الجهاد والتسامح والإرهاب في رأي كولن

يغذي الإعلام يوميًّا في صفحاته الأولى وبرامجه الإخبارية التحامل على الإسلام لدى الناس خاصة في الغرب، فأصبح الجهاد عند بعضهم هو العنف والإرهاب؛ ثم يأتي كولن ليؤكد أنّ الجهاد «أمر إلهيّ»، وفصَّل في أمرين أساسيين في الجهاد:

“إن الجهاد في سبيل الله يجري في جبهتين اثنتين: الأولى موجهة إلى الداخل، والأخرى موجهة إلى الخارج. ويمكننا أن نعرّف كلًّا من الجهاديْن بالآتي: إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية محاولة الإنسان أن يصل إلى ذاته وإلى ربّه، أما الجهاد الآخر الموجه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربّهم، ويطلق على الأول «الجهاد الأكبر» وعلى الثاني «الجهاد الأصغر»، حيث إن الإنسان بالأول يبلغ معرفة نفسه بعد اجتيازه العقبات بينه وبين نفسه حتى يبلغ معرفة الله ومحبة الله والذوق الروحاني، أما بالثاني فتتحقق بإزالة الموانع بين الإنسان والإيمان بالله سواء بالنضال أو القتال، لإيصاله إلى الله تعالى ومن ثم التعرّف عليه والعروج في معرفته”[1].

وينتقد كولن اختزال الجهاد بالقوة المادية فقط، ويقرِّر أنّ الجهاد هو بذل الجهد لبلوغ مرتبة «الإنسان الكامل»، فهو يشمل كل أنواع المجاهدة في سبيل الله من أجل خير الإنسانية، فالجهاد ليس هو الضرب بالسيف فحسب:

“الجهاد الأصغر ليس هو شكل الجهاد الذي يؤدَّى في جبهة القتال فحسب، فهذا النمط من الفهم يقلّص أُفق الجهاد، حيث إن مَيدان الجهاد واسع جدًّا يمتد من الشرق إلى الغرب، وعلى سعته وشموله قد يكون كلمة واحدة أو سكوتًا وصمتًا أو تبسّمًا وطلاقة وجه أو امتعاضًا ونفورا أو تركًا لمجلس أو مشاركة فيه.. وباختصار هو القيام بأي عمل من الأعمال لوجه الله، وتقويم الحب في الله والبغض لله في هذا السبيل… ومن هنا فإن كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في أي ميدان كان من ميادين الحياة ولأي شريحة من شرائح المجتمع. كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي. بمعنى أن ما يُؤَدَّى في ميدان العائلة والأقارب القريبين والبعيدين والجار ذي الجنب والصاحب بالجنب، كل ذلك هو من الجهاد الأصغر. فهي كدوائر متداخلة واسعة سعة الأرض كلها”[2].

ويشير كولن إلى أن شكل الجهاد يختلف باختلاف الأزمان، فيقول:

“إن أشكالَ الجهاد تتباينُ وتتنوع وفقا لمختلف العصور والأزمان؛ فكما يكون الجهاد بالنصيحة المحضة أحيانا، يكون بإرشاد شخص ما أحيانا، وبأخذ موقف ضد الكفر أخرى؛ وكثيرا ما يمكن اعتبار القدوة الحسنة والمثال الحسن نوعا من أنواع الجهاد، فقد اُعتبرت الهجرة، على سبيل المثال، لفترة معينة في عصر السعادة كالجهاد عينه.

…وقد قال سيدنا رسول الله   لشاب جاءه فارا كي يشارك في الجهاد: “أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟”، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ!”[3] أي إن أمره   إياه أن يقوم على رعاية والديه والاهتمام بهما إشارة إلى أن جهادَه هو رعايتُه والديه[4].

وكونه جهادًا أصغر إنما هو بالنسبة للجهاد الأكبر، وإلّا فليس فيه جهة صغيرة قطّ[5].

وهذا القول يعبر عن وجهين مختلفين لحقيقة واحدة، فكلاهما فيه تزكية للبشرية ومحاولة للوصول بها إلى الكيفية التي يبتغيها ربنا تبارك وتعالى، وعلى ذلك فالجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر يعبر عن وجهين مختلفين لحقيقة واحدة”[6].

فالجهاد الحقيقي في نظره هو أن تصبح إنسانًا أو مسلمًا مثاليًّا، والجهاد وفقًا لأي منظور إسلامي هو مجاهدة ذاتية يقوم بها المكلف طوال حياته للارتقاء في مراتب التقوى وتقديم الخدمة لأهله وجيرانه وأبناء وطنه خاصّة وللإنسانية عامّة، ولا وجود للعنف والإرهاب ألبتة في العقيدة والفكر الإسلامي ولو في مقاومة العنف والعدوان على الأبرياء، ففي نصوص القرآن مجموعة مبادئ مهمة يتعين على المسلمين في كل العصور اتّباعها:

“إن الأصل في الإسلام هو السلم وليس الحرب، وأفضنا في بيان أن الأسباب الموجبة للحرب هي الدفاع، والحدّ من الظلم، وفتح باب حرية الإرشاد والتبليغ”[7].

وصرّح القرآن الكريم أنَّ قوى الشر التي تحاول القضاء على السلام والوئام بين الشعوب والديانات لن تفنَى:

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۝ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ۝ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۝ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ۝ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۝ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ۝ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۝ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ۝ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/39-48).

تبين هذه الآيات أنّ الجهادَ لا يقصد منه هلاك أي شيء أو أي شخص على الأرض، بل هو بذل أقصى الجهد لمناصرة الحق أبدًا مهما كانت العقبات أو الصعوبات؛ فالجهاد كغيره من المسائل المذهبية في الإسلام، وله وجهان: مادي ومعنوي، يقول كولن:

“إن الجهاد الأصغر في معنى من معانيه جهاد مادي، أما الجهاد الأكبر الذي يشكل الجانب المعنوي من الجهاد فهو جهاد الإنسان لنفسه وعالمه الداخلي، فمتى ما أُوفى حق هذين الجهادين معًا فقد تأسس التوازن المطلوب، وبخلافه، أي إذا ما نقص أحد هذين الجهادين اختلت الموازنة الموجودة في روح الجهاد”[8].

