ولفهم الدوافع و الحوافز خلف الالتزام بالخدمة و الدعم المالي من قبل ملايين الأتراك لحركة كولن، فإنه من الضروري فهم بعض الممارسات الثقافية و الدينية المرتبطة بالعمل الخيري و الإحسان في التاريخ التركي، و من الواضح أن الحركة بدأت في تركيا و ينظم أنشطتها في الغالب مواطنين أتراك و أتراك المهجر حول العالم، و خلص العديد من العلماء، للأحسن أو الأسوأ، أن الحركة ترتبط في جوهرها بالثقافة التركية و خاصة الفهم التركي للإسلام، و مال علماء آخرين إلى وصفها بأنها ” تشهد على التقاليد في العصر الحديث” و أنها الإسلام التركي القابع في قلب التقاليد. لذلك فمن المستحيل تحليل ما يحفز الأتراك للتبرع بسخاء إلى أنشطة الحركة دون فهم مفاهيم العطاء و حسن الضيافة المتأصلة في الثقافة التركية.
وإن أحد جوانب حركة كولن، الذي نوقش حديثا في الإعلام دون الاهتمام الكافي للسياق الثقافي التاريخي، هو مسألة كيفية تمويل الحركة و العدد الكبير من المؤسسات و الأنشطة، بالإضافة إلى بعض تحقيقات العلماء في تلك المسألة و طبعت و نشرت بعض الصحف و المجلات و محطات التليفزيون التركية و العالمية و المدونات عدد من الاتهامات حول مصادر الحركة المالية، و خلقت مزاعم أن الحركة تلقت مساعدات من مصادر خارجية مضادة مثل وكالة المخابرات الأمريكية و الموساد و الفاتيكان و المملكة العربية السعودية و إيران و الاتحاد الروسي، و افترضت المعارضة السياسية و الأيديولوجية أن العديد من الأفراد الذين يدعمون مؤسسات الحركة و أنشطتها ماديا و من خلال التطوع أو الجمعيات الرسمية يتم تحفيزهم بنية الوصول إلى السلطة السياسية و / أو تحويل الأمة/ أو العالم إلى الإسلام الراديكالي أو المتحرر، و بالرغم من ذلك فإن معلومات المقابلات التي أجريناها تظهر أن معظم الداعمين للحركة سواء كانوا مشاركين من الأتراك المسلمين أو غير أتراك أو متعاطفين غير مسلمين يتم تحفيزهم عن طريق الرغبة الإنسانية الحقيقة للعطاء.
و يوضح غراهام فولر ( النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات القومي في وكالة الاستخبارات الأمريكية و أستاذ العلوم السياسية في “مؤسسة راند” و الخبير في كل من الشرق الأوسط و العالم الإسلامي) على سبيل المثال أن عدد المدارس المستوحاة من كولن تتوسع و يعود ذلك إلى سخاء رجال الأعمال الأثرياء الذين يروا تلك الأعمال ليست فقط شكل من أشكال الزكاة ( الصدقات التي تمنح كوسيلة من وسائل المساعدة لمن هم أقل حظا و للحد من عدم المساواة الاقتصادي) بل هي أيضا إدراك للإحسان، ذلك الدافع الروحي العميق لتفعيل إيمان الفرد من أجل إتقان الامتياز الروحي من خلال ” القيام بأشياء جميلة” و يقول أيضا ما نصه :
” أطلقت حركة كولن برنامج رئيسي الذي بنى شبكة من مئات المدارس و يأتي التمويل من داخل المجتمع و من رجال الأعمال الأثرياء الذين أصبح عندهم بناء المدارس من أعمال البر الحديث التي تعادل بناء المساجد”.
و يعتمد تفسير فولر لرغبة رجال الأعمال الأتراك المسلمين في تمويل المبادرات التعليمية للحركة على وجه التحديد على المفاهيم الإسلامية، و بالتالي فإن استكشافا وجيزا لثقافة العطاء و حسن الضيافة في تركيا على وجه الخصوص و في الإسلام بشكل عام سيلقي الضوء على القضايا ذات الصلة بأنشطة الحركة و مصادر تمويلها ودوافع العديد من الأشخاص الذين يساهمون في الحركة بطرق متعددة. و إن أهم عنصر في أي حركة إيثارية اجتماعية بما فيها حركة كولن هو رغبة أعضاءها في العطاء من وقتهم و أموالهم و طاقتهم دون توقع أي مكاسب مادية في المقابل. و في هذا الفصل سوف نبرهن أن بعض العناصر الأساسية التي تعرف و تحدد خصائص حركة كولن مثل الإيمان بالفضائل و ممارستها مثل التضحية بالذات و العمل الخيري و الإحسان هي عناصر متجذرة بعمق في الثقافة الإسلامية التركية.
إن لقيم العطاء و حسن الضيافة جذور تاريخية عميقة في الثقافة التركية، و قد ترجع التقاليد المرتبطة بالكرم و حسن الضيافة و العمل الخيري إلى حضارات آسيا الوسطى التي انحدر منها الأتراك، و لقد اعتنق الأتراك البدو الذين عاشوا في آسيا الوسطى للإسلام في القرنين التاسع و العاشر، و من الأسباب العديدة لاعتناق هؤلاء الأتراك الإسلام هو وجود العديد من أوجه التشابه بين أنماط حياتهم ما قبل الإسلام و بين قيمهم و أخلاقهم التي ينص عليها الإسلام، و بالتأكيد فإن الإسلام قد عزز و أضاف بعدا روحيا إلى ثقافة تركيا ما قبل الإسلام و أضفى عليها طابعا مؤسسيا، إضافة إلى وقف بعض الممارسات غير المرغوب فيها مثلما حدث في مع تفاعل الديانات الرئيسية الأخرى مع الثقافات المحلية.
كما أن بعض العادات و التقاليد التي تنسب عادة إلى الإسلام ربما قد تكون موروثة من الثقافة التركية قبل الإسلام، و لكن بما أن الإسلام قدم عادات و تقاليد مشابهة جدا فقد أصبح من الصعب معرفة أيهما أتى من الإسلام و أيهما أتى من الثقافة التركية، و مع الأخذ في الاعتبار الاحتمال الكبير أن معظم العادات التركية الإسلامية و القبل إسلامية المرتبطة بالعطاء و حسن الضيافة متداخلة، فسوف نتعامل معها على أنها جزء موروث من الثقافة التركية حتى نهاية هذا الفصل. و لا بد من الإشارة أيضا لحقيقة أن الرؤى العالمية و ممارسات طرق دينية محددة ( مثل الطريقة الصوفية المولاوية في قونيا) و منتجاتهم الدينية الثقافية ( على سبيل المثال دواوين الشعر الست المعروفة بالمثنوي المعنوي لمولانا جلال الدين محمد الرومي) كلاهما تبلورا و أصبحا متطابقين مع المعايير الثقافية للمنطقة بطريقة تجعل من المستحيل تمييز أحدهما عن الآخر.
