1- علم وفن

في كتاب “طرق الإرشاد في الفكر والحياة”[1] تبدو شخصية المؤلف محمد فتح الله كولن كواحدٍ من أبرز المنظِّرين للفكر الدعوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. والكتاب ينمُّ كذلك عن عقل منظم، ودراية عميقة بالإنسان الذي هو المبتغى من الدعوة والدعاة.

فالدعوة عند الأستاذ “فتح الله” ليست مسألة مزاجية يزاولها الداعي قبل أن يُعَبّأ لَهَا فكريًّا ونفسيًّا وروحيًّا. ومن دون ذلك يمكن أن يؤدي عمله العشوائي والمزاجي إلى العكس من المَرجُو من هذه المهمة النبيلة.

فالدعوة -عنده- “علمٌ وفَنٌّ”[2]. فما لم يكن الداعية على علم مُعَمَّقٍ بالذي يريد قوله، وما لم يكن على دراية بأقصر الطرق الموصلة إلى روح الإنسان ووجدانه، فإن الإخفاق سيكون من نصيبه. وهو يعتقد أنَّ آمادًا بعيدة وشاسعة ما زالت تفصل بين الدعاة وجوهر الإنسان… وإلى هذا يعزي فشل أي داعٍ في كسب المخاطب إلى صفّ دعوته.

فما لم يكن بوسع الدعاة الوصول إلى هذا الجوهر الذي يقوم عليه كيان الإنسان، ثم إزالة ما تراكم عليه من صدأ كي يتألق من جديد ويبيّن عن معدنه النقي النفيس، فإنَّ الإخفاقات ستتوالى بدون انْقطاع.

ومن خلال دراستي لهذا الكتاب واستقصاء أفكاره، أستطيع أنْ أُقرر وأنا مطمئنّ إلى أنّ فلسفة الدعوة عند الأستاذ فتح الله كُولن يمكن صياغتها وتلخيصها على النحو الآتي: “إذا كان الانسان جزءً مهمًّا من هذا الكون، فينبغي ألاّ نسمح له بتدمير نفسه، وسحْق روحه؛ لأن دمار هذا الجزء المهم من الكون قد يسبّب دمارًا للكون كله… لذا فنحن مسؤولون كونيًّا وأخلاقيًّا عن هذا الجزء وصيانته من الإنهيار، ولن نسمح له بأن يكون المستثنى الوحيد من التوافق الكوني والطبيعي المدين بدين الله.. فدمار الكون بدمار الإنسان قضية أكدها القرآن، وأشار إليها الأثَر النبوي الذي بَيّنَ أن الساعة لا تقوم، والكون لا ينهار، إلا على شرار النّاس”.

والأستاذ “فتح الله” يريد من الدعاة أن يعوا هذه القضية كُلَّ الوعي بأبعادها الكونية والإنسانية، وأن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية، وذلك بإخصاب أرواحهم، وإذكاء أفئدتهم، وشحن أذهانهم، وموازنة حياتهم، وتعميق رؤاهم الإيمانية، وأن يدوروا مع الزمن حيثما دار، ويجروا مع الحياة حيثما جرتْ، ويركضوا وراء الإنسان حيثما مضى، وإلى أي عالم كان انْتماؤه، وأي ثقافة كانت ثقافته ولغته.

وفي عصر “العولمة” هذا، أصبح لـ”العقل الجمعي” قوة تأثيرية أوسع وأسرع مِمّا تستطيعه العقول بجهدها الفردي.. فقيادة العالم وإحداث التغيير فيه نحو الأسوأ أو الأفضل -وكما ترغب العقول من وراء ذلك- يمكن أن يكون أكثر فاعلية إذا مارسَتْ هذه العقول نشاطاتها الذهنية والمعرفية من خلال المؤسسات، سواء كانت هذه المؤسسات اقتصادية أو ثقافية أو سياسية. وببعد نظره، وانفتاحه على عصره، أدرك الأستاذ “فتح الله” أبعاد هذه الحقيقة، وجعلها نصب عينيه، فشجّع على إنشاء المدارس والجامعات في مختلف أنحاء العالم، وصار للصحفيين والمحررين في “تركيا” مؤسسة تحظى اليوم باحترام وإعجاب من قِبَلِ كلّ العاملين في الصحافة، ودعا إلى إقامة دور للترجمة والنشر والطباعة، كما دعا الصحف والمجلات إلى أن تأخذ بنظر الاعتبار المستويات العمرية والثقافية للمسلمين… غير أن روح الأستاذ وعقله ظلّ يجد في هذه المؤسسات طاقات تحريكية للمجتمع.

والأستاذ لا يرى شيئًا أكثر خطورةً على المسلمين من السكون والاسترخاء والدّعة والاستسلام للنوم والأحلام… فـ”السكونية” عفونة روحية -في رأيه- تقتل المواهب، وتحطم الرجولة، وتخنق البطولة، وتكتم أنفاس العبقرية.

وإذا كان العالم قد استنزفته اليوم قوى الغرب وقيمه وأخلاقياته وسلوكياته النفعية، وأفرغته من كثير من قيم الإيمان؛ فإنّ هذا يحتّم على المسلم أن يبادر بنفسه لكي يعيد لإنسان اليوم عمق الهدفية الإلهية في نفسه.

ومنذ ماتَ النازع الحركي في المسلمين، وتوقفوا عن الهجرة والانسياح في أرجاء الأرض حاملين دعوتهم إلى العالم، منذ ذلك الوقت توقفت إبداعاتهم، وغاب فهمهم، ونَجَمَتْ في أوساطهم إشكالات فكرية موهومة، وخصومات مذهبية جدلية، وانشغل بعضهم ببعض، وربما قاتل بعضُهم بعضًا، متناسين مهمّتهم الدعوية الأساس التي ندبهم الله تعالى إليها.

والأستاذ يريد من المسلمين أنْ يضطلعوا هم بهذه المهمة كفرض كفاية يقوم بها بعض المسلمين، وإلاّ أثِمَ المسلمون جميعًا… وبأموال المسلمين يمكن إنشاء المدارس في مختلف أرجاء المعمورة، وجعلها مراكز للتربية والتعليم، وربما يكون هذا أسلوبا جديدا غير مسبوق في تعريف الشعوب بالإسلام. وقد أثبت نجاحه حيث استطاع أن يوصل صوت الإيمان إلى أصقاع قصية لم تكن قد سمعت باسمه في شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه، وكافّة قارّاته.