والموازنة بين الجهاد المادي والمعنوي على مستوى الفرد والأمة والعالم بأسره مسألة في غاية الأهمية والتعقيد، فجوهر الأمر هو التضحية بالمال والوقت والجهد والموهبة في سبيل قضايا أسمى في الحياة، أي في سبيل إعلاء الحق والأخلاق الحميدة والتواضع وحقوق الإنسان، فلا بد أن نضحي بالكثير في سبيل الآخرين لننشر هذه الظاهرة، فالأفراد والدولة والمؤسسات بأنواعها وكل من لديه موارد عليه أن يحذر من الاعتداء على أي حق للآخرين؛ ومشكلة غالب المسلمين أنهم يظنون أنه لم تعد لديهم قدرات وطاقات لينفقوها في سبيل الله، فاعتقدت جماعات صغيرة كثيرة في مناطق مختلفة من العالم بأن عليها أن تبذل أقصى ما لديها وتضع أرواحها على أكفها في سبيل قضاياها؛ لكن البطولة الحقيقية في نظر كولن ليست في الموت بل في الحياة من أجل الآخرين، فالتضحية بالنفس في سبيل خدمة الآخرين ركن أساسي عنده.

ونحن نلحظ -وا أسفاه- أن الهجمات الانتحارية كثيرًا ما تكون خيارًا تكتيكيًّا لجماعات من ديانات مختلفة في العالم، لكنّ سلوك الإرهاب الذي يمارسه هؤلاء -كما تقول كارين أرمسترونج- لا يمكن عدُّه سلوكًا يهوديًّا أو مسيحيًّا أو إسلاميًّا:

“صحيح أن المسلمين -مثلهم في ذلك مثل المسيحيين أو اليهود- ابتعدوا كثيرًا عن مُثُلهم العليا، لكنّ هذا لم يكن سببه الدين، فالتفجيرات التي قام بها الجيش الجمهوري الإيرلندي نادرًا -إن كانت قد حدثت أصلًا- لم توصف بأنها إرهاب «كاثوليكي»؛ ليقيننا بأنها لم تكن حملة دينية أساسًا، بل كثير من الحركات الأصولية في أنحاء العالم -على غرار حركة الجمهورية الإيرلندية- هي أشكال جديدة للحركة القومية تتستر بقناع ديني منحرف، وهذا ما نراه في الأصولية الصهيونية في إسرائيل واليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة”[9].

ويبين كولن أنه لا مسوغ في الإسلام لإزهاق الأرواح بغير حق، وتشهد بذلك آيات كثيرة:

“يتناول القرآن الكريم موضوع قتل ولو نفس واحدة على أنه جريمة ترتكب بحق الناس أجمعين؛ فيقول: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/32). ولا يمكن العثور على هذه الحساسية الإسلامية الخاصة بموضوع «الحق» في أي دين آخر على الإطلاق، بل ولا في أي نظام قانوني حديث أيضا. أجل، لقد تصرف الإسلام بحساسية وحذر شديدين في هذه المسألة؛ فجعل قتلَ إنسانٍ واحدٍ يعدل قتل الإنسانية جمعاء.

…وثمة آية أخرى تلفت الأنظار إلى خطورة الموضوع فيقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/93) وبالنظر في مثل هذا فإنني أريد هنا التركيزَ بوجه خاص على كلمة «خَالِدًا» الواردة في الآية، إذ إنها استخدمت دون إضافة لفظ «أَبَدًا»، واستخدمت في آيات أخرى مضافة إليها، ومع هذا فإن ابن عباس  وبعض أئمة التابعين يرون -انطلاقا من لفظ «خَالِدًا»- أن مَنْ يقتل مؤمنًا متعمدًا يستحق العذاب الأبدي، مثلُه مثلُ مَنْ يُنكرُ الله تعالى”[10].

يقول كولن: الإسلام -الذي يعني السلام والعدل في حياتنا الفردية والجماعية، ويقوم حقًّا على أساس الرفق والرحمة- يسعى إلى الإحياء لا إلى القتل، فالهدف الإسلامي لا يمكن تحقيقه إلا بالوسائل والطرق الإسلامية، فما يستخدَم من وسائل وطرق قد تفقد أغراض المرء السياسية وجهها الدينيّ، «لا يمكن الوصول إلى الحق بوسائل باطلة، يجب أن تكون الوسائل المستعملة وسائل حق»[11]؛ وأعلن كولن شَجْبَه واستنكاره لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، كما ردّ على ربط الإرهاب بالإسلام، وطالب بإدانة من يشوهون الوجه المضيء للإسلام واتخاذ إجراء موحد ضدهم؛ ويذكر كولن بنهي الإسلام عن قتل الإنسان نفسه، خاصة إذا كان هدفه من ذلك إيذاء الآخرين، فيقول:

“ليس من الإسلام في شيء أن يقوم انتحاري بتفجير نفسه، فالإسلام لم يُقر قتلَ الأبرياء ألبتة، ولم يُفتَ على مر التاريخ في الإسلام بجواز قتل الأبرياء، ويستحيل أن يُفتى بذلك، ولكن التصرفات الخوارجية والقرمطية لأناس تم خداعهم أو التلاعب بهم بالمخدرات أو بغيرها من الوسائل، أدى إلى تشويه سمعة كثير من الأبرياء وتلويث صورة الإسلام النقية، وأصبح المسلمون النموذجُ في التوكل على الله ورمزُ الأمن والسلام يُتهمُون بأنهم إرهابيون”[12].

وفي مقابلة أجرتها الصحفية بجريدة زمان «نورية آكمان» قال كولن:

“لا مكان للإرهاب في الإسلام؛ لأنه يساوي ما بين قتل النفس والكفر من حيث الخطورة، فلا يحق لكم أن تقتلوا إنسانا ما، وليس لأحد أن يمس بريئًا ولو في زمن الحرب؛ وليس لأحد أن يفتي بهذا، وليس لأحد كذلك أن يقوم بتفجير انتحاريّ، ولا أن يندفع في جموع الناس بحزامٍ ناسف، هذا لا يجوز شرعًا أيًّا كان دين هؤلاء الناس”[13].