و أحد أهم مصادر التاريخ التركي المبكر هو نص بعنوان قصص ” الذئب الأعمى” التي تدور حول العصر البطولي لأتراك الأوغوز في القرن الثامن الميلادي، و توثق هذه الأساطير الملحمية تحول القبائل التركية من الشامانية إلى المجتمع المسلم فضلا عن استمرار وجود ثقافة متميزة من العطاء و حسن الضيافة. فعلى سبيل المثال فإننا نجد مع الحكايات التي تروى عن شرب الأتراك الأوغوز للخمر و أكلهم لحم الحصان و هي عادات غير مألوفة بين المسلمين حاليا، وصفا لراو عن رجل يدعو إلى الصلاة “يؤذن” يقول : ” عندما رفع الفارسي طويل اللحية النداء للصلاة”، و يشير هذا الفعل بقوة إلى أن الدين الجديد لم يكن بعد مقبولا كليا، كعنصر متأصل داخل المجتمع التركي، و توصف نفس تلك القصص اللقاءات الاجتماعية و الدعوات للتجمعات وصفا دقيقا حيث كان رئيس العشيرة أو رب الأسرة ينظم وليمة كبيرة و يوزع الهدايا الكثيرة للضيوف، و من المؤكد أنه كان للأتراك ما قبل الإسلام عدد هائل من المناسبات لولائم العطاء مثل الميلاد والزواج و احتفالات التسمية وعودة أعضاء العشيرة من الأراضي الأجنبية وطقوس التمني و الموت، و من بين الممارسات التركية القديمة التي ما زالت حية في تركيا المعاصرة هي ولائم الزفاف و الزيارة العائلية لطلب يد فتاة للزواج و ذبح حيوان ” أي كوليمة” للضيوف.
إن المجتمع التركي اليوم معروف بحسن ضيافته ( ميسافيربيرفيرليك) و يشهد بشكل روتيني الناس الذين يزورون البلاد بدفء حسن الضيافة التركية و يشرح مؤلف كتاب ( التقاليد و التغيير في مدينة تركية) تلك الظاهرة كالآتي :
” يصعب تضخيم أهمية الكرم و حسن الضيافة بين الأتراك و الشرق أوسطيين الآخرين، فإن أي شرق أوسطي يتمتع بسمعة امتلاكه لتلك الفضيلتين يحظى بإعجاب و احترام أفراد مجتمعه، فالضيوف في البيت التركي يجب أن يعاملوا كالملوك، يقدم لهم أفضل الأماكن و الطعام و الشراب، و يركز كل من في المنزل اهتمامه لراحتهم (…). و في المقابل يجب أن يكون الضيوف مهذبين و ممتنين للغاية، و أحد أكثر الطرق المحترمة التي يمكن أن يقدمها الضيوف لشكل مستضيفيهم هي عبارة : ” تقبل الله (جهودكم)” و ذلك يدل على أن الكرم وحسن الضيافة من الفضائل التي تدل على التقوى”.
وفي العديد من أعمال الأنثربولوجي تعتبر حسن الضيافة التركية أمر مسلم به و من الطريف أنه قد أعير القليل من الاهتمام لأسباب تعامل أعضاء المجتمع بإيجابية غامرة تجاه الضيوف وواجبات الضيافة.
وبالرغم من أن أشكال الضيافة التركية تتغير في المناطق الصناعية و الحضرية نتيجة لتغير عادات العمل و التركيبة السكانية إلا أن حسن الضيافة ما زال موجودا و ظاهرا و يمكن ملاحظته بسهولة، و العديد من التعبيرات و المعتقدات التي تحافظ على ثقافة حسن الضيافة و تشجع عليها في تركيا المعاصرة لها جذور في الإسلام وأيضا في الثقافة البدوية قبل الإسلام.
وتقدم قصص “الذئب الأعمى” على سبيل المثال أمثلة عديدة على كرم الضيافة التركية، فعندما يموت أحد أعضاء العشيرة يذبح أقاربه حصانه و يعدون وليمة الجنازة، و عندما يكون القادة في المجتمع على وشك اتخاذ قرار أو إعلان من شأنه أن يؤثر على الجميع فإنهم يدعون أعضاء القبائل إلى وليمة سخية و يدعهم يغنمون بكل ما في المائدة حتى الأطباق، و بعض القصص تحتوي على مراجع إدانة أو على الأقل التقليل من شأن المنازل أو الخيام التي لا تستقبل ضيوف، و يقول الذئب الأعمى وهو الرجل الحكيم و المقدس لمجتمع العشيرة في ذلك الوقت : ” إن الخيام السوداء التي لا يرتادها الضيوف من الأفضل أن تدمر”، و يعتقد في تلك القصص بأن الشخص الذي يطعم الفقراء و يكرم ضيوفه أو يقدم وليمة كبيرة فإن جميع أمنياته تتحقق، و فيما يلي نصيحة لزوجة أراد زوجها طفلا و لكنها لم تكن قادرة على الإنجاب لسنوات طويلة :
قومــي وهمــة العمـــل استنهضيهـــــــــا
وفوق وجه الأرض خيامك الملونة انصبيها
و دعــــــــــــــي رجلـــــــــــك يذبـــــــــــح
و من الخيول الفحول و من الإبل الذكــــور،
و من الأغنــــــــــــــــــــــام الكبـــــــاش
و اجمعـــــى حولك نبلاء “أوغوزو” الداخلية
و الخـــــــــــــــــــــــــارجيــــــــــــــــــــــة
و انظري للجائع و اطعميـــــــــــــــــــــــــه
و انظري للعــــــاري و اكســــــــــــــيـــــه
و اقضــــي للدائـــــــــــــــن ديــــــــــــونـه
كدسى تلال اللحم و دعى بحيرات اللبن الرايب تسيل
اصنعى وليمة هائلة و اطلبي ما ترغبين ودعيهم يطلبون
و لأجل أفــواه داعيــة تشـــــــدو بمدحـــــــــك
لعل الله يرزقنا بطفل جميـــــــــل و سليــــــــم
وربما تكون التعبيرات و الممارسات الأخرى للضيافة بقايا من ثقافة ما قبل الإسلام و بالرغم من أن الإسلام دعم نفس الأسلوب، فعلى سبيل المثال لو قام غريب بطرق الباب يجب أن يدعى إلى الداخل و يقدم إليه المأوى و الغذاء السخي لمدة ثلاثة أيام و عند انتهاء الثلاث أيام فقط يسأل عن سبب الزيارة. وهذا الإطار الزمني المحدد بثلاث أيام حدده كل من الفلكلور الشفهي التركي و الأمثال الشائعة، و العديد من التقاليد الشفهية عن حياة النبي صلى الله عليه و سلم و خطبه الشريفة سنته المكرمة ( الأحاديث)، بل و يدعو الأتراك الضيف الذي يحل دون معرفة مسبقة من المضيف ” ضيف الله” (Tanri misafiri) .
