توطئة: وسنحاول فيما يأتي الوقوف عند أهم مظاهر الغزو الثقافي والفكري الذي كانت الدولة العثمانية عرضة له قبل حوالي مائة سنة قبل سقوط الخلافة لتستمر مظاهره بصرامة على يد أهل البيت أنفسهم بدءً من سنة تاريخ إعلان الجمهورية (1923م) وإلغاء الخلافة (1924م).

1السلاطين العثمانيون وقضايا التحديث

لقد تصور بعض السلاطين أن الإصلاح عملية تقنية هدفها الجيش ومظاهر الحياة العامة، ويتجلى ذلك في:

أالاستغـراب

أشرنا في الصفحات السالفة إلى مظاهر الخلل التي بدأت تتسرب إلى عمق الدولة العثمانية، بالإضافة إلى ما صارت الدول الأوربية تقوم به من إذكاء لمظاهر الفرقة والفتنة لإضعاف الدولة وإضعاف السلطة الحاكمة، وهو الوضع الذي جعل بعض السلاطين يقتنعون بإيحاء من بعض عملاء الدول الأوربية بأن هناك خللا يتوجب إصلاحه، فتوجه السلاطين إلى اقتباس النظم العسكرية الأوربية. ويبدو أن السبب المباشر الذي أدى إلى التفكير في الجيش هو الاعتقاد بأن جيش الانكشارية لم يعد يساير العصر ولم يعد يقوم بدوره المركزي بالنسبة للدولة العثمانية، بالإضافة إلى النفوذ الكبير الذي أصبح هؤلاء يتمتّعون به إلى درجة أنهم طغوا وأصبحوا يهدّدون أمْن الدولة واستقرارها. وتميّزت جهود الإصلاح هذه بثلاث ميزات منذ أوائل القرن الثامن عشر الميلادي.

  • الميزة الأولى: هي ميزة الاستلهام الكلي للنموذج الفرنسي، ومن خلاله استلهام النموذج الأوربي الذي أصبح حديث المنتديات ونموذجا مثاليا يجب الاقتداء به.
  • الميزة الثانية: هي التركيز على الرفع من المستوى التقني للجيش وإعادة إعداده وبنائه على النمط الأوربي.
  • الميزة الثالثة: تبرير أسباب الإصلاح تفاديا للصدام بين دعاة الإصلاح والمعارضين له.

لقد ساهمت كل هذه العناصر وغيرها في إثارة جو من الفرقة بين مختلف فئات المجتمع، وبدأ أثر ذلك يظهر عندما عارضت الإنكشارية هذه الإصلاحات وأيّدهم بعض العلماء المتعصّبين ممن اعتبروا بناء الجيش على النظام الأوربي كفرا، لارتداء البنطلون (السراويل) بدل “الشّالْوار” إلى غير ذلك من المظاهر التي كان بعض العلماء يعتبرونها مظاهر كفر ومظاهر خروج عن الدين دون سعيهم إلى تبين الأسباب الحقيقية الكامنة خلف حالة التدهور التي وصلها واقع العسكر والسياسة والمجتمع والفكر والثقافة خلال هذه الفترة في الدولة العثمانية. “وفي الواقع إن التغيير كان في البداية في مجال التجهيزات للجيش وتنظيمه وتدريبه، ولم يكن هناك أي تفكير أو تدخل في الأمور السياسية مثل التعليم أو الصناعة أو الزراعة، بل إن حركة الاستغراب الحقيقية في عهد السلطان تركزت على المجال العسكري فقط، لإعادة تنظيم فيالق الجيش المختلفة، وتزويد بعضها بأسلحة جديدة. وقد اهتم السلطان كثيرا بالمدارس الفنية العسكرية، وعمليات الترجمة لبناء الوحدات العسكرية، المشاة والمدفعية، وخصص المهندسين لبناء السفن، وصناعة المدافع لمواجهة تسلط الإنكشارية على مؤسسات الدولة وفشلهم في خوض الحروب أمام القوى الأوربية”. فالسلطان ومن والاه وبعض فئات المجتمع لم يدركوا أن الإصلاحات التي عرفتها أوربا كانت وليدة حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأن لأوروبا خصوصية ليست هي خصوصية الدولة العثمانية.

الفكر الغربي دخل إلى صلب الدولة العثمانية دخولا غير سليم، فقد تسرب دون أن تكون الشروط الفكرية متوفرة وشروط الحصانة متأتية، الشيء الذي سيؤدي بالدولة إلى الدخول في متاهة ستنتهي بإسقاط الخلافة.

بعصر التنظيمات

المقصود هنا هو تلك الإصلاحات التي أدخلت على نظام الحكم، ومؤسسات الدولة الإدارية والسياسية. وهي تستند إلى مرسومين سلطانيين صدر الأول في سنة 1839م والمعروف بـ”منشور كُلْخَانَة”؛ وصدر الثاني سنة 1856م وعرف بـ”مرسوم الإصلاحات”.. وقد أضفى المرسومان على حركة الإصلاح والتغريب صبغة رسمية، وبدأت الدولة تستلهم الروح الغربية في الحياة وفي الفكر والتقنية والسياسة والإدارة، وتنكّرت لأصولها الحضارية وللشريعة الإسلامية التي كانت لزمن طويل سبب قوة الدولة العثمانية. وإذا كان السلطان عبد المجيد هو الذي وضع قطار التغريب على السكة، فإنه في الحقيقة كان خاضعا لتأثير وزيره مصطفى رشيد باشا الذي وجد في الغرب مثله الأعلى، وفي الماسونية فلسفته المثالية، وهو الذي أعدّ الجيل اللاحق له في أهم الوزارات وأعد رجال الدولة، وهو الذي ساهم بصورة قوية في دفع عجلة التغريب.

ولا مجانبة للصواب إذا قيل إن الغرب هو الذي أدار عمليه التغريب هذه، إذ جعلها سيفا ذا حدّين: الحد الأول هو حد محمد علي باشا، إذ إن الإصلاحات التي قام بها في الجيش، جعلته يبدو في صورة قوية إلى درجة التفوق على جيش المركز.. وأما الحد الثاني فهو حد تسريب الإصلاح بنسب لا تتيح تفوق الجيش العثماني، وهنا وظف الحد الأول وهو جيش محمد علي لضرب محاولات بناء جيش عصري في الدولة المركزية.

كانت الدولة العثمانية لقرون رمز وحدة أغلب المناطق الإسلامية، لكنها ستقع منذ أواخر القرن السادس عشر وطيلة القرن السابع عشر فريسة النزاعات الداخلية، والأطماع الخارجية. وقد أدّى هذا الوضع المتدهور إلى فتح الباب واسعا أمام الغزو الفكري والثقافي، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى قطع الصلة مع الأصول التي صنعت ولقرون عديدة قوة الدولة العثمانية لتدخل تركيا إلى ساحة العلمانية. يقول ياسر أحمد حسن معلّقا على ما نبع مع “التنظيمات” من تحول في بنية الواقع الاجتماعي والفكري لتركيا والأناضول: “من الآن فصاعدا ستشهد السلطنة انفتاحا هو الأكبر في تاريخها على الغرب الأوربي، الذي كان يعيش في ذلك الوقت حالة صعود الفكرة القومية؛ وإذ تبدو السلطنة مَعنيّة بهذه الفكرة، بحكم كونها متعددة القوميات والأديان والمذاهب وبحكم التحدي الصادر عن بعض منها في وجه إسطنبول، فإن مقترحها السلطوي المتمثل في فرمان التنظيمات لن يقدم حلولا ناجحة تضع حدا لانهيارها، بل ستمضي السلطنة من أزمة إلى أخرى، تجتاحها رياح التمرد والانفصال ذات البواعث القومية، ولن يكون النزاع مع مصر هو الأول في سلسلة الأزمات والصراعات الخارجية والداخلية، وسيكون جليا مع نهايات القرن أن “التنظيمات” لم تكن عهد تجديد قط، وإنما مثلت مقدمات للتمزق والانهيار الذي تسارع مع بدايات القرن العشرين. لكن ذلك لا ينفي أن “التنظيمات” ستقدم بفعل ما أحدثته من حركة في المياه الراكدة رصيدا محفوظا لمستقبل ليس ببعيد لانبعاث قومية تركية جديدة وخالصة، ستخرج من قلب عملية الانهيار لتغير مسار ومستقبل أبنائها أولا، وشكل خريطـة المنطقة التي يعيش فيها ثانيا، ولتفرض حسابات جديـدة ومثيرة في محيط أوسع”.

2تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية

ليس للبشر أن يغير سنن الله في كونه، ولن يغير الله سننه لسواد عيون جماعة من الجماعات، بل ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرَّعْد:11)، وينصلح حالهم. ومن هنا يبرز مفهوم الإصلاح بقوة.

لم يكن من المتيسر إصلاح ما تم إتلافه وإفساده خلال حيز زمني طويل لا يقل عن قرنين من العمل السري والمنظم تنظيما دقيقا، ولذلك فالإصلاح كان في حاجة هو الآخر إلى حيز زمني طويل، وإلى رؤية ثاقبة تدرك مكامن الخلل وتحدد مكامن المرض. بعبارة دقيقة كان الوضع يفرض القيام بعملية تشريح للجسد المريض قبل وصف الدواء. ولا مغالاة إذا قيل إن بعض رجالات تركيا لمسوا هذه الحقيقة وتصدوا للقيام بها كل من زاوية نظره ومن جهة ما يؤمن به، فمنهم من نجح بقدر إخلاصه، ومنهم من كانت الأحداث معاكسة لمسعاه، فانتهى إلى باب موصد لتضيع الأفكار والمواقف في حمأة الأحداث رغم محاولات النهوض والانبعاث المتعددة.

إضافة إلى المعطيات التي حاولنا الوقوف على مضامينها وأبعادها في المباحث السابقة ينبغي الإشارة إلى أهمية المعطى والمسار المعاكس للانهيار الإسلامي العثماني، والذي مثله تأسيس الجمهورية والقطع مع الماضي بكل ما يمثله، والعمل على الانطلاق إلى المستقبل بروح أخرى اختار لها مؤسسو الجمهورية “العلمانية” شعارا، والتغريب الأوربي طريقا ومنهجا. ومع ذلك فإن “العلمنة” قد أثارت العديد من الإشكالات والتناقضات في ظل عدم اكتمال ونضوج الشروط التاريخية والاجتماعية لتركيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وهو ما جعلها لا تمت بكثير صلة إلى العلمانية. “ولم تستطع، بالتالي، أن تكون ذات حضور مؤثر وحاسم بصورة طبيعية في مجتمع تشرّب بالأيدلوجيا الإسلامية على امتداد أكثر من سبعة قرون. لهذا وجدت العلمانية نفسها بعد سبعين عاما من الممارسة أمام تصاعد التيارات الإسلامية، رغم كل القيود القانونية”.

ولا ينبغي في الإطار نفسه استبعاد دور الجيش في الحياة السياسية وغيرها. الأمر الذي يؤكد بأن النظام الديمقراطي الذي جرى تبنّيه منذ 1945م كان في الحقيقة نظاما شكليا من زاوية أن قوة الجيش سمحت لنفسها بالتدخل في كل وقت وحين لحماية المبادئ الكمالية بوساطة “مجلس الأمن القومي”، الذي نصت عليه الدساتير المتعاقبة منذ 1961م.

لهذا يطرح السؤال: لماذا اندفع أتاتورك كل هذا الاندفاع نحو الأَوْرَبة ونحو دين أوربا في العصور الحديثة “العلمانية”؟ ألا يمكن أن نلمس نوعا من الصدق والإخلاص فيما قام به؟ ألا يمكن أن نتصور أن إيمان كمال أتاتورك بضرورة مغادرة تركيا إلى أوربا يحتم مغادرتها للإسلام والقطع مع هذا الإرث الذي جعل أوربا التي كانت مجرد جغرافيا قبل فتح القسطنطينية سنة 1453م تتحول بعد ذلك إلى مصطلح سياسي وحضاري وثقافي وإلى مواجهة تخفي حربا صليبية.

وليبرز كون إلغاء الدين والإسلام من الحياة سدا للباب أمام الموقف الأوربي تجاه تركيا والإسلام بصفة عامة، لكن هل كان هذا الأمر كافيا لكي تتوقف أوربا عن اعتبار تركيا عدوا باعتبار ماضيها التاريخي القوي؟ ألا يمكن القول إن خطوات الكمالية هذه كانت نوعا من الانسحاب خلف الستار من أجل إعادة ترتيب البيت وتنظيمه من أجل انطلاقة جديدة على أسس متينة. أليس من الإنصاف القول إن ما حدث كان فيه خير بالنسبة للفكر الإسلامي وبالنسبة للفكرة الدينية الإسلامية حتى تعيد تجديد نفسها وتعيد إنتاج ذاتها بما يتلاءم وشروط العصر الحديث؟ وفي الإطار نفسه ماذا تُمثّل تركيا اليوم بالنسبة لأوربا وبالنسبة لباقي دول العالم الإسلامي، والعالم العربي جزء من هذا الكيان؟ ألا يحمل مشروعا حضاريا تعترف به أوربا وتعتبره عاملا حاسما يمنع دخول تركيا إلى حظيرة السوق الأوربية المشتـركة.

لقد سعى كمال أتاتورك بكل قوة إلى أَوْرَبة تركيا لأنه اقتنع أن هذا هو الحل، بل كان يؤمن إيمانا قاطعا أن هناك حضارة عالمية واحدة هي الحضارة الأوربية. وينبغي اقتباسها كلها بورودها وأشواكها، ولذلك حرص كمال أتاتورك على التذكير في كل خطبه بضرورة الانخراط في مجموعة الأمم المتحضرة يقصد أوروبا، واضعا نصب عينيه التغيير الاجتماعي قبل التغيير السياسي.

كان كمال أتاتورك يؤمن -كما يذكر ذلك الذين ترجموا له وكتبوا عن حياته وأفكاره- بضرورة تمتع الإنسان التركي بتركيته وإنسانيته وكرامته بصورة تلقائية دون النظر إلى دينه. وكان اعتقد بأن “المرشد الحقيقي الوحيد في الحياة هو العلم”.

لقد كان شديد الحساسية اتجاه الفكرة الشرقية التي تربط التفوق الحضاري حسب تصوره بالمذهب الديني، فالقديم وحضارة الأجداد وحضارة الترك الغابرة لا تحقق النهضة، يقول: “إن حضارتنا القديمة لن تمنحنا الحياة. وإن لكل جيل حضارته، ومتى صنعنا حضارة لنا أصبحنا جديرين بالانتماء إلى الأجداد،”. والأجداد هنا ليسوا هم العثمانيين بل هم الأتراك القدامى.. وأما النموذج الذي يحقق ذلك فهو النموذج الأوربي، يقول: “والحضارة التي يجب أن ينشئها الجيل التركي الجديد هي حضارة أوربية مضمونا وشكلا، لأن هناك حضارة واحدة هي الحضارة الأوربية، هي الحضارة القائدة، والحضارة الموصلة إلى القوة والسيطرة على الطبيعة. وخلق الإنسان السيد والأمة السيدة المتحررة من السلطة الفردية والسلطة التيوقراطية. وإن جميع أمم العالم مضطرة إلى الأخذ بالحضارة الأوربية لكي تؤمن لنفسها الحياة والاعتبار”.

فالأوربة في صورتها الكاملة كما طبّقت في أوروبا ونجحت، ينبغي تنزيلها في الواقع التركي. وحتى يتحقق ذلك ينبغي إعداد التربة التي ستساعد على نموها نموا طبيعيا، حتى تعطي ثمارا تشبه الحضارة الأوربية. وإعداد هذه التربة يفرض محاربة العقليات المتحجرة وخاصة العقليات الدينية، يقول: “إن هدف الثورة هو أن تخلق في تركيا الجمهورية مجتمعا عصريا، متحضّرا روحا وشكلا، هذا هو قطب هدف الثورة، ويجب أن نهزم العقليات غير القادرة على تقبل هذه الحقيقة، هناك عقليات تميت الأمة. ولهذا يجب غسل عقول الناس من الأسطورة والخرافة، وبدون ذلك لا يمكن إدخال نور الحقيقة إلى عقول الناس”.