إذًا، ليس السؤال المطروح: هل يجيز الإسلام أو يحرم التفجيرات الانتحارية أو الأعمال الوحشية ضد خصم أو عدو مجاهر، خاصة من لا يمكن قتاله قتالًا تقليديًّا بأي شكل؟ وإنما القضية الجوهرية هنا هي أن في المسلمين مَن فقدوا روح الرفق والرحمة المفترض أن تعود عليهم وعلى الآخرين بالخير؛ وهذا لم يحدث فجأة بل هي ظاهرة بدأت مبكرًا أكثر مما نتخيل أو نعرّف بها الآخرين، قد تكون بدأت مع الخلافات الدينية والعرقية المختلفة، وزادت حدة العنف والإرهاب مع الأفكار القائلة بأنه من الطبيعي جدًّا استعمال القوة للاستيلاء على أموال الآخرين وأوطانهم بلا رقيب قانوني أو أخلاقي، وتجدر الإشارة هنا إلى تحليل ممتاز لِهبلر، يقول:

“في الحروب والمذابح والعنف السياسي خلال ألف أو ألفي سنة مضت، لا دليل على وجود أي اختلاف بين أنواع العنف في مختلف البلدان أو المناطق أو الجماعات الثقافية، ولم يحدث مطلقًا أن نشأت موجات عنف معًا في كل المناطق على مدار التاريخ، بل وقعت في عصور مختلفة وبأشكال مختلفة؛ فأوروبا وآسيا وأمريكا وإفريقيا والمسيحيون والمسلمون والهندوس والبوذيون وغيرهم، كل هؤلاء لديهم خبرة كبيرة بالعنف السياسي في صورة حروب وقتل جماعي وترحيل وقمع، وهناك أسفار كاملة من الكتاب العبري المقدس تصف المآثر العسكرية للملوك العظام وتنقل صراعاتهم بما فيها من تفاصيل دموية، أما العهد الجديد فلم يعلن الحرب فورًا، بل أعلنتها الكنيسة في مرحلة تاريخية لاحقة، فكان للمسيحيين سجل دامٍ في الحملات الصليبية والحروب الدينية، فكل المجتمعات ونظم الحكم شهدت غزوات وطغيانًا وحروبًا، وإن تفاوتت في شكلها وحجمها كثيرًا بحسب السياق السياسي لتفاوت الجوانب الثقافية أو الدينية”[14].

وطوال عصر الاحتلال والحرب الباردة، مرت العلوم الاجتماعية بأزمة بلبلة واضطراب، بل إن قوى الاحتلال السابقة والأطراف المؤثرة في السياسة الدولية لا تزال تمارس عملية غَسل مخ لشباب العالم الثالث والعالم الإسلامي؛ ويقف العلماء والكتّاب ذوو التوجه الديني غالبًا عاجزين عن الإدلاء بدلوهم في العلوم المعاصرة من تاريخ معاصر وعلوم طبيعية وعلم نفس وفلسفة وتكنولوجيا، وتعمقت أزمة دراسة العلوم الاجتماعية والسياسية إثر نشوب الحرب النفسية بين العالم الإسلامي والغرب، وصار لكلا الجانبين غالبًا ردود أفعال تجاه قضايا حيوية تتعلق بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية؛ تقول فريدة أختر في هذا:

“هندسة العمليات الحياتية وتصنيعها في مجتمع عالمي تسوده الفردية والأنانية يهددنا، فتحقيق الأرباح صار هو المعيار الأخلاقي الوحيد للمجتمع المدني، وانحصرت الثروة والنفوذ بيد شرذمة، وانقسم العالم انقساما حادًّا إلى حكام ومحكومين، وعصريّ ورجعيّ، وأول وثالث، وشمال وجنوب إلخ”[15].

وتعرض كولن مثل الملايين منا لضغوط وقمع الحكومة وسياساتها المعادية للشعب داخل تركيا وخارجها، ولم يفقد الأمل ألبتة في إقناع شعبه والشعوب الأخرى بالتقدم والاضطلاع بدور صانع السلام بدلًا من نشر الكراهية والعداوة ضد الديانات الأخرى، بل حتى ضد خصومه، وأطلق مارك شيل الخبير والمحلل الغربي على كولن اسم «مهاتما غاندي تركيا»، و«الرومي العصري» الذي ألهم الأمة التركية كلها أفكار السلام والسكينة من أجل الناس جميعًا[16].

يقول كولن: “الجهاد الأصغر لا يطبق إلا لإزالة العَقبات أمام كمال الإنسان خلقيًّا وروحيًّا، وإرساء السلام والنظام في المجتمع الإنساني”[17]، وللتسامح دور مهم في إيجاد السلام داخل المجتمع، فليكن الجهاد من أجل التسامح، يقول كولن: “فعلى المجتمع أن يتمسك بالتسامح، فإذا كان هناك شيء نعلن الجهاد من أجله فهو التسامح”[18].

الخدمة: طريقة كولن في الجهاد

لا تقتصر كتابات كولن وخطبه على مجال بعينه، فقد كتب بتوسع في التربية والعلوم والتكنولوجيا وعلم النفس والفلسفة والتاريخ والاقتصاد، وأوضح أن هدفه الأسمى من جهوده كلها هو جمع أبناء مختلف الديانات، وقد أنجز بالتعليم متعدد الثقافات وحوار الأديان عملًا فكريًّا وروحيًّا رائدًا في العقيدة الإسلامية لا نظير له في التاريخ الحديث؛ واصطلح شعبيًّا على تسمية الحركة التي تنتمي إليه باسم «الخدمة»، وخلافًا لِما يوحي به المعنى الحرفيّ للكلمة، فهي واجب مجتمعي يقوم فيه ذوو الضمير واليقظة بخدمة أبناء وطنهم، والآخرين من حولهم فالتعليم مثلًا في رأي كولن ليس فريضة دينية على الفرد والمجتمع فحسب، بل هو خدمة لا نهائية للطلاب وللمجتمع وللعالم بأسره.