ويشير الاستخدام الغريب للكلمة التركية “Tanri ” بدلا من استخدام الكلمة العربية أو الفارسية إلى احتمال أن تكون تسمية الضيف غير المتوقع ترجع لفترة ما قبل الإسلام، و بالفعل حين يصنف راوي قصص ” الذئب الأعمى” المرأة إلى ثلاث فئات و يصف ميزات كل منها يمتدح أكثر المرأة التي تستضيف الضيوف و تطعمهم و إن لم يكون زوجها في البيت. وحظيت هذه الممارسات في وقت لاحق بموافقة الدين، مع بعض القيود المتعلقة بتقسيم المساحات المادية في المنزل و بملابس الرجال و النساء و سلوكهم و كلامهم في حالة الاختلاط، و استمرت كجزء من الثقافة التركية إلى يومنا هذا.
ومع ذلك فمن الممكن أيضا أن يكون التعبير مستمدا من الإشارة القرآنية إلى استقبال النبي إبراهيم عليه السلام و ضيافته لثلاث من الضيوف ” غير المعروفين” الذي يتضح لاحقا أنه الوحي جبريل و معه اثنين من الملائكة يحملون له البشرى بأن زوجته سارة ستلد له ولدا، و يحذرونه من تدمير سدوم و عموره و يبشرونه بنجاة ابن أخيه لوط قلة من المؤمنين، و كما عبر عن هذا الدافع الديني لاستقبال الضيوف غير المتوقعين و المسافرين أو حتى الغرباء الذين يقفون على باب الشخص في المثل المسجوع القائل ” على المرء أن يعتبر كل ليلة القدر و كل شخص غريب سيدنا الخضر عليه السلام” ( و فارس تعرف له جهد) و هذا المثل يشير إلى شخصية نبي الله الخضر عليه السلام وهو ولي من أولياء الله الصالحين أو نبي يعتقد أنه يظهر وقت الحاجة وهب القدرة على معرفة الغيب و من المعروف أنه يظهر للأتقياء الموجودين على الأرض، و لذلك يشجع الأتراك على معاملة الغرباء الذين يطرقون أبوابهم كما يعاملون وليا زائرا، و يشير المثل أيضا إلى أن الضيافة في الحياة اليومية هامة كأهمية الاستعداد الروحي لليلة القدر و هي ليلة يتبين لي الصواب و تأتي في النصف الأخير من شهر رمضان و هي ” خير من ألف شهر” كما ورد في القرآن الكريم (القدر : 3( .
و هناك مفاهيم و ممارسات إسلامية أخرى محددة للعطاء تجذرت بسرعة في الثقافة التركية القديمة و هاجرت مع الأتراك عبر آسيا الوسطى إلى الأناضول و دخلت فيما بعد شمال إفريقيا و منطقة البلقان تحت رعاية الإمبراطورية العثمانية، و هناك طرق محددة للعطاء وصفت في القرآن الكريم وحث عليها الرسول صلى الله عليه و سلم (750 – 632 ميلادية) وجدت لها ترجمة ثقافية في المجتمع ما قبل العهد العثماني و العثماني و المجتمع التركي المعاصر. و المفاهيم الرئيسية التي ستتم مناقشتها هي : ( الصدقة، الزكاة، الأضحية، الوقف، أهلك، البركة، الجار، القرض الحسن)، و في هذا السياق سنستعرض أيضا أهمية اللغويات الاجتماعية للتعابير الاصطلاحية و الأمثال التركية الشائعة المتعلقة و بالعطاء و الضيافة، و حسن الجوار، و أخيرا سوف نشير بشكل مختصر إلى الطرق التي وفرت من خلالها المثل العليا و الأنشطة و الخطاب الذي تبنته حركة كولن منفذا جديدا للتعبير الفردي و الجماعي عن التقاليد التركية الإسلامية المرتبطة بالعطاء.
• المفاهيم الأساسية في الثقافة التركية المرتبطة بالعطاء
1- الصدقة.
أحد أهم السنن النبوية المتعبة التي تشجع الأتراك على العطاء هو ” الصدقة” وهو المصطلح الذي يمكن أن يترجم في اللغة الإنجليزية بمعنى ” عمل خيري charity ” أو ” إحسان alms ” أو ” منحة خيرية” تعطى بنية واحدة و هي إرضاء الله سبحانه و تعالى ورجاء الجزاء الحسن في الآخرة ( أي من دون محاولة للحصول على أي مكاسب دنيوية مثل الشهرة أو السلطة أو المكانة الاجتماعية) ، ليس ضروريا أن يكون المستفيدون من الصدقة أتباع دين بعينه، و يتلقى التبرعات كل من يحتاج إليها، و بالرغم من أن كلمة الصدقة تفسر عادة بالشيء المادي أو الملموس و لكن الأحاديث النبوية الشريفة تربطها بفعل المعروف حتى إن تبسم المسلم في وجه أخيه يمكن اعتباره صدقة، مع وعد صاحبها بالجزاء الروحاني، و من هنا يستطيع الناس تقديم المال أو الطعام أو الماء أو الملابس أو الكتب أو الخبرة المهنية أو وقتهم كصدقة، و تؤكد المراجع العديدة للأحاديث النبوية الشريفة على تميز الصدقات التي تعطى في إحدى الظروف التالية : فعلى سبيل المثال، إن الصدقة التي تعطي للجار القريب أو الأقرباء، و الصدقة التي تعطى يوم الجمعة أو في رمضان، و الصدقة التي تعطى في مكة أو المدينة أو القدس، و الصدقة التي تعطى في السر، و الصدقة التي تنطوي على تضحية بالنفس قيل أن أجرهم عظيم .