ولتحقيق هذه الغاية أعلن كمال أتاتورك حملة اجتثاث لكل الطرق والتكايا وكل المظاهر الدينية، وأعلن قائلا: “سأغلق كل التكايا.. نحن نستمد قوتنا من الحضارة والعلم والمعرفة ونسترشد بها”. فهل نجح كمال أتاتورك ودعاة الأوربة في قطع تركيا عن جذورها، وهل إغلاق التكايا ومحاربة الطرق الصوفية ومحاربة الفكر الديني ومحاصرته كفيل بالقضاء على الروح الدينية المتجذرة في لاوعْي الإنسان التركي؟ لقد أكدت الأيام أن الخيار صعب التحقيق لأنه مضاد للطبيعة الإنسانية ومضاد لسنن الكون.

3القطع مع الماضي ومنظومة مجتمعية جديدة

استمرت حملة التغيير الساعية إلى بناء منظومة مجتمعية متحررة من إرث الماضي، ودعت إلى تبني الفكر الطوراني أو النظرية الطورانية. وإذا ما سجل التاريخ الحديث من حدث فلابد أن يسجل توجه كمال أتاتورك إلى دعم نظرية أسطورية ترجع كل لغات العالم إلى أصل واحد هو اللغة الأتراكية تمهيدا لجمع الأتراك حول لغة موحدة، فأعلنت الحرب على كل ما يوجد في اللغة العثمانية التي كانت هي لغة أغلب سكان تركيا وخاصة في الأناضول. فأدخلت ألفاظا جديدة واستبدلتها بالألفاظ الإسلامية الأصل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، ويذكر صويص أن هذه الخطوة لم تكن بدافع فكري أو ثقافي بل كانت بدافع سياسي يقول: “حين قررت الجمهورية التركية استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني كذا… كان الوازع إلى ذلك سياسيا وليس ثقافيا، ولم يكن ذلك جزءا من حركة التتريك التي سادت تركيا بعد التحرير، بل نتيجة ما حدث في الأقطار المجاورة لتركيا نفسها. فحين قامت الثورة الاشتراكية سنة 1918م تبنت حكومة الاتحاد السوفياتي الحرف اللاتيني في أذربيجان وشمال قفقاسيا، وصدر بذلك مرسوم جمهوري سنة 1925م يفرض الكتابة بالأحرف اللاتينية في هذه المناطق، التي يتكلم سكانها اللغة التركية، وفي سنة 1926م عقد مؤتمر “باكو” وقرر منع استخدام الحرف العربي لدى الناطقين بالتركية في الاتحاد السوفياتي.

وكان هدف الاتحاد السوفياتي من هذه السياسة هو إضعاف نفوذ الإسلام في السكان، ثم فصم الرابطة بين هؤلاء الأتراك القاطنين في الاتحاد السوفياتي وأبناء جلدتهم القاطنين في تركيا الذين كانوا يستخدمون الحرف العربي”.

ويرى فريق آخر أن كمال أتاتورك لم يكن في البداية يهتم لمصير أذربيجان وغيرها من المناطق الأتراكية بل كان مهتما من خلال إلغاء الحرف العربي بالقطيعة مع الماضي بكل ما يمثله، حتى يتسنى للأجيال اللاحقة الإقبال على المستقبل بروح متجددة.

4إعادة قراءة صورة الإسلام في تركيا

هل استطاعت تركيا بعد كل هذا القضاء على ماضيها في صلب لاوعي المجتمع التركي؟ وهل تمكنت من أن تطفئ جذوة الإسلام والدين في القلوب؟ وكيف تبلور الفكر الديني في الواقع التركي؟ وإلى أي حد استطاعت الفكرة الدينية التكيف مع واقع علماني ولاديني لا يتسامح؟ وهل استطاعت الفكرة الإسلامية الصمود في وجه التغيير والتفاعل معه، وكيف تم لها ذلك؟

لن نبالغ إذا قلنا إن الفكرة الإسلامية هي الأقوى حضورا في الواقع التركي اليوم بمظاهر مختلفة وتوجهات متنوعة. الحدث التركي اليوم يصنعه الجيش بسلطته القوية، وتصنعه الأحزاب السياسية ذات الأيديولوجية الإسلامية وخاصة حزب العدالة والتنمية. ويصنعه مجتمع مدني قوي متشبع بالفكرة الدينية، ومتشبع بضرورة توظيفها من أجل تركيا قوية.

وبداية لا بد من الإشارة إلى أن الجو الديمقراطي الذي تبلورت معالمه في العقدين الأخيرين والذي سمح لبعض حركات الإسلام السياسي من الوصول إلى إدارة الشأن السياسي بنوع من النجاح، قد جعل تركيا محط اهتمام الباحثين والمهتمين، وخاصة المتتبع العربي وفئات واسعة من المجتمع من مثقفين وسياسيين وحتى الشارع، وانتقل هذا الاهتمام إلى نوع من الإعجاب ورغبة في معرفة حقيقة تركيا الجديدة، والمتأمل فيما يتجاذبه الناس من أحاديث حول تركيا يجدها تنقسم إلى انطباعين اثنين:

  • الانطباع الأول هو أن تركيا الحديثة هي نتيجة التوجه العلماني الذي تأسست في ضوئه الجمهورية، وأهل هذا الرأي يؤكدون بأن تركيا اليوم نتاج الأجواء العلمانية، التي عاشت في ظلها تركيا منذ 70 سنة خلت. الشيء الذي يؤكد في نظر هؤلاء أن العلمانية هي سبيل النهضة والانبعاث.
  • الانطباع الثاني يعتبر أن تركيا تمكنت من الحفاظ على هويتها وبأن معاول الهدم والتخريب التي طالت المجتمع التركي لم تستطع النيل من هذه الهوية، بل هناك من ينظر لتركيا على أنها تملك كل شروط قيادة الشرق الإسلامي إلى النهضة والانبعاث. وهناك من يعتبر قيادة تركيا اليوم عثمانيين جددًا، وهناك من يذهب أبعد من هذه الرؤية حين يعتبر تركيا مطالبة بأن تتحمل مسؤولية الانفتاح على العالم العربي، ومطالبة بالنظر إلى العالم العربي على أنه عمقها الاستراتيجي، في ضوء إيجاد توازن استراتيجي جديد في المنطقة. العالم العربي الذي يشعر بنوع من الاستضعاف، يحلم بأن بتركيا حليف قادر على بث الدفء في العلاقات العربية التركية. ومن المستحيل أن يتم تجاهل المشترك الديني، في ظل الاختيارات المناهضة لأوربا بالنسبة لإيران، لأن التوجهات التي تطبع إيران تجعل الإنسان العربي لا يطمئن كثيرا لما قد يأتي به المستقبل.

كان الإسلام هو دعامة الحكم، والسلطان في الدولة العثمانية، بل إن الدولة العثمانية قد تمكنت في وقت من الأوقات من أن تقوم على أساس التقاليد الإسلامية السائدة وعلى أساس تفسير نصوص القرآن الكريم وسيرة الرسول r، تقول د. مرغريت حلو: “الشريعة التي وضعت في القرون الأولى للإسلام والتي جسدت الأعراف والتفسير لسيرة النبي بنيت على التقاليد السائدة في مجتمع يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الذي توالد من توسع الإسلام، ومن هنا فمن الطبيعي أن تبقى أمور عديدة لا تلحظها الشريعة أو تفصل الكلام عليها. في الفترة السابقة للحكم العثماني لم تكن ممارسة الكثير من الأشياء مستندة إلى أي قانون تنظيمي، بل كانت عرفية برمتها، ثم تغيرت بتغير الزمان والمكان، ويعزى الفضل إلى السلاطين العثمانيين في:

1-خلق حكم مفصل، وجعل الدولة أكثر ميلا إلى السلالة الملكية منها إلى الدينية الشعبية.

2-تفعيل الشريعة من خلال جعلها القانون المطبق في الدولة.