أضرّت الحروب والصراعات كثيرًا بالرؤية العالمية التي ظل الإسلام ينشرها قرونًا مديدة، لكنّ الصوفية والفقهاء وعلماء العقيدة الإسلامية تمسكوا بكثير من القيم الإنسانية في الحضارة الإسلامية، ونقلوا النماذج الفكرية للبحث واكتشاف القوانين الطبيعية إلى الغرب الذين نجحوا في استغلالها بإقامة حركة تصنيع وتمدن هائلة؛ لكن فقد كثير من المسلمين القلوب والأرواح التي تكرس نفسها من أجل الإنسانية كافّة ولإخوانها في الوطن خاصة بوقوعهم فريسة للاحتلال الأوروبي والاستغلال والهيمنة الإمبريالية، وابتلع الانحلال الأخلاقي الغربي والمادي شعوبًا إسلامية كثيرة بصورة جعلتها تفقد استقرارها السياسي وسلامتها الفكرية؛ وعجز الخطاب الإسلامي السياسي والفكري عن إحداث أي تأثير حقيقي في نتائج الدراسات الاجتماعية بوصفها مجالات تربوية في مستويات التعليم المؤسسية، فبدأت البلدان الإسلامية في أنحاء العالم بتقليد الطرق الهدامة لاكتساب الخبرة العلمية والتكنولوجيا، فدمرت النظم البيئية المحيطة بها.

“ولدى النظر إلى أزمة الغرب المزمنة في أعقاب التحلل والفشل في إعادة الانضباط يتحتم على المسلمين المسلحين بالمنهجية المعرفية القرآنية أن يشكلوا علاقات وطيدة مع مدارس التحليل الغربي أيًّا كان اتجاهها أو توجهها، فهذه المدارس ذات الأسس الفلسفية والفكرية والثقافية تتسع يومًا بعد يوم، وهي تقدم مدخلًا صحيًّا للمنهجية المعرفية الغربية من أجل منفعة الإنسانية كلها، فأزمة الغرب أزمة تحلل عجزت معها عن الانضباط لإقصائها للدين وصدها عن سبيل (الله، الغيب، الوحي)، أمّا أزمة العالم الإسلامي فتتجلّى في المنهجية المعيبة في التعامل مع تراث شامل قائم على مسوِّغات معقولة، لكنه تراث يعاني من عقلية جامدة متحجرة في تأويله، تجعلها عاجزة عن تفهم واستيعاب المفاهيم والمنهجيات لعالم معاصر كله نشاط وحيوية”[19].

ومن العبث الاعتقاد بأن بلدًا أو شعبًا تحول إلى قوة شر دون علاقة سببية في منظومة التنشئة الاجتماعية للشباب، وقد جعل النجاح العلمي الغربيّ الساحق بقية العالم يذعن تلقائيًّا لـ«هيمنة البيض» على أغلبية سكان العالم، فتمدّدت جنوب إفريقيا العنصرية تحت الحكم العسكري الأبيض لِتَدْخُلَ مناطق كثيرة من العالم في المناخ نفسه، ولم تكن الهند البريطانية سوى ظاهرة غير مرئية أو أسيء فهمها لنظام الحكم نفسِه وللاستغلال الظالم المفرط في وحشية لا مكان لها في الفقه والعقيدة الإسلاميّة، ثم فشل كثير من المسلمين في التعامل مع آثار استغلال الاحتلال والحركات القومية الناتجة عنه، التي جزّأت العالم الإسلامي إلى خمس وسبعين شظية أو ما يسمى بلدانًا إسلامية مستقلة؛ وباتت هذه البلدان تعاني من نظم تعليمية عتيقة ومعدلات بطالة هائلة، وليست المشكلات الأخرى والأمراض الاجتماعية وانعكاساتها الاقتصادية سوى أعراض لخلل النظم التعليمية والتشريعية والقضائية، وما زالت الدول القومية الإسلامية عاجزة عن تحقيق أيّ تقدم في إصلاح النظم القائمة التي خلفها الاحتلال والحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا.

وكانت المصالح الحزبية الضيقة وأوساط النظم الاستبداديّة في الدول القومية الإسلامية الغارقة في الفساد وراء تورطها عدة عقود في صراعات «القوى العظمى» السياسية، وبذلك أضاعت فرصَ بناءِ نظمها القانونية والسياسية الخاصة التي تيسِّر ربط النخبة الحاكمة بالقاعدة الشعبية لبناء نظام حكم متماسك.

القوانين الميتافيزيقية للعلوم الطبيعية: أبعاد الجهاد الغائبة

تركِّز المعارف الإسلاميّة القائمة على الوحي عمومًا على مبادئ العلوم الميتافيزيقية الغيبية التي لا يمكن فهمها وإدراكها كاملة بالقواعد والنظم الراسخة في الواقع أو الديناميكا الكونية، والحقّ أن مكتشفات المعرفة العلمية بخصوصيتها واعتمادها على عجائب علمية كامنة في الحياة المادية أفادتنا جدًّا في فهم جوهر العلوم الميتافيزيقية والعِبر المستفادة من تدبير الله وتقديره للأشياء؛ والألوهية في الإسلام ليست مثلما هِيَ في الأفكار الدينية التقليدية، فلا أحد يدعي أيّ صلة ربانية مباشرة بالله سبحانه وتعالى، ولكن البشرية مثل «عوالم الوجود» الأخرى تتصل اتصالًا لا شك فيه بالذات العليا المسيطرة على الكون، وهذا الكون أو أي جزء من العالم لا يدعي ولا يمكن أن يدعي استقلاله الذاتي الكامل بتسيير أنظمته وحده.

