وا أسفاه على ما آل إليه من جاؤوا إلى السلطة من خلال خطابالإسلام السياسي، ففي الوقت الذي كانواحتى وقت قريبينتظرون الدعم من الشعب بحجة تعرضهم للمظالم التي تسبب بها مجلس الأمن القومي؛ نجدهم اليوم يسعون لاستغلال المؤسسة نفسها، على هواهم لتحقيق مصالحهم الشخصية.

وللأسف، لا يستطيع أي سياسي منهم يتميز برجاحة العقل وحرية الضمير، أن يقول “ما الذي نفعله؟! هل الأخطاء التي كانت ترتكَب ضدنا في الماضي نرتكبها نحن اليوم ضد غيرنا؟”، يا له من خوف كبير! فآخر مرحلة وصل إليها “كابوس الاستبداد” الذي فُرض على الشعب على أنه “تركيا الجديدة”، هي الرجوع إلى الأنظمة البائدة التي كانت عليها “تركيا القديمة”؛ إذ وُرثت هذه اللغة الاستبدادية والقمعية المتشددة، من خلال ردود الأفعال الطائشة القادمة من هذه الحقب المظلمة، وهم لا يكتفون بأن يوافق الناس على أفعالهم، بل، تُجهَّز المقصلة لكل من سوّلت لهم أنفسهم عدم التصفيق لهذه الأفعال، ويوجَّه الكرباج إلى ظهره، وتشوَّه سمعته، وهُم يرون مَن لا يفكر مثلهم على أنه خائن.

تجدون الإعلام الموالي لحكومة حزب العدالة والتنمية ينشر، أولًا، أخبارا مليئة بالأكاذيب والافتراءات، ثم تتحرك النيابة، وبعد ذلك يعثرون على أشخاص ضعفاء تحت مسمى المعترفين والشهود السريين، ومن ثم توجَّه الاتهامات لفئات بعينها ويعلنون كمجرمين.

وكأن هذا الظلم لايكفي، تنقَل القضية إلى مجلس الأمن القومي، ويوحى كأن منظمات المجتمع المدني تعتبر “كيانات غير شرعية تتخفى تحت ستار شرعي” ، فأين الحق والقانون من هذا؟ هذه المقولة هراء كبير ومصطنع لدرجة أنه لو وصل حزب آخر إلى السلطة في تركيا في يوم من الأيام، لاستخدم قالب الجريمة الوهمي نفسه لنعت السيد أَرْدُوغَانْ وعائلته ورفاقه، وسنجد حينها أنه صارت لدينا حكاية “كيان مواز” محبوكة حبكة متقنة، وستنال جميع الجماعات والجمعيات والأوقاف والأحزاب، وليس أَرْدُوغَانْ وحزب العدالة والتنمية فحسب، نصيبهم من مقولة “الكيان الموازي” الجنونية، لتسوى بعد ذلك ديمقراطية المشاركة بالأرض.

وبحسب المعلومات التي نقلتها وسائل الإعلام والتي توصلت إليها من خلف كواليس أطول اجتماع لمجلس الأمن القومي في تاريخ تركيا، فإن الجو أثناء الاجتماع كان متوترا للغاية.

وعلى عكس المتوقع، لم يتناول الحاضرون في الاجتماع هراء “الكيان الموازي” سوى مدة 25 دقيقة، وحتى هذه المدة كانت طويلة! وهل يعقل أن مجلس الأمن القومي التركي لم يجد موضوعا ليناقشه في الوقت الذي يفعل فيه الإرهابيون ما يحلو لهم في تركيا، واقترب فيه الفوضى والمشاكل إلى حدود التركية الجنوبية، وتتهَم فيه الدولة بدعم التنظيمات الإرهابية العالمية بالسلاح والكوادر! حتى يكون بمثابة أداة في يد أناس وُجدوا متلبسين بتلقي الرشاوى وارتكاب فضائح الفساد تستخدم في تنفيس حقد وغضب هؤلاء.

وفي الوقت الذي يسقط فيه جنود الجيش والشرطة شهداء في الطرقات، ويتحكم فيه الإرهابيون في أمن بعض المدن، خرج علينا البعض ليقول: “لنحارب طواحين الهواء!” ولو انخدعت شرذمة قليلة من أمثال “سانشو بانزا” ( خادم الفارس المجنون دون كيشوت في القصة المشهورة) بهذه الأكذوبة لايمكن لأحد من ذوي العقول السليمة أن يصدق بعد كل ما انكشف من الحقائق عن صاحب مثل هذه الإغواءات والإغفالات وهو يشير إلى غيره بقوله “انظُرُوا إلى ذلك المخادع”.

ووفق ما جاء في تفاصيل كواليس اجتماع مجلس الأمن القومي، كما أذاعتها وسائل الإعلام، فقد طالب “الجنرالات المدنيون”(أعضاء الحكومة) بإعلان “الكيان الموازي” تنظيما إرهابيًّا، فهل نبكي أم نضحك على هذا؟ وقد دافعت المؤسسة العسكرية عن فكرة تقول إنه لو طبِّق هذا الأمر على حركة الخدمة، فيجب أن يشمل القرار سائر الجماعات الدينية الأخرى كذلك، وهذا ما سيحدث بالفعل! إذ قلنا هذا منذ البداية: إذا نعتت جماعة دينية بوصف “الكيان الموازي”، يعني ذلك توجيه الاتهام نفسه إلى الجماعات الأخرى.