وبانفتاح هذه الدعوة على معطيات العصر في العلوم والفنون والأفكار والثقافات أكسبها المزيد من الاحترام من أوساط واسعة من المثقفين والمفكرين في “تركيا” وفي خارجها… لقد أراد “الأستاذ” للمسلمين أن يكونوا هم الأرقى والأفضل بين العقول، وأن يحتلّوا كرسي الأستاذية التي يرجع إليها المثقّفون في أمور الثقافة والحياة.. إن أيّ إنسان منصف وموضوعي لا يَجرأُ على اتّهام الرجل بالانكفاء والانغلاق والبعد عن المعاصرة.

إن العقلية الحضرية ظلت رافدًا من روافد تشكيل العقل الدعوي عند المتتلْمذين على أفكاره وآرائه، إلاّ أنها لم تستعبدهم يومًا، وما كانوا أبدًا سجناء نظريات وآراء، بل أحرارًا يقبلون منها ما له مَلمَحٌ إيماني، وينكرون ما ليس له مثل هذا الملمح.. وهم لا يعرفون هذا الصراع المؤلم بين ما يقرأونه فكرًا ويحيونه عملاً.. الفكر عندهم هو الحياة، والحياة عندهم هي الفكر… حتى أنّ واحدًا مِمّن خالطهم وعاش معهم وراقبهم يقول في وصفهم: “إنّ حياة هؤلاء الدعاة الملائكية تكاد تبلغ مرتبة “الإحسان” الذي ورد وصفها في الحديث الشريف: «أن تعبد اللهَ كَأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فهو يراك»”.

2- طبيعة الإسلام الحركية

إن الدعاة إذا ما ساحوا وهاجروا إلى أي مكان في العالم وضربوا جذورهم فيه، فإنّ الشجرة لا بدّ أن تنبت عن قريب وأن تورّق وتثمر.. وإنّ تاريخًا جديدًا للإسلام سيبدأ يتشكل في المكان الذي زرَعوا أنفسهم فيه.. ولكن أكان في وسع الأستاذ أنْ يُشَرّق ويُغرِّب بدعوته لولم يستوح هذا التشريق والتغريب من طبيعة الإسلام نفسه الذي يأبى السكونية والهمودية، ويأبى المحدودية، ويسعى إلى الأممية.. ولو لم يستوح ذلك من مهاجرة المسلمين الأوائل، وهم يجرون في العالم حيث يجري بهم الإسلام.. ولو لم يكن هو عبقرية دعوية فطنة يندر وجود مثلها في هذا العصر، إنّ الأستاذ نفسه “ظاهرة دعوية” توجب الاهتمام.

إنّ عبقرية الرجل شكّلت تاريخ دعوته؛ فجاءت مطابقة لما رسم لها وخطط، وهكذا نَما ما كان فكرًا في الرأس ليغدو واقعًا في الحياة، وما كان حلْمًا بعيد المنال صار حقيقة في متناول اليد، وما كان مادة دعوية صغيرة في خطبة أو وعظ أو كتاب، أصبح صرحًا دعويًّا شاملاً وكبيرًا، وما كان جزءً صار كُلاًّ.

كل هذه الوقائع في حياة الدعوة شيء منظور وملموس… أما الشيء غير المنظور وغير الملموس، فهو العناية الإلهية التي كانت تقود مسيرة الدعوة خطوة بعد خطوة في ظلّ إخلاص الرجل، واستعانته بالله، وتوكّله عليه.

3- الجفاف الروحي والجدب الفكري

إنّ معالجة الجفاف الروحي والجدب الفكري لدى شباب الإيمان كان من أبرز مهماته، كما أن تفجيره لقواهم ولطائفهم وإطلاقها من معاقلها استنزف الكثير من الوقت والجهد… لقد عمل على إثارة اهتمامهم بمشاكل الوجود الإنساني، وتحفيزهم للتعاطف معها، وإعمال أذهانهم في البحث عن حلول عملية لها، وكان يرى أن جهلنا بالإنسان يجعلنا نقف حائرين تجاهه، لذلك اهتمّ هو شخصيًّا بالدراسات البيولوجية والسايكلوجية، وشجّع بعض الدعاة للتخصص بهما لكي تتوفر للدعوة معلومات أكثر عن كينونة الإنسان وكيفية التعامل دعويًّا معها، مما جعل هؤلاء يتعمقون الأشياء ويحاولون الكشف عن غير المرئي فيها… وأكثر من تنبيههم إلى الفوضوية الروحية التي تجتاح العالم اليوم، والتي تستدرُّ العطف والإشفاق من أصحاب الغيرة على الإنسان.

وفي صلواته وتضرّعاته وتهجّداته كان يعلّمهم بأنّ قليلاً من الإخلاص في التوجّه إلى الله تعالى يجعلهم يشعرون بأمواج الأبدية وهي تصطفق على شواطئ أرواحهم، وأن كل واحد منهم ليس واحدًا في هذا العالم بل هو كل بإخوانه. وكان كثيرًا ما يشير إلى بعض شخوص حضارتنا التي أصابها الدمار والتدهور هنا وهناك من أرجاء العالم، ويذكّرهم بمسؤولياتهم كطليعة إسلامية بواجبهم في الحفاظ عليها، وإقامتها من وهدتها من جديد، وإنّ “الغرب” ما لم ينتقل من محدودياته المادية إلى “اللامحدوديات” الروحية، ومن وثنيّات المال والاقتصاد إلى وحدانيّة الربوبية والألوهية، فلا أحد يستطيع إيقاف عجلة تدهوره وسقوطه عاجلاً أم آجلاً.

4- الصمت والعمل

إن الروح العظيم الذي تملكه هذه الدعوة هو أكثر صمتًا، إلاّ أنه أكثر عملاً، وهي تملك قوى هائلة من إمداد الله تعالى تجتذب إليها جماهير واسعة من أذكياء الناس ومن ذوي الكفاءات العقلية والعلمية، وحتى أولئك المنسحقون تحت عجلات معايشهم من ذوي النفوس الهشّة يمكن أن يقوموا من بين رماد أنفسهم لو مسّتهم جذْوة من جذوات روح هذه الدعوة… إنّ سرّ قوّتها هو في تطابقها مع قوانين النفس البشرية.. والذين سئموا من التحليق حول جيف الدنيا سيجدون في أجواء هذه الدعوة ما يتُوقون إليه من الطهر والنقاء.. والقلقون من أصحاب الذهنيات المعذّبة، والنفوس المحترقة فسيرَون واحتهم البَرودَ في صفوف هذه الدعوة… أما أولئك الذين يتهيبون الإسلام ويخافون منه، فسيلمسون ألاّ شيء أكثر أمْنًا وأمانًا وسلامًا من الانضواء تحت لوائه، وأن المعرفة كُلّ المعرفة فيه، وأنّ مَن لا يعرفه فإنّه لا يعرف في الحقيقة شيئًا… وسكارى الأحزان، ومسحوقوا الأوجاع سيجدون في صيدلية هذه الدعوة البلسمَ والشفاء.