والإنسان المخلوق المستقل الوحيد منفرد ماديًّا حقًّا، ومتصل بكلّ ما يحيط به بكل الأشكال الممكنة، إلا أن إنسانية هذه الصلة ربما هي محدودة جدًّا، أمّا الصلة بالسماء فهي متنوعة دائمًا ومستعصية على الفهم الكامل للعقل البشري، الأكثر اتصالًا بالفكر الغريزي البسيط منه بالآفاق الأوسع للحكمة والطرق الراقية في بلوغ مراتب أعلى من الحدس دون أي تحيزات أو آراء مسبقة؛ بل إن الحدس الأكثر حكمة وذكاء لا يمكن عدّه إلهامًا حتى يتم التعامل معه باعتباره الحقيقة المطلقة للظواهر والذوات الخفية أو التي لم تكتشف، فليس لأحد أن يحدد من هو أعلى منه في المعرفة، يقول كولن: ضد المعرفة الإنكار وضد العلم الجهل[20].

وفي كثير من البلدان والمجتمعات الإسلامية كثير من المفاهيم الخاطئة حول السبل التي يمكن أن يسلكها المرء في مسيرة تربوية وروحية وخبرات تبلغ به مراتب أعلى في المعرفة، وهناك رجال دين منحرفون يستغلون الخرافات في ممارسات تتعلق بالمعرفة، ويخدعون السذج لتحقيق مصالحهم الشخصية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أما الروحانيون الحقيقيون فهم يمارسون فعلًا طرقًا مختلفة من المعرفة، وهذا له أثر كبير في تنوير أي روح إنسانية أو أي مجتمع بشري، وشاعت نظرة خاطئة تجاه المعرفة بأنها طريقة غير علمية للتعرف على حقيقة العالم المادي، وأنها نقيض الحقيقة الثابتة علميًّا.

يقول كولن: «عكس العلم هو الجهل، أما عكس المعرفة فهو الرفض والإنكار»؛ وإنكار الحقيقة الأساسية في الدنيا والآخرة له عواقب وخيمة على المواطنين أفرادًا، وعلى المجتمع كله أو الأمة كلها، والمراد إنكار الحقيقة المطلقة بأن الله I المصدر الوحيد للقدرة المطلقة، وأن المخلوقات كلها -علمت أم لم تعلم- خاضعة لقواعد وضعها المصدر نفسه، الرحيم الرؤوف بالخلق جميعًا؛ وحسن العمل يؤدي دومًا إلى حسن العاقبة، أما سوء العمل فليس له سوى سوء العاقبة، وهذا الأمر كأنه حقيقة علمية يمكن إثباتها في الحياة المادية الحقيقية على مستوى الفرد والأمم المختلفة، يقول كولن:

“فمفهوم العلم الحقيقي هو المفهوم الذي يمدنا برؤية وتحليل شامل تجاه أي نظام من أنظمة الكون وأي جزء من أجزاء الوجود، في ظل الروحانيات والغيبيات، ويربط ذلك الجزء والنظام بجميع الأشياء. الأمر هكذا لأنه يحتوي على صيغة سحرية للقدرة تمكن من التوليف بين جميع أجزاء هذا الكل.. أجل، إن الإلهام والحدس اللذين يصدران من الجزء قد لا يكونان واضحين، لكن الكل يدل إلى تمامية وكمال نفسه”[21].

والواقع أنّه ليس من السهل ألبتة رعاية التوازن في الأنانية المادية أو دمجها في نظام تقبل فيه النخبة الحاكمة والفئات القوية الانقياد لقضايا الإنسانية الأكثر نبلًا وسموًّا وصونًا لمصالح القطاعات الشعبية الأكثر ضعفًا، لكن ما أسهلَ استعمالَ الدراية العلمية في أمور ضارّة، وقد ينتج عن سوء استخدام المعرفة العلمية الحديثة ألم وكرب شديد للفئات الفقيرة المعدمة المحرومة ممن يعجزون عن سداد التكلفة؛ ويتطلب إحداث أي تغيير قوي سريع في منظومة الإنتاج والتوزيع للسلع الأساسية في أيّ دولة دراسة وتفكيرًا جديدًا لحماية مصلحة الجمهور، وهنا تكون ملكة الخيال البشري أكثر قيمة وقوة للنهوض الكلي بالمجتمع، فبدونها يغدو الإنسان كالحيوان، ويحتاج كلّ إنسان مع الخيال إلى تربية ضميره على أشكال التواضع للآخرين والزهد المتزن لتغذية الجسد والروح؛ وليست المعرفة العلمية هي ما يخدم الفرد والمجتمع والدولة هنا بل فن الحياة والتمسك بالعادات السليمة وتجنب الخاطئة؛ وإذا أخفق المسلمون في تقديم تلك الخدمات للإنسانية، فسيخفقون حتمًا في شؤونهم الكبرى الدينية والدنيوية كلها، ويشير كولن هنا إلى هاتين الآيتين:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/54)، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/63).

وتشغل المراقبة -وهي طريقة المسلم في حياته وتفكيره-  دورًا مهمًّا في العثور على المكان المناسب لحياة المسلم وعمله، وبدون هذا المكون الروحي أو الغيبي في طريقة حياة المسلم الشخصية قد ينضم أي مسلم إلى أي جماعة تستخدم العنف لإحداث تغيير جذري في بيئته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فعلى المسلمين أن يفهموا ويغرسوا سلوك المراقبة في حياتهم، الذي يساعدهم على إرساء السلام والابتكار في حياتهم كلها؛ إذ ليس من الإسلام الاعتقاد بأن علماء الدين وسطاء بين البشر وربهم، ويولي كولن هذا المفهوم اهتمامًا خاصًّا، يقول:

“وطريق المراقبة هو من أهم الطرق القصيرة الموصلة إلى الحق سبحانه ودونما حاجة إلى مرشد ودليل، فهي مطعّمة بعينات الولاية الكبرى، وبواسل هذا الطريق يمكنهم أن يتوجّهوا إلى الحق سبحانه في أي زمان ومكان، بعرضهم العجز والفقر فيُقبِلون إلى الخلوة بتذكرة الحاجة”[22].

