينهجها، إذ هي وجهة تحرص على أن تكون ضمن المد الإحيائي الذي طفق أولئك الأخيار من بني قومه يضطلعون به، كل في مرحلته واختصاصه، ينهضون بواجب الدعوة، حاديهم الإيمان والاحتساب والغيرة على الدين المحمّدي.
إن الطابع الاتباعي الصريح الذي يصدر عنه كولن في نهجه الإصلاحي، ينسجم مع روح التجرد التي تميز سيرته، فهو من السادة العاملين الملتزمين بقواعد السلوك الذين يعيشون الامّحاء، فلا يشغلهم شاغل النفس ووسوسة الأنا النازعة -فطرة- إلى الظهور والبروز، عن الانخراط الكلي في السعي وتسديد خطط الخدمة وبرامج النهوض، إذ لا ينتج عن الحرص على تحقيق التميز الشخصي والظهور الذاتي الذي يطبع جهود الكثير من الدعاة اليوم، إلا الترهل الروحي وانحسار الفاعليات والجهود، فلا تصب في النهر المشترك، وهو ما يجعل الهمم تعجز عن بلوغ الأهداف العليا، لأنها منوطة بالفردية والزعامة والعنوانية.
لذلك ألْفَينا كولن لا يفتأ يؤكد التنبيهات على المخاطر التي تتهدد العمل البنائي متى ما داخلت القائمين به روح الذاتية، وتراجعت في نفوسهم ضوابط التسامي والتجرد. بل إنه لواضح أن الداعية كولن، لَيَحرص الحرص كله على ألا يترتب عن جهود الإحياء التي يبذلها العاملون أي تشرذم لصفوف المجتمع، إذ إنه يعي مدى الهدر الذي يحدثه الانقسام والفرقة والتشتت حين تتوزع الأمةَ التياراتُ والطوائفُ، وتتقاسمها التحزُّباتُ الفكرية والتعصباتُ الروحية، وتأسرها شتى الجاذبيات، وتَحُدُّ بذلك من انطلاقة الأمة، إذ تفقدها فرصة التركيز والتسديد الجماعي النافذ والحاسم.
فانخراطية كولن في المحج الإصلاحي تعتمد خطة واعية ومؤسسة على اعتقاد راسخ بأن كل جهد صادق رصين لا ينبغي أن يخرج عن نطاق المسار العام الذي أعطى محمد r دفعته الأولى وشارة انطلاقه البدئية، ذلك لأن كولن يؤمن أن كل هبَّةٍ تتحقق للأمة، وكل وثْبة تتمكن من تسجيلها، في أي عهد أو عصر، إنما هي صدى واستجابة لروح دعوة محمد r، وتوفيق أتيح للعاملين، وإسهام منهم، وحظ لهم، لا ينبغي أن يسيئوا له بإخراجه عن أصله، وعزله عن طبيعته الاستراسالية المحمدية ضمن حركة التاريخ وانعطافات مسيرة الأمة.
فكل اشتغال جماعي تطغى عليه الحسابات الضيقة والاعتبارات الشخصية، جهد تستفرغه تلك الاعتبارات والحسابات من جدواه، وتزيل عنه البركة والتأييد الإلهيَيْن، وتدرجه في عداد الظواهر التي لا طائل من ورائها ولا ثمرة لها، فأَجْرِيّته -إن كانت له أجْريّة- هي ما تحقق للقائمين عليه من ظهور صوري، وعنوانية عارضة، لا غير.
الفقه في مهب المصادرة الأيديولوجية
تغيرت أوضاع تركيا المؤدلجة، وباتت السياسة -وليس الدين- تصنع القيم، فتهاوى الفقه الشرعي من علْيائه تحت صولة الأيديولوجية الإلحادية، وتحوّلت الفتوى عن جهة ذوي الاختصاص والأهلية، وبات ينهض بها مُشرِّعٌ في القانون الوضعي، ويتدخل في رسم موادها إداري تكنوغراطي، ويملي مقاصدها أيديولوجي مادي، وجميعهم يعادون العقيدة الإسلامية عن تصميم، ويناهضون مصادرها ورموزها كتابا وسنة وسيرة سلف عن قحة وضلال. لذا اضطهد الفقيه الحق، وألغي دوره التسديدي، وبدله قامت تنظيمات ما سُمِّيَ الوسطُ المدني بدور تعويم قيم المروق في المجتمع، وترويج أفكار التغرب والفلسفات الإلحادية بين الفئات والطبقات، وانبرت المدرسة والقطاع الإعلامي والفنّي تلقن الأيديولوجية اللادينية للمجتمع والناشئة، فاستكمل الطغيان جهوزيته، واستفحلت عوامل الردة، ولم يكن في طوق المصلح إلا أن يبدأ من هذا الوضع المتردي، الميؤوس من تعديله.
فظهر ازدواج في الخطاب الإصلاحي: مستوى فقهي للعامة وآخر للخاصة، وفَقَد مصطلح الخاصة والعامة مدلوله القديم. فلم يعد يحيل إلى سواد الناس وبياضهم بالمنطق التصنيفي الطبقي الذي كان له في بعض أطوار الحضارة العربية الإسلامية، بل أضحى مفهوم العامة يحيل إلى ناس المجتمع مطلقا، ومصطلح الخاصة يشير إلى قطاع من الأفراد مقربين، اختص بهم الداعية، وارتبطوا هم به ارتباط تتلمذ وتحصيل وتلقٍّ وتحفيز. فالنشاط الديني، الوظيفي، الحكومي كان يتوازى أحيانا مع نشاط استنقاذي وتنويري ينهض به مصلحون، كل حسب استعداده للتضحية. وكان ذلك النشاط يمارَس تحت تحوطات السرية، وينتشر كالضوء أفقيا في صورة زاوية منفرجة، يبدأ من شخص المصلح، فتنتقل تعاليمه إلى من يباشرهم من عناصر ملازمين، مداومين، ومنهم تنتقل تلك التعاليم إلى القرابة (أهل وأصدقاء)، وهكذا تنفرج مساحة النور، وتتسع قاعدة الهرم بكيفية وئيدة، لكن بتصميم. وكان على المصلح أن يُصعِّد من الجهد بكامل الدهاء والحذر والحكمة ما أمكنه التصعيد، فعيون الترصد لا تنفك عنه، وما أكثر ما كانت أجهزة الرصد تأخذ بمجرد الظنة.
كيف حدثت نكبة المسلمين في العصر الحالي؟
الاجتياح الغربي الذي غمر البلاد الإسلامية هتك الحاجز الحسي والمعنوي الذي أسدل بين العالمين الغربي والمشرقي منذ سقوط الأندلس، فمع تصفية الوجود الأسلامي من الأندلس، تحولت أوروبا إلى مرحلة التمدد والانتشار، واستهدفت دار الإسلام، واستطاعت أن تستولي على الثغور والمجالات الحيوية، وتوجت خططها بتفكيك بنية الخلافة الإسلامية وتحويل العالم الإسلامي إلى خريطة تتوزعها ألوان الدول الغربية الغالبة، البريطانية والفرنسية والبرتغالية والإيطالية والإسبانية وغيرها.
كانت صدمة الأمة قوية وهي ترى جيوش الغرب تغزو شواطئها وتحل بمدنها وأريافها، إذ وعت الجماهير فجأة هول القصور الذي صارت إليه، وكارثية الاستنامة التي غيبتها عن التاريخ على مدى عهود مديدة.
ما أسرع ما بدد الغزو والاحتلال ما كان يتوفر للأمة من عدة وقايئة صورية، وشتت من كان هناك من جماعات وعناصر كانت تشكّل طليعة المجتمع، ومقدمة الصف، ومصدر التوجيه.. وهكذا رأينا أمثال الأمير عبد القادر يعيش محنة الأسر ثم النفي عن الوطن، ورأينا الأفغاني يعرف المصير ذاته، والشيخ محمد عبده يسام العسف، ثم يحجر عليه، بل وسنرى حتى العناصر التي انخرطت في العمل تحت رعاية السلطان الأهلي من أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي والكواكبي والنورسي وسواهم يلقون نفس المصير، إذ انقلبت عليهم السلطُ المحلية، وضُيِّقَ عليهم؛ لأن أمر الأمة لم يكن في يدها، وإنما كان في يد الأجنبي الصائل، وكان هذا الأجنبي يترصد كل بادرة من بوادر الاستفاقة، فيُجْهز عليها في المهد.. وهكذا عاشت المجتمعات الإسلامية مراحل قاسية، شبه عزلاء من مقوّمات الوعي وأدوات الاستنهاض، لأن المستعمر وصنائعه الأهليين قد نفّذوا خطة تفقير وتجهيل وتجريف للبيئات المسلمة من كل مولدات التفكير والمقاومة.
تركيا من دور الحاضن إلى دور المنقلب
بانهزام العثمانية أمام القوى الكبرى ظهرت تركيا قطرا منهوك القوى، منتهك السيادة، لا تملك طليعته العسكرية والسياسية إلا أن تمضي في طريق تم التمهيد له خارجيًّا، ورُسمت معالمه، وهُيّئت له المخططات ورُصدت عدة التنفيذ.. وهكذا ظهرت -على المسرح- الدولة الحديثة التي كانت تلميذا نجيبا لأيديولوجة الانتكاس والحيدة عن الدين والانسياق الأعمى لروحية التغرب والانسلاخ عن الأمة.
سلكت الأيديولوجية الجديدة الطريق السهل، إذ حسبت أن خروجها عن هويتها الملية، سيمكّنها من تحقيق الانتساب إلى حاضرة الغرب. ولمّا كانت حسابات الدهاة الغربيين ترى في تغريب تركيا نجاح خططها في تعقيم القطر الذي شكل على مدار القرون رأس الحربة والجبهة التي لا يزال خطر المداهمة يتهددهم من صددها، انبروا يعملون بكل جهد على تهجين تركيا، وتدجين نخبها، وصولا إلى تحويل الشعب عن مشرقيّته، تأبيدا للسيطرة على أمة الإسلام، وسيادة العالم.. وهكذا طفقت دوائر التنويم والتوريط تساند النهج التغريبي الذي دشنَته القوى السلطوية، وراحت تلك الدوائر تعمل على تقوية عَرَّابي ذلك التوجه بالكيفية الغريبة التي تستبقي الأتراك في وضع معلق، بحيث لا يسعهم أن يتقووا فيلحقوا بمستوى تقدم وتطور الغرب، ولا أن يستيقظوا فيتفطّنوا لحالهم، ويجددوا صلَتهم بالأمة. لقد جعل الغرب الاستعماري من تركيا سيزيف العصر، بحيث لبثت تمضي وعلى عاتقها صخرة العذاب، تتجشمها بلا هدف، تصعد وتنحدر، وكاهلها ينوء بوصمة لحقتها جراء نكوص طائفة من الأبناء عن الموثق، وتفريطهم في المجد الذي كسبوه على مدى القرون المتلاحقة باحتضانهم راية الإسلام.