و ظلت الصدقة تقدم على نطاق واسع في الثقافة التركية الحديثة، سواء كان من يقدمونها من الأفراد يعرفون بأنفسهم أنهم متدنين أم لا، و في زمن العثمانيين كانت الصدقة تعطى في مناسبات عدة و توضح خفية سواء كان في صندوق تبرعات المسجد على حجر الصدقة خارج المسجد أو في الشارع أو في يد ممثل الأوقاف ( أمين الصدقات) أو تعطى الحكومة المحلية وكلا المؤسستين تديران مطابخ حساء مفتوحة للعامة ( إيفليري)، و تضمن هذه الممارسات حصول الأفراد المحتاجين على الصدقات التي يستحقونها بسهولة دون التضحية بشرف العائلة أو بالكرامة الشخصية، و يعتقد معظم الأتراك العثمانيين المؤمنين بالعقيدة الإسلامية أن إعطاء الصدقة بإخلاص يساعد المسلم على درء الشرور في هذا العالم و يثبته عند السؤال في القبر و يرفع درجة المرء في الآخرة، رغم أن حركة التغريب التي بدأت بفترة التنظيمات و حصلت تقريبا على قوة لا تقاوم خلال السنوات الأولى الجمهورية التركية قدمت قيم العلمانية و القومية في كل مجال في الحياة بطريقة من ” أعلى إلى الأسفل” فيمكن القول : إن ما قدم من قيم لم تكن بديلا حقيقيا للإسلام الذي وفر للأناضول الهوية و المبادئ التنظيمية في الحياة لفترة طويلة، و يقول ريتشارد تابر : ” و على المستوى العام لم يكن هذا بديلا عن القوانين الإلهية للإسلام، و على المستوى الفردي لم يكن يلبي الاحتياجات الفكرية المطلوبة للأخلاق و الإيمان بالآخرة” ، و من هنا فالعديد من الممارسات الإسلامية كالصدقة قد استمرت في العصر الحديث.
و تمنح الصدقة في المجتمع التركي الحديث في مناسبات عدة ولو بطريقة أقل وعيا بالدين من قبل بعض الأفراد، و المناسبات الأكثر شيوعا لإعطاء الصدقة هي : ( عن طريق صندوق التبرعات في المسجد المحلي، التضحية الوقتية ببقرة أو كبش ” القربان” وتوزيع لحومها على الفقراء، أو التحويلات الإلكترونية للتمويلات للمؤسسات الخيرية)، قبل ولادة طفل لزوجين شابين أو بعد ميلاد طفل، و قبل القيام برحلة أو بعد إكمال رحلة، و قبل بدء مشروع أو بعد انتهاء مشروع، بعد رؤية حلم سيء أو من أجل الحيلولة دون تفسير سيء له، و قبل أن تقوم العائلات بتزويج أبناءها أو بعد انتهاء حفل الزفاف، و عندما يسمع الأهل أن أبناءهم في انتظار مولود أو بعد ولادة الطفل، و قبل إرسال أبناءهم للخدمة العسكرية و عند عودة أبناءهم من الخدمة، و أكثر الأتراك تدينا يحتفظون بصندوق تبرعات قرب مدخل منزلهم و يضعون به الفكة في كل مرة يخرجون و أيضا يعطون الصدقة للتفكير عن الذنوب أو للتعبير عن شكرهم لله بعد نجاتهم من كارثة كبيرة، و الصدقة تعطي من قبل الأحياء نيابة عن الأموات، و تحدث السنة النبوية التي سيتم مناقشتها على نطاق واسع في الجزء المتعلق ” الوقفلار” ( الصناديق الخيرية) ذرية الشخص المتوفي على إعطاء الصدقة و لذلك السبب فإن أبناء المتوفى غالبا ما ينتظرون أي مناسبة لإعطاء الصدقة ليس فقط لإرضاء الله و لكن أيضا لروح والدهم أو والدتهم أو أحبائهم.
2- الزكاة
و بالرغم من أن الصدقة هي مبلغ أو مساهمة طوعية، فإن معظم الأتراك يدركون الشكل المؤسسي الديني الإلزامي المسمى بالزكاة، و الزكاة هي دفع جبري لجزء معين (1 / 40) من مجموع ثروة الفرد- إذا ما امتلك فرد رأس مال أو ممتلكات بما يزيد عما هو ضروري للحفاظ على مستوى معيشة عائلته – للفقراء مرة في السنة، و يعتبر هذا العطاء للمحتاجين من الثروة التي جمعت بشكل قانوني تطهيرا وزيادة لها كما شبه القرآن العمل الخيري يبذر البذور التي تجلب الأجر العظيم : ” مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم ” البقرة 261).
الفهم التركي للإسلام عموما يتقابل مع الترجمة السنية للإسلام و التي تنص على أن كل مسلم قادر على الوفاء بأركان الإسلام الخمسة بجانب النطق بالشهادة اللفظية ” أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده ورسوله”، و الصلاة خمس مرات في اليوم، و يصوم، و يحج إلى مكة، أما الزكاة فهي ركن أساسي للمؤمنين القادرين اقتصاديا، و الإشارات الواردة في القرآن تجعلها إلزامية لكثير من المسلمين، و لا تعتبر الزكاة عمل تطوعي من العطاء لأنها أحد أركان الإسلام و لا يستطيع الشخص أن لا يدفعها إذا كان قادرا اقتصاديا، فوفقا للقرآن الكريم و أحاديث نبوية عدة فإن المستفيدين من الزكاة مثل الفقراء لهم حق طبيعي و أصيل فيها، و بدفع الزكاة يؤدي دافعها / دافعتها واجبه/ واجبها الديني بكل بساطة ليس إلا، و في الأدب الإسلامي تعد الزكاة وسيلة هامة لإعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع و لها دور لمنع بعض الأمراض المجتمعية من التفاقم بسبب الفقر مثل السرقة و الدعارة،و بالتأكيد فإن الصدقات المنتظمة التي تمنح للفقراء تساهم في وئام ازدهار المجتمع و في أمثل الأحوال فإن الزكاة تدعم العلاقات بين قطاعات متنوعة في المجتمع و توفر الاستقرار و من شأنها غرس روح المدنية و حل المشاكل الاجتماعية و تعزيز أواصر المحبة و الصداقة بين أفراد المجتمع، و الآيات القرآنية التي تعتبر الزكاة فعل إلزامي وتتوعد المسلمين الذين لا يدفعونها بالجحيم .
توضح آياتين من القرآن ( البقرة/ 117 و التوبة / 60) قائمة مفصلة بأنواع الناس الذين تستخرج لهم الزكاة وهم : الأقرباء المحتاجين، أو الجيران، أو اليتامى، أو الفقراء أو المساكين، أو الغارمين، أو أبناء السبيل، أو العبيد أو في الرقاب الأسرى الذين في حاجة للتحرر، و العاملين على جمع الزكاة ( وهم أنفسهم من المحتاجين)، و المؤلفة قلوبهم، وضع الفقهاء لاحقا مجموعة أو مجموعات فرعية تحت هذه الفئات و تم توسيع عدد الناس الذين يحصلون على الزكاة. و نتيجة لذلك فإن القاعدة الأساسية لإخراج الزكاة هي البدء من المركز ( أي بالأشخاص الأقرب من المرء) ثم التوسع إلى المحيط الخارجي، بمعنى آخر فالمسلم الملتزم يجب أن يخرج الزكاة بدء من الأقارب و الجيران المحتاجين و ما لم يكن هناك مستحق من تلك الفئتين تمنح الزكاة بعد ذلك للمحتاجين الآخرين، كما يفضل أيضا التوزيع المحلي للزكاة على توزيعها في النطاق القومي أو الإقليمي.