وليس في الأرض دين آخر يتيح لك بلوغ القبول عند إله الكون مباشرة دون أي وكيل أو وسيط بينك وبين الخالق الأعظم، ورغم أن الإسلام لا يقر بأي نظام كَهْنُوتي فالاستعانة بموجِّه أو مرشد روحي قد تساعد المبتدئين على عبور الصراط المستقيم بأمان، وتحول دون تعرضهم لأي انحراف عن الصراط في أثناء سيرهم إلى الله.

وإحساس «الفناء» ومفهوم «الإنسان الكامل» بوصفهما مرحلة نفسية أو حالة ذهنية قد يودِيان ببعض المسلمين في الضلال خاصة من يفتقدون التوجيه الديني أو الروحي، ففي غياب مرشد ديني وروحي حيّ قد يجد المرء المساعدة مباشرة من خلال الاكتشافات العلمية المتاحة للاستخدام في منافع المجتمع أو الدولة بشكل عام، ومن يعيشون في ظروف مؤلمة على وجه الخصوص، وأشق مهمة هي كيفية ربط الأفكار الميتافيزيقية والغيبية بالمعرفة العلمية الملموسة ذات القيود والحدود الخاصة، يقول كولن:

“ولنذكر مرة أخرى أن أهم مصدر للعلم والتفكير والفن بل والفضيلة والأخلاق والثقافة أيضا هو الغيب أو الفلسفة الميتافيزيقية الحقيقية التي يمكن إدراكها عبر أفق روحي على هذا النحو. وبفضل فلسفة كهذه هي قوتها ومؤيداتها نتاج خلفيتنا الفكرية، فإن الأجزاء التي تبدو فتاتا سوف تتوحد كلا واحدا ويستشعر كل شيء بشكل مخروطي بدءا من الدائرة اللاهوتية إلى آخر حدود في الإمكان، وتتولد إمكانية الانفتاح على بحور وفضاءات أوسع وأحب في إطار تفسيرات جديدة جدا. ولذا فإننا نستطيع القول إن المجتمعات التي تفتقر إلى بعض المفاهيم الميتافيزيقية والغيبية تعاني أزمة هوية”[23].

يمكن أن نستنتج أنَّ شعوبًا إسلاميَّة كثيرة فضلًا عن غيرها تعاني منذ زمن أزمة هوية حادة، فهي ليست مشكلة هوية خاصة بأمة أو بطائفة معينة، فالمسلم يمكنه بسهولة أن يقول: إنه شيعي أو سني، والسنيّ قد يكون حنفيًّا أو شافعيًّا أو مالكيًّا أو حنبليًّا، ولا تعني هذه الاختلافات شيئًا يذكر في الحقيقة أو في السير والسلوك، فهي في ممارسة الشعائر لا غير. نعم، هناك حتمًا شعائر كثيرة تعد جزءًا مكملًا للحياة الروحية الإسلامية، لكن ليس لأيّ منها وحده أن يفيد تلقائيًّا فاعلَها أيًّا كان مذهبه ما لم يُعقِّبْها بمنافع مادية ملموسة للأشخاص المعنيين ومجتمعاتهم.

وما يمكننا أن نلاحظه اليوم في أرجاء العالم هو أننا كلما صرنا أكثر ثراء دولًا أو شعوبًا زادت مظاهر معاناة الفئات الأكثر فقرًا في المجتمعات كافّة بسرعة مخيفة لا تحتمل، فالفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد كل يوم وكل لحظة منذرة بعواقب خطيرة، منها إصابة الناس باليأس والعجز في ظل الحرمان من الغذاء ومياه الشرب والمأوى الكريم والتعليم الخُلُقي السليم والعلاج ولو لأمراض يسيرة قابلة للعلاج، حتى إن أناسًا طُردوا من أوطان أجدادهم إلى الأبد وكأنه تطهير عرقيّ، وليس لديهم مكان يلجؤون إليه بوصفهم بشرًا لهم كرامة ويفترض أن يُعنوا بأسرهم بنجاح ليكون لرسالتهم في الأرض معنًى بوصفهم كيانًا ماديًّا وروحيًّا متميزًا عن المخلوقات.

وأصبح خطاب الهوية والثقافة الإسلامية كله بأيدٍ خاطئة أو تحت تصرف مباشر لجهاز دولة معيب، وهذه الأزمة بدأت مبكرًا جدًّا أكثر مما نتصور، ويعد ظلم الاحتلال للمسلمين وجهًا من وجوهها الواسعة المعقدة التي تتغلغل بكل طاقتها في أوصال العالم الإسلامي، تقول كاثرين بولوك:

“يعود هذا إلى خطاب القرن التاسع عشر حول التسلسل الهرمي للحضارات واعتقاد الأوروبيين تفوقهم وضرورة غزو الشرق الأوسط، وأصبح وضع المرأة هو المقياس لمكانة أي حضارة في هذا التسلسل، ووضع الإسلام دون رتبة المسيحية، ومسيحية الشرق نفسها دون المسيحية اللاتينية وأعلى من إفريقيا الوثنية والشعوب الأصلية للمستعمرات (أمريكا الشمالية، كندا، أستراليا)؛ فالمسلمات إماء لأزواجهن، ولا يسمح لهن برؤية أحد في المنزل سوى محارمهنّ، وفي الطرقات يغطين وجوههن كلها، وصار مفهوم الحريم في الشرق الأوسط فكرة راسخة فعلًا لدى الخيال الجامح لقدامى المستشرقين الأوروبيين، واعتمدت قصص الحريم الخيالية هذه على عداء يكنه مسيحيو العصور الوسطى للإسلام، وأحيوه في القرن التاسع عشر، ويرون الإسلام دينًا متساهلًا في الطلاق والزواج أكثر من مرة وتعدد الزوجات، وهذا عده الأوروبيون في العصور الوسطى وفي العصر الحديث دليلًا على وضع الإسلام موضع الدين الباطل”[24].