لقد تعلّم شباب الدعوة من أستاذهم كيف يغمسون ألسنتهم في رحيق الروح إذا تكلّموا، وكيف يذوبون في دعوتهم ويسيلون في مفاصلها، ثم يصّعدون إلى أعلى لينزلوا بعد ذلك قطرات ندى فوق النفوس العطشى والأكباد الحرّى… إن طهرهم ونقاء سريرتهم قادرٌ على أن يغطّي العالم كله.. إنهم عالمٌ من البَسمات يعوم في بحر من الدموع، وصراخ الإنسان المفجوع بروحه يجد صداه في أرواحهم فتجيب: “لبيك… لبيك… آتون إليك… قادمون نحوك..!”. أما الآذان الجائعة إلى كلمة الحق، فستجد في كلماتهم أشرف ما نزل من السماء من الحق على بني الإنسان.

لقد فضّ الأستاذ فتح الله خاتم الصمت عن روحه، فانطلقت أشواقه تلهب روح كُلّ مَن يلتقيه أو يستمع إليه أو يقرأه… إن نور الجلال بقدر ما هو صاعق إلاّ أنه ينطوي على جمال مؤنس، وما بين اسميه تعالى “الجليل” و”الجميل” وتجليات أنوارهما في الكون والحياة والإنسان تتقلب قلوب أصحابه… فجلال الدعوة يبني حولها سورًا يحجبها عن مطمع كُلّ طامع، «نُصرتُ بالرّعب من مسيرة شهر»[3] أو كما قال عليه الصلاة والسلام… والجمال هو الأنس واللطف والود والرحمة والرقّة واللين، فهي بهذا توطئ أكنافها لكُلّ مَن يأتيها برغبة صاقة، وإرادة خالصة.. إنها مستعدة أن تذيب حشاها في حشاه، وتطعمه فؤادها، وتسقيه ماء عينها.

5- إكسير الدعاء

الدعوة والدعاء -عند الأستاذ فتح الله- شيئان متلازمان لا ينفكّان… فالدعوة عبادة، ومخ العبادة الدعاء كما ورد في الحديث الشريف… فنستطيع أن نقول دون حرج: إنّ الدعوة كُلّها دعاء، وليست شيئًا آخر غير الدعاء؛ دعاء بلسان الحال أو بلسان المقال، وبين الحال والمقال ترتفع الليالي مثقلة بالتهجدات، موقورة السمع بالتضرعات، نضّاحة بدمع القلوب، صرّاخة بوجد الأرواح… ورَكْبُ الدعوة يمضي في طريقه مُشَرّقًا أو مُغربًا، صاعدًا أو نازلاً، يقوده صواب المنطق، وتحدوه فطنة الحكمة، ويأتيه المدد الإلهي من كل جانب، وتواكبه العناية الربّانية حيثما مضى، وأنّى ألقى عصا ترحاله.

*       *       *

شباب الدعوة هؤلاء أفواههم مترعة بشهد ذكر الله… إنّ توجههم إلى الله تعالى فطرة وسجية، شيء تلْقائي من دون تكلّف، يغمرك أحدهم بأفضاله، فإذا قلت له: إنك عاجزٌ عن شكره، وعن مجازاته.. يبتسم ويقول لك: إنك تستطيع ذلك…

تقول متلهفًا: وكيف..؟

يقول: ادْعُ الله لي… ادْعه ليرضى عني…

ما هذا…؟ أهؤلاء ملائكة في إهابٍِ بشري؟ لا أدري…

مرةً الْتقيتُ بعضَ شباب الدعوة على مائدة الإفطار في رمضان، سألت أحدهم: “هل أنت متزوج..؟”

ابتسم ثم قال: “لا..!”، ثم أردف يقول -ظانًا بي الصلاح-: “ادْعُ لي..!”.

فظَنَنْتُ أنه يريد دعائي لكي يسهّل له الله أمْر زواجه…

وعندما بدأ هؤلاء الشباب بالانصراف واحدًا إثر آخر، إذا بصاحبي يودّعني ويهْمس في أذني: “أدعُ لي..!”.

قلتُ: “الله تعالى يرْزقك ببنْت الحلال..!”.

ابتسم بحزْن ثم قال: “ليس هذا ما أريد..”.

قلت: “ماذا تريد إذن..؟”

قال: “أن يشملني الله تعالى برضاه..!”.

أكبرتُ همّة هذا الشاب… كُلّ شباب الدعوة من هذا الطراز، هِمم عالية، همُّهُم الذي يعيش معهم في ليلهم ونهارهم وفي كل وقت أن يقْبلهم الله في كنفه، ويشملهم برحمته ورضاه.

تذكرتُ… إن الله تعالى يرحم عباده يوم القيامة بدعاء بعضهم لبعض، وبترحم بعضهم على بعض… ما زلنا للأسف الشديد نقع في شِباك الكلام.. يمطرك أحدهم بوابل من كلام ميّت لا ينبض بالحياة، ثم إذا عصرته لم تجده شيئًا، وربما يغطي عنك وجه الله ووجه الآخرة… أما هؤلاء إذا رأيتَهم ذكرتَ الله… ذكرتَ الآخرة… ذكرت الرحمة الإلهية.

6- العالم الأحجية

العالمُ الأُحجية لم يعد عندهم أحجية… أخرجوه من قُمُطه… كشفوا عن أسراره… العالم عندهم خَلقٌ وخالق… خَلْقٌ في دعاء مستمر لا ينقطع بلسان الفقْر والعجز والضعف والحاجة.. وخالق قادر مقتدر غني قوي، يتكرم ويتلطف ويجود ويترحم: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾(الفُرْقَان:77) ومما سيبقى مرتسمًا في مخيّلتي لا يمحوه الزمان ما رأيتُه -في شريط فدْيوي- من حال الأستاذ فتح الله شيخ الدعوة وهو يعِظ؛ إنه إذا ذكر الله قام فوقَف، وإذا ورَد اسْم محمد صلى الله عليه وسلم على لسانه قام ووقف، دامع العينين، يزفر زفرات الحسرة على أمّة غافلة عن دينها، فتطرّق إلى ما لاقاه ويلاقيه من خصوم الدعوة، ومن تهديدهم ووعيدهم، فقام من مكانه ورفع يديه إلى السماء في تضرع… وظلّ يردد جملة: الله كافيني… الله كافيني… كرّر هذه الجملة ما يقرب من عشر مرات بتوجّع وألَم ودمع غزير، حتى سقط على كرسي الوعظ مغشيًّا عليه.