وفي هذا الإطار لا ينبغي التغافل عن ملاحظة مهمة جدا وهي أن أهم الدراسات المنجزة حول تركيا العثمانيين أنجزها باحثون غربيون، الأمر الذي يدل على أهمية تركيا بالنسبة للغرب، وهذا ليس من منطلق العداء أو الصراع الحضاري فحسب، وإنما باعتباره اعترافا بقوة هذه الدولة وأهميتها بالنسبة لأوربا.

ويؤكد بيرنار لويس في كتابه نشوء تركيا الحديثة (The emergence of Modern Turkey)، أن للإسلام العثماني يدا واضح المعالم في التنظيم القضائي وخاصة فيما يتعلق بالإقرار بسلطة القضاء، ويظهر كذلك في تنظيم الهياكل الدينية، وإقرار سلطة مشيخة الإسلام التي كان لها الحق في عزل السلطان. ويضيف بيرنار لويس في الكتاب نفسه أن الأتراك في ظل دولة العثمانيين لم يكرهوا على الإسلام، وكان اختيارهم له عن قناعة ومحض رغبتهم، ولذلك فهو لا يحمل في طياته أي مؤشر من مؤشرات النقمة أو الخوف. فقد ذاب الأتراك في الإسلام ونسوا ماضيهم، وانتسبوا للإسلام وحده دون غيره، وصار لقب تركي مرادفا للمسلم.

كل هذه المقومات طبعت المفهوم العثماني للإسلام، وتجلى ذلك في: “تفاني الإمبراطورية العثمانية، منذ نشأتها حتى زوالها، في الدفاع عن الإيمان، والحفاظ على قوة الإسلام من خلال محاولاتها بالدرجة الأولى توسيع دار الإسلام باتجاه أوربا وغيرها من المناطق، ومن خلال محاولتها بالتالي صد الهجمات الغربية، والحيلولة دون تغلغل الغرب في دار الإسلام، كما تجلى أثره أيضا في إحلال الهوية الإسلامية محل الهوية التركية إحلالا شبه كامل”.

وليس هذا فحسب، فقد اعترف السلاطين العثمانيون اعترافا مبدئيا بكفاءة الشريعة في تسيير الحياة العامة، ومما ينبغي الإلحاح عليه كذلك في هذا المقام هو ما كان يتمتع به غير المسلمين من حرية الاعتقاد والتصرف وحرية الحفاظ على هويتهم الثقافية والعقدية، وهذا معاكس لما يذهب إليه بيرنارد لويس الذي يؤكد بأن أتباع الديانات الأخرى كانوا معزولين ولم يكن بمقدورهم الاختلاط بالمجتمع الإسلامي بحرية، ولذلك لم يتمكنوا حسب رأيه من المساهمة في الحياة الثقافية العثمانية إسهاما واضحا، وهذه مغالطة كبيرة جدا لأن الدولة العثمانية كانت من بين الدول القليلة التي استقبلت اليهود بعد طردهم من الأندلس، ليعيشوا بعد ذلك في مناطق مختلفة من الدولة العثمانية، ولتكون لهم اليد الطولي في إسقاط الخلافة، بالنظر إلى المكانة التي أعطيت لهم، والمناصب التي وصلوا إليها في ظل السلطنة العثمانية.

وقد توحي تحليلات بعض من درس هذا الموضوع واهتم به أن الصورة الجديدة لتركيا العلمانية والمقطوعة عن ماضيها وتاريخها، والمتجهة بكل إصرار وقوة إلى الأوربية، هي في الحقيقة حالة محصورة في المدن الكبرى بين طبقات المثقفين والتجار والقيادات الإدارية والسياسة وقادة العسكر. لكنه لم يتجاوز هذه الطبقات لكي يصير خيارا شعبيا واقتناعا يوميا. لكن السواد الأعظم من الشعب ظل معزولا عن التيارات الجديدة لأسباب في طليعتها اتساع المساحة وصعوبة الاتصال والمواصلات، وطبيعة الحياة القروية، وعلاقة سكان هذه القرى بالدولة ومؤسساتها، وارتفاع نسبة الأمية، وتعلق القرويين بالدين، وتنظيمهم الاجتماعي القبلي العشائري، ورغبتهم في الحفاظ على عزلتهم، وولائهم لمناطقهم وللدين ورموزه (الخلافة) وتمسكهم بكل ما هو تقليدي ومحافظ. فأهل القرى هولاء كان لبيئتهم وَلاء مباشر للإسلام، ولم يكن بمقدورهم التفكير في احتمال التناقض بين متطلبات الدين ومتطلبات الدولة، والحقيقة أن هذه الظاهرة ما تزال بارزة حتى اليوم.

كل هذه المعطيات تؤكد بأن المجتمع التركي كان وظل مجتمعا مرتبطا بهويته ولم تستطع كل حملات التغريب والأوربة أن تقضي على هذه الشعلة. والراجح أن التحولات التي عرفتها تركيا قد طبعت الارتباط بالهوية بروح جديدة ومكّنتها من أن تعيد صياغة نفسها صياغة جديدة وهذا ما سنحاول تبينه في مباحث آتية في هذه الدراسة.

5الحرب الثقافية على الإسلام

يؤكد برنارد لويس (Lewis Bernard) أن تضخيم الإصلاحات التي قام بها كمال أتاتورك أمر مستبعد، ذلك لأن السلاطين العثمانيين أنفسهم قد سبقوه إلى الكثير من تلك الإصلاحات. وهنا نرجع إلى السؤال الذي كنا طرحناه سابقا وهو “هل يكفي تغيير القوانين للقضاء على الدين والإيمان في القلوب، وهل اقتباس القانون الفرنسي أو القانون السويسري يكفي لجعل الناس فرنسيين أو سويسريين؟”.. الجواب جلي إذ “لم يكن اعتماد الحكومة التركية القانون المدني السويسري كفيلا أو كافيا لجعل تركيا سويسرا الشرق الأوسط، ولم يكن بالتالي كفيلا أو كافيا أيضا لجعل الجيلين التركيين، الجيل الذي عايش الإمبراطورية الإسلامية في آخر أيامها، والجيل الجديد الذي ترعرع في مطلع عهد الجمهورية، قادرين على الفصل بين انتمائهما التركي وانتمائهما إلى الإسلام،” ودليل هذا هو عدد الطلبة الذين سجلوا أنفسهم في كلية الإلهيات. فقد كان عددهم 287 بين سنة 1927م وسنة 1932م، ثم تقلص إلى عشر فقط سنة 1933م الأمر الذي عجل بإغلاقها سنة 1936، ليعاد فتحها سنة 1949م. ويمكن أن نتصور علة هذا الفشل وهو ما كانت هذه الكلية تقدمه من معارف، إذ كان الأتراك على العموم يعتقدون أنها تعلم الإلحاد والمروق عن الدين والإسلام.

وبعد وفاة مهندس الثورة الكمالية ومؤسس الجمهورية سنة 1938م دخلت تركيا مرحلة جديدة في العلاقة مع الإسلام، حيث ستشهد السنوات والعقود التي تلت وفاته نوعا من التحسن في نظرة العلمانية للإسلام وللممارسة الدينية بصفة عامة دون أن يكون ذلك تراجعا عن مبادئ العلمانية. كانت السلطة الحاكمة تشعر بخطورة ما قد يجلبه التركيز على عقلانية الفرد، وعلى الجوانب المادية من فراغ روحي وعاطفي قد تستغله الحركات الدينية المتطرفة. بالإضافة إلى ما قد تخلفه الأزمات من عدم قدرة على التفسير والتحليل وخاصة في الأوساط الشعبية والطبقات المهمشة والبسيطة. الأمر الذي يجعل الدين وسيلة للهروب وملاذا للعزاء.

ولتفادي هذه الوضعية وكسياسة استباقية قررت الجمهورية في سنة 1940م إلحاق الأئمة بالجيش، وفي السنة نفسها ظهرت أولى بوادر معارضة دينية تمثلت على الخصوص في معارضة إقدام وزارة التربية في سنة 1939م على نشر النسخة التركية من دائرة المعارف الإسلامية “”Encyclopedia-of Islam” عندما قام مجموعة من الأتراك المتدينين بقيادة أشرف أديب (الذي كان محررا بجريدة إسلامية في عهد تركيا الفتاة) بالاعتراض على نشر هذه النسخة، مشددا على أنها ليست مع الإسلام بل ضده، لأنها إنتاج الإرساليات المسيحية الرامية إلى تهديم أسس الإسلام، وانتقد هؤلاء وزارة التربية لدعمها مشروعا مناهضا للدين الإسلامي. ظهرت هذه الانتقادات أولا في رسائل وجهت إلى المسؤولين، ثم في مقالات نشرت في وسائل الإعلام، وأخيرا في دورية تولى المعارضون إصدارها بأنفسهم.