مأساة الأمة التركية أنها عاشت البلاء الروحي الماحق، والدمار المعنوي الكاسح، على يد لفيف متسلط من أبنائها، حادوا عن الأصل، ونهجوا بالوطن والشعب سبيلا يناقض جوهر كينونتها.
عرفت الأقطار المسلمة أنواعا متفاوتة من السيطرة والاحتلال الأجنبيَين حين زحف الغرب على جغرافية الأمة، وصادر تاريخها، وارتهن مستقبلها، إذ راهن على أن يستبقي الأمة في حالة تخدر، يستنزفها روحيا، ويبتزها ماديا، ويقضي عليها وجوديا قضاء مبرما، ذلك لأنه ظل يتمثل فيها الخطر المحتمل الرئيس الذي يتهدده، والعائق الأكبر في وجه ترسيخ سلطانه على البسيطة، وتخضيع العالمين لإرادته، واستغلال مقدرات الأمم لصالح ازدهار حضارته.
وخرجت العثمانية من سجالها الطويل غير المتكافئ ضد الغرب وقد تحطمت واجهتها الجيوبوليتيكية، إذ أضحت قطرا خسر ما كان له من اعتبار استراتيجي وأدبي، وتقلص -إلى درجة مذهلة- ما كان لها من شساعة قارية وامتدادت بحرية، فلم يسع لفيف السلطوية التي آل إليها الحكم إلا أن تضع نفسها، أو لِنَقُلْ إلا أن تنساق وراء مخطط التغريب الذي هيأه لها الغرب الاستعماري.. وبذلك دخلت تركيا في مرحلة هدم الذات، فمضت النخب المستلبة، وخلال عقود متلاحقة، تتنافس في اتخاذ الإجراءات والتحولات والترتيبات التي تجعل من تركيا شعبا متغربا، قد قطع كل أسباب الارتباط مع ماضيه وأمته وعقيدته. ولقد كان أمرا طبيعيا في خضم ذلك المنحدر “نحو الهاوية” أن تتركز الجهود التغريبية على التشريع والقانون، إذ بتغيير القانون والتشريع تأخذ الأوضاع العامة والخاصة المنحى النكوصي، وتتلبس مجالات الحياة في شتى قطاعاتها الاجتماعية والثقافية والفكرية، بالمظهر التحللي الذي جعل الهدميون من أمر بلوغه، هدفهم ومناط رهانهم.
في ذلك المسار الانغماسي الفظيع، كان -حتما- على الأمّة التركية المنكوبة أن تقوم بردّ فعل على ما كان يمارس عليها من برامج تضليل وسياسيات تشويه ومخططات تضييع، فبرز من بين الصفوف علماء تصدوا للنكبة، واستماتوا في الاعتراض، واسترخسوا الحياة في سبيل الدفاع عن العقيدة وصون الهوية والأصل.
لقد كان على علماء تلك المرحلة أن يقابلوا سياسة التتْريك بكل إيمان واستبسال، فكان قدرهم أن يدفعوا أرواحهم لقاء تمسكهم بالعقيدة، وهكذا لبثت الشوارع والحارات في المدن والأرياف -طيلة ذلك العهد الانحرافي المذهل- تشهد أجساد الصادقين من علماء الدين والشرع والتصوف، تتدلّى في المشانق، معروضة ترهب الناس وتنذرهم بسوء المنقلب إن هم عارضوا نهج التفسخ.
كانت مهمة العلماء المصلحين في تلك المرحلة، مهمة اعتراضية، استنقاذية، تهيب بالأفراد والفئات والجماعات أن يستمسكوا فلا ينساقوا لدعاية وسياسات التهجين.
ومن المؤكد أن من بين رموز الإصلاح في تلك المرحلة الزلزالية، نَجِد المجاهد الفذّ النورسي يحتل الواجهة، إذ قضى العمر كله في منازلة السلطويين المؤدلجين وفي وضع اللبنات التي ينتظم بها الجدار الروحي العازل والمقاوم للردة. لقد بَسطَتْ أمامنا سيرتُه تفاصيل عن ذلك النزال المحتدم الذي خاضه رجال الله ضد التيار، ولقد دلت وقائع تلك السيرة أن الحقبة الجديدة قد ذهبت في الانقلاب على الذات والموثق مذهبا لا هوادة فيه، وأنها قطعت في خيار نهج التغرب بخطة لا رجعة عنها.
في جو المقاومة المريع ذاك، وضمن ظروف التجريف الشامل تلك، ظهر فقه الاستعصام بالله، وراجت فتوى جواز التكتم على الإيمان، واستسرار العقيدة. واتبع المصلحون طرقا شتّى في المقاومة، حيث سلكوا سبيل التوقي وسبيل المعالنة حسب الاجتهاد، ونوّعوا في الكيفيات الترشيدية، ولبثت آلة الاستئصال تستحصد الأعلام، وتبدد حلقاتهم، وتخنق صوت الحق من خلال تصفية أهل الإيمان والاحتساب.
في هذا المسار الليلي الحالك، شب فتح الله كولن طفلا تربى على بيداغوجية المدافعة الإيمانية، ودرج يافعا يتغذى على قيم التأصل والتصلب والمعاركة الروحية، واستوى شابا يتقحَّم ساحات الدعوة ويبارز في خطوط الاستنقاذ الأمامية.
على خطا نهج الفقه الأكبر
في خضم الاجتياح الأيديولوجي اللائكي تعطَّل معيارُ الواقعة الشرعية، وحلّ محله معيار دفع الجائحة المدَنية، لأن الاستهداف لم يَعُدْ يعني اختراقات محصورة ومرصودة في مسائل بعينها، تشكل ما ظل الفقه الإسلامي يصطلح على تسميته بالنازلة أو النوازل، وإنما الاختراق أصبح ظواهر قيمية طارئة، ومظاهر أخلاقية مستجلبة، وأحوالا ثقافية تغربية مفروضة تزيح وضعا مدنيًّا وحياتيًّا قائما بأسسه الثقافية الأصيلة وأركانه الاعتقادية الوطيدة، الضاربة بجذورها في أرضية تاريخية وحضارية وتشريعية عتيدة، لتستبدله بنمط حياتي آخر تسعى أن تستنسخه في كلياته وتفاصيله من حضارة الغرب.
في وضع كهذا كان على المصلح أن يتحول إلى إِشهارية تنوير، تعرف كيف ومتى تعطي الضوء للمارة كي يقطعوا السبيل إلى النجاة بسلامة.
كانت مواجهة المصلحين -وما أقلّهم عددا وعدة!-للنكبة مركبة، اقتضتهم المنازلة الضارية أن يعملوا على أكثر من صعيد، بدءا باستكمال دور الأهلية في مجال التأطير والاستنقاذ الذي انبروا للنهوض به. فكان عليهم -من ثمّة- أن يثبتوا هم أنفسُهم على الجادة، وأن يتأهلوا للإمساك على الجمر في معركة التمحيص التي كانت تحف بهم وبالإسلام في تركيا الجديدة. فكم زل من قدم تحت وطأة الإغراء أو الترغيم التي عاشها العلماء الأتراك عقب الانقلاب..!
ثم كان عليهم من صدد آخر أن يعمقوا زادهم المعرفي من الشريعة ومن العلوم الأصلية، وأن يضيفوا إلى ذلك كفاءة راسخة في مجال الحداثة بتحصيل علوم العصر، ذلك لأن السجال لم يكن يخص أشخاصهم تحديدا، وإنما يخص الأمة التركية وفئاتها وناشئتها التي باتت عزلاء تتلقن فكر الإلحاد في برامج رسمية معتمدة، فكان لا بد على الصفوة من المصلحين أن يتسلّحوا بمعارف العصر، وأن يطّلعوا بعمق على الفلسفات المارقة، وعلى نظريات الجحود التي كانت تمثل جوهر المعرفة التنويرية الرسمية يومذاك. وكل ذلك لِيتسنّى لهم التأهل للمبارزة وحماية الدين واستنقاذ مَن يتمكّنون من التواصل معهم من الناشئة، وليكونوا على كفاءة في التصدّي وتحصين الشباب خاصة بالفكر الإيماني من موقع معرفي وعلمي وثيق.
وفي الآن ذاته عملت الطليعة من المصلحين على التسلّح ببيداغوجية الاستقطاب والتواصل الدينامية المناسبة للتعامل مع شتى الأصناف العمرية والأوساط الاجتماعية.
ثم كان عليهم أن يتفانوا في الدعوة وفي تقديم مزيد من التضحيات ومواجهة مزيد من المخاطر والامتحانات، وبذلك عاشوا ملاحقين ومترصَّدين ومعتقلين، بل ولقد فتِئَتْ الأعدادُ منهم تلْقى حتفها على أيدي المغتالين. ورغم تتابع النكبات والخطوب، كانت مردودية ذلك العراك المرير راجحة، إذ خرج الصادقون في الدعوة مظفرين، حيث كفلت لهم صميميتهم المستمية نيل المقبولية لدى الفئات المتزايدة من الشعب التركي، وهو ما تكرس في علاقة تلاحم عضوي مع الجماهير، إذ ترابطت الفئات بالداعية على قاعدة من التواشج والاندماج، ما أحيا من جديد ماضي المشيخة كما طفق يجسدها عبر العهود التحامُ الأقطاب الأشاوس مع الجموع من الأتباع والمحبّين.. وهو ما تحقق للداعية الفذ والمجتهد المسدد، فتح الله كولن قائد نهضة الإصلاح والخدمة التي تشهدها تركيا اليوم.
لقد عكست السيرة العلمية لهذا الرباني الرشيد نوعية العدة والتجهيز التي تصدى بها للردة. فبعد أن انخرط في سلك الوظيف الديني الرسمي، باشر بطريقته المتبصرة مهمّة التنوير، مصعدا في الآن ذاته من جهود ترقيته العلمية وتحصيله الذاتي في العلوم الأصلية والحداثية على سواء، إذ لا ننس أن فتح الله غادر المدرسة وهو لم يتعدّ المستوى الثالث ابتدائي، ليتّخذ من عصاميته مطيّة السبق لبلوغ الذروة في مجال العلم والتأهيل الفقهي والاجتهادي. لقد استغرقته إلى جانب الدعوة أعمال الكتابة، وكانت مقارباته -في الواقع- بحوثا واستنجازات مهمة في مضمار التأثيث الفكري الدعوي، بحيث رأيناه كتب في السيرة وفي التاريخ وفي الفكر والدين وبيداغوجية الدعوة والإحياء، وفي استراتيجية الانبعاث والتأهل الحضاريين، بل وعالج قضايا من صميم العلم العصري بتشعباته الاختصاصية وتوجهاته الابستيمولوجية، موظفا ذلك في وجهة إيمانية إثباتية تحصينية، كاشفا في كل ما كتب عن سعة تعمق وأصالة تمثل ورسوخ اطلاع على الآداب والثقافات والفلسفات العالمية.