انذهلتُ أيما انْذهال… لم أر من الدعاة مَن يبلغ به إخلاص الدعاء هذا الحد، إنه لا يبكي لنفسه، إنه يبكي لدعوته. ويبكي إشفاقًا على هؤلاء الخصوم الضُلاّل، ليس ببكاء الضعفاء والمهزومين، بل هو بكاء الأقوياء الواثقين من صدق دعوتهم… هؤلاء الذين إذا بكَوا هزّوا العالم، وأيقظوا فيه نخوته وشرفه وأريحيته، وكلّ خباياه من قوى الحق والصدق والخير والجمال.

*       *       *

إنه يكتب ويعظ ويخطب ليبعث العزائم في خَورِ النفوس، ويستنهض الروح الإيماني الخارق للطبيعة البشرية.. هذا الروح الذي لا يعرف الإحباط مهما كانت صعوبة الظروف التي تحيط به… وإذا ما زاد الظلام حلكة أشعل روحه لكي تضيء له ولغيره الطريق، بمثل هذا الروح تناط مسؤولية إنهاض بيت الإيمان والإسلام من بين الأنقاض من جديد. إنه يهيب بالمسلمين أن يخلعوا هذا الثوب المخزي من الخذلان المشين، وأن يقطعوا كلّ شريان يريد أن يغذوهم بدم فاسد يودي بحياتهم الإيمانية.

إن الدعاة الذين تتلْمذوا على آراء الأستاذ هم الروح الجديد الساري في مفاصل المجتمع، والدم النقيّ الذي يسقي فؤاده… إن مسؤولية تشكيل المجتمع على شاكلتهم مناطة بهم، وبسواعدهم شرعت محركات الروح في الدوران.. إنه يحذر من الهلاك الروحي المخيف، والسقوط في هاوية الانحلال النفْساني الداخلي.. إنه لا ينفكّ يدعو أولئك الذين يريدون الخروج من مستنقع الوحل ولكنهم لا يعرفون السبيل إلى ذلك.. إنه يدعوهم إليه لينخرطوا في صفوف الإيمان.

7- الكتاب المفتوح

والأستاذ فتح الله بعد ذلك كتابٌ مفتوح؛ كُلُّ صفحاته وسطوره مقروءة ومكشوفة، ليس فيه صفحات مطوية عن العيون، أو صفحات مكتوبة بالحبر السري. وكما كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم سِفْرًا مفتوحًا يقرأه مَنْ يريد، من تاريخ ميلاده إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى… هكذا ينبغي أن تكون حياة أصحاب الدعوات وأفكارهم.. حياة كلها نهار لا ليل فيها، وضحى واضح لا لَبْسَ فيه، وظاهر لا باطن له، لا أسرار ولا خفايا… إنه لم يزاحم أهل الدنيا على دنياهم ولن يزاحمهم. إن الدنيا نفسها لو جاءته تسعى لعزَف عنها وأدار إليها ظهره. إنه مشغول بدعْوته، بإنقاذ إيمان الناس… إنّ إنقاذ إنسان واحد من وهدة الضلال هو خير له من الدنيا وما فيها.. وإعادة إيمان غائب إلى قلب إنسان هو أعظم ما يطمح إليه.. وإيصال صوت الإسلام إلى أسماع مَنْ لم يسمع به، هو غاية الغايات عنده. هذا هو فتح الله كولن، وهذه هي دعوته، يعلنها على رؤوس الأشهاد، لا يكتم منها شيئًا، ولا يخفي منها شيئًا.

*       *       *

إنَّ سِرَّ قوة هذه الدعوة يكمن في علانيتها ووضوحها وعموميتها، وفي المرونة التي تؤهلها لمحاورة الشخصيات المعنوية الكبيرة في الدولة والمجتمع، ومن نفاذ بصيرتها لترى في الآخرين مهما بدا بُعدهم عنها، ومجافاتهم لها، عرقًا فطريًّا خفيًّا ينزع بهم نحو الاقتراب منها، أو على الأقل عدم معاداتها والنفور منها.

إنه يرى أنّ قضية الإيمان قضية تتعلق بالكون كتعلقها بالإنسان، وأن صلاح الكون بصلاح الإنسان، وفساده بفساد الإنسان.

وفي كتبه يحذر العالم من العبث بالإيمان، أو مناصبته العداء، أو الاستهانة به… فالإيمان هو جوهر الكون، والمساس به هو مساس بجوهر الكون، وأي عبث به يثير غضب الكون، ويحفز ثورة الطبيعة… وقد آن الأوان لكي تنتبه البشرية إلى بعض علامات الثورة الكونية التي تسبق الدمار والانهيار العام وقيام الساعة.. ومن علامات هذه الثورة الكونية الزلازل والبراكين، وتلوث الأجْواء والبحار، وغور الينابيع والأنهار، وكثرة الأمراض، وتفشي القتول والحروب، والقحط والجفاف والتصحر الذي يضرب مناطق واسعة من شتّى قارات العالم، وملايين الجوعى الذين لا يجدون ما يسدّون به الرمق… فما لم تعد البشرية إلى احترام الإيمان وحمله على محمل الجدّ والاهتمام به كأعظم حقائق الوجود قاطبة، فإنّ الآتي من الأحداث سيكون الأعظم والأخطر والأفجع.

8- فن القيادة

استطاع الأستاذ فتح الله أن يقود الدعوة بكثير من المهارة والدراية، وبالمزيد من الحكمة والفطنة، وأن يجنبها ما استطاع المخاطر والمزالق والمآسي. فالدعوات الإلهية جديرة بأفئدة العظماء من الرجال، من ذوي العقليات المرنة، والأمزجة التفاؤلية المستبشرة. أما أصحاب الأمزجة السوداوية التي تسبغ ثوب المأساة على أتفه الأحداث، فينبغي ألاّ تتبوأ أيّ منصب قيادي، لأنها لا تجد راحتها إلاّ في الشكوى والتبرم والنواح بعد أن تكون قد صنعت بيدَيها دواعي هذه الشكوى وهذا العويل والنُّواح.