ويعتقد بعض الناس اليوم حتى في بلدان إسلامية أنّ الإسلام دين باطل فعلًا متأثرين بعقلية المحتلّ والمعتقدات العلمانية المتطرفة، وأن المسيحية فاقت ما يسمى بالديانات الشرقية؛ ويدافع كثير من علماء المسلمين عن الإسلام بأنه ليس ديانة تقليدية كما يفهم الأوروبيون أو الغربيون ألبتة، بل هو دين بمعنى طريقة حياة وتفكير وعمل تسير وفق ما يحبه الله على أساس الوحي والاجتهادات كما يتجلى ذلك في نهج الحياة النبوي، وهو أساس عام لأي مجتمع أو دولة إن أُهمِل وقع جيل الشباب في العنف، وهو أمر لا صلة له بأي أصل من أصول الإسلام.

تفنيد كولن لفرضية صراع الحضارات:

يرى كولن أن «من يتطلعون إلى مستقبل فاجع للعالم وصراع بين الحضارات هم أفراد أو جماعات عجزت عن فرض تصورها للعالم على الناس، وتأمل في أن تؤدي الخصومات والعداوات العالمية إلى استمرار قوتها في العالم»[25].

والمؤسف أن كثيرًا من تلك الجماعات المضلَّلة ساسة ورجال دولة من المستويات كافّة، وتسمي أشكال العنف والإرهاب كلها «جهادًا»، وتطلق على المسلمين المتدينين المحبين للسلام صفة «الإسلاميين» أو «الجهاديين» أو «الأصوليين»، وإنما تمكن الغرب من استخدام تلك الدعاية ضد الإسلام لأن له اليد العليا في التكنولوجيا والإعلام، ويُعَد احتكار كثير من الغربيين اليوم لاستعمال التكنولوجيا الحديثة في أغراض تدميرية أمرًا خطيرًا على وجود العالم وبقائه؛ دعك من محاربة هذا الخطر بطرق ووسائل عنيفة، وإليك كيف يحاول كولن الحدّ من هذا النزاع بالحوار، فيرفض فكرة «صراع الحضارات» المصطنعة في المؤسسات الأكاديمية والإعلامية الغربية، وإن اعتقد كثيرون أنه مفهوم يدور حول حدوث صراع أو صدام بين الحضارات في الغرب ونشأ نتيجة لأفكار دينية عن أصل ظهور البشر في الأرض، وجاء في تحليل مقارن لبولوك:

“ليس في الإسلام أي شيء منكر أو كريه في الجسد وشهواته، فالمرأة وإن شاركت في الخطيئة لم تعد مسؤولة عن الخروج من الجنة بل حُمِّل آدم المسؤولية، فليس في الإسلام خطيئة أصلية، وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام -خلافًا للمسيحية التي تقدس مبدأ ذكورية صورة «الله الأب» ويسوع «الله الابن»، وللديانات التي تؤمن بالإلهة وتقدس مبدأ الصورة الأنثوية لله- لا يؤمن بمبدأ الذكورية أو الأنثوية للذات الإلهية، فالله في الإسلام لم يَلِد ولم يولَد”[26].

هذا أساس خلاف المسلمين والمسيحيين في قضايا الدين والحضارة، وانبثقت كثير من المذاهب المسيحية مثل الكنيسة التوحيدية العالمية وحركة الكويكرز أو الأصدقاء وغيرها من هذه الخلافات ذات الأصول المحدودة مع المسلمين، وكحال كثير من المسيحيين المتشددين وقع كثير من المسلمين الرجعيين أسرى لتلك المعركة الأيديولوجية التي لا تنتهي حول قضايا الحضارة، وغدا النزاع فيها بطشًا عسكريًّا من القوى العظمى على الشعوب الأصغر والأضعف، أما منهج الإسلام في السياسة والاقتصاد فهو ضد تلك الحروب الوحشية المفرطة غير المتكافئة، وهذا جعل كثيرين يطلقون على الإسلام وصف «دين التآلف والسلام والعدل»؛ وهو «دين الفطرة»[27]، وهذا المفهوم أوسع بكثير من ذاك الوصف؛ وقد أمر الله المسلمين بوضوح أن يأخذوا حذرهم في أقوالهم وأفعالهم خاصة في أمر الحرب أو العنف:

﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/156-157)

ويوم كان العالم الإسلامي الأكثر قوة وتقدمًا في العالم خاصة بين القرن الثامن وعصر النهضة قدم المسلمون طويلًا إسهامات جليلة في مجالات العلوم والتكنولوجيا كلها، بل تعاونوا مع خصومهم وأعدائهم في نشر بيئات تعليمية وتربوية ملائمة أخلاقيًّا لكشف ما في كتاب الكون من ألغاز وأسرار مترسخة متغلغلة، لكن النخبة الإسلامية الحاكمة -وهي تستخدم المعرفة العلمية في النهوض بالبشرية كلها وتربية الآخرين- لطالما أهملت مسؤولياتها تجاه شعبها، ولولا هذا لما أمكن بتلك السهولة استغلال ما قدمه المسلمون للغرب من معارف وخبرات ضد مصالح المسلمين أنفسهم، ويضحك كثير من الغربيين اليوم حينما يقول المسلمون: إن علماءهم وضعوا أساس العلوم الحديثة التي بني عليها عالم التكنولوجيا الحديثة.

“إن انتصار المسلمين في غرب الصين في القرن الثامن مكنهم من الاستفادة من تكنولوجيا الصين يومئذ مثل صناعة الورق التي نقلوها إلى العالم الإسلامي كله، ومنه إلى أسبانيا [الأندلس]، ثم إلى باقي أنحاء أوروبا، وغدا هذا الاكتشاف ثورة هائلة أدت إلى انتشار المعرفة ودمقرطة عملية التعلم”[28].

واستمر تدفق انتشار المعارف من الأقطار الإسلامية إلى باقي أنحاء العالم بأشكال شتى نحو ألف سنة، حتى عصر هيمنة الاحتلال على الشعوب الإسلامية حديثًا، فجاءت آثاره البشعة على الشعوب الإسلامية عبر الطرق المدمِّرة المكتشفة حديثًا من السياسة الدولية والدبلوماسية والتكنولوجيا؛ فحاولت عدة شعوب إسلامية أن تُعيق انتشار الخبرات والتكنولوجيا العلمية الحديثة في بلادها لحمايتها من الانحلال الخلقي الغربي ومن نظم تعليمية غربية لا أخلاقية في ظل سياسات متطرفة علمانية أو معادية للدين[29].