وستقوم هذه المعارضة بنشر الموسوعة الإسلامية التركية (Turk Islam Ansiklopedisi) لتكون منافسة لتلك التي قامت الحكومة بنشرها من قبل، ولتكون معبرا عن وجهة النظر الإسلامية.

ويلاحظ المتابع لحقيقة هذا التغيير ثلاثة أشكال من الممارسة التي تجسد الرجوع إلى الإسلام:

  • الشكل الأول هو الشكل الشعبي وهو أكثر بروزا وأقوى حضورا لأنه متصل في المقام الأول بالسواد الأعظم من الشعب التركي. ويتمثل على الخصوص في تمويل المساجد وترميمها، وجمع التبرعات والزكوات لتمويل مدارس الأئمة والخطباء، بالإضافة إلى تزايد عدد الراغبين في الحج وزيارة البقاع المقدسة دون إهمال المظاهر الثابتة الأخرى في الممارسة الإسلامية من صوم وصلاة واحترام للباس الإسلامي. يضاف إلى كل ذلك تزايد الإقبال على المقتطفات الدينية والأحاديث النبوية وتزايد عدد المنشورات ذات الطابع الإسلامي وتكاثر الإقبال على الجماعات الدينية، إضافة إلى تزايد اهتمام بعض وسائل الإعلام بالمناسبات الدينية كعيد المولد الشريف، بنشر قصائد وأشعار في مدح الرسول r، والاهتمام ببعض المواسم ذات الطابع الصوفي. وما يمكن أن يسترعي الانتباه في هذا المقام هو تزايد النقاش حول القضايا الدينية، التي كان العامة يخوضون فيها، مطالبين بضرورة إيجاد رجال دين أكفاء وبتحسين وضع الإرث الروحي.
  • وأما الشكل الثاني فهو الشكل الذي برز فيه جمهور السلطة الحاكمة نفسها والذي تمثل على الخصوص في رفع القرار المانع للأذان باللغة العربية في سنة 1950م. وبعده بدأت الإذاعات الرسمية تذيع بثا منظما لتلاوة القرآن الكريم، كما سمح بتعميم تعلم حصص المادة الدينية للجميع إلا من رفض ذلك.

وقد نتساءل هل كان هذا التسامح نوعا من الثورة ضد مبادئ كمال أتاتورك أم كان مجرد سياسة وقائية وخطة حمائية من جهة أن المنع الصارم يؤدي إلى ظهور ظواهر غير محسوبة النتائج وغير مقدور على التحكم فيها.

  • وأما الشكل الثالث فقد مثله بروز بعض الحركات الإسلامية ذات البعد السياسي رغم ارتكازها على مرجعية روحية كالطريقة التيجانية التي برزت قبل الحرب العالمة الأولى ليخفت صوتها منذ 1925م، لتظهر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى في هذا الإطار التطور الكبير الذي عرفته تركيا على أثر رغبتها في التحول إلى دولة صناعية؛ الأمر الذي نتج عنه هجرة عدد كبير من الباحثين عن ظروف أفضل للعيش، الأمر الذي زاد من عدد السكان في المدن الكبرى وزاد معه حاجتهم وتوسعت معه مصالحهم ومطالبهم وأدى كذلك إلى نشوء طبقة متوسطة مع ما يمثله هذا النشوء من تحول في العقليات وفي نمط التفكير.

وأما الطبقات الأخرى وخاصة الدنيا فكانت هي الأخرى ذات تطلعات خاصة لا تختلف كثيرا عن تطلعات الطبقة الوسطى. وهكذا بدأت التحولات الاقتصادية والتعليم العلماني والتحديث الاجتماعي ينافس القيم الدينية وظهر ذلك على الخصوص في وسط الطبقة العمالية، حيث صار العامل التركي أكثر انفتاحا على المفكر والسياسي الذي يحثه على ضرورة المحافظة على التوجه الغربي، بل لقد كان لهذه الطبقة (الطبقة العمالية) مطالب لم يستطع الحزب الديمقراطي الحاكم التعاطي معها.

حاولت حكومة عَدْنَان مَنْدَرِيس أن تتقدم بإصلاحاتها من أجل صورة جديدة لتركيا، لكن الأمر ما لبث أن تداعى بإعلان انقلاب 27 ماي 1960م الذي أطاح بالحكومة المدنية التي كان مندريس يرأسها.

وستعرف فترة 1961م-1965م عودة للحياة الديمقراطية وشكلت العديد من الحكومات الائتلافية، أقرت أغلبها بشرعية مطالب الطبقة المتوسطة والتي يشكل العمال الجزء الأكبر منها، وتمكنت الطبقات العمالية من “سن المواقف الرسمية من الحركة العمالية، ومن إصدار التشريعات التي جعلت من العمال المؤطرين في اتحادهم مواطنين مشاركين وفاعلين في تحديد المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتحديد حل لها شواهد معبرة. “والذي لا شكّ فيه أن هذا الأسلوب نجح في التغلب على إرث عثماني، كانت الجمهورية عاجزة عن تخطيه، إنه نجح في ردم الهوة العميقة بين الشعب والمفكرين والقادة”.

وإذا استثنينا محاولات “حزب الخلاص الوطني” الذي حصل على نسبة 12% من أصوات الناخبين في انتخابات 1973م والذي لم يستطع أن يتجاوز نسبة 8,6% في انتخابات 1977م، فإن الأحزاب ذات التوجه الديني لم تستطع التميز واستقطاب الأصوات ولم تكن قادرة على إثارة التخوف من تنامي الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام السياسي، الأمر الذي فسره البعض على أنه نجاح للسياسة العلمانية واستمرارها على الصعيد الشعبي. وقد ترجم ذلك في دستور 1972م من خلال التنصيص على أن الجمهورية التركية دولة علمانية.

6رفع القيود على الدين

وعلى العموم يمكن القول بأن مرحلة تعدد الأحزاب قد عرفت رفع العديد من القيود المفروضة على الدين، وحصل نوع من الانبعاث الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى ظهور أحزاب تخاطب المشاعر الإسلامية. “وقد أصبح الآن من المسلم به في تركيا أن العلمانية لم تعد من المسائل الجدلية التي فيها أخذ ورد، غير أن الجدل استمر حول العديد من الأمور التي لها علاقة بالإسلام”.

و هناك أسباب كامنة وراء عودة الأتراك إلى الإسلام وخاصة في الفترة الأخيرة، ومن هذه الأسباب نذكر:

1- اقتناع الكثير من المفكرين والفلاسفة بعدم جدوى الاهتمام بالفلسفة الوضعية العلمانية منذ الحرب العالمية الثانية، وجعلها المسار الوحيد في منظومة التفكير.

2- تخوف السلطة الحاكمة من قيام أو حدوث ثورة تقيم نظاما إسلاميا يؤدي إلى سيطرة إيديولوجية تقليدية.

3- انتشار المبادئ الديمقراطية التي عمقت الوعي السياسي لدى سكان البوادي، ونمت إحساسهم بالحرية وخاصة حرية المعتقد وحرية التفكير.

4- الخوف من انتشار الفكر الشيوعي في ظل التهديد الذي مارسه السوفيات على تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع الأتراك إلى التفكير بجدية في ضرورة منح المجتمع حصانة أخلاقية وروحية واجتماعية.

ويمكن القول بأن لهذه العودة أسبابا وليس أسرارا، ولعل من أهم الأسباب استمرار جذوة الفكر الإصلاحي الإسلامي على مدى سنوات طويلة؛ فالدور الذي لعبه الفكر الحركي الإسلامي بمختلف مشاربه كان حاسما في المحافظة على بقاء المجتمع التركي على صلة بالهوية الإسلامية دون التهاون في التفاعل الإيجابي كلما دعت الضرورة إلى ذلك مع المستجدات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي عرفها المجتمع التركي في مرحلة الجمهورية، وخاصة العلمانية.