لقد كانت مقارباته وقراءاته الفكرية مجالا حيويا للاستنباط وصوغ القيم والأحكام وتأصيل المعايير.. فكتابه الجليل عن الرسول r مثلا، هو قراءة تأصيلية مدنية وفقهية واستراتيجية، استحيا فيها قيم الشرع والأخلاق والاقتصاد والعدل والحرية الإنسانية، والمساواة المرشَّدة بين الرجل والمرأة، وفن الإدارة والسياسة الداخلية والدولية، وحماية البيئة ورجاحة السلوك الروحي وتنشئة النفس والجهاد بنوعَيه الأصغر والأكبر، وفلسفة الاجتماع، وفقه التوازنات القلبية والثقافية والمدنية، والارتكازات المادية والميتافيزيقية… كلا لم يستغرقه درسُ السيرة وتقليبُ صفحاتها بقصد الاندساس والتواري عن تفسخات مدنية هذا العصر، والفرار من كوابيسها وضراوة مآسيها، إنما احتفى بالسّنة وعايشها عن عمق وبصيرة، لأجل أن يؤصل منها سجلاًّ ذهبيا مرجعيا بمنهج النهضة المتوخاة، والانبعاثة المأمولة.
أضحى المصلح كولن -وهو يرى العدوان يطبق على الأمة من كافة المستويات- يدأب في بسالة ومخاطرة متناهيتَين، سعيا لتقديم الإسعاف الروحي والدعم المعنوي والخدمة التحصينية.. فالدور العتيد للفقيه انقلب، ولم يعد لرجل الإصلاح مجلس شرعي مهيب، يطرقه أصحاب الحاجات الشرعية، يستفتونه ويستمعون إلى منطوق الشرع على لسانه في قضاياهم، بل غدا المصلح نفسه هو الذي يحدب ويسعى -في ظروف التخنيع وإحصاء الأنفاس- ويستميل الأفراد والجماعات إليه، لأجل تمكينهم من أخذ لقاح الإيمان ضد ما يتأجج في المجتمع من أوبئة وأوخام.
طفق الدرس المنبري لكُولَن يتكيف مع أحوال الرقابة وأحابيل الجَوْسَسة، ويسعى بكل رشد إلى أن يشد الأرواح إلى الإيمان. ولقد كان أمرا طبيعيًّا أن لا تستبقي برامج الردة إلا على أعداد متناقصة باطّراد ممن يرتادون الجوامع، لذلك كانت ثمار جهود الداعية المصلح محدودة، الأمر الذي اقتضاه أن يباشر مستوى من التعليم الجواري المتواري، وقد كانت مهمة شاقة وغير مشجعة، نظرا لعدم الإقبال عليها بسبب الضغوط الكثيرة، حيث إن الطالب نفسه كان يجد في مباشرة العملية التعليمية الشرعية خطرا. وما أكثر ما كانت الأسرة نفسها تعيق الابن إذا ما انتبهت إلى أنه انخرط في حلقة من ذلك النوع التعليمي المتواري.. لكن المقاصد المستندة إلى عامل الصبر والمصابرة تنتهي دائما بالإثمار، وهو ما عرفته تجربة كولن، إذ بذلك الجهد التعليمي الجواري المتحفظ، استطاع أن يهيّئ الجو البيداغوجي والتنشيطي الذي أوجد الحلقة وأنشأ النواة الأولى للطلاّب الملتزمين. وما لبث الوضع مع الزمن أن اتّسع إلى حلقات أخرى في بقاع من الوطن، من خلال تطوع الطلاب النجباء، وهكذا توثقت الرابطة الروحية بينه وبين طليعة من الشباب النوعي، وامتدّت أواصرها لتشمل بقاعا من الجغرافية التركية، بل ولتتجاوز الحدود لتستوعب الجاليات التركية في مختلف أرجاء العالم. وذلك ما سهل من سبل تدشين فقه الخدمة والدعوة إلى الإسلام من خلال إقامة مشاريع التعمير والتكوين والإحسان التي انتشرت في القارات جميعا.
من رهانات المصلح المنتخب الثابتة، العمل بلا هوادة على تحقيق الترقّى بحياته إلى مرتبة أهل الكمال، ليغدو -بحقّ- يمثل الحلقة الذهبية الرابطة بين أجيال السلف والخلف، وأن يصير روحا مكرَّمة تستمد وهجها النوراني وطاقتها وبركتها من سائر مصادر الإيمان، وتغتني بأسباب الاقتدار من خلال تمثل سيرة أهل الحق ورموزه، بدءا بمحمد r وسنّته الْمُشرَّفَة، ومرورا بكافة الصفوف من أرباب الاجتهاد في كل عصر ومصر.. بحيث يستحيل كَينونة كبرى، لها إشعاع بسعة الأرض ورحابة الآفاق، لأن روحه كسرت -بفضل العمل الباهر- قيد المحدودية، وامتلكت صبغة الكارزْمة وهوية الإنسان الكامل.
الجهد التحولي الذي يكابده الرباني، يراهن على بناء هوية استمدادية إمدادية، فهو لا يفتأ دائبا على تلقّي الحظوظ الماسية، يغترفها من النبع القدسي، كتابا وسنّة، ويستلهما من الاقتداء بسيرة الواصلين، ليعود بكل الغنائم المجتناة في ذلك السبيل الجهادي، ويضعها بين يدي العالمين.
إن حبّ احتلال الصدارة الذي نراه يحتدُّ لدى أهل الدنيا، يتحول عند أهل الكمال إلى إصرار على التماهي في نماذج الكمال من السلف، والتَّأَحُّدِ معهم، والإمعان في تمثُّل مآثر الكاملين ومناقبهم، وتزكية الروح والقلب والوجدان بنفحاتها، وهو ما يجعل من المقتدي مكافئا للمقتدَى بهم، ومن الفرع أصلا، ومن المتدرج مثلا ونموذجا وقواما.
كل أداء للفرض أو للنافلة تكون الحافزية العروجية فيه هي إرادة تحصيل التوفيق ومساماة أهل الكمال.
إن الجهد المبذول لجهة إِناطة الذات بالنماذج العليا من أهل الكمال، هو النهج الصعب الذي يمضي عبره العبد الصالح وهو يؤدي دَوره في قيادة الأمة.. إذ التربية التي يمارسها المصلح تبدأ لديه، بالنفس -نفسه هو- والاعتلاء بها، لتشارف القمم، ولتجاور أهل الذرى.. فإذا تأتَّى له بلوغ ذلك المستوى، تهيّأ له عندئذ أن يرود الفئات بلا عناء، فلكأن القوة التي أضحى يبذلها في القيادة والزحف، هي من جنس قوة الأبرار ومن صنف نفاذية أهل الصُّلاَّحِ الخالدين.
إن مستويات القراءة والتمثل والاستلهام التي يمارسها الداعية المصلح، هي بعض عوامل الشحذ الروحي والسيكولوجي التي يداومها ليلحق بأهل العزم.
إن قراءة كولن للسنة الشريفة هي قراءة طافحة بالمواطن التي تكشف مدى عمق تهيامه بشمائل السمو والسلوك التي طفق الرسول يحرِّض عليها ويرغِّب فيها. وإن عكوف كولن على مدارسة السنة، كان مبعثه الإرادة الجارفة لتمثل تفاصيل تلك السنة، وهضم مفردات ذلك الخلق العظيم، والأخذ به قلْبيًّا وحياتيًّا ودعويًّا.
إن مستوى الاستبطان الاستيعابي الذي قرأ به الأستاذ كولن وقائع السنة الشريفة، وتفحص به أحداثها ومواطن الاعتبار فيها، هو الأساس الذي بنى عليه فهمه للدين، وأرسى فوقه دعائم فقه التيسير والاعتدال الذي يدعو إليه وينادي به.
يُسر المبادئ الشرعية وجوهرها التخليقي
ليس دافع الدعوة إلى التيسير -على نحو ما تنادي به منهجية كولن- هو تنزيل مسطرة الشرع إلى مستوى من التساهل تقتضيه الواقعية التصحيحية كما هو حال بعض الديانات المتعالية عن الواقع (إشكال الزواج والطلاق في المسيحية مثلا).. ولكن الدافع إلى ذلك هو الرغبة في الرجوع إلى مسطرة الدين الحق؛ إذ شعار الإسلام كما تنص على ذلك حزمة من الأحاديث الشريفة، المعززة بسيرة المصطفى r، هو «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا»، و «أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، و«إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ».
ومما لا شك فيه أن الرسول عاش الدين بمستويين، مستوى أهل الاصطفاء والعصمة، فكانت عبادته مثالية، كاملة، لا يدانيها أحد.. وعاش من صدد آخر العبادة بمستوى إنساني، بحيث ظلت وصاياه تؤكد الصبغة الواقعية والعملية والاعتدالية التي أراد أن تكون عليها الأمة في استمساكها بالشرع وتطبيقها لمبادئه فروضا وتعاملات: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ».
والجنوح إلى التشدد في العبادة جائز، لأنه عزيمة فردية، لكن الدعوة إليه لن تسلم من مخاطر حمل الناس على ما لا يطاق. من هنا رأينا الداعية كولن يشدد على يسرية الشرع: “التيسير هو روح الدين، فمن أراد جعل الدين صعبا لا يطاق انسحق هو تحت هذا الثقل، بينما الدين المعيش في دائرة الاستقامة سهل ويسير يقول r: «ِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»”.
ولا شك أن السيرة الشرعية التي يحياها كولن في واقعه ومعيشه وعلاقاته، هي من الانضباط الحدي البليغ.. فهو يعيش التبتّل في أزكى صوره، وهو حري بما بات عليه من منزلة ومكاسب قلبية أن يدعو إلى التشدد، لكننا رأيناه يرسم فلسفة روحية تجعل الدين السمح، المزكي، المتوازن، قاعدة للحياة، ومجلى للالتزام الإيماني.
وليس لكونه طليعة في مجال الدعوة إلى عالمية الإسلام، يكون اختار شعار اليسر والاعتدال كسبا لمسلمين جدد.. كلا، فإن رؤيته الدعوية تضع من خطتها أن تكون سلوكات المسلم بذاتها دعوة، ويكون مستواه المدني والعلمي والأخلاقي دعوة، وأن تضحى ردة فعله إزاء المحيط الذي هو فيه، والأحداث التي تطرأ على المجتمع الذي يستقر به، دعوة.. فالقدوة محكٌّ مناسب للفت الناس إلى حقيقة الشريعة الإسلامية، ولم يهيّئ الله هذه الشريعة لأن تكون رحمة للعالمين إلا لأنها كاملة الأركان، لا تحتاج إلا إلى الجماعة التي تتقمصها وتخرجها للناس في صورة سلوكات وتعاملات، حتى تلقى القبول والانتشار تلقائيًّا.. ذلك لأن النموذج السلوكي الأكمل، يجد في الأغلب طريقه إلى القلوب دونما حاجة إلى دعاية أو إشهار.