وتعرَّت المعرفة العلمية والتكنولوجية من أي التزام في القيم والأخلاق العالمية، ولم تكن القوى الإمبريالية الغربية لتشن حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين بدون الإمكانات التكنولوجية التي ملكتها، ومنذئذ استمر البطش والوحشية في العالم الثالث والدول التي يسكنها المسلمون.

في عالم العولمة اليوم سهُل الاتصال بيننا خلافًا لما مضى، فصار أفضل أمل للبشرية هو تبني فكرة إيجاد عالم من السلام والتفاهم ينبذ أي اعتداءات قائمة على القوة، ويعزز حوار الحضارات؛ ومن المأمول أن تمثل الشعوب الإسلامية كلها قوة كبرى لردع الأعمال الإرهابية بأشكالها كافة في أنحاء العالم، وأن تتقدم القوى الغربية بإيقاف كل حروب العدوان على الشعوب الصغيرة، وحينئذ سنسمع صوت المثل العليا التي ينادي بها كولن يدوّي عاليًا في كلّ ركن من أركان هذا العالم.

 

[1]  فتح الله كولن: روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، ص 21.

[2]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 26.

[3]  صحيح البخاري، الجهاد 138، الأدب 3؛ صحيح مسلم، البر 1.

[4]  فتح الله كُولَن: المنشور-2، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2001م، (لما يترجم عن التركية)، ص 148-149.

[5]  فتح الله كولن: روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، ص 27.

[6]  فتح الله كُولَن: سلسلة الأسئلة العصر المحيرة-3، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 200.

[7]  فتح الله كولن: روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، ص 16-17.

[8]  فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 26.

[9]  Karen Armstrong, «The label of Catholic terror was never used about the IRA,» The Guardian, July, 11, 2005; http://www.guardian.co.uk/comment/story/0,,1525714,00.html/larticle-continue

[10]  فتح الله كُولَن: المنشور-2، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2001م، (لما يترجم عن التركية)، ص 90-91.

[11]  فتح الله كولن: الموازين، ص 203.

[12]  فتح الله كُولَن: سلسلة الجرة المشروخة-4، فنار الأمل، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 161.

[13]  من حوار أجرته الصحفية التركية «نورية آقمان (Nuriye Akman)» مع الأستاذ فتح الله كولن، نشر في جريدة «زمان» التركية بين تاريخ 22 آذار/مارس – 1 نيسان/أبريل 2004م.

[14]  Jochen Hippler, War, Repression, Terrorism: Political Violence and Civilization in Western and Muslim Societies, Berlin, 2006, pp. 206–207.

[15]  Farida Akhter, Depopulating Bangladesh: Essays on the Politics of Fertility, Third Edition, Dhaka: Narigrantha Prabartana, 2005, p. 67.

[16]  Mark Scheel, «A Communitarian Imperative: Fethullah Gülen’s Model of Modern Turkey,» The Fountain, Issue 61, January–February 2008.

[17]  فتح الله كُولَن: الجهاد وحقيقته في الإسلام، دار النيل – القاهرة،  2011م، ص 21.

[18]  Ünal and Williams, Advocate of Dialogue: Fethullah Gülen, p. 206.

[19]  Taha Jabir Alalwani, Missing Dimensions in Contemporary Islamic Movements, Herndon, VA: The International Institute of Islamic Thought, Occasional Papers Series, No. 9, 1996.

[20]  فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، المجلد الثاني، «المعرفة»، نشر دار النيل التركية»، إسطنبول  2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 140.

[21]  فتح الله كُولَن: سلسلة العصر والجيل-7، أفق يلوح منه النور، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 81.

[22]  فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 107.

[23]  فتح الله كُولَن: سلسلة العصر والجيل-7 أفق يلوح منه النور، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 82.

[24]  Katherine Bullock, Rethinking Muslim Women and the Veil: Challenging Historical & Modern Stereotypes, Herndon, VA: The International Institute of Islamic Thought, 2003, pp. 18–20.

[25]  Davut Aydüz, quoted in Ismail Albayrak, «The Juxtaposition of Islam and Violence,» Muslim Citizens of the Globalized World. Robert A. Hunt, Yuksel A. Aslandogan (eds.), New Jersey: The Light, 2006, p. 127.

[26]  Katherine Bullock, p. 162.

[27]  كما يعرف الإسلام أيضًا باسم «الدين الحنيف»، أي الأصلي أو الأساسي.

[28]  Dilnawaz A. Siddiqui, «Middle Eastern Origins of Modern Sciences,» Muslim Contribution to World Civilization, Herndon, VA: The International Institute of Islamic Thought, 2005, p. 60.

[29]  كتاب «انحدار الغرب» (The Decline of the West – أو بالألمانية: Der Untergang des Abendlandes) للفيلسوف الألماني أوزفالد شبنجلر، نشر الجزء الأول منه في صيف 1918م، ثم قام شبنجلر بمراجعته سنة 1922م، ونشر الجزء الثاني منه بعنوان «نظرات إلى تاريخ العالم» (Perspectives of World History) سنة 1923م، ويدعي فيه أن المسلمين مجوس، وأن الحضارات المتوسطية القديمة مثل الإغريق والرومان هي حضارات أبولونية، وأن الغربيين المعاصرين فاوستيون.

وطبقًا للنظريات الواردة في هذا الكتاب، فنحن نعيش الآن في شتاء الحضارة الفاوستية، ومن وصفه للحضارة الفاوستية أن الناس يجاهدون دائمًا من أجل ما لا يمكن تحقيقه؛ وهذا ما يجعل الإنسان الغربي شخصية فخورة، لكنها مأساوية؛ لأنه وهو يجاهد ويبتكر يعلم في قرارة نفسه أن الهدف الحقيقي لا يمكن بلوغه مطلقًا. انظر:

http://en.wikipedia.org/wiki/The-Decline-of-the-West.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.