إنَّ الإنسان ينبغي أن يكون قويًّا ومتفائلاً -كما هو الأستاذ فتح الله- مهما بلغت درجة الإحباط والتثبيط من حوله. إنَّ استشعاره بحقيقة كونه نفخةً من روح الله تجعله يختال استبشارًا، ويمتلئ حبورًا… وإني لأعجب للإنسان الذي يستشعر هذه الحقيقة بقوة وعمق كيف لا يقفز قلبه من بين ضلوعه فرحًا.. وكيف لا يطفح الحبور من جوانب نفسه.. وكيف يطيق العيش لصيقَ الأرض.. وكيف لا يزاحم الملائكة في السماء.. وكيف يستسلم للحزن والقهر.. وكيف لا يحوز العظمة.. وكيف لا يلد ضَعْفُهُ قوةً.. وكيف لا ينظر إلى بشريته بشيءٍ من القداسة.. وكيف لا يرى أنه كُلُّ شيءٍ، وكُلُّ شيءٍ من حوله لا شيءَ أمامَ جبروت هذه النفخة الإلهية السارية في كيانه.

إن الروح العظيم يُحَدِّقُ في عين المخاطر ليس من أجل أن يقع تحت تأثير سلطانها، بل من أجل أن يقهرها، ويسود عليها، حتّى لتغدو هذه المخاطر مفاتيح تفتح الأفكار، وتحفز طاقات التحدي، وتثير النفخة الإلهية لكي تأتي بأعاجيبها، وتخلق معجزاتها.

9- ماذا تعني الثقافة؟

إلاّ أنّ ثقة المثقفين بما عندهم من ثقافة، واكتفاءهم بها عن ثقافة الروح هي إحدى مضحكات هذا العصر، وكأنَّ الثقافة يمكن أن تقوم مقام الدين فتغني الرّوح من جوع وتؤمنه من خوف..!

وإذا كانت الثقافة تعني في مجملها زيادة في إدراك الإنسان، فإنّ الدين نفسه هو أعلا درجات الإدراك وأشمله.. والثقافة تفقد معناها ساعة تزعم أنها قوة إدراكية مستقلّة ومكْتفية بما عندها عن أيّة إدراكات أُخر، لأنه لا يوجد في الحقيقة وجود ثقافي مستقل لا يرتبط بمعارف أُخَر سواء كانت من خارج الإنسان أو من دواخله… فمعارف الضمير وإدراكاته الجوّانية العميقة شيءٌ لا يمكن إنكاره، وما لم يكن هذا الضمير عنصرًا فاعلاً من عناصر أي تكوين ثقافي، فإنّ مكتسبات الإنسان الثقافية يمكن أن تكون عامل تدمير له بدلاً من أن تكون عامل بناء وإعمار.

هكذا كان الأستاذ “فتح الله” يخاطب المثقّفين، ويستمع إلى ما يعنّ لهم من آراء وأفكار، ويناقشهم فيها، ويصغي إلى تساؤلاتهم وإلى إشكالاتٍ يبحثون لها عن حلول في قضايا الإيمان والإسلام.

كان يغوص معهم في سعة الإنسان، وفي عدد طبقات كيانه التي تمتدّ من سطح “أنا” إلى الأعماق النهائية التي تنكشف في خاتمة المطاف عن النازع الإلهي فيها.. ويدعوهم إلى المضي مع هذا النازع الذي تنبع منه أفكار الروح، وثقافة الوجدان.. ويطلب منهم أن يستيقظوا من كابوس تاريخ “أنا”، لأنه ليس هو التاريخ الحقيقي لجوهرية الإنسان، إنه يطفو على السطح، بينما التاريخ الحقيقي يكمن في الأعماق حيث يمتدُّ زمانه من الأزل حتى الأبد: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾(الذَّارِيَات:21).. إنه يدعوهم للنهوض من قبْر “أنا”، لينفضوا ترابه عنهم، ويسارعوا للتعرّف على تاريخهم في مرآة الهاتف الإلهي في الأعماق، لأنه هو حقيقة تاريخهم.

إنّ أيّة لحظات زمانية يدعها المسلم تمضي بعد أن يكون قد أترعها من عصارات روحه وفكره هي التي تشكل أنصع فصول تاريخه على الأرض وفي السماء، وهي ستبقى مفعمة بالحياة لن يطالها الموت حتى تصير جزءً من يَمِّ الخلود فيما وراء هذا العالم.

إنّ حياة المثقف المقفرة من أمثال هذه اللحظات الخالدة إنما هي حياة مرعبة وموحشة. صحيح أنّ الثقافة قادرة على صياغة الأذهان، لكنها عاجزة عن صياغة الأرواح… والذهن يحيا ويموت، وهو أسير النسبيات؛ في الوقت الذي يظل الروح يجوب عوالم المطلقات… وما بين هذه المطلقات والنسبيات يتردد الإنسان، ويقوم تاريخ ويموت تاريخ، وتستيقظ حضارة وتندثر أخرى.

10- الكائن الروحي

إنّ الدعوة -عند الأستاذ فتح الله- كائن روحي في إهابٍ بشريٍّ، شخص معنوي ذو ذاتية مستقلة لكنها منفتحة على جميع الذوات، وذو إدراكٍ عالٍ غير أنه ملزمٌ بمخاطبة جميع الإدراكات… وإذا كانت دعوة الإسلام قد غيرت وجه العالم القديم، ورسمت خارطة جديدة لفكره الديني، فهي اليوم مرشحة كذلك للقيام بالدور نفسه في عالم اليوم.

إنّ حدسه قلّما يخطئ، وفراسته لا تكذب، وإنّ المسألة كلها مسألة وقت، ومسألة زمن قد يطول أو يقصر.. إلا أنه قادم بمشيئة الله لا ريب في مقدمه.

إن مستقبل الإيمان في هذا العالم منوط بهؤلاء الأطهار من شباب الدعوة… وبإحساسهم بعِظَمِ المسؤولية عن الدعوة وهي تشقُّ طريقها.. إنها تدور حيث يدور روح العالم، وتتحرك على إيقاع نبضات قلب الكون.. وهل روح العالم شيءٌ غير القرآن، وهل قلب الكون أحد سوى محمد صلى الله عليه وسلم..؟!

إنّ دعوة يكون القرآن روحها، ومحمد صلى الله عليه وسلم وجْدانها، لا يمكن أن يحول شيءٌ بينها وبين أداء رسالتها، ولا يمكن أن تتوقف عن المسير إلاّ حيث يقف قلم القُدرة أو ينكسر قلمُ القدَر… فلا قلم القدرة يقف، ولا قلم القدر ينكسر.