إن صلاحية الإسلام تتمحص اليوم بشكل خطير وسافر ودقيق، وسيتصاعد التحدي للإسلام غدا أكثر وأكثر بما يطرأ على الحياة من تجديدات تمس في جلها الثابت من القيم، والراسخ من المعتقدات، والوطيد من المسلمات. إن الإعلام الذي تديره وتحتكره قوى عالمية وتستلب به وعي المجتمعات والشعوب، باتَ هو المعلِّم والموجه والسلطة، بل وبات هو الأسرة ورابط العُشرة.. فشخوص المسلْسلات وأفلام الكرْتون مثلا، هي شخوص حميمة، ولصيقة بمواجدنا، وأكثر قابلية لاستدرار مشاعرنا من كثير من الشخوص الواقعية التي نتواصل معها بالدم والمساكنة.. إن ثقافة وفكر وأخلاق عالم السمعي البصري هي التي باتت تنْفذ إلى بواطن الشعور واللاشعور لدَينا.. من هنا تزعزعت المنظومات القيمية التي ظلت المجتمعات تتوارثها، وبات تأثير تلك المنظومات العتيقة متراجعا، بعد أن حلت محلها منظومات افتراضية يسكها ويصبها يوميا في دواخلنا السرد السمعي البصري.
وإن دور الإسلام هو أن يكفل الوقاية والمناعة للمجتمع، فليس في وسع الأسرة المسلمة أن تعيش بمنْأى عن الانْتَرْنيت وأخواتها من وسائط الاتصال.. فإذا لم تتوفر هذه الوسائط في البيت، فهي وافرة في الشارع والمؤسسة وعند المعارف والجيران، ولن يحول بين فظائعها ومهالكها وبين الناشئة، بل وبين الأوساط عامة، إلا التحصن بالدين الذي من خاصيته -عند التفعيل- أن ينمي في النفس إرادة الغض والتعفف والرقابة الذاتية.
حقا إن الأمة المتطورة علميا ومدنيا تستطيع أن توفر لمواطنيها البرامج المتوزانة، تصنعها وتملأ بها فضاء المواطنين، وتلبّي شتى الأذواق، وتسدّ مختلف الحاجات، وتغطّي سائر المناحي. إنما الأمة المسلمة -في جل أقطارها- ما زالت في الرغام، غير قادرة حتى على مجرد مباشرة التجريب التصنيعي والتعميري الحيوي والفعال، الأمر الذي يجعل البيئات المسلمة عرضة لاختراقات وتأثيرات ثقافة الآخر بكل مفاسدها.. من هنا يتأهل الدين -إذا ما فُعِّلَ- للتصدي، بحيث تكفل الثقافة الدينية النيّرة للمجتمع أن يتحكم في ما يتلقى من مدونات، وأن يعمل على تصفية ما يصله من إعلاميات، واختيار ما يعرض عليه من سرديات. بهذا الدور الدفاعي الحيوي تبرز حقيقة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
والخطورة نفسها قائمة في ثقافة المؤسسات وفي التعاملات وفي النظم. إذ العالم قرية، والمجاميع المسلمة لا تفتأ تستهلك النظم والبرامج والأساليب التعاملية الوافدة، فهي من ثمة مطالبة بالتحصن بالعامل الشرعي، فإذا كان هذا العامل الشرعي متشددا وغير مرِن، تعطّلت مصالح المسلمين.. وبالمقابل إذا تُجُووِزَ وتَعَطَّلَ العاملُ الديني أو تُسُوهِلَ فيه، طَمَّ الخطْبُ وعم الضرَر وتهالكت الجدر.
إن الدعوة إلى التيسير كما ينادي بها الأستاذ كولن، تجعل من أهدافها أن الجهد ينبغي أن يبذل بأقصى ما يمكن من الإصرار من أجل بناء البيئة والمجتمع الإسلامي المتكامل الذي لا يحتجز الأمة عن العالم، وإنما يقيم الكيان الذي يكون له من قوة الاستقطاب والمنعة والاكتفاء ما يجعل الآخرين يقبلون على الإسلام أفواجا.
صلابة الإسلام صلابة ذاتية، كامنة في سهولة تطبيقاته وفي طابعه العملي والالتزامي، الفردي والجماعي، إذ هو فرائض وأخلاق بارزة للعيان، فلكأن الشأن في هذه الفرائض والأخلاق منوط بالجماعة والمجتمع، أو لكأن الجماعة هي المسؤولة على تفعيلها.. فالفرد المسلم -من بعض الوجوه- مسوق إلى الدين بالشرط الجماعي، ففي ترجيح كفة صلاة الجماعة (والجمعة) إِلزام له بحضور الصلاة، وإلا شذ عن الجماعة.. وإن روح تبادل المصالح والتشارك والتعاون والتراحم التي تشرط الفرد المسلم في محيطه الاجتماعي، تملي عليه أن يكون مندمجا في دائرة الجماعة، ليس فقط بدافع اجتماعيته وإنسانيته، ولكن أيضا ضمانا لمنافعه ومصالحه، وإلا فاتَتْه ثمرة المكاسب (المادية والمعنوية) التي يجْنيها الفرد من الروابط التي يولدها التجمع والجماعة، وإن المسجد ليفتح المجال واسعا في وجه تمازج الفرد مع المحيط، الأمر الذي يجعل من واجب تأدية الصلاة الجماعية مدخلا كريما وميمونا ومؤهلا لتحقيق الاندماج.
ونفس التبعات تلحق المسلم عندما تتوطد اندماجيته في الجماعة، إذ إن بقية الأركان الشرعية تدفع إلى التواصل، وتعمل جميعا على تقوية الأواصر بين الفرد ومحيطه. فمبدأ إيتاء الزكاة (أداء أو نيلا)، والقيام بالحج، وكذا إِحياء المواسم الدينية، فضلا عن أنواع المداخلات والمشاركات التي تنشأ بين الفرد والجماعة بحكم التعامل وبفضل روح التضامن والترابط التي تزيدها -حتما- أطوار الحياة واقتضاءات الواقع والتقارب قوة واستحكاما.. إن ذلك كله يُفتِّح المسلم على الجماعة، ويكيّفه مع الدين الذي هو أبرز لاحم بين الأفراد.. وإن جماعية العقيدة الإسلامية تتميز بصبغة الاستقرار والثبات، إذ لا ينبغي أن يطرأ على الشعائر، وبالتالي على روح العقيدة، أيّ طارئ يزيحها عن أسسها، وإلا حصل التحلل من ربقة الشريعة.. الأمر الذي يجعل من الدين الإسلامي الدين العملي الذي لا يأتيه الباطل، باطل الانزياح والتحوير المبدئي، لا من بين يديه، ولا من خلفه. فهو بهذا الطابع الجماعي (المشهود)، والصبغة العملية، التطبيقية، دين ذاتي القوة، وذو روحية قائمة على التيسير، والاستدراك، والقضاء عند الاضطرار.
ولما كان كولن إنساني الرؤية، ذا فلسفة دعوية كونية، فقد أرسى مسطرة منهجه على شعار اليسر والتيسير الذي يراه جوهر العقيدة الإسلامية، ومميزها، وطابعها الأصيل الذي إذا ما حادت عنه، تعطلت الدعوة، وتأجل موعد تلاقي الأمم مع الدين الذي شاءه الله أن يكون دين البشرية قاطبة.
كان على كولن أن يعمل على إعادة توطين الإسلام في بلاده من جديد، بعد أن جهدت قوى الردة في إطفاء مصابيح الدين في المجتمع وبين الأوساط، واختلقت نخبا وطبقات أهلية متفرنجة، مجافية للدين تماما.
تَبْـيِـيـئُ القيمِ الإسلامية كان أفقا ظل كولن على مدى عقود يُصعِّد من الاستراتيجيات لبلوغه. لم يكن متاحا له في تلك العقود أن يباشر النقاش العلني، وعقْد حلقات الجدال والإقناع التي كان في إمكانها أن تبصر الناس، وأن تسهل من مهمة إعادتهم إلى العقيدة.
لم تكن قوى التغريب تتوفر على الاستقلال الذهني الذي يؤهّلها للمواجهة الفكرية، إنما كان كل عدتهم أنهم يردّدون -ببَغائيًّا- أحكاما ومقولات حاقدة على الدين، تلقنوها -في الأغلب بالسماع والاحتذاء الأعمى- عن الغرب الذي ناهضت فلسفاته المادية الشرائع السماوية، لعلل تاريخية معروفة.
وإن ازدواج معاناة كولن في عراكه مع الفاشيين، أنه كان يواجه قوى الاستلاب التي لم تكن تتوفر على وجاهة الحجة وقوة الإقناع والسجال الفكري الموضوعي، إلا شعارات أيديولوجية سخيفة تبنَّتْها عقيدةً ظنّت أن الاعتداد بها سيحقق للإنسان التركي الجنة الأرضية. لقد لبثت الفلسفة الجحودية تمثل مصدر ثقافة النخب المستلبة المتسلطة على الحكم، تلك النخب التي لقفت عن الغرب روحيته الحاقدة على الإسلام حصرا، فجعلت في صدارة أهدافها اضطهاد الدعاة وإخراسهم، ومحاربة قيم الأصالة، وتعميم ثقافة أجنبية في البيئة والمجتمع التُّرْكيّين.
كان السبيل الوحيد أمام كولن أن يستمر في العمل بحذَر، وأن يوسع من دائرة المتنورين، واضعا في حسابه حتمية حصول التغير في الوضع الأيديولوجي والجيوسياسي من حوله، إذ كانت تعاليم القرآن تعزز لديه اليقين من أن دولة الإلحاد آيلة إلى الانهيار، وإن طال بها العمر.
لم يكن نظر كولن يترصد سياسة بلاده فحسب، ولم يكن يضع في الاعتبار أحوال السياسة التي كانت تديرها أقلّية من السلطوية التركية وصنائعها من طوائف اللائكيّين المتشدّدين.. تلك السياسة التي كانت تجعل من محق كل مَنْشَطٍ ديني أهلي هدفها الأول.. بل لقد كان كُولن يترصد خريطة الأيديولوجيات والترابطات الجيوسياسية التي كانت تقسم العالم إلى معسكرات، وتملي وصاياها على البسيطة، وتمتد بتحالفاتها عبر الأقطار والقارات، وتقوي من النظم المستلبة المتحالفة، وتوفر لها الحماية وأسباب القوة للاستمرار، وتمكِّنهم من القدرة على بطش المعارضة الداخلية.. وكانت تفاقمات الأيديولوجيات الداخلية والخارجية لا تزيده إلا إيمانا بقرب أوان الانفراج، فكان ذلك يقوي لديه أكثر فأكثر من حمية المرابطة ومواصلة السعي.