ينقسم الفكر الإصلاحي المتصل بالخلفية الإسلامية في تركيا إلى قسمين كبيرين:

القسم الأول اختيار المجال السياسي أو ما يسمى بالإسلام السياسي معتركا للإصلاح، واعتبار الوصول إلى السلطة سبيلا يسهل عودة تركيا إلى جسدها الإسلامي.

القسم الثاني اعتبر الانخراط في المجتمع والعمل المدني والاجتماعي والابتعاد قدر الإمكان عن العمل السياسي ومعتركه هو الأساس الذي يحقق إيجاد مجتمع فعال منخرط في العصر. وفي ظني أن مثل هذا التوجه هو الذي يتوفر على القوة الأكبر تأثيرا في مختلف مكونات المجتمع والواقع بما في ذلك السياسة.

وسنحاول في الفقرات الآتية التحدث عن أهم هذه التيارات من زاوية أن الموضوع الرئيسي في هذا البحث هو الحديث عن شخصية تعتبر اليوم من أكثر الشخصيات تأثيرا في الواقع التركي بفكره وحركته وأتباعه، وهي شخصية يعترف بها العدو قبل الصديق والمنافسون قبل الأتباع، “الأستاذ فتح الله كولن”.

من يتعرض للحديث عن الفكر الإصلاحي ذي الاتجاه الإسلامي في تركيا اليوم لا بد له من الوقوف عند شخصية الأستاذ فتح الله كولن، ولا بد له من أن يقف عند شخصية “الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي” الذي كان ملهمًا لحركة إصلاحية بارزة للعيان. والحديث عن الحركة هنا لا يعني أن الرجل قد سعى إلى بناء كيان منظم ومهيكل، فهذا لم يحدث ولم يسمح الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي به، إذ كان يلحّ دائما على ضرورة الالتفاف حول “رسائل النور” التي كان يعتبرها فيضا من فيوضات القرآن الكريم.

ولد النورسي سنة 1295هـ / 1876م في قرية نُورْس (NURS) التي يُنسب إليها، حتى صارت هذه النسبة علَما عليه عرف بها في تركيا وخارج تركيا. تلقى تعليمه الأول على يد مشايخ وعلماء شرق الأناضول حتى حصل على الإجازة في سن الخامسة عشرة، ثم انتقل إلى إسْعِرْد (Siirt) في جنوب تركيا، ومنها إلى مَارْدِين (Mardin) في جنوب شرق تركيا (1310هـ / 1892م)، ثم إلى وَان (Van) في 1312هـ / 1894م، وهناك ركز على تعلم العلوم التي لم يتلقّاها على شيوخه في شرق الأناضول، فدرس التاريخ والجغْرافيا والرياضيات والجيولوجيا والفزياء والكمياء والفلك، والفلسفة.

وقد شهد له بمواهبة الخارقة وقدرته الكبيرة على الحفظ والاستيعاب “ومن الجدير بالذكر أن “سعيد” لم ينتسب إلى أية طريقة صوفية كما هو المعتاد في الأناضول”، فقد كان له مواقف مشككة في قدرة الطرق الصوفية على إكساب الإسلام حيويته، ولكنه مع ذلك فقد تأثر إلى حد كبير بمتصوفة الأناضول. ويذكر شريف مَارْدِين (Şerif Mardin) -وهو أحد علماء الاجتماع الأتراك البارزين- أن سعيد النورسي هو نتاج النشاط الصوفي النقشبندي في الأناضول، لكنه يمثل انعطافا، ولا ينبغي لهذا الرأي أن يحجب أن سعيد النورسي آمن بأن مناهج التعليم التقليدية التي كانت سائدة في تركيا أواخر الدولة العثمانية كانت عاجزة عن إنتاج نموذج بشَري يستطيع الإجابة عن أسئلة العصر، وهذا الذي جعله يجتهد بكل قوة في سبيل إنشاء “مدرسة الزهراء” التي كان يتطلع لأن تكون على غرار الجامع الأزهر في مصر، وأن يجمع منهج التدريس فيها بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية، وأن يدرّس فيها علماء أكراد وأتراك بغرض خدمة الإسلام في الأناضول.

7النورسي نموذج المصلح المتفتح

تمكن سعيد النورسي بحكم تمكنه من مخالطة الأوساط المثقفة والنافذة في الدولة العثمانية من أن يتعرف على الأفكار الأوربية ورأيها في الإسلام وفي الدولة العثمانية، وأن يدرك مدى التفاوت بين الواقع الحضاري الأوربي وواقع المسلمين بصفة عامة والدولة العثمانية على وجه الخصوص. ولذلك لم يرفض الأفكار الأوربية وسعى ” لتطوير نمط تفكير نقدي داخل التقاليد العثمانية بدلا من أنماط التفكير الأوربي. ووجد أن ذلك النمط الجديد يستوجب لهجة خطاب جديدة يوائم بين العقلية الأوربية والتقاليد العثمانية الإسلامية”. ولهذا السبب أيد المشروطية وتفاعل معها من زاوية أنها قد تكون وسيلة من وسائل بث روح التجديد في المجتمع الإسلامي على وجه العموم والمجتمع العثماني على وجه الخصوص.

وقد ألقى بهذه المناسبة خطبة في ميدان الحرية بمدينة سلانيك (Selanik) بث فيها مفهومه لـ”الحرية الشرعية” التي يضع الشارع ضوابطها ويبين حدودها في مقابل “الحرية الفوضوية” التي لا تنضبط لأي ضابط. وألح في الخطبة نفسها على ضرورة الاستفادة من التقدم العلمي واقتباسه من الغرب، لكن دون أخذ الجوانب السلبية في الحياة الاجتماعية للغرب. ثم ألح على أن تأخر الدولة العثمانية ترجع مسؤولته إلى ثلاث فئات هي: فئة علماء الدين، وفئة المتعلمين (الذين لم يفهموا الغرب فهما صحيحا)، ثم فئة أصحاب التكايا الذين انغلقوا على أنفسهم واتهموا الناس بالكفر والخروج عن الدين.

ولذلك سعى سعيد النورسي إلى إيجاد نوع من التوافق بين الرؤية الإسلامية والمشروطية من خلال البحث عن عناصر الالتقاء؛ الشيء الذي يكشف مدى انفتاح رؤيته وتفاؤله بالمشروطية على اعتبار أنها قد تحمل حلا لأزمة الأمة. وما يدل كذلك على هذا التفاؤل هو محاولته بعد إلغاء السلطنة سنة 1342هـ / 1923م، والخلافة سنة 1343هـ / 1924م، توجيه السلطة الجديدة نحو إعطاء أهمية كبرى للدين في السياسة الداخلية، مع اتباع سياسة واضحة ذات رؤية إسلامية نحو الاتحاد الإسلامي.

وتعتبر زيارته لـ”أنقرة” العاصمة في نهاية سنة 1922م مرحلة حاسمة في حياته، لأنه سيدخل بعد ذلك في مرحلة جديدة، حيث لاحظ بأن الإيمان في خطر، وأدرك أن الوضع يحتاج إلى من يحول دون الإجهاز على ما تبقى من روح إسلامية في المجتمع التركي، ولذلك سيعلن ميلاد “سعيد الجديد” قاطعا العلاقة مع السياسة، ومنبريا لإنقاذ الإيمان. ولم يعمل النورسي خلال هذه المرحلة الجديدة على توجيه محبّيه إلى معارضة الأفكار العلمانية بصورة علنية بل “وجّههم لتشكيل عالم ذاتي لا تصله هذه التغييرات، والمحافظة على هذا العالم من تدخل الدولة. وطالب سعيد النورسي المسلمين بإصلاح حياتهم والانشغال بأنفسهم وعالمهم الداخلي”.