11- اختبار الأقدار

وعلى الرغم من روح التفاؤل والاستبشار التي تطبع حياة طلاب الأستاذ فتح الله، إلا أنه لم يغفل -وهو الداعية الحصيف الذي عرف الألم وخبر المحن- ما يمكن أن تخبئه الأقدار من امتحان ومحن له ولطلابه… فالألم واحدٌ من عناصر الطهر والتطهير للدعوة والداعية، وواحد من قوى النضال الروحي الذي تخوضه الدعوة في جهادها المعنوي. إنّ الحالة الذهنية المضطربة التي يعيشها الآخرون، وإحساسهم بالدوار، وشعورهم بالخوف من الانهيار في أية لحظة، ربما يدفعهم في لحظة يأس إلى مناكفة الدعوة وإشهار سيف العداء في وجهها إلى حدّ الموت… هذه سُنّةٌ جارية عرفناها في كل الدعوات كما تشير إليها الآية الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾(البَقَرَة:214). لذلك فقد هيّأ أذهانهم لهذا الأمر مسبقًا.

وفي كتابه آنف الذكر يقول الأستاذ فتح الله:

“إنه لا مفاجأة ولا عجب لصاحب أي دعوة كانت مجيء البلايا ونزول المصائب، بل هي منتظَرة، لأنه لم يحدث خلافه لحد الآن. ذلك لأن هذا العمل من المهام الجسيمة، وما لا يتحمله إلا أولو العزم من الرجال، وما لا يقدر على جزائه إلا الله سبحانه وتعالى… وستعلو بهم هذه الأمور العظام ليكونوا مع أولئك العظام، ولكن سيتعرّضون هنا للبلايا والمصائب التي هي ملازمة لأولئك العظام، وما عليهم إلاّ التجمل بالصبر اللائق بأولئك العظام”[4].

ويمضي الأستاذ فيقول: “يبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث شريف أهمية هذه الوظيفة الجليلة إذ يقول: «خِيار أمّتي بين جُهَلائهم في بَلاء وجِهاد»[5] وحديث آخر يؤيد هذا الأمر: «المسلم إذا كان مخالطًا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[6]…”[7].

ويمضي فيقول: “نعم، القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع فاسد آسن، عبادة أفضل من انكفاء المرء على نفسه متفرغًا للتعبد في زاوية قصية بعيدًا عن المجتمع.. ولو لم تكن هذه الوظيفة أفضل من العبادة الشخصية لكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يغادر بيته، ويمكث منشغلاً بالفيوضات والتجليات الربّانية، وما كان يخالط الناس قطّ… وكذا لو لم تكن هذه الوظيفة أفضل من غيرها من الأعمال، ولاسيما اعتزال الناس لَما خُوطب بـ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾(الْمُدَّثِّر:1-2)”[8].

من مجمل آراء الأستاذ فتح الله كما وردت في كتابه “طرق الإرشاد في الفكر والحياة” نستنتج أنه يريد من الداعية أن يكون كيانًا إنسانيًّا مشعًّا لا يتوقف عن بث شعاعه.. فكما أنّ بعضًا من عناصر الطبيعة المشعة لا تستطيع أن تكُفَّ نفسها عن الإشعاع حتى لو أرادت، وكما أنّ الشمس لا تستطيع التوقف عن إرسال ضوئها إلى الأرض، والقمر لا يقدر أن يحرم الليل من نوره، والكوكبَ الدّرِيّ في أجواز الفضاء لا يخفي لمعانه عن كبد السماء، هكذا الإنسان الداعية لا يمكنه أن يحبس نوره عن الآخرين، أو يستر ضياءه عنهم… لأن الدعوة لهب يشعل ذرّات دمه، وضياؤه يموج في حنايا ضلوعه، فهو يضيء في أيّ مكان يحلُّ فيه أو يرتحل عنه.

فلو انْهار الكون فجأةً، وتناثرت كواكبه، واصطدمت أجرامه، وسقطت السماء على الأرض، وكادت القيامة تقوم، وفي يد الداعية فسيلة نور، فإنه لا يعدم قلبًا يزرع فيه فسيلته، قبل أن يغدو العالم رمادًا تذروه رياح العدم، فلا شيءَ يذهب سُدًى. ولأنّ العطاء عنده صار طبيعة وسجية، فهو لا يستطيع أن يتوقف عن العطاء، دون أن ينتظر شيئًا مقابل هذا العطاء، إلاّ الرضى من الله تعالى… لذا فإنّ دائرة مسْتمعيه في اتّساع، وصوت دعوته في ارتفاع.. إنّ الداعية الحق إنما هو عمود من نور يصل ما بين الأرض والسماء، ويظلُّ القلم العلوي يرهف سمعه ليلتقط كلمة من فم الداعية، ليخطّها على صفحة الكون، ويودعها الكتاب المبين.

يقول الأستاذ فتح الله في هذا الصدد: “إن الإنسان الكامل الوارث للنبي صلى الله عليه وسلم لا يفلت منه نورٌ يفاض عليه من الفيض الأقدس، حتى كأنه مركز استقطاب كبير لابتلاع الأشعّة المنبعثة من الشمس. فلا يهدر ولو ذرّة من كل فيض مقدس يرده بتجليات الأحدية، وينتقل إليه بتجليات جمالية لطيفة تلاطفه بإسباغ الرحمة، فتكون جميع أركان قلبه في نشاط مستديم وفعالية دائمة، ساعيًا ليكون مرآة عاكسة لهذه الفيوضات…”[9]

12- الفتح القريب

إنّ الدعاة إلى الله تعالى، هم بحدّ ذاتهم إعلانٌ سارٌّ عن نصر منظم للإيمان، وعن فتح قريب للإنسان… إنهم إخوة البشر، وأشقاء الإنسان، لأنهم يمتّون بنسبٍ إلى كل قلب… يَرْثُونَ للأرواح السليبة من النور، وللقلوب المجدبة من فجر اليقين… إنهم أطبّاء القلوب. وكما تنبجس الحياة من الموت، هكذا -وبلمسة منهم- تنفجر الحياة في موتى القلوب، لذلك صاروا مثابة يَؤُمُّهمْ الجَمُّ الغفير من أخيار الناس طلبًا للنجاة والشفاء… هؤلاء هم الدعاة العالمون والعاملون، أما أولئك الذين يعلمون ولا يعملون، فيقول عنهم الأستاذ فتح الله: “…فهُم كالثقوب السوداء لا تعكس نورًا إلى شيءٍ، فلا يستفاد بشيءٍ من طاقاتهم الضوئية.”[10]

ثم يمضي فيقول: “إنّ عمَل المرء بما علِم تعبير عن توقيره لعلمه، إذ عدم القيام بالعبودية لمن عرف ربه هو عدم توقير له، وعدم اكتراث، بل بلاهة وعمى وصمم.. ولاسيما من تولّى عناء خدمة الإيمان وتكاسل عن العبودية، فهذا أمر مخيف أكثر من مخافتنا للعدو الخارجي.. والحالة التي يتقمص بها الغربيون حينما يرون غير الملتزمين من المسلمين، وما يتفوهون به له دلالة لهذا الحكم، إذ الكلام أو الشهادة من الخصم له دلالة خاصة.”[11]

والطاقة الأخلاقية الخلاّقة هي سلاح الكفاح عند رجل الدعوة. والعمل البطولي الذي يمارسه في دعوته شيءٌ يملأُ حياته بالقيمة والمعنى. فالعمل البطولي -أيًّا كان- إنما هو كفاح “المعنى” ضدّ “اللاّمعنى”… وكم تكون حياة المسلم خاوية وعديمة النّفعِ عندما تكون مقفرةً من البطولة، كما يرى الأستاذ فتح الله.