و الشكل الآخر من الزكاة أو الصدقة الإلزامية هي زكاة الفطر التي يحين إخراجها في آخر شهر رمضان من كل عام، و عادة تكون قيمة زكاة الفطر ما بين 10 دولار و 25 دولار أو مقدار من المال يكفي لإطعام مسكين ليوم واحد . و بخلاف الزكاة التي هي إلزام للمسلمين في سن وحالة اقتصادية معينة، فإن زكاة الفطر يجب أن تدفع عن كل فرد في العائلة القادرة اقتصاديا، و ينظر إليها على أنها وسيلة لتسوية الموازين للسماح لأعضاء المجتمع الفقراء بالاحتفال بعيد الفطر الذي يعد عطلة رئيسية في نهاية شهر رمضان.
و في بداية التاريخ الإسلامي كانت الدولة تجمع الزكاة في شكل ضرائب و في قرون لاحقة كانت تجمع بصرامة في أوقات و في أوقات أخرى كان الأفراد يدفعونها كيفما شاءوا، و حتى تحت إدارة بيروقراطية عالية مثل إدارة العثمانيين ( منتصف القرن الثالث عشر – بداية القرن العشرين) لا يبدو أنه قد كانت هناك طريقة رسمية لتقييم الثروة لجمع الزكاة و لذلك كان المبلغ المدفوع مسألة ضمير شخصي، و في بداية القرن العشرين و مع فتح الخلافة الإسلامية المجال أمام الدول القومية المستعمرة أو شبه المستعمرة و تخلي العديد من الحكومات عن جمع الزكاة لصالح النظم الضريبية الغربية فقد ترك قرار دفع زكاة من عدمه رسميا للأفراد أنفسهم.
و عندما فككت المبادرات القومية العلمانية في تركيا العديد من المؤسسات الإسلامية في الثلاثنيات من القرن الماضي، و تم تخصيص الطيران التركي ( الجمعية التركية للطيران التي تأسست عام 1925 م ) كمنظمة لا تهدف لتحقيق الربح و يمكن أن يدفع الموطنين لها الزكاة. و بدافع القلق من أن هذه المنظمة قد لا تلتزم بشكل قوي بالنصوص الدينية، بدأت منظمات مدنية أخرى مهمة جمع وتوزيع الزكاة، و بالتأكيد أصبحت الزكاة في تركيا المعاصرة مصدرا ماليا هاما للغاية للمنظمات الخيرية غير الحكومية و للمجتمع المدني عامة.
و إن أحد العناصر الهامة في إعطاء الصدقة أو الزكاة أو زكاة الفطر هو السرية. و تقول السنة النبوية ” حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه” و الذي يعني أن الصدقة و الزكاة يجب إعطاؤهم في سرية تامة، ووفقا للمجتمع الصغير المتماسك الذي كان يعيش فيه النبي صلى الله عليه و سلم فضلا عن طبيعة العديد من المجتمعات المدنية و الريفية فإن الحفاظ على شرف و كرامة الأشخاص الذين يعيشون معهم و يعملون بينهم و يخالطونهم هاما للغاية، فالمثل التركي المعروف يعكس أيضا الدوافع الدينية لفعل الخير في السر ” أعمال الخير و ألقيه في البحر و إذا لم تقدر الأسماك عملك فكن على يقين أن الله يفعل”، و مع ذلك فهناك حالات كانت تمنح الصدقة أو جمع التبرعات لصالح الفقراء علانية و تم تشجيع الأغنياء على التبرع بالمزيد، و هناك مثال شهير في التاريخ الإسلامي لجمع التبرعات من قبل النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة عندما احتاج المجتمع المسلم النامي الحديث المال فسأل النبي أصحابه للذهاب إلى منازلهم و العودة ببعض المال فأتى سيدنا عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وأحضر سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي أصبح لاحقا أول خليفة، كل ماله و عندما سئل أبو بكر ماذا تركت لعائلتك رد قائلا ” تركت لهم الله ورسوله” حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب قال : إنه ليس بإمكانه التفوق على سيدنا أبي بكر الصديق من حيث الولاء للقضية الإسلامية، و كلا الرجلين ظلا يخدمان و يقدمان نماذج من سخاء للمسلمين إلى يومنا هذا.
كما يمكن أيضا مناقشة تقاليد تركية مرتبطة بممارسات العطاء و الإحسان خلال شهر رمضان الفضيل و العطلتين الأساسيتين وهما عيد الفطر و عيد الأضحى في سياق الصدقة و الزكاة، فخلال شهر رمضان و كأحد الطرق العديدة التي يمكن أن يرفع الله بها قدر المؤمن عنده هو دعوة الضيوف إلى منزله لتناول الإفطار ( و هي وجبة الإفطار عند الغروب) أو السحور( الوجبة في الصباح الباكر قبل بدء الصيام)، و في زمن العثمانية طورت تلك العادة تعقيدات جديدة فأصبح المضيفين الأسخياء و يحاولون إرضاء ضيوفهم ليس فقط من خلال إطعامهم مجموعة مذهلة من الأطباق الشهية و لكن أيضا من خلال تقديم هدايا صغيرة و ذلك في محاولة لاستمالة قلوبهم و نيل دعواتهم، و خارج إطار العائلة تجهز ال “فكفيلار” العثمانية ( الصناديق الخيرية) ووكالات الحكومة المحلية إفطار عام في الهواء الطلق لضمان إفطار كل من الغني و الفقير، و اليوم تم إحياء خيم الإفطار مجانا و مفتوحة للجمهور من قبل حكام البلديات الأتراك الذين يعتبرون مثل هذا العمل الخيري و الحدث الديمقراطي بمثابة منفعة متبادلة بين الفقراء و الأغنياء، و خلال عيد الفطر المعروف ( بعطلة رمضان) حتى الأتراك الذين لم يدفعوا الزكاة أو زكاة الفطر يستطيعون بذل الجهد لإعطاء هدايا صغيرة من الحلوى و المال لكل الأطفال الذين يعرفونهم أو يقابلونهم حينما يزورون أقاربهم و أصدقائهم و جيرانهم.