وكان أحد أقارب العائلة الحاكمة عن طريق المصاهرة، ويدير إحدى الصحف، قد فعل شيئا كهذا خلال الأسبوع الماضي[1]، ففنّد وزير الصحة بنفسه هذا الخبر، ذلك أن هذا الادعاء مسّ جماعات دينية أخرى، لكنهم مؤثرون في الحقل البيروقراطي…، كل جملة تبدأ بهذه العبارة ستعود وتنقلب عليكم، لتتشكل سلسلة منطقية ( بل غير منطقية) ، في تصنيف الأشخاص حسب انتماءاتهم، من قبيل أن الوزير الفلاني من أعضاء مجلس الوزراء يمثل الجماعة الدينية الفلانية، وأن أناسا يعملون في إحدى الوزارات وينتمون إلى الجماعة الفلانية وهكذا، وستستمد عملية “مطاردة الساحرات” حتى تطول مَن هم في قمة هرم الدولة، وأبناءهم، وأصهارهم، وأصدقاء أولادهم، وأولادهم.

تعتبر جريمة “محاولة السيطرة على الدولة” المفبركة محاولة غير ديمقراطية وقابلة للتطبيق على كل الفئات الاجتماعية، فهل يبتلع الجيش هذا الطعم غير القانوني؟ من الصعب الرد بإجابة قطعية على هذا السؤال، لكن الجيش التركي لديه تجربة مريرة في هذا المجال؛ إذ كان مجلس الأمن القومي، إبان انقلاب 28 فبراير/ شباط عام 1997م، قد استحدث وحدة أسماها مجموعة العمل الغربي، وكان، بكل تأكيد، من بين مشجعي هذه المجموعة بعض المدنيين من أعضاء مجلس الأمن القومي، لكن القضاء اليوم يتولى ملف هذه المجموعة، ويحاكم أصحاب أعلى الرتب العسكرية، ففي هذه الدعوى لايحاكَم رئيس الوزراء أو الوزراء أو مسؤولو جهاز المخابرات، بل يحاكَم العسكريون، فمَن يضمن اليوم أنه إذا تحرك الجيش بتوجيه مجلس الأمن القومي، ألّا يحاكَم قادته في المستقبل؟

ويا له من أمر مؤسف أن نرى بعض المدنيين وقد رأوا أن زيّ الجنرالات القدامى يناسبهم، ليتحدثوا عنالكتاب الأحمر، ويستمدون الدعم من المؤسسة العسكرية، فعندما يسير المنطق على هذا المنوال، نتذكر النظام السوفيتي البائد وشبح التهديد الداخلي الذي كان شائعًا أيام الحرب الباردة، ذلك أن الطريقة المتبعة في القضاء التركي اليوم تشبه الظلم الذي ارتكبه أنصار ستالين تحت مسمىالصراع مع أنصار تروتشكي“.

ولقد عثر ستالين على نواب عموم مستعدين لرفع دعاوى لتنفيذ أوامره، فأصدر تعليماته لهم بإطلاق “مطاردة الساحرات” بعد تحديد أنصار تروتشكي الذين “تغلغلوا داخل مفاصل الدولة”!، ولم تكتفِ التحقيقات بمطاردة أنصار تروتشكي، بل طال الظلم والعدوان المعارضين كافة، ويا له من أمر عجيب أنه بعد محاولة الاغتيال، تعرض أنصار تروتشكي والبخاريين لظلم واسع النطاق من خلال شهود سريين ومعترفين ومَن أدلوا باعترافات مكرهين تحت الضغط، وكان الجميع يعرف أن ستالين والدولة العميقة هما اللذان أقدما على اغتيال رئيس حزب “لينين جراد كيروف”، لكن الظالمين لعبوا أدوارهم.

على أية حال، تلاعب النظام الأحمر بالناس عن طريق الأحداث الملفقة، لكن إلى أين؟ فاليوم لم يبق “ستالين” ولا نظامه الأحمر، ويا ليت كان المدعون العموم في تركيا اليوم قد قرؤوا واتخذوا مما حدث للنائب العام السوفيتي فيشينسكي عبرة! فأنا متأكد من أنهم سيستخرجون نتائج ودروسا مفيدة من تلك القصة الواقعية، فهل من الممكن أن تدار تركيا، التي شكلت عددًا من البرلمانات حتى في عهد الإمبراطورية العثمانية، عبر الطرق التي كانت متبعة أيام الحرب الباردة؟

كنا نعتقد أن حقبة “ضرب الشعب” بواسطة مجلس الأمن القومي قد انتهت وولت، ولكن عندما رأينا بأم أعيننا من يعوّلون الكثير على مجلس الأمن القومي والكتاب الأحمر، تدمي قلوبنا، وهذا ليس من أجل أنفسنا، بل من أجلهم هم ومن أجل هذا البلد الجميل الغالي.

يبدو أن من خدعوا الأكراد بأحلام وردية ودغدغوا مشاعرهم حتى الفوز بالانتخابات البلدية والرئاسية، عمدوا الآن إلى وضعخطة عملظانين أنهم سيصيدون مجموعة عصافير بحجر واحد، فهم يتحدثون عن التعاون بين العمال الكردستاني وحركة الخدمة حتى يتسنى لهم الهجوم على شريحة كبيرة من المجتمع من جانب، ومن جانبٍ آخرَ ليرتكبوا جريمة إلصاق بعض الجنايات بهذا التعاون الوهمي“.

 

[1] من تاريخ كتابة المقال.

فهرس الكتاب