فالنفوس البطولية لا تُهزَمُ أبدًا، وهي إذا خَسِرَت بعض معاركها إلاّ أنها سُرعانَ ما تعاود الكفاح ولو من منطقة الصفر… إنّ الداعية البطل ثابت الجأش، متماسك النفس، قوي الإرادة، صاحب رصانة علوية، نبيل الفكر والروح، دائم التوثب، لا يخفُتُ حماسه، ولا ينطفئ وَجْدُهُ، لا يعْيَا ولا يكلُّ، ينخلع عن نفسه إذا خَذَلَتهُ، أو أغْرَتْهُ بالقعود… في دمه تحيا دعوته، وفي روحه تسكن أمجاد أُمة، وتاريخ إيمان، وفجر الأبد، ويقين الخلود… إنهُ عالَمٌ متينٌ من القوة التي لا تعرف الضعف أو الانهزام.. تَدْهَمُهُ بوارق الحِدّة إذا انتُهكت حرمة من حرمات الله، وتترعه أنداء الرأفة على أولئك التائهين الضالين من بني الإنسان.. وعلى وفرة رجولته، ورجاحة فضله، جَمّ التواضع.. صَوَّامُ اللسان إلاّ عند الضرورة، لا يثيرُ ضجيجًا، ولا يُقيم منَاحةً.. لا يَتَفَجّعُ ولا يَتَشكى.. إنه يدور مع القدَر حيث دار، ومع القدرة يستمدّ منها القوة، ويطلب منها المدد… هذا وصف طالب الأستاذ، أو بالأحرى إلى هذا يدعو الأستاذ طلبته ومحبّيه، لأنّ: “عمل المرء بما يعلم تعبير عن توقيره لعلمه”[12].. ويقول: “إن مجتمعا لا يعرف دينه، ولا يعرف ربه، ولا يفهم عن كتابه، وليس له من المظاهر ما يجلبه إليه كيف يلتحق به الغربي؟ فهو ينظر أول ما ينظر إلى الواقع العملي، وإلى بناء قلب المسلم وعقله. إذ يهتم بأناس تتماوج في آهاتهم الحسرات حبًّا للإنسانية وإشفاقًا عليها، يقضون لياليهم بالتهجّد والقيام لله، وألسنتهم رطْبة بذكر الله، لا يهدرون الوقت ما استطاعوا، بل يشغل كل منهم كل آن من وقته بما يفيد وينفع.. نعم إنهم يهتمّون بأناس مشحونين بمثل هذه الطاقات”[13]. إلى أن يقول: “فإذا ما تمكن الذين يمثلون الإسلام أن يصبحوا على هذه الشاكلة فسيهرع الغربيون إلى الإسلام ويدخلونه أفواجًا. ولكن لأن الحالة معكوسة، تجلّت النتيجة معكوسة أيضًا، فابتعدوا عنّا حاليًّا”[14].

13- مشاعر المحبة

في قلوب هؤلاء الدعاة والأطهار تزدهر الشفقة والرحمة، وفيها تنمو مشاعر المحبّة. وما يشغل قلوب الآخرين من أمور لا صلة لها بحقيقة جوهرهم يعرضون عنها، ولا يلقون إليها بالاً. إنهم يتجنّبون زحام الأباطيل ما يسعهم ذلك، ويشعرون بالانسحاق الروحي في زحمتها. فالروح الحصيفة الواعية تعاف أنشطة أولئك الذين يمارسون سلوكياتهم بالجزء اللاّواعي على حقيقة وجودهم. إن عظماء الدعاة مشغولون دائمًا بأقدس الأفكار وأطهرها.. إنهم واحة خضراء وسط صحراء السطحية الغبية.. إنهم يتحرون عن إرادة الله في أنفسهم، وفي الفهم عنه.. وهم يرون سعادة أرواحهم في مرآة هذه الإرادة، وتمام حياتهم في حياة أخرى وراء هذا العالم الفاني.. وهم يراقبون أنفسهم ويسارعون في ترميم ما ينهار من عزائمهم، وما ينصدع من إراداتهم باللّجوء إلى كتاب الله والاستمداد من نور رسول الله صلى الله عليه وسلم. واغترابهم الروحي ميزة عالية ينجذب إليها مَنْ يرى فيها استعلاءً على تفاهات البشر.. وعلاقاتهم الحميمة مع “جنس الإنسان” تفتح لهم منافذ الاتّصال بالعالم.. وما يلاقونه في سبيل الدعوة مِن عقبات ومناكفات وتعاسات -صغيرة كانت أو كبيرة- لا تثبط هممهم، ولا تقتل رجاءهم… إنهم أذكياء اللُّبّ، شهماء الأفئدة، على قلوبهم مدوناتٌ نورانية من عالم الغيب.. فقلوبهم في جيَشان دائم لا يتوقف، وصدورهم تنطوي على رغبة في اعتناق كل البشر.. إنهم بشَريون حقًّا، ولكنهم في قلوب ملائكية، وآدميون تُرابيون، إلاّ أنّ أرواحهم تسبح في الملأ الأعلى.

14- الفصل الأخير

وفي الفصل الأخير من كتاب “طرق الإرشاد في الفكر والحياة” يتناول الأستاذ فتح الله بعض الملامح العامة والصفات التي يجب أن يعرفها رجل الدعوة، ويتّصف بها، ويتحقق بها عمَليًّا في حياته ودعوته.. وأكتفي هنا بإيراد العناوين التي تغني عن أيّ تعليق: 1-الشفقة، 2-التضحية، 3-الدعاء، 4-المنطق والواقعية، 5-التسامح، 6-رهافة الحس، 7-عمق العالم الروحي، 8-الشوق والاشتياق، 9-صفاء القلب ورقّة الروح.