لقد ركز النورسي في هذه المرحلة على أمرين:

  • الأول هو إيجاد مساحة معنوية تكون بمثابة الحصانة ضد التغييرات التي كانت الجمهورية تجتهد في إدخال كل الأتراك في إطارها من خلال فرض الفكرة العلمانية بالمفهوم الذي فهمه كمال أتاتورك. وأما المستهدف في مشروع النورسي فهو “الفرد المسلم والأسرة المسلمة، وأوضح أن ذينك المستهدفين لا يمكن للحكومة مجابهتهما، ولا التدخل في خصوصيتها؛ فالحكومة والنظام الأمني يتعامل مع الملموس ولا يدخل القلوب، ومن هنا جعل كفاحه متعمقًا، مستهدفا الفرد، ناظرا إليه على أنه نواة الأمة وآلية الحياة”.
  • الثاني السعي إلى إيجاد رؤية إيمانية تراعي معطيات الواقع العصري الذي حققت فيه العلوم الطبيعية تقدما كبيرا يفتن الألباب ويأخذ العقول، ووظفت توظيفا من أجل نشر الشبهات حول الإسلام. وقد تمكن من خلال رسائل النور أن يبني منظومة من الأدلة المستقاة من القرآن الكريم ومن التدبير المتأني في الظواهر الكونية أو ما كان يطلق عليه “القرآن المنظور”.

تمكن سعيد النورسي خلال سنوات طويلة من المنافي والسجون أن يؤلف مجموعة من الرسائل في حقائق الإيمان أطلق عليها فيما بعد “رسائل النور”. وقصة انتشار هذه الرسائل في أرجاء تركيا جديرة بالاهتمام، فأمام الحصار الذي ضرب على بديع الزمان سعيد النورسي وبالنظر إلى الحصار الذي مارسته السلطة الحاكمة على كل ما له علاقة بالإسلام وخاصة نشر الكتب الإسلامية، كان النسخ باليد هو الوسيلة التي لجأ إليها النورسي في نشر رسائله بين الناس في مختلف أنحاء تركيا؛ وذلك بالاعتماد على شبكة من النسّاخ مقتنعين بفكر النورسي وبفكر الرسائل. وبسبب هذه الرسائل حُوكم النورسي بتهمة المس بأمن الدولة والعمل على تكوين دولة إسلامية، لكنه كان في كل مرة يبرأ ولا تستطيع لجان الفحص العديدة التي فحصت الرسائل أن تعثر على ما يدين النورسي ويدين الرسائل حيث أكدت العديد من الخبرات التي أنجزتها اللجان العلمية بأمر من السلطات القضائية والسياسية خلوها من أي إشارة إلى قضايا سياسة واقتصارها على إبراز حقائق الإيمان.

وبناء على ما تقدم يمكن القول إن مشروع النورسي الإصلاحي قد اعتمد على المرتكزات الآتية:

أالفهم العميق لحاجة المجتمع

بعد قيام الجمهورية وتمكنها من بسط سلطتها على كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية، ويأس النورسي من أي أمل يرجى في الحكام الجدد وإدراكه بأن الواقع في حاجة إلى ما هو أقوى من مجرد مقالات صحفية ومواجهة السلطة الحاكمة المتسلطة بالمعارضة، أي إلى نوع آخر من المواجهة، لأن الذي قامت السلطة الجديدة كان ثورة استهدفت تغيير العقليات والثقافة، وكان من اللازم -كما تصور النورسي- دون الإفصاح عن ذلك مباشرة هو القيام بثورة أخرى تستهدف إعادة ربط المجتمع بهويته العقدية والإيمانية. يقول طارق عبد الجليل السيد: “مع تأسيس الجمهورية التركية وحدوث الانقلابات الاجتماعية والسياسية داخل تركيا، أحس سعيد القديم بأن أنشطته القديمة في إصلاح الدولة عن طريق كتابة المقالات من الصحف والمجلات والمشاركة السياسية في الهَيْئَات والجمعيات، وكذلك جهوده في الدفاع عن قضايا الوحدة الإسلامية، لم تعد تجْد شيئا، وأن مرحلة جديدة بدأت في الحياة السياسية والاجتماعية بتركيا غيرت سلم الأولويات، وقلبت الموازين الاجتماعية والقيمية والتوجهات السياسة الخارجية رأسًا على عقب”.

ولذلك فقد رأى بأن إنقاذ الإيمان هو السبيل إلى ذلك وبأنه هو العنصر الذي يعتلي سلّم الأولويات بالنسبة للإصلاح، كان يعتقد بأن المنهج يجب أن يكون منسجما مع الفطرة وقوانينها التي هي نفسها القوانين المتحكمة في الكون.

إن أهم ما يستشف من توجه النورسي الجديد هو القيام بنوع من الجهاد المعنوي الذي يستهدف بناء المجتمع. وهذا هو تفسير إلحاحه على الاهتمام بالرسائل باعتبارها إلهاما من الله، مع حرصه على أن تكون هي الغذاء الفكري الوحيد الذي يسمح للناس بأن يحافظوا على حصانتهم العقدية والإيمانية، وبأن يتمكنوا من الوقوف في وجه الأمواج العاتية الصادرة عن الفكر الطبيعي والتوجه العلماني للدولة.

بتربية الأجيال على هذه الروح المعنوية

يقول إحسان قاسم الصالحي في تقديمه لـ”الملاحق” عن طبيعة المرحلة من حيث طبيعة التوجه التربوي: “ومن هنا نرى أن مرحلتي “بَارْلا” و”قَسْطَمُوني” (1927م-1944م) وكذا أَمِيردَاغْ تتميز بالعمل السري التام والتأسيس السري الصامت، والتأكيد على الحذر الشديد لإرساء القواعد وتربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل، والوفاء الخاص والشغف بالدعوة والارتباط المتين بها”. لم يكن النورسي في أي لحظة معنيا بأن يكثر الأتباع بقدر ما كان معنيا بالكيف، فالعمل الذي استقر في داخله إنجازه أو بالأحرى ألهمه الله إنجازه هو إيجاد جماعة من المخلصين المؤمنين بالفكرة، الأقوياء في ذواتهم، والواثقين بوعد الله.

وتربية هذا الجيل التأسيسي لا بد له من الشقّين وهما الرجل والمرأة؛ فلقد آمن النورسي بأن الاعتماد على شق واحد قد يكون عنصر تكسير لشوكة العمل لعلمه بأن توحد جهود الطرفين معًا سكون عنصر قوة للعمل.

وفي الإطار نفسه نلاحظ أن النورسي دائم الإلحاح على أهمية الشباب وضرورة إعدادهم الإعداد اللازم للقيام بالمهمة الجليلة، وذلك لأنهم يمثلون المستقبل؛ وعدم إنقاذ إيمان أجيال الشباب، يعني أن المستقبل لن يكون على الصورة التي كان النورسي يطمح إليها. ونظرا لأهمية عنصر الشباب، ونظرا كذلك لمعرفة النورسي بالمخاطر التي تحف بهم في ظل الواقع الجديد، كان النورسي (رحمه الله) كثير الإلحاح على توجيه الخطاب إليهم حاثّا إياهم على الالتزام بروح الدين وتحذيرهم من مغبة الانزلاق إلى الشراك الكثيرة جدا المنصوبة لهم في كل مكان وفي كل وقت وحين.

وكما اهتم النورسي بالشباب اهتم بالمرأة لكونها العنصر المكمل لدور الرجل، بل لأن المرأة في نظر النورسي هي المجتمع كله، ولذلك ألح على ضرورة العناية بها وضرورة اشتراكها في المشروع الإصلاحي الذي آمن به، لعلمه بأن إعداد المرأة الإعداد اللازم هو إعداد لمجتمع المستقبل، وهو كذلك إعداد للقاعدة الأساسية لصلاح المجتمع.

وفي الإطار نفسه وجدنا النورسي يلح على ضرورة الاهتمام بالأسرة والبيت المسلم، وضرورة إعداد أفراده إعدادا يتناسب مع توجيهات القرآن الكريم، ومع السنن الكونية. واهتمام النورسي بهذا المكون هو في العمق اهتمام بمكون مركزي في المجتمع، لأن إصلاح المجتمع لا يتأتى إلا بإصلاح المكونات الصغرى، والأسرة أهم هذه المكونات الصغرى.