لقد ظل الإيمان يُمثِّل مصدر الخطر والصدد الذي يؤرق نظام الأقلّية السلطوية في تركيا. من هنا كان حجم تلك الشراسة التي ظل الفاشيون يلاحقون بها رموز الصمود، ولقد كان كولن طليعة أولئك الرموز المستهدفين الذين نالهم ما نالهم من ألوان الشر على أيدي هؤلاء، ولقد أيقنت تلك الفئة المتشددة مدى المخاطر التي بات نشاطُه يمثلها لمصالحهم الذاتية، فقطعوا بالحكم بتصفيته الجسدية.
بقي الإيمان قوة كامنة يتعهدها كولن والمصلحون، كل في جبهته وبما تُتِيحه له ظروفه.. ورغم المحن فقد لبثوا يراهنون على انبعاثه لا محالة، ورجعته بكل تأكيد. ولم يخلف الله وعْده المؤمنين، إذ انهارت الشيوعية، وها هي الرأسمالية اليوم تمضي في حال من العرج والترنح، وسيكون مصيرها لا محالة مصير الشيوعية.
انقشع الوضع بعد انهيار الشيوعية، وأذّن كولن في المؤمنين الأتراك، فانبعثت كتائب التثمير إلى الخدمة، وباشروا الدعوة على صعيد فقه التعمير كما أرسى مسطرته وفلسفته كولن.
كانت عقود الجهاد والتزكية قد أثمرت وهيأت له الصيت الروحي الذائع، والمكانة الاعتبارية الراسخة بين أوساط المجتمع التركي، لقد تحول كولن إلى رمز بفضل صبره وديناميته وحكمته وثباته على الطريق، وتكيفه الموفق مع الوقائع، واقتداره على التعامل معها بالدقة والفطنة التي مكّنته من النجاة وتحقيق الفاعلية.. وبذلك أضحى يمثل ظاهرة إصلاحية تسجّل الفتوح باستمرار، وتكسب الأشواط باطراد، وتستقطب الأتباع المتطوعين على الدوام.. بل لقد أضحى واجهة حراكية بارزة، ومفاعلا معنويا راسخا، يؤثر في الأوضاع الاجتماعية ويساهم في توجيهها بفضل ما بات له من رصيد الإكبار، ومن وجاهة انتزعها بالكدح ومداومة التزكية. لقد أتاحت له عقود التمحيص والاحتساب أن يضحى قمرا منيرا في سماء تركيا، ورقما اعتباريا على خريطة الوطن.. وما لبث أن تفتّحت له أبواب الدواوين والمؤسسات الحكومية، وتهيأت له طريق التواصل مع النخبة من رؤساء أحزاب ومن رموز سياسيين بشتى التوجيهات، ظّلوا يديرون سياسة تركيا ويتداولونها عقودا متتالية.. وهكذا صار محاورا مع القوى التي ظلّت تحاربه وتناهض توجهه الإيماني، وبذلك تمكَّن من أن ينشئ جو حوار وطني لم تشهده تركيا المعاصرة من قبل، وترتب عن ذلك الحوار المثمر، والتواصل المرشَّد، إنشاءُ مؤسسات ثقافية وفكرية عمومية مفتوحة على التيارات بمختلف مشاربها.. وبذلك غدا كولن يشارك بطريقة أو أخرى في صميم الأداء السياسي لبلاده، رغم إمساكه المبدئي عن الخوض في السياسة بصيغتها الحزبية السفسطائية المعروفة.
لقد يَسّر عليه أن يبلغ ذلك المستوى الباهر من النفاذ والمقامية في تركيا وبين المحبّين، سيرتُه الإيمانية المفعمة بالإصرار، ونهجُه الروحي والبيداغوجي الميمون، وكارزميتُه الصميميّة التي لا مراء فيها.
العَلمُ أو الإيقون، حين يستوي اسما استقطابيا مكينا، ومرجعية إحالية راسخة، يكتسب من الخصوصيات الروحية والاعتبارية ما يجعل منه قوة مؤثرة ومفاعلة للمجتمع والجماهير من خلال العلاقة السحرية الاستثنائية التي تنشأ بين القطب والفئات.. بأدنى الإيماءات تتحرك الكتل إلى الفعل، وتتنافس وتتفنن في التنفيذ.. إن شخصية القطب تتحول في مواجد الناس إلى ماهية عليائية طافحة بالأسرار والمعاني والإيعازات الروحانية.
وإن التفوق الذي يبلغه رجال الدعوة (رجال الله) في ذلك السبيل الشاق من التزكية والشفوف، والذي طفقنا نقرأه في سيرهم خوارقَ وكراماتٍ، إنما تترجمه هذه العلاقة الإشعاعية التي تصل بين الداعية الروحاني وبين الجماهير. إن الأوساط لا تفتأ تقرأ في سيرته العامرة بالبر والمحامد، المعاني اللدّنية (أي القرب من الله)، الأمر الذي يجعل القلوب تتشرع لمحبته (الداعية)، بل والتناهي في تلك المحبة، فيشتحنون نتيجة لذلك بالقوة، ويستمدون منه، بالتأثر، وبما ينشأ لديهم من قابلية، مدود العزم والنفاذ، وينعكس ذلك على كثير مما يفعلون وينْجزون، وهو ما يجعل معنى البركة والتوفيق يظهر عيانا للناس عن ذلك السبيل.
لقد تجلّت هذه الحقيقة الروحية في علاقة كولن بالمجتمع التركي، فنتج عن ذلك قيام دينامية بناء وتجهيز كبرى. لقد أرسى منظومة قطاعات نهضوية حيوية متكاملة، شملت حقول التربية والإعلام والاسثمار والخدمات وحتى ميدان البحث العلمي.
بل وهيأ مجالا للتفتح الخارجي ومد دينامية الدعوة والخدمة إلى كافة القارات، بما في ذلك تخصيص منح للطلاب الأجانب، سواء من الدول الإسلامية أم من غيرها. ويدخل ذلك التوجه في إطار برامج الدعوة وفلسفة التبليغ كما يرسم لها الأستاذ كولن في مرحلة الانفتاح والعولمة.
ومما لا شكّ فيه أن كولن يرى أن هذا الانحطاط الشنيع الذي آلت إليه الأمّة إنما كانت علّته انحرافها عن الجادة، وإخلالها بحقوق الله، إذ بمراعاة حقوق الله تنكفل حقوق العباد، وتستمر شروط جدارتهم بالتكريمية وطيدة.
وأبرز ما تظهر عليه أحوال التردّي الحضاري هو هذه الوصمة الانهزامية الوخيمة التي مني بها المسلم، فأضحى مستكينا، مهين النفسية، عرضة للعسف الأممي، بلا شخصية ولا توق، محصورا في رقعته مكبل الإرادة، محتلاًّ في موطنه مستسلما للحطة، تطبق عليه حال الغباء حتى لا يكاد يستشعر واقع الكارثية الذي يحياه، وإنها لأوضاع تقتضي التعديل والتجاوز.. من هنا كانت إحيائية كولن ترى لزوم استهداف الكيان الداخلي للفرد المسلم، وإعادة بنائه من جديد، على الأسس الأصلية ذاتها التي أنجز بها الأماجد المحمّديون ماضينا الحافل بالعظائم.
ومما لا شكّ فيه أنه لا استحقاقات في الحياة لأمة فرطت في رصيدها القيمي، وهدرت مخزونها من العزة، وباتت عطلا، شوهاء، سادرة في الخمول، توطّنت فيها المهانة، بحيث لا تستجيب لتقريعات الزمن إلا بما يزيد من وهنها، “لا يتصور أن يتحقق نجاح عظيم أو الحفاظ على نجاح قد تحقق على يد أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وضعفاء في شخصياتهم”.
وإن أساس النهضة وعمارة الأرض يتم بتفعيل الإنسان، وترميم شروخ روحيته، وإعادة صياغته نوعيا، على ذات الطراز النوعي الذي أرست معاييره البعثة النبوية، وجسّدت نفاذيته منجزات الصحابة ومَن لحق بهم من أجيال القرون الذهبية الأولى.
إن عُدّة النهضة في مخطط كولن وقوامها يتشكل من النخب والطلائع العاملة في ميدان الدعوة. وإن دورهم في بث ثقافة التنوير والانبعاث لحاسمة. من هنا طفق كولن يشدد على خصوصية المثال المتكامل من السموّ الروحي والمعنوي الذي ينبغي أن يكونوا عليه، حتى يتأهّلوا للمهام الإحيائية التي يضطلعون بها.
إنه يطمح إلى أن يكون الصفوة من الساعين على طراز أصيل من المتانة الروحية ومن التبتّل والخلوص القلبي. إن أعظم خَدَمَةِ الحياة هم مَن طلّقوها، وعملوا فيها لا لأنفسهم، وإنما وُكلاء عن الحق، مالك الملك Y، وبذلك نالوا السلطنة، وتوجتهم الجماهير ملوكا أبَديّين، وكلّلتهم سجلات التاريخ، بالقار والمجادة.
وإن الجهوزية المثمرة، القادرة على التجاوز بالأمة وضع السقوط المزمن الذي تعيشه، لا تتم إلا بالتسلح بالعلم ومعه الأخلاق المتوجة بالتزكية واكتساب حس الآخرة.
لقد بنى كولن تصوره للنهضة على تشكيل صفوة طليعية تستوفي شروط التكوين، من خلال اتصافها بالفتوة، وبالعلمية وبالاحتسابية. فالقاطرة التي تجر العربات هم النخبة التي تلقّت تكوينا عميقا في العلم الشرعي على يد الداعية، وتزوّدت بالاستنارة المعرفية العصرية، وتدرّبت على التمرس على التريض القلبي الذي يجعلها تستعذب الأداء وتستذيق ذاتيا مراءة البذل والتضحية. إذ ليس كمثل الدافع القلبي ضامنا لاسترسال الجهد والمواظبة على البناء وتقديم الخدمة.
يدرك كولن أن الأيديولوجية السياسوية إيمان عرضي لا يدوم ولا يَسلم من الانتكاسات لدى العثرات أو الصدمات والخيبات؛ فالأيديولوجية نار هشيم لا تتجدد ولا تبقى.. لذا يعول على استزراع القيم الروحية في مواجد الطليعة المتنورة، وحقن مفردات الروحانية في قلوب العاملين، وإن كتاباته في ذلك الاتجاه هي داعم تربويّ وبيداغوجي يندرج ضمن الرؤية التكوينية والترشيدية (الرسكلة) التي يراها لازبة، ولازمة، لإدامة عامل الاشتحان والحيوية والمضاء.
