محمد فتح الله كولن من الشخصيات التي يصعب حقًا تحليلها. وحسب ما أرى فهو من الحلقات الأخيرة لسلسلة العلماء المسلمين. ولا أقول هو الحلقة الأخيرة لأنني لم أتتبّع سلسلة معينة منهم.

لا محل للفوضى في حياة كولن

إن فتح الله كولن هو صورة للتراث الإسلامي في العصر الحديث. ولم أصادف شخصيًا في حياتي أو إنسانًا آخر يملك هذا المستوى الرفيع من المعرفة ومراقبة النفس في كل شأن من الشؤون. لا محل للفوضى في حياته، فهو يعيش بنظام ودقة الساعة. فكأنه اتخذ من النظام المدهش السائد في الكون أساسًا لحياته. ويمكن مشاهدة هذا الأمر في جميع شؤونه بدءًا من أبسط حركاته، ووصولًا إلى قيامه بتخطيط الكثير من الفعاليات والأنشطة. فكأننا أمام عقل يعمل بإيقاع منظّم على الدوام. وهو حسّاس جدًا أمام العناصر المعنوية كحساسيته أمام العناصر المادية. نظراته وأطواره وقورة جدًّا، وهذه النظرات تبدو وكأنها لا تلامس المظاهر الخارجية بل تنفذ إلى الأعماق.

لا محل للفوضى في حياة كولن. فكأنه اتخذ من النظام المدهش السائد في الكون أساسًا لحياته.

كولن يناضل ضد الارتخاء

لا يلتفت محمد فتح الله كولن إلى القيم والأذواق المادية التي فتنت الناس ولا يعيرها اهتمامًا. قد تكون هذه القيم والأذواق من توابع الحياة، وأمورًا طبيعية بل ضرورية للإنسان كشخص دنيوي وكأب وزوج ورئيس عائلة. وهي تشغل حيّزًا ما في قلوبنا، وتهب نوعًا من الآمال والسعادة أو اللذائذ الدنيوية، ولكنها ليست على الإطلاق عناصر رئيسية في صراعنا وفي سبب وجودنا، فقد وُجد الإنسان على ظهر هذه الأرض لمثل وقيم عليا أسمى منها. ولو لم يكن هذا صحيحًا، إذن لماذا ضحّى الإنسان بنفسه وماله من أجل ما يعتقد أنه قيم مقدسة؟ ضحّى بنفسه من أجل الدين والوطن والأمة. هذا هو ما يجعل الإنسان عظيمًا ومهمًّا. هذه هي القيم السامية التي يدعو إليها محمد فتح الله كولن. يدعو الجماهير إلى أمور أسمى من الأمور اليومية الصغيرة التي ينشغل بها الإنسان في حياته اليومية، وإلى القيام بخدمات أسمى وأهم، وإلى مشاعر متأججة، وإلى قيم إنسانية عليا. هذا هو لبّ وجوهر نضاله. يناضل ضد الارتخاء في أحضان الدنيا. قد استصغر الدنيا وملذّاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين. وهذا يعني التوجّه نحو الأزلية.

لكي تلج إلى عالم كولن عليك أن تتجاوز حدود عالمك الشخصي وتتعداه.

كولن ليس من هواة وضع الأيدولوجيات

كولن هو أحد نماذج الدعاة النشطين الذين أنتجتهم التقاليد الإسلامية ضمن عصور عدة، وأنموذج مثالي من هذه النماذج. ولا يُعدّ من هواة وضع الأيدولوجيات التي تُقيم المجتمعات ثم تهدمها مثل واضعي الأيدولوجيات في العصر الحديث، الذين قاموا بهدم جميع ألوان التقاليد والأعراف، لأنهم تصرّفوا بالروح الثورية الهدّامة لعصر التنوير. لم يقم محمد فتح الله كولن بمد يده إلى شرايين المجتمع والعبث بشعيراته. بينما قام جميع واضعي الأيدولوجيات بهذا العبث دون أي شعور بالمسؤولية. لذا كان ضد التمسّك بهذه الأيدولوجيات.

استيعاب كولن لروح العصر

لا يُعدّ  كولن من هواة وضع الأيدولوجيات التي تقيم المجتمعات ثم تهدمها مثل واضعي الأيدولوجيات في العصر الحديث.

إن كولن إنسان أنتجته تقاليد طويلة وعريقة. نشأ في بيئة محافظة. كان قد استوعب الجوّ المحافظ بكل تفاصيله وشكّل منظومة فكره ونظرته إلى العالم وتفسيره له. وكان يدرك أيّ النقاط يجب المحافظة عليها وتفسيرها وتوسيعها. وساعدته على هذا معرفته الواسعة بالعلوم الدينية ومنظومتها الفكرية. ولكنه –كإنسان-يملك شخصية ثقافية عميقة، يدرك بها أحوال العصر الذي يعيش فيه، ويملك قابلية التجديد. كان شاهدًا على هذا العصر الذي أحدث تغييرات ثقافية عميقة تجرّعت الإنسانية مرارتها. كان من أفضل المدركين للموجات والتغييرات السياسية والفكرية الجذرية وبتأثيرات الصراعات والتحزّبات والانقسامات التي جلبتها.

يقظة دائمة

عندما ننظر من أعتاب دنيا إدراكنا العقلي المعاصر، نرى أن محمد فتح الله كولن يملك شخصية معنوية وفكرية قوية، قد عركته تجارب سنين طويلة في دنيا الفكر، فوقف بشكل مهيب يخاطب هذا العصر الذي ضعفت فيه الروح والفطرة السليمة والإدراك الصحيح. ولا يحس الأشخاص القريبون منه في ظل الثقل الفكري والمعنوي له بالراحة. لأن عليهم أن يكونوا يقظين على الدوام وفي جو روحي عميق. ولا يمكن الولوج إلى عالمه بأحاسيس ومشاعر تميل إلى الدنيا وإلى متاعها المادي ومصالحها ومنافعها. أي لكي تلج إلى عالمه عليك أن تتجاوز حدود عالمك الشخصي وتتعداه.

فتح الله كولن يناضل ضد الارتخاء في أحضان الدنيا. قد استصغر الدنيا وملذاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين.

لماذا لا نفهمه جيّدا؟

لا يساعدنا كولن كثيرًا على فهمه وتحليل شخصيته بعمق، لأنه يقوم بإخفاء العديد من الأمور المتعلقة به ويسترها بسبب تواضعه الجم. هذا في الوقت الذي يسهل كثيرًا تحليل العديد من الشخصيات، لأنها تحاول بكل ما تملك من قوة، وبكل جهدها إظهار كل ما يتعلق بها. ولكن هذا الطريق مسدود بالنسبة لـ”محمد فتح الله كولن” الذي اختار حياة الوحدة وحياة العيش وراء الأستار. فهو وحيد حتى مع أقرب الموجودين حواليه. وهو -ككل صاحب دعوة-يحاول الارتقاء إلى أعلى ثم إلى أعلى ووضع كل شيء في إطار من النظام.

لذا نرى أن إنسان هذا العصر الغارق في الدنيا وفي أنانيته ومصالحه الذاتية، لا يستطيع فهم مثل هذه الشخصيات -التي يغلب عليها طابع الروح والمعنويات والتي هي نتاج تاريخ طويل من التقاليد-حق الفهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة،

ملحوظة: بعض العناوين وبعض العبارات من تصرف المحرر.