3- الأضحية
خلال عيد الأضحى الذي يعرف ب ” قربان بايرامي” فإن معظم المسلمين الأتراك مثل المسلمين في أنحاء العالم يقدمون الأضحية من حيوانات المزارع مثل الخرفات أو الماشية إحياء لذكرى امتثال سيدنا إبراهيم عله السلام للتضحية بابنه طاعة لأمر الله و ذكرى كرم الله معه الذي قبل نيته الصادقة وأوعز إليه للتضحية بكبش بدلا من ذلك ( الصافات / 102 -107)، و تتزامن تلك العطلة الإسلامية الأساسية الثانية مع اليوم الذي يلي حج الحجيج حجهم السنوي إلى مكة، و يعد هذا اليوم مصدرا لعدد من التقاليد الثقافية القوية المتصلة بالعطاء و الإحسان، فعلى سبيل المثال فإن معظم الأتراك الذين يضحون بحيوان يعملون وفقا للقرآن ( الحج / 28،34-37) و السنة النبوية في تقسيم اللحم إلى ثلاث أجزاء جزء للفقراء ( كصدقة) و جزء للأقرباء و الجيران و الأخير لأنفسهم، و إقرارا منهم بأن نسبة كبيرة من اللحوم لابد أن تعطى للفقراء و الجياع حتى يتمكنوا من التمتع في العيد و يتبرع العديد من الأتراك بكل أو معظم لحوم أضحيتهم بالإضافة لجلودها و عظمها إلى المنظمات المدنية المسؤولة عن التوزيع و الباقي يطبخ للعائلة كوجبة احتفالية مع الأقارب و الأصدقاء المدعوين للمشاركة، و تتجلى الممارسات العادية الخيرية للمسلمين الأتراك خلال عيد الأضحى في مظهر تضافر الجهود للتأكد من عدم ترك أي شخص فقير بدون طعام الأضاحي أو قريب من الأقرباء خاصة المسنين منهم و أنه لم لا يترك صديق لم يزر خلال تلك الأيام.
الميل التركي للتضحية بحيوان طاعة لله سبحانه و تعالى وتوزيع اللحم على الفقراء ( أي إعطاء صدقة) بعد ولادة طفل و قص أول خصلة من الشعر هو استمرار لعادة سادت ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية و يسمى ذلك التقليد عقيقة و قد أقره النبي صلى الله عليه و سلم و أصبح من السنة خلال السنوات الأولى من الإسلام، و من المتعارف عليه لدى الأتراك هو تقديم صدقة على شكل لحم أضحية عند فتح شركة جديدة أو في أي مناسبة من المناسبات المذكورة أعلاه من التي تقدم فيها الصدقة على هيئة تقود.
4- الوقف
مؤسسة أخرى هامة تعكس ثقافة العطاء في الثقافة التركية ألا وهو الوقف أو ( الصندوق الخيري)، و كان للوقف عصره الذهبي و في الثقافة التركية خلال الفترة العثمانية ( 1299-1920)، و يمكن أن يسمى الطراز الأول للعطاء. و المصطلح العربي هو الوقف الذي يمكن أن يترجم إلى ( الصندوق القانوني المشترك) أو(الوقف الممنوح طواعية). و لكي تؤسس الأوقاف الدينية غير القابلة للتصرف يقوم شخص بالغ سليم العقل و قادر على التعامل مع الشؤون المالية و لا يخضع للحجز بسبب إعلان إفلاسه و ينوي القيام بعمل خيري بإعلان تخصيص كل أو جزء من ممتلكاته التي عادة ما تكون مبنا أو قطعة أرض لتكون وقفا ( أي تكرس لأغراض الدين الإسلامي أو لأغراض خيرية. و يكون هذا القرار عامة نهائي، و لكي يتم تأمين الوقف الذي يعلنه صاحبه فإنه يذهب إلى المحكمة و يحاول الحصول على الملكية عندئذ تصدر المحكمة تصريح أن الملكية وقف و لا يجوز إرجاعها، أو بيعها، أو التبرع بها. و يتضمن تأسيس الوقف تعيين رسمي للمستفيدين ( اي أعضاء العائلة و شريحة خاصة من العامة و / أو المرافق العامة) و يتم تعيين وصي أو مجلس أمناء (متولي) و يقومون بإدارة الوقف تبعا للهدف الإسلامي أو القوانين التي أنشأ على أساسها الوقف، و يملك هؤلاء الأوصياء الحق في عمل تغييرات طالما كان هذا وفقا للشريعة الإسلامية و يعود بالنفع على المؤسسة، و في الحالات الأخرى يجب السعي للحصول على إذن من القاضي، و أي إدارة خاطئة للوقف خاصة في التمويلات يعد ذنبا، و بالرغم من أن بعض العلماء يعتقدون أن الأوقاف الإسلامية المبكرة تشكلت بعد الأوقاف المسيحية أو الزرادشتية التي تواصل معها العرب المسلمين في القرن السابع تقريبا، لكن جميع الأتراك يعتقدون في الأصل الإسلامي لنشأة الوقف.
وبالرغم من أن الوقف لم يذكر بشكل خاص في القرآن فإن العديد من السنن النبوية شجعت على إنشائه، و من وجهة نظر إسلامية قانونية فالمؤسسة نشأت عندما أصاب سيدنا عمر بن الخطاب أرضا في واحة خيبر بجوار مكة و سأل النبي ما إذا كان يجب عليه أن يعطى الأرض كتبرع تطوعي ( صدقة) ورد النبي صلى الله عليه و سلم قائلا : ” إن شئت حبست أصلها و تصدقت بها”، و تصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها و لا يوهب و لا يورث للفقراء والقربي و الرقاب و في سبيل الله و ابن السبيل ” ويروي حديث آخر شهير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو والد صالح يدعو له في حين فسر الثاني من الحديث ( علم ينتفع به) بتأليف كتاب أو تعليم صف ناجح من الطلاب، و فسرت الأولى ( صدقة جارية) بعمل الوقف و الصناديق الخيرية.
ووصلت الأوقاف ذروتها ف المجتمع العثماني فخصص الرجال و النساء الأثرياء المتدينون قطعا كبيرة من الأراضي و مباني بأكملها فضلا عن القطع الصغيرة من الأراضي و المنازل حتى الغرفة الواحدة خصصت كوقف، و هناك حالات أعلن فيها البعض تخصيص سجادة واحدة أو بساط كوقف لمدرسة أو جامع، كما أعلنت المكتبات و الكتاب الواحد كوقف يقدم للعامة للاستخدام المشترك، و انتشرت الأوقاف ليس فقط بين المسلمين و لكن أيضا بين المسيحيين و اليهود الذين يعيشون تحت الحكم العثماني، و في المدن الكبيرة و المراكز الحكومية و في مدن المحافظات أنشئت مئات الأوقاف لأغراض متعددة، و بعض الأوقاف خصصت للحيوانات المحتاجة لمساعدتها و الطيور الضعيفة التي لا تستطيع الهجرة لأرض أدفا، و لتفريخ الدجاج، ورعاية القطط و الكلاب الضالة و توفير الخدمات البيطرية، و أوقاف أخرى كرست للأفراد المحتاجين أو لجماعات من الناس و كما استطاعت المرافق العامة الاستفادة من الأوقاف، و لقد أنشئت أوقاف لبناء و صيانة الطرق و المدارس و المساجد و مرافق المياه و الحمامات العامة و الجسور و المقابر و صنابير مياه الشرب فضلا عن الدعم المالي للطلاب و الأرامل و الأيتام و الفقراء في أحياء المسلمين. كما استطاع المسيحيون و اليهود تأسيس و الاستفادة من تلك الأوقاف خاصة في البلقان حيث كان السكان في الغالب مسيحيين في السنوات الأولى من الحكم العثماني، و لعبت الأوقاف دورا هاما في أداء الوظائف المدنية و مساعدة الضعيف و المحتاج في المنطقة و بالتالي تأمين إعجاب و تعاطف السكان المحليين.