ولا غرابة والحال هذه، أنْ نراه يؤكّد أن صفة “العالم” لا يحوزها بجدارة واستحقاق إلا عالم الشرع، ذلك لأن كولن يدرك أهمّية الدين في تجهيز الفيالق، وفي إدارة المعركة، وحسم جولاتها، لذا تترجح عنده الأهلية الشرعية على ما سواها؛ فالعالم القمين بهذه الصفة، هو عالم الشريعة والدين، ولا ريب أن هذه النظرة هي التي سادت قديما عند المسلمين، فالعلم الحق كان يعني عندهم الفقه وثقافة الفتوى، ولئن بدا لنا اليوم ضيق وانحسار هذه الرؤية، فلأنها لم تراع التوازن في منظومة المعارف، الأمر الذي ترتب عنه التفريط في علوم الدنيا، والاستخفاف بعلوم المدَنية، وهو ما أودى بالحضارة الإسلامية، ذلك لأن الاعتداد بعلم الشرع وحده، جعل يتراخى باطراد هو أيضا، لأن الرثاثة التي سرت في المدنية بانبخاس المعارف، انتهت إلى المعرفة الشرعية، ونالت منها، فأضحت تتراجع وصارت نظميات ومختزلات، وضمرت روحية الأمة بجفاف معينها العاطفي والأخلاقي والقيَمي، وتعمّقت هوة الانفصال بين الإسلام والمسلمين، وبذلك حصل الخسران.
من هنا يلحّ كولن على وجوب إعادة اللحمة بين الدين والدنيا، ولهذا فإن دَور العالم الشرعيّ يغدو اليوم دورًا أساسيًّا، بالنظر إلى أن الأمّة بصدد تدشين مرحلة من الوثوب والفكاك النهائي من نائرة التردّي، لأن الإصابة التي أودت بالأمة أضرّت بالروح، وإن العلاج ينبغي أن يكون روحيا بالأساس، لأن العقيدة هي العامل. الإطار الذي يهيّئ الأرضية التي تقام عليها دعائم النهضة. فإذا تعافت الروح، تيسّر على الأمة أن تستدرك كل ما فاتها في حقول المعرفة الدنيوية والمهارات المدنية.
واستراتيجية كولن تترقى إلى أهدافها بمنطق التدرّج. فالأمة التي عاشت طيلة أجيال متلاحقة تحت وطأة الإلحاد والجحود، لا يمكن أن نركّز -ونحن نرشدها إلى مبادئ دينها وفلسفة عقيدتها- على الجوانب التي تبدو ثانوية قياسا بالركنيات والأساسيات.. من هنا رأيناه يعتمد خطّة تقديم الأهم على المهمّ، ليس لأنه يرى أن العقيدة تفاريق وإقطاعات تؤخذ بالتجزئة، كلا، إنما همّه أن يسلك بالجماهير والنخب التي طالما غيّبتها الأيديولوجية الإلحادية عن الشرع، المنهج التذْويقي المفيد. فبدلاً من أن تستثار أمامها قضايا ذات طابع استكمالي، توضع أمامها المبادئ الروحية التي -حين يتحقق استيعاب الجماهير لها-، فإن قابلية الاستكمال تتهيّأ لدى تلك الجماهير. وعندئذ تجد الناس يسعَون هم بذواتهم إلى استيفاء شروط تديّنهم.. ومن ثم فلا ينبغي أن يتهوّر المسلمون فيجعلوا من نقاط الخلاف المعلن نقطة الانطلاق إلى بناء الغد ونشدان النهضة. ذلك لأن كولن يرى أن تعميم قيم العقيدة وإشاعة ثقافة الدين على نطاق جماهيريّ واسع يقتضي التدرّج بالناس (وإِخراجهم من تغريبيتهم بحكمة التيسير) والسير بهم برشد عبر منهج يتيح لهم أن يكتشفوا عظمة دينهم من خلال التعرّف على أسسه الإنسانية وأركانه الأخلاقية، فإذا ما تم لهم حظٌّ من ذلك، انقلبوا بأنفسهم إلى التفاصيل الشرعية يحتضنونها، وإلى التفاريق العقدية يعتصمون بها، ويستكملون كلية إيمانهم.
مبدأ تداول المشترك الإنساني
يؤمن كولن بمبدإ الحق للبشر في تداول المشتركات التجهيزية والإنجازات الإنسانية، وبكونها ثمرة ومكسبا لا ينبغي التقصير في الأخذ به والتمرس عليه، لاسيما في الحقل العلمي وفي المجالات التطبيقية، إذ بتوسع المعرفة الإنسانية يتحقق التطور، والتطور حين ينبني على مسطرة من أخلاق النزاهة والحيادية، ينعكس بثماره على الإنسانية جميعا، إذ إن أي اكتشاف علمي أو صناعي أو صحّي أو ما إلى ذلك، إنما تترجح فائدته المادية والأدبية -حتى بالنسبة لمكتشفيه ومُنْجزيه- على قدر ما يتسع تداوله ويروج استخدامه. ذلك أن الأخذ بأسباب التطور -عندما يسير في الاتّجاه الصحيح- لا يعني إلا أن الآخذين بتلك الأسباب إنما يسكنهم إلى جانب وازع الترقية التجهيزية، وازعٌ معرفي مُلِحٌّ هو الحرص على الوصول إلى المستوى الذي يتمكّنون فيه هم أيضًا من استكمال الاستعداد والتهيّؤ للإسهام بدورهم في حركة الكشوف والإبداع، فيغدون من ثمة متحكّمين في التقانة، مولّدين للعلم التجديدي، مصدّرين للخبرة، ومزوّدين للسوق العالمي بالمنتوج الذي صنَّعته أيديهم، وبالتقنية التي تفتّقت عنها عبقريتهم.
لا ينطلق كولن في هذا التصور من فراغ، إنما هو يستند إلى معطيات التاريخ، إذ إن العثمانية التي رادت الأمة في بناء حضارتها الإسلامية ردحا مديدا من الزمن، قد سجّلت على مدى القرون صفحات من السبق المعرفي والظهور الإنجازي، بحيث لبثت طيلة العصر الوسيط مَصْدَرا باثًّا للقيم الحضارية والمدنية، وموئلا مستقطبا للخبرة العالمية، ومثابة مستقبلة لأهل القرائح والإنجازات من كل صدد وصوب.
بهذا الوعي يرى كولن أن مرحلة الاقتراض المدَني لا تعني الاستنامة للعجز الإنتاجي، بل عليها أن تكون جسرا تعبر الأمة من فوقه إلى طور التصنيع الشامل، وتتجاوز وضع العقم الذي صير مجتمعاتنا المسلمة أسواقا تستجلب إليها البضائع، وجعل جموعنا البشرية مجرد كتل تستهلك ولا تكاد تنتج شيئًا. إن رصيدنا من الناجز الحضاري الإسلامي، مرجع حيوي لتغذية القريحة وشحذ الهمّة وتحريك مفاعيل العمل والبناء، والانطلاق من جديد في صناعة المستقبل وإقامة الصرح.
فالخلفيّة التي تستند إليها الانبعاثة النهضوية، مشحونة بالمآثر والصفحات البيض التي ستشكل أرضية الفتوح العلمية المنتظرة وأساس التنمية المنشودة. إن اقتحامنا للرهان التصنيعي والتثميري لا ينبغي أن يكون مجرد مغامرة تفتقد إلى شروط الأهلية والاستحقاق، بل عليه أن يكون يقظة يسوغها وضع الانسحاق الذي نعيشه منذ أمد. من هذه الاعتبارات يرى كولن أن النهضة هي في واقع الأمر توبة شرعية ومدنية تستدرك بها الأمة ما اقترفت من إثم التفريط والتقهقر والإخلال بموثق الائتمان.
واستمداد المدنية الراهنة وتلقّي نتاجاتها ومنجزاتها لا يكون مفيدًا وإيجابيًّا إلا إذا رافقه وعي يستصفي شوائب تلك المستوردات؛ إذ إن العقل الذي صاغها واستنجزها عقل لا يهتمّ بالبعد الشرعي في المصنوعات، لأن التأثيث المادي هو غايته فلا غرو أن نرى قطاع الألبسة مثلاً لا يفتأ يمعن في التهتك والسفورية وتخطي حواجز الاحتشام. ذلك لأن ضوابط حضارة “الموضة” ليست شرعية إنما ماركوتنغية، ربحية. والأمر نفسه نجده في ميدان التغذية والتموين والتطبيب وما إلى ذلك، إذ يغيب البعد الشرعي في صناعة الأطعمة والمواد الدوائية، فلا تراعى المحظورات. إن حضارة الراهن الغربية حضارة لائكيّة، مادية، اختلاطية، فهي من ثم تقتضي من المتداولين لابتكاراتها، أن يصطنعوا نظام “فَلْتَرَة” وتصفية مانع للأذى، صونًا للقيم الأصلية من الأضرار.
وإن نظام النهضة المأمول لن يكون أصيلا، ولن يجسد كماله ونموذجيته إلا إذا راعى الطابع المعياري الشرعي في سائر مبتكاراته وتداولاته. ولقد بين الأستاذ كولن في كتابيه “ونحن نقيم صرح الروح”، وكذا كتابه “ونحن نبني حضارتنا” الاستراتيجية التي تصلح لتنفيذ رهان الوثبة النهضوية والأسس الواجب توفرها في الفواعل (رجال الخدمة بمختلف مسؤوليّتهم التمويلية والإنجازية)، وفي التخطيط والوسائل والأهداف والتكييفات والمتابعات.. ولا اعتبار لنهضة تجعل من تقليد الآخر واستلهام معاييره ومقاييسه سقف رهانها ومنتهى عزمها.
إن الممايزة -بالنسبة إلى رؤية كولن- شرط مدني يَفْرُقُ بين مقومات الـ”أنا” الجمعي الإسلامي ذي البعد الروحي الراسخ، وبين ما سواه من أنماط التمدّن التي تعول على المواضعات المادية والنظم الصماء.
الدين مجال استلهام وترشيد، وليس كما يزعم المخترقون والضالون، أنه -فحسْب- تكؤة يستند إليها القصر وضعيفو النظر، وهزيلو الخيال.