يعتبر النورسي محطة ذات أهمية كبيرة جدا لا يمكن المرور عليها عندما يتعلق الأمر بالفكر الإصلاحي الحديث في تركيا. فلقد أثر بوجه أو بآخر في جهود العمل الإصلاحي في تركيا الحديثة أو في تركيا الجمهورية. لقد كانت أفكار النورسي من خلال رسائله منارة ترسم منهج إعادة بناء المجتمع وبناء الإنسان بصورة هادئة دون صدام أو مواجهة مع السلطة الحاكمة. ولقد كان إيمانه بهذا الهدف السامي هو المحرك القوي الذي جعل “سعيد الجديد” يلعن السياسة ويتعوذ منها بقوله: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”. ولا ينبغي فهم ذلك على أنه هروب من المواجهة، بل هو الحكمة التي تعرف أن دخول معركة من المعارك دون وسائل وأدوات تعتبر معركة فاشلة وخاسرة، ولذلك فإن ترك السياسة بالنسبة للنورسي هو في العمق ترك لما يحول دون العمل الحقيقي وهو البناء. لأن السياسة مصدر للخلاف والتنازع ونشر الفرقة، والاشتغالُ بها هو اشتغال بما يفرق، ويؤدي إلى النزاع، ويلهي عن العمل الحقيقي وهو بناء المجتمع.

لم يكن النورسي بصورة ما بعيدا عن السياسة، لأنه ظل حاضرا في جوهرها، لكن بصورة غير مباشرة. وبغضّ النظر عن الأجيال المؤمنة التي ربطت بالقرآن وبالإسلام الصافي فإن أفكاره قد أثرت بصورة مباشرة في رؤية العديد من الحركات المدنية والسياسية. وهنا كذلك لا يمكن القول بأن أفكاره قد أثرت في الحركات ذات الاتجاه الإسلامي فحسب بل إن تأثيره قد امتد حتى إلى التيارات الأخرى اللبرالية والماركسية وغيرها، إما بدفعها إلى تغيير أفكارها بما يتلاءم وجود أفكار النورسي المنتشرة بين مختلف فئات المجتمع وطبقاته، وإما بالاقتباس من أفكاره ومنهجه، وإما بالتماس ود الجماعة سواء على حياته (مرحلة سعيد الثالث) أو بعد وفاته.

ولا يمكن تجاهل الدور الذي أدّته الدعوة النورية بصورة غير مباشرة في تغيير النظرة النمطية التي تحكمت في السلطة الحاكمة منذ إلغاء الخلافة سنة 1924م. فقد كانت أفكار النورسي وعمق انتشارها في المجتمع دافعا للسلطة السياسية في أن تعيد النظر في الكثير من مظاهر محاربة الإسلام في المجتمع التركي.

رفض النورسي الانخراط في السياسة حتى لا يكون الدين مطية للسياسة ولأجل ألا يكون أيديولوجية لتحقيق أهداف عابرة وليس نتائج دائمة.

تالتركيز على الجماعة

كان النورسي في إطار منهجه الإصلاحي دائم الإلحاح على ضرورة العمل الجماعي وأفضليته على العمل الفردي، بل كان دائم الإلحاح على أن القوة حليفة العمل الجماعي والضعف حليف العمل الفردي، ولهذا كان النورسي حريصا على أن يذكر أصحابه وطلاب النور بضرورة التمسك بأسباب النجاح في العمل، وهي:

  • التعاون والاتحاد وعدم الاختلاف،
  • الإخلاص وابتغاء وجه الله.

وربما كان هذا الشعور هو الذي جعل النورسي ينوء بنفسه عن الرد على الخصوم وكذلك صار طلبة النور بعد وفاته رحمه الله. فلم يعرف على النورسي أنه رد على خصومه أو دخل معهم في جدل، والعلة كذلك واضحة؛ حيث يمكن اعتبار الرد على الخصوم ومجادلتهم نوعا من التناقض مع المرتكزات التي اعتبرها النورسي أساسية في مهمة الإصلاح، وهي محاربة الفرقة التي هي إلى جانب الفقر والجهل أهم أعداء الإنسان والمجتمع، والتي لا يتأتى إصلاح المجتمع دون محاربتها، ولذلك فالدخول في الجدل سبيل إلى إرساء الفرقة وبث النزاع بين فئات المجتمع.

يقول طارق عبد الجليل: “ولعل صفة “جماعة العمل” عند النورسي بما فيها من مرونة في التعامل مع معارضيه، هي التي مكّنت حركة النور من الانتشار داخل الحياة الاجتماعية في تركيا ووصولها إلى فئات عديدة من الشعب، والنخب المثقفة، وكذلك سهلت لها الاستفادة من الخدمات المؤسسة بأجهزة الدولة. وخاصة كذلك بصورة لا تشعر النظام بالقلق اتجاهها، وكذلك مكنت لها الانتشار خارج حدود تركيا في آسيا الوسطى وفي أوربا وأمريكا وكذلك التواجد في الوطن العربي”.

8دعوة فتح الله كولـن

من الأسئلة الأساسية التي تطرح عندما يتعلق الأمر بالأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، الأسئلة المتعلقة بمدى ارتباط دعوة الأستاذ فتح الله كولن بحركة النور. فشخصية الأستاذ فتح الله كولن شخصية ذات مؤهلات وقدرات خاصة، خطابية وكتابية، بالإضافة إلى مؤهلات أخرى سنتعرض لها لاحقا.

أهم ما يربط دعوة فتح الله بالحركة النورية هو الرسائل؛ فأدبيات الأستاذ فتح الله تشير في كثير من المواطن إلى أهمية رسائل النور وتشير إلى قيمتها التربوية، وهي موجودة ضمن المصادر المقررة إن صح هذا التعبير في منهج التربية المعتمد لدى المجموعة. وما يؤكد ذلك هو أن للأستاذ فتح الله مقالات حول شخصية الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.

إن تأثر الأستاذ فتح الله بالنورسي من خلال رسائل النور لا يمكن إنكاره ولا يمكن تجاهله ولا يمكن لأحد مهما بلغ من التعصب للأستاذ فتح الله كولن أن ينكر هذا التأثير. وهذا ليس بالأمر المستغرب لأن النورسي استطاع التأثير في أجيال من الأتراك وطبع الحياة الروحية والحياة الاجتماعية بطابع خاص لا يمكن إنكاره. ولكن مع كل ذلك فإن فتح الله كولن كما استفاد من الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، استفاد من غيره من أعلام الفكر في مختلف الحقول الدينية منها والصوفية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية. وقد مكّنته ثقافته العميقة والمتنوعة بالإضافة إلى شخصيته الحركية من أن يتفرد برؤية خاصة تمكنت من التغلغل في ثنايا المجتمع، واستطاعت أن تبني حركة مدنية جديرة بالاهتمام وجديرة بالدرس والتحليل. وهذه الحركة الحية ليست وليدة يوم وليلة بل هي وليدة عمر صرفه الأستاذ فتح الله في خدمة المجتمع وفي بناء الإنسان. لقد نذر حياته كلها لهذه المهمة السامية، بل يمكن القول: إن الأستاذ فتح الله قد حقق وصية الأستاذ بديع الزمان التي كانت تحث على أهمية رسائل النور التي هي تفسير للقرآن الكريم كما يقول إحسان قاسم الصالحي، بالإضافة إلى أن الأستاذ فتح الله قد استطاع بكل ما حصل عليه من معارف أن يُنزل فكر الأستاذ بديع الزمان إلى الواقع من خلال إقناع الناس بإنشاء المشاريع الحضارية النافعة التي تبني الحضارة وتعود بالنفع على الإنسان، واستطاع تقديم إضافات نوعية تجديدية إلى فكر سعيد النورسي.

يعتبر “مشروع الخدمة” مجالا يثير اهتمام علماء الاجتماع في العالم كله. ولا يكاد يمضي يوم دون أن يتم تنظيم ندوة أو مؤتمر أو تقدم محاضرة حول الأستاذ فتح الله في مختلف مناطق العالم، وخاصة في أمريكا وفي أوربا. الأمر الذي يفسر الأهمية المعرفية التي يكتسيها موضوع “الخدمة”، وفكر الأستاذ فتح الله كولن.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.