و في العموم توفر الأوقاف خدمات عديدة كالتي توفرها الدولة الحديثة و الحكومة المحلية مثل الرعاية الصحية و التعليم الابتدائي و صيانة الطرق و توزيع المياه الصالحة للشرب إلى البلدان و المدن، بالإضافة إلى خدمة الفقراء و المحتاجين، و يزيد الوقف أيضا من الاحترام العام للأثرياء الذين يؤسسون الأوقاف، و باختصار فإن وجود الأوقاف قد عزز التناغم الاجتماعي و قلص الفجوة بين الأثرياء و الفقراء.
و استمر تقليد الوقف بقوة من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر و خدم عدة وظائف إيجابية في المجتمع العثماني، و في عام 1910 أبدله الأتراك الشباب بالغرفة التجارية، و في عام 1920 أصبح في إطار اختصاص وزارة الشؤون الدينية و الأوقاف التي تم تغييرها بعد ذلك في عام 1924 إلى المديرية العامة للأوقاف، و استمرت المديرية العامة تشرف على نحو 41 ألف وقف متبقي من العهد العثماني و امتلكت واحدا من أكبر المصارف في البلاد وهو بنك الوقف، و الذي يوظف أكثر من 38 ألف موظف. ويوجد الآن في تركيا العديد من أشكال الأوقاف حيث يوفر البعض تمويل ترميم المواقع التاريخية و الحفاظ عليها، و يوفر البعض الآخر الدعم المالي للخدمات التعليمية و الثقافية و الصحية، و اليوم يكمل الوقف أيضا عدد كبير من المنظمات و الجمعيات الخيرية التي تتشابه معه على الرغم من أن هياكلها المالية و القانونية تختلف.
و الحديث على نحو مقارن لأشكال المؤسسية من الأعمال الخيرية مثل الوقف سهلة التعقب بدلا من الأشكال غير الرسمية من العمل الخيري مثل الصدقة و ذلك بسبب الممارسات و المساهمات التي تقدمها مؤسسات الوقف و التي عادة ما تترك وثائق قانونية.
5- منظمات ” آهي”
بالإضافة إلى ” الفكفيلار” الجمعيات الخيرية تعد منظمات الا أهي أيضا مثالا على العطاء الخيري، و منظمات أهي تجمعات اجتماعية و مهنية و دينية ظهرت في الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي و لعبت دورا هاما في تأسيس الإمبراطورية العثمانية، و هي مرتبطة بالفتوة كانت عبارة عن منظمات و حركات متنوعة ظلت موجودة حتى بداية العصر الحديث و انتشرت في جميع المجتمعات الحضرية في الشرق المسلم، فلقد كانت شكل من أشكال الرجولة مع عنصرين هامين و هما :
1- علاقتهم بالصوفية :
2- وأبعادهم المهنية.
و كمجتمع مهني كانوا على صلة بآهي عرفان الذي يعد راعي الدباغين، حيث كانت من المنظمات المختلفة في تركيا و أصبحت الدباغين منظمة بارزة نظرا لموقعها المركزي و هيكل المنظمة التنظيمي، و عاش ممثل عرفان في قرشهير في وسط تركيا، و قبل انضمام الناس داخل المهنة يقام حفل دخول رمزي يشارك فيه المرشح و بالتالي الموافقة على تأهله ليكون عضوا مهنيا، و لاحقا أصبح كبير الدباغين في قرشهير رئيس جميع المهن و ذلك بدعم من السلطان الذي استفاد من مساهمات منظمات آهي خلال الحرب و السلم على حد سواء، فخلال وقت الحرب أنتجت منظمات آهي القوى العاملة للجيش و صنعت الأسلحة و خلال وقت السلم أسهمت منظمات آهي في تحسين المجتمع ماديا واجتماعيا، و بالرغم من أن منظمات آهي لم تملك قوة سياسية مستقلة إلا أنهم لعبوا أدوارا عادة ما تتولاها الدولة مثل الدفاع عن البلدان و المدن ضد غزو المغول، و في بعض الحالات لعبوا دور الوسيط بين الدولة و الجماهير، و بمعنى آخر كانت هذه المنظمات تعادل الجمعيات التجارية الحديثة ذات البعد الأخلاقي و الروحي، و لم يعتبروا أنفسهم منتجين فقط بل أيضا زعماء و مسئولين عن رفاهية المجتمع ماديا و اجتماعيا و كان يتوقع من أعضاء تلك المنظمات بعض الصفات الآتية : الولاء و الأمانة و الكرم و العدل و التواضع و مساعدة زملائهم في المهنة و الاستعداد للتسامح.
6- البركة
وهو مفهوم آخر ذو أهمية يعد جزء من المفاهيم التركية الإسلامية الخيرية وهو مفهوم البركة و الذي يعني ( قوة مفيدة أصلها إلهي)، و التي تسبب غزارة في المجال المادي والرخاء و السعادة على الصعيد النفسي، و أصبحت كلمة بركات جزء لا يتجزأ من الثقافة التركية و تستخدم في الحياة التركية اليومية، فالغالبية العظمى من الأتراك يؤمنون أنهم عندما يفعلون شيئا قاصدين إرضاء الله سبحانه و تعالى دون انتظار الجزاء في الدنيا فسوف تتنزل عليهم البركات، فعلى سبيل المثال : إذا كان شخص يعطي جزء من ماله للفقراء و المحتاجين فإنه يتوقع أن المتبقي من ماله به بركة ( أي أكثر من كافي لتلبية احتياجاته) و يتم تطبيق هذه الفكرة من أن البركة تنتج من السخاء ليس فقط في الأموال و لكن أيضا في الوقت و الحياة أشياء مادية أخرى مثل المحاصيل و المواد الغذائية و هلم جرا، و من المعتقد أن لو استخدم الفرد جزء من وقته للأعمال الصالحة فإنه سيكون أكثر كفاءة و إنتاجية في استخدام ما تبقى من وقته و هذا المفهوم من البركة له جذور في القرآن الكريم الذي يذكر : ” إن المصدقين و المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم و لهم أجر كريم” الحديد 18.