إن ما يبدو لأولئك الجاحدين من سعة يُتيحها النظر المتحلّل من الضوابط، ومن انفساح في الرؤية يكفلها الانخراط في أجواء الحرّية المطلقة والتحرر اللامحدود، هو وهْم وبيل؛ إذ لا يغنم الإنسان من أجواء التحلل والتهتّك إلا التسكّع المجاني، والعود على بدء، وإنهاك الروح من غير طائل؛ إذ جماع ما تُحصِّله الإنسانيةُ من جرْيها وراء سراب الانطلاق والتحلل من عقال الشرع، هو مظاهر صورية تستجيب للحس أكثر من استجابتها للعقل، وتلبّي الحاجة التهتّكية والتمتّعية العابرة أكثر من تلْبيتها لما يخدم البشرية. وإن المتع الحسية غذاء الأجساد، والعقل غذاؤه الحقائق الألماسية الصلبة التي لا ينال منها الزمن.
الضوابط -حتى الأرضية- تحُول بين الكائن وبين الميوعة، فكيف لا تكون وقاء لا يبلى حين تكون ضوابط صادرة عن السماء؟!
إن القوى الاحتكارية (والأقلّيات) الباذخة، المستهترة، الباحثة عن المكاسب، هي مصدر التمييع الثقافي، والجري وراء الشكلية الجوفاء، والتفسّخ المقيت الذي يستهدف العالمين، وهتْك الحرمات وضرْب المقدّسات.
وإن مساحة الزيف ضيّقة وإنْ توهّم المتوهّمون لا محدوديّتها، إذ هم لابثون في الدوارن حول وتد الشهوة والأهواء، والإفتان (والافتتان) الرخيس، والتضليل التعيس، أشبه بثور مربوط إلى حلقة.
إن الممايزة تعني الاستئناف المؤصَّل الذي يتجسد على أرضية الواقع من حيث الإبداع والعمل وتحقيق الكفاية والفائض عن الكفاية. حتى الاستنساخ الذي تمارسه الأمم بتخطيط في نقل معارف بعضها من بعض يعكس مستوى من الأصالة ونمطا من الذاتية التي تضفيها -حتما- تلك الأمم الناقلة على نقولها، ولو من حيث إظهار قدرتها على المحاكاة والتمهر في الاحتذاء؛ إذ الاحتذاء -إذا كان مؤسّسا على حسّ التجاوز ووازع التأصل- هو عتَبة مهمّة لكسب المهارة والخبرة والثقة التي هي شرط أساس للتحول إلى الابتكار الفذّ والتفرد المميز، إذ لا ننس أن معطيات المكان والبيئة والواقع الاجتماعي المتحرّك، تنتهي بفرض ختمها وخصوصياتها على المنتوج (ولو كان مقلّدا)، لأن الحاجة التداولية هي الموجِّه الحاسم لجهة طبع الناجز، أيًّا كان ميدانه، ونوعيّته، حتى الناجز الذهني والفكري والأخلاقي، فضلاً عن الناجز المادّي والتأثيثي، إذ جميعًا تحكمها ضغوط الحاجة العملية والتجهيزية المُوَلِّدة لها.
وبالنسبة لرهانات النهضة الإسلامية -كما يترسّمها كولن- فإن رصيدها التاريخي، وعمقها المدني، وتراثاتها العريقة في شتّى الميادين، هي أرضية ومرجعية أساسية ينطلق منها أي انبعاث إحيائي تعميري.
إن الوجدان الجمعي للأمّة لا يزال مشحونًا بأصداء جذلى لتاريخيّة حافلة باليقينيّات والمآثر وسجلات التفوّق والمعنويات الكامنة والاستعدادات المهيّأة للنهوض واستعادة العزّ والكرامة.. فالأمّة ذات العراقة لا تكون مراحل تراجعها وتعطلها إلاّ بمثابة استراحة المحارب الذي لن يستغرقه القعود وإن طال، فهو سينهض لا محالة، وسيستأنف نزاله واستبساله؛ لأن روحيته جبلتْ على السير والطراد.
اجتهاد التأصيل والتصويب
يشكل البحث في محيط الدلالة القرآنية والنبوية، وقراءتها من زاوية سبر البعد المدنيّ التجدديّ، الذي تَشْتَحِنُ به، مَنْشطا مُهِمًّا ومَشْغلا رئيسًا في منهج الأستاذ كولن. فطالما استلهم المنظّرون أفكارهم وتصوراتهم من وحي الافتراض والتخيّل، أو استمدّوها من حقل الاقتباس والتركيب، أو أنشأوها من خلال استنطاق التاريخ ومنعطافات المسيرة الجمعية لأممهم. وكُولَن في رسمه لخطّة المستقبل، يستند على أرضية صلبة من المعطيات، تتمثل في مقررات الكتاب والسنّة من جهة، وفي بيانات السجل التاريخي كما عاشتها الأمّة في أطوارها المختلفة، وبكل ما ميّز مسيرتها من انتصارات وانكسارات.
إن استقراء توجيهات وإيعازات هذه المصادر القدسية والتوثيقية، واستدرار تبصيراتِها وعِبَرِها، هو نوع من الاستنباط الفقهي الدقيق الذي يخصّ مصير الأمّة ورسالتها الربّانية الخالدة. فهو إذن حقل تخريجي من صميم جنس الاجتهاد الشرعي الذي أهاب القرآنُ بالأمّة أن تُفرِّغ له على الدوام مَن يتكفّلُه ويتولّى مراسه: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(التوبة:122).. بل هو ذروة هذا الاجتهاد الشرعي وسنامُه الذي حرضت عليه الآية وأوجبته، لأن المناط فيه مناط جمعي مصيري.. بل إنه تطبيق عملي لدعاء المسلمين المتردد على ألسنتهم وفي قلوبهم مع كل صلاة ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الفَاتِحَة:6)، فاستشراف المنافذ والمصادر والطرق التي تساعد الأمة على الخروج من منسحقها، هو جهد اجتهادي وتمحيصي يهدف -في إخلاص- إلى استنقاذ الأمّة وبيان السبيل الأوفق لها، والجادة الأجدر أن تسلكها.. فهو من هذا الجانب جهاد أكبر، وفقه أكبر، حريٌّ بالأمة أن تلتفت إليه، فتُرسِّمه ضمن معارفها الشرعية الأصيلة.. ذلك لأن هذا الضرب من الترَوِّي الإسنادي قد تعاطته الأمّةُ في عهود مضت، حين تصادمت مع التمدد الصليبِي وجثُوِّهِ على ثغورها. وإن ما كتبه الغزالي مثلا، هو بعض ما حاول النيّرون من مفكّري الأمة أن يتصدوا به للعدوان آنئذ. غير أن الأمة وإن واجهت الاعتداء غداتئذ بالجهاد وبثقافة الانكفاء، إلا أنّها لم توفّق إلى تنمية فقه الاستنهاض والاستقواء.. لأن مضاعفات التراجع كانت من الفداحة بحيث تقلّصت الرؤية وانحصرت -أجل انحصرت- في مطلب البقاء الأعزل، بعد أن تدهورت الهمّة واقتصرت على الرضى بالكفاف.
وإن الاشتغال الفكري الذي يواظب عليه الأستاذ كولن اليوم، هو قمّة الحدب والتكفل الذي تمليه على الأكرمين روحُ الاحتساب والمبرة والمرحمة حيال أمّتهم ودينهم وإنسانيّتهم. ولا يمكن في هذا الصدد إلا القول أنه اشتغال موصول باجتهادات أرباب الفكر الفقهي ممن عاشوا وأفئدتهم مشرَّعة تحتضن الأمّة، وتقيل عثارها في مواطن الزلل.
فحين يستنبط المفكّر ورجل المدَنية كولن مفاتيح فلسفته من صلب معطيات ماضيه، وصميم تجارب أمسه، فإنه يسترفد التاريخ الذي كتبت الأمة صحائفه بدَمِها، ويسترشد الحضارة التي شادت الأجيال معالمها بعرقها، ولا يكون كولن في كل ذلك -قطعا- عالةً على ذلك الماضي، ولا هو منتكص صوبه لدواعي العجز والكلال، كلا، إنما الذي يحمله على القيام بمثل ذلك الاستئناس هو الرغبة القويّة في أن يستوثق للأشواط حتى لا تحيد، وللرمية حتى لا تخطئ.
داعي الأصالة والتأصيل يلحّ عليه فيزداد استمْساكًا بالأرضيّة والجذور، لقد علّمته دروس التاريخ أنّ مسار الحضارات آيل إلى طريق الانسداد ما لم تدر عجَلته على دعامة الرّوح.. بل لقد علّمه التاريخ أنه حتى المدَنيات ذات البعد الروحي والشرعي، مآلها إلى السقوط ما أن تنحرف عن الخطّ الأخلاقي، وتحيد عن النهج الالتزامي.. وإن مصير الحضارة الإسلامية في شوطها المنصرم لَناطق بهذه الحقيقة، ومؤكّد لاطرادية قاعدتها. من هنا كان الحرص على استحضار البيانات والمعطيات والاسترشاد بها في رسم الطريق إلى النهضة.
إن تِيمَة النهوض والانبعاث أضحت هي القضيّة الفقهية المركزية التي يطرحها واقع الأمّة على المفكّر كُولَن، ويعرضها لسان حالها عليه، وتستفتيه بخصوصها أوضاع الشعوب المسلمة.
لقد أرسى أئمّة المذاهب الفقهية قديما أسس ثقافة العبادة وعلوم الشعائر، وكانت تلك الثقافة التعبّدية تمثّل في وقتها واجهة المقاصد التي لا محيد عنها لوضع قواعد البناء الحضاري.. وينبري اليوم رؤساء الفكر الالمعيين ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾(ص:24) لتدشين فقه النهضة وإقامة أسس الاجتهاد في مجال اليقظة والتعمير.
المفكر النهضوي يرسم الخريطة التي تتحرّك عليها الأمّة، بتشخيص الأدواء، ووصف الأدوية، وتقدير مدّة العلاج والاستجمام، ثم يرافق بنفسه المراحل، ويصاحب الخطوات، فلكأنه مقاول ينشئ مدينة بكافّة مرافقها؛ فالأعمال تجري تحت بصره، متساوقة، لتكتمل في الإبان.
ومن فداحة النتائج التي أسفرت عنها المسيرة المؤدلجة، ومن كارثية المآلات التي انتهت إليها الأمّة وهي تلْهث وراء سراب العبث، باتت الجماهير لا تثق في حكّامها ولا في سياسيّيها. وحدهم القلةُ من الأفذاذ الذين سلخوا العمر في المنازلة والالتحام مع فئات المجتمع والشعب، أضحوا رادتها ومحلّ ثقتها، ومن تُسلِّم إليهم المقادة في حب ويقين، وتنصاع لتعاليمهم وتوجيهاتهم بلا تردّد؛ ذلك لأنها سلخت العقود وهي تراهم ملْء السمع والبصر عاكفين على العطاء، ممعنين في المناضلة ومكابدة ألوان الحرمان.. وأكبر وأقسى أصنافه انعدام العش والزوج والولد.