البركة كلمة شائعة تستخدم في الحياة اليومية التركية سواء كان المتحدث يحمل وجهة نظر عالمية دينية أو لم يكن، فعلى سبيل المثال بعد الانتهاء من صفقة تجارية فإن صاحب المحل أو مندوب المبيعات يقول ” جعله الله مباركا” حين يضعون الأموال في جيوبهم أو في السجل النقدي، و في المناطق الريفية عندما يزور شخص جاره وقت الحصاد فإنه يقول ( لتكن مباركة أو تبارك الله) .
و يعد نبي الله إبراهيم عليه السلام نموذجا عظما في السخاء و حسن الضيافة، و تقول الحكاية الشعبية أنه كان لديه بيت من أربعة أبواب يبقيها مفتوحة و يأتي الناس من كل حدب وصوب ليأكلوا ما مالئدته و كان دائما لديه ضيوف و مائدة ممتلئة دائما، ووفقا لذلك فيؤمن الأتراك بأن الضيوف يجلبون البركة للمضيف و تمت الإشارة إلى ذلك الاعتقاد بتعبيرات لغوية عديدة، فعلى سبيل المثال عندما يتناول شخص الطعام في منزل شخص آخر فيقول الأتراك ( ليجعل مائدتك مثل مائدة إبراهيم) بمعنى بأن يكافأ بثروة و بركة، ففي خلال السفر في أنحاء البلدان و المدن التركية فإنك ترى العديد من المطاعم تسمى ( مائدة إبراهيم أو عشاء الخليل إبراهيم).
7- حسن الجوار
إن للكرم و حسن العلاقات مع الجيران أيضا أهمية قصوى في الثقافة التركية الإسلامية، و يدرك العديد من الأتراك أن الرسول صلى الله عليه و سلم أكد على أهمية وجود علاقات حسنة مع الجيران و يمكن أن نذكر الأحاديث النبوية مثل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، ” و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليصل رحمه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
وتوافق العلماء المسلمون بالإجماع على أن الجيران في المسلمين لهم نفس الحقوق كالجيران المسلمين بما أن الأحاديث النبوية لم تذكر الجيران المسلمين فقط، و هناك بعض التقاليد المرتبطة بمواقف تدل على كرم النبي محمد صلى الله عليه و سلم و عائلته إلى جيرانه من اليهود.
وفي اللغة التركية الحديثة هناك أمثال مختلفة تشير إلى القيمة العظيمة لحسن الجوار مثل ” اختر الجار قبل الدار”، ” الجار قد يحتاج حتى الرماد من جاره”، ووفقا لذلك فإن معظم الأتراك يبذلون جهدا للحفاظ على علاقات طيبة مع جيرانهم بتحيتهم بابتسامة و الدخول في حوار صغير و دعوتهم للشاي أو القهوة وزيارتهم في الأعياد أو أوقات الشدة و من خلال تقديم كعكات محشوة أو ورق عنب مطهي في المنزل و الحفاظ على تقليل الضجيج، و على وجه الخصوص تميل ربات البيوت التركية لتكوين علاقات أوثق مع ربات البيوت المجاورة و يشتركن في الطبخ و الخبز ورعاية الأطفال، و يمكن أيضا أن يساهموا بالمال شهريا في تجميع مبلغ ليعطي إلى جار محتاج أو الذهاب معا إلى المسجد يوم الجمعة لقراءة القرآن.
8 – القرض الحسن
القرض الحسن هو آخر الجوانب الهامة في ثقافة العطاء التركية و المعني الحرفي لكلمة القرض الحسن هو قرض عائد دون فائدة في نهاية الفترة التي يتفق عليها الطرفان، و في المجتمع التركي و المجتمعات الإسلامية الأخرى فإن إعطاء قرض حسن لمساعدة شخص ما لتلبية احتياجاته يعد عملا صالحا يجزيه الله به خيرا، و تثني العديد من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية على الإقراض بدون فائدة للمحتاجين، ووفقا للآية القرآنية ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة و الله يقبض و يبسط و إليه ترجعون”، يعد إقراض المال لسبب وجيه ودون تقاضي فائدة له فوائد دنيوية لمصلحة المستفيد وروحية للدائن، كما يعزز القرض الحسن التناغم الاجتماعي و التعاون و يمارسه العديد من الأتراك حتى من خلال البنوك الغربية السائدة في البلاد، فعلى سبيل المثال فإن معظم الأتراك يفضلون دفع فواتيرهم الشهرية أو شراء سياراتهم و منازلهم بالقرض الحسن من أقرب الأقرباء أو الجيران أو الأصدقاء بدلا من أخذ قرض من بنك أو من دائن.
• إحياء حركة كولن للإحسان الإسلامي التركي
وكما كانت الأمثلة السابقة دليلا على دمج الثقافية الإسلامية و التركية لخلق تقاليد عريقة و غنية من العطاء في تركيا، و في هذا السياق أصبح من السهل رؤية سبب لنجاح حركة من الشبكة الخيرية الموجودة بالفعل في المجتمع التركي، على سبيل المثال عندما أوجز كولن رؤيته في توفير تعليم جيد لكل الشباب التركي بتأسيس بيوت طلبة و دورات تحضيرية و مدارس ثانوية و أخيرا جامعات، فقد دعا جميع من ألهمته تلك الرؤية للمشاركة في توفير تلك الفرص للشباب في تركيا و تحدى الرجال و النساء ليصبحوا مدرسين و يكرسوا حياتهم لتعليم الشباب، و مديري المدارس لتأسيس مناهج من الدرجة الأولى و بيئات مناسبة للتعليم ورجال الأعمال لتوسيع أعمالهم لتربح أكثر حتى يتمكنوا من دعم أنشطة الحركة ماليا.
وعلاوة على ذلك فقد أعرب عن دعوته إلى عمل على أساس قيم المجتمع التركي الإسلامي الأساسية مثل : الضيافة و العطاء و الصدقة و الالتزام بمساعدة المحتاجين في المجتمع و كانت تلك الأفكار و التضحيات مألوفة لأولئك الذين سمعوا و استجابوا لدعوة كولن لأنها كانت جزء لا يتجزأ من الثقافة التي تربوا عليها، فقدم كولن ببساطة الطرق التي يمكن أن يعبر الأتراك بها عن الكرم و العطاء و هي من مبادئ ثقافتهم و دينهم سلفا، و باختصار فإن المشاركين في الحركة الذين يعطون صدقاتهم للطلاب الفقراء، و الذين يرسلون لحوم أضاحيهم للعائلات الفقيرة في جنوب شرق تركيا أو في قلب إفريقيا، و الذين يكرسون مهنهم و تجارتهم للعمل الصالح، أو الذين يساعدون ضحايا الكوارث الطبيعية مدفوعون بالتقاليد القديمة للعمل الخيري و الإحسان في المجتمع التركي.

مقدمة الكتاب