وتلك -لعمري- هي بالذات آية الاصطفاء، وذلك هو عنوان البسالة والتفرّد الذي جعلهم ربّانيين بلا منازع.. وإلا مَن ذا الذي يطمع في أن يصيبه بعض غبار سنابك خيلهم وهي تطوي المدى في مضمار المقامية.. رابطوا العمر كله للحق بالحق وليس لشأنٍ يخصّهم أو مطمح يستوطنهم، إنهم أهل العزْم والكمال، يجودون علينا ببعض الحظوظ الربّانية التي نالوها بالعرق والبكاء والاستماتة.
اختاروا الخلود فعاشوا ينجزون ما يضاعف الأجر ويؤهّل للديمومة.
وإن ما أحجمت الفئات عن المدافعة عنه من تحوّلات تطعن العقيدة والشرف والأصالة والانتماء في العمق، هبوا هم يساجلون دونه بكلّ ما أوتوا من قوة ودهاء، يستمدّون العون من الله، واثقين من أنّ الظفر في النهاية يكون للحقّ، مشفقين على الجماهير وهم يرونها تنقاد منكسة، تمتثل لما يصدر لها من أوامر وزواجر المستبدّين.. لكَم طفقت تدْمى أفئدتهم جراء أحوال الصغار التي كانوا يرون عليها أمّة النبي، والأجيال من أحفاد الفاتح.. لبثت أصواتهم تعلو وتهيب بالأمّة أن تستفيق وتعمل لأجل أن تنتقل إلى مستوى الكفاءة والقوامة.. كان يدحرهم وضع التخلف والحطة التي أَزْرَتْ بأمّتهم، ذلك لأنهم يعتبرون وضع التخلّف والانحدار وضْعٌ شاذٌّ لا يتناسب مع الشرط الإنساني، ولا تحتمله صفة التولية والتكليف التي أضفاها الله علينا نحن المحمّديين، “أورثَنا الانحطاطُ ليس التخلّفَ المادّي والترهل البنيوي فقط، ولكن عُقَدا استشرت وقمعت في الروح كل نزوع للانبعاث واليقظة. من هنا توجَّب العملُ الشمولي على التداوي ومعالجة الذات من عقد الحطة وتبعاتها المعنوية والأدبية”.
لقد استيقن كولن أن الفريضة الغائبة هي فريضة النهوض المدَني والانتفاض المادّي. وأنه من الوفاء للموثق أن يعمل النيّرون، على تحيين هذه الفريضة، وأن يتحوّلوا في خضم التحضير لها، إلى قواطر تجرّ العربات.
ولقد أدرك أن النفاذ إلى تحقيق الهزّة التي تنتشل الأمّة من وهْدتها، وتعيدها إلى الجادة، إنما يتم من خلال تشغيل محركات الانبعاث وبناء الهوية والتي هي الدين والتاريخ والانتساب إلى شجرة الإسلام المنفتحة على بني الإنسانية قاطبة.
وإن خوض الأستاذ كولن لتجربة الخدمة هو -حقا- تدشين لآفاق نهضوية لا قِبَل للأمة بها. لقد عملت بعض الطرق، ومنها السّنوسية مثلا في القرن الماضي، على اتباع نظام الاكتفاء الذاتي فشجّعت أتباعها على إقامة مستزرعات في أماكن استقرارهم بالواحات وغيرها، سعيا منها إلى أن تضمن مستوى من التكفّل الذاتي، لكن تجربتها لم تخرج عن الجهد التمويني القطاعي، والمقتصر على منظومة زواياها ورُبَطها، وفي قسم من حاجاتها، ليس إلاّ.
إن الخدمة كما رسم لها الأستاذ كولن، منهاج يفتح في وجه الأمّة مجالات واسعة وحيوية بإمكان أهل الاستعداد أن يوظّفوا فيها فوائض أموالهم وديناميّتهم ومعارفهم وكل ما يتوفّرون عليه من إمكانات وقدرات ومن مهارات على صعيد التصور والتخيل والإبداع.
لقد تشربت مواجده وارتوى فؤاده وضميره من معين النهج النبوي وملحقاته من مآثر السلف الصالح، زيادة على ما نهل من تعاليم القرآن وضوابط الشرع. وكل ذلك حول سيرته ووقائع حياته إلى اجتهاد فقهي حي؛ إذ ساهمت الوجهة المدنية والمنهجية البنائية التي انبرى لها، في ظهور وميلاد فقه العمران والنهضة. فلأول مرة تخرج بيداغوجية الزهد والانقطاع والعكوف في الخلوة، عن نطاق مبدإ رفض الحياة والإشاحة عنها، لتنخرط بكل ما لها من إيمان غيبِيّ وحسّ أخروي، في التعمير وإقامة مشاريع التمدّن والخدمة.. تفعل ذلك تجاوبًا مع قوله تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾(الْمُؤْمِنُون:115-116)، وقوله تعالى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزَّلْزَلَة:7-8).
لقد تصرمت العهود المتلاحقة التي ظلّ فيها قطاعٌ غير سوي من الفكر التزهيدي يشحذ في المسلمين روح الاستقالة، بل ولقد مضت عهود لبث فيها حتى العاملون من رجال الله يؤدّون من جهود الارتفاق والتعمير ما لا يتجاوز حد الضرورة، إذ ظلّت قراءتهم الغروبية للتاريخ (غروب الساعة) تصور لهم دنوّ الأجل الذي ستنتهي فيه الحياة ويتوقف التاريخ.. وبالفعل لقد تسببت رؤيتهم الأزوفية تلك في توقّف التاريخ بالأمّة في القرن الخامس، وإن أكثر ما تحقق من منجزات بعد ذلك القرن في مضمار الحضارة والفتوح، إنما كان من أثر الاندفاع الذي استمر -وبتراجع طبعًا- يفعل فعله التحريكي حينا بعد تعطل المحركات عن العمل.
لكن منهج كولن يعمل اليوم -وبإصرار لا هوادة فيه- على إعادة ضبط عقارب الساعة على التوقيت العصري، وإنه لَيشقُّ بالفئات طريق التعمير، وبما أنه طريق مستجدّ، فإن كل إنجاز يتمّ على صعيد التنمية والبناء، إنما هو اجتهاد فقهي تعميري، ذلك لأن فلسفة الخدمة -عند كولن- أدمجت التعمير في العبادة، وعادت بالرؤية المدَنية إلى صميم روح القرآن، إذ القرآن، وفي أبرز آية من آياته البينات، وأكثرها تردادا وتداولية، قد قرن الإيمان مع العمل، نقصد اللازمة القرآنية: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، بل إن القرآن في سورة الماعون مثلا، -بل وفي ما سواها من مواطن قرآنية عدة- قد قدّم الجانب الاجتماعي على الجانب التعبّدي، فجاء التنبيه إلى رعاية حقّ اليتيم والمسكين سابقا في متن السورة على التنبيه إلى رعاية حق الله.
الفقه التمويلي
الخدمة التي أرسى بنيانها الأستاذ كولن، نَجحت في التحوّل بزكاة مجتمع التكفف (اقتصاد التقشف والتقلل التي سادت عصر الانحطاط) إلى زكاة التساهم والتثمير التمولي المنتج والفائض عن الكفاية.. وهذه الزكاة التثميرية هي امتداد للمردود الخراجي الذي كانت تغله الدولة المسلمة قديما من المستثمرات الزراعية، إلا أن مداخيل الخراج ظلت -في الأغلب- موجّهة إلى تسديد نفقات القصر والعسكر. أما زكاة الخدمة -في فلسفة كولن- فقد تطوّرت بالتمويل إلى مستوى استثماري نوعي ولَّده الاجتهاد والترقّي في الرؤية التدبيرية للشأن الاقتصادي، وأتاحه التوسع في قراءة مقررات الشريعة ومفروضاتها حسب الضرورة العصرية.
إن نظام التمويل الخدمي هو ارتفاق هيكلي فعّال ومحايث للمرحلة والعصر، ويشكّل وثبة تعَزَّز بها دورُ التكافل الجماعي، بل ومكَّنَ من الارتفاع بهذا التكافل من وظيفته الإحسانية التي كانت في ما مضى تؤدّي واجبا خيْريًّا استنقاذيًّا، آنيًّا، بسدّ شيء من حاجة الأفراد والأسر المحاويج، إلى وظيفة خدمية، ذات مردودية نمائيّة ملْموسة، وإضفاء طابع المؤسّسة عليه (التمويل)، ضمانا للنجاعة والتوسّع؛ إذ المؤسسة تكتسب صفة الحياة والاستمرار بفضل مخطط ونظام الأداء المنضبط الذي تتبعه، والذي هو -في الحقيقة- تقنين إذ شئنا أن نعيّن له موقعا في المنظومة التشريعية، فحتْما سندرجه في فقه الخدمة.. لأن إنشاء مشاريع العمل والاستثمار، وإدامة سير الخدمة وأوجه الإدارة والتكييف، والتحكّم في مستويات الإنفاق والتمويل والموازنات، هي الإطار التقنيني والتنظيمي الوضعي الذي يضمن سلامة الأداء ويحفظ المستثمرة من الوقوع في الاختلالات. وذلك بفضل فقه الضبطية، لأن ماهية الفقه في المدنية الإسلامية لم تقتصر على المجال التعبّدي فحسب، وإن مدوّنة قواعد المراقبة والمرجوعية المعيارية التي مارس بها المحتسب في الحضارة الإسلامية دوره، كانت مدوّنة فقهية من استنباط الفقهاء.
من هنا نسجّل هذا تباشير النماء الحاصل اليوم في فكر التشريع، وعلى يد المدرسة التي أسّسها كُولن، إذ بفقه الخدمة يحقق الفكر الشرعي وثبة نوعية في مجال توسيع الاجتهاد وتغطية أرضية التمدّن والنهضة والتطور بالمعادل التشريعي الاجتهادي.
إن تجديدات الخدمة التجهيزية والارتفاقية والمدنية زيادة على طابعها التحولي الفعلي، هي أدخل في مطلب تحقيق الممايزة. ولا بدّ أن نلتفت إلى سورة الكافرون، وإلى الجدار الذي أقامته بين المسلم وغير المسلم؛ فهي سورة الـ”لا اندماج” ليس في باب العقيدة فحسب، ولكن في باب المثاقفة السلبية عامة. وإنه لبيِّن أن الأمّة التي لا تخطو بجدّ في حقل التمدّن والتصنيع وتحقيق الكفاية، لن تستطيع أن تحقّق التطابق مع هذا الإلزام الذي نادت به السورة. من هنا يتوجّب علينا المضي، وبكل عزم وتثبّت، تحصيلا للقوامة التي نغدو بها في مستوى ما توجبه علينا تعاليم كتابنا التي هيّأتنا لأنْ نكون محلّ احترامٍ وإلْهام وريادة وخير وإحسان للعالمين.

مقدمة الكتاب