والنتيجة التي يمكن أن يخلص إليها قارئ هذا الكتاب، يلخّصها الأستاذ فتح الله على النحو الآتي:

  1. التبليغ والإرشاد أقدس وظيفة من وظائف المسلم، فقد بعث الله سبحانه المصطفين الأخيار -وهم الأنبياء والرسل- بهذه الوظيفة.
  2. على الرغم من أن التبليغ فرض كفاية في الظروف الاعتيادية، فإنه في يومنا الحاضر لكونه من المسائل المُهمَلة قد أخذ موقع أفرض الفرائض، فلا يجوز إهماله قطعًا.
  3. مَنْ مات مهملاً لهذه الوظيفة، يُخشى عليه النّفاق، حيث قد ترك وظيفة جليلة أهمّ من الفرائض الشخصية وأجزل ثوابًا منها.
  4. المجتمع الذي يؤدَّى فيه التبليغ في ذمّة الله تجاه البلايا السماوية والأرضية، حتى لو كان الذين يؤدون هذه الوظيفة المقدسة بضعة أشخاص… وبخلافه تنقلب النتيجة أيضًا، أي قد يُهلك الله قومًا لا تؤدَّى فيهم هذه الوظيفة الجليلة.. وما هلاك أقوام لنا ببعيد..!
  5. تؤدّى هذه الوظيفة المقدّسة ضمن منهج الأفراد والأمم والدول؛ إذ المسلم عنصر أساس في نظام العالم، فكما لا نظام في عالم ليس فيه مسلم، كذلك لا إرهاب ولا فوضى في المواضع التي يوجد فيها مسلم… وهذا منوط بقيام المسلم بوظيفته وأدائها حقّ الأداء.
  6. القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار الإيمان، وعزل هذه الوظيفة عن الإيمان غير وارد إطلاقًا. فقد عدّ القرآن الكريم المؤمنين بعضهم أولياء بعض، مشيرًا إلى العمدة الأساس الذي يديم هذه الولاية؛ بينما المنافقون ليسوا أولياء بعضهم بعضًا، فهم ينكرون المعروف ويأمرون بالمنكر.
  7. لقد تعهد الله سبحانه بحفظ دينه، بيد أن هذا الحفظ الإلهي مرتبط بهمّة المؤمنين والمؤمنات جميعًا، وتولّي قسم منهم لنصرة الدين، والإشارة الواضحة لهذه النصرة أداؤهم وظيفة التبليغ بحقها.
  8. العلم والعمل والتبليغ وجوه ثلاثة لحقيقة واحدة. لا يمكن فكُّ الواحد عن الآخر؛ فالعلم شرط أساس للتبليغ، والعمل حياته.
  9. ينبغي أن يعرف المبلّغ حقائقَ الإسلام معرفة جيدة، وكذا العصرَ الذي يعيش فيه؛ فمَن لا يعرف عصره الذي يعيش فيه يمضي حياته في دهليز ويحاول سحب الآخرين إليه لأجل تفهيمهم، وهذه غَيرَةٌ بائسة.
  10. تنظيم معايير قلب المبلغ وفق القرآن الكريم.. فمَن لم ينسّق قلبه مع القران، يصعب أن يتكلم باسم الإسلام.. أما إفهام حقائقه فغير ممكن.
  11. الطريقة التي يتبعها المبلّغ لا بدّ أن تكون مشروعة، إذْ الوصول إلى هدف مشروع ليس إلاّ باتّباع طريق مشروع، وهذا هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الطرق التي تسلكها المنظمات التي تبرر كُلّ وسيلة لأجل البلوغ إلى الغاية. فيلزم في الوقت الحاضر أن يسلك المبلغون مسلك الصحابة الكرام، فلا يلِجون سبيلاً إلا أن تكون مشروعة في كل جزء من جزئياتها، وهؤلاء هم الذين ينصرون الدين وينشرونه في الآفاق.
  12. المبلغ يحيا بما يقول، وخلافه النفاق الذي يتجنّبه المؤمن كثيرًا؛ فكلمات المبلغ تنعكس أولاً في حياته، وإلاّ فهو كالهشيم المحتضر، يلتهب ثم يخبو وينطفئ بسرعة.
  13. المبلغ يحافظ على تواضعه وإنكاره للذات، وهو طور النجباء الأصلاء. أليس الإيمان هو الأصالة والنجابة بذاتها؟! لذا يتصرف المبلغ تصرف الأصيل كأي مؤمن صادق حتى يجعل هذه الأخلاق سجية وملكة له، وهي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
  14. المبلغ لا صلة له مع أركان الدولة أو ما يسمى بـ”الطبقة الأرستقراطية” فيما عدا وظيفة التبليغ والإرشاد.. فهو شديد الحساسية في هذا حفاظًا على عزّته وكرامته.
  15. المبلغ يكون مصرًّا في تبليغه، وهو تعبير عن توقيره لدعوته.. لذا يعظّم ما عظّمهُ الله، من المسائل… وإلاّ يكون كاذبًا فيما يقول.
  16. المبلغ لا يعارض قوانين الفطرة، ويتصرف دائمًا على بصيرة… فليس صوابًا قط التغاضي عمّا في الإنسان من نواحي الضعف والميل، بل الأوجب تغيير مجرى هذه النواحي إلى ما هو أجمل وأفضل.
  17. المعاناة قدَرُ المبلغ، لا يتبدل.. وعليه إبداء الرضى في أوائل الطريق.
  18. المبلغ رجل الرحمة والشفقة، لا يرِد في ذهنه قطعًا التشبث بوسائل البطش والقوة لإحقاق الحق.
  19. التضحية من أهم خصائص المبلغ. فعليه أن يتصف بصفات الحواريين، بل مَن لم يكن من نعومة أظفاره على صفة الحواريين، لا يترك الحياة على صفة المبلغ الجيد، وهذا يقتضي التضحية قبل كل شيء.
  20. المبلغ إنسان متكامل بالدعاء الذي هو أساس الإخلاص.
  21. المبلغ إنسان منطقي وواقعي أيضًا، يوفّق في الأعمال بمقدار عمله بأسس المنطق.
  22. المبلغ شديد الحساسية تجاه إيمان الناس، يتمزّق فؤاده حين يرى حوادث الكفر والارتداد.
  23. المبلغ يُسَيِّر وظيفته ضمن الشوق والعشق، فلا يمكن أن يوفَّق إن لم يكن عاشقًا للتبليغ متيّمًا به.
  24. الإيمان العميق، أي عمق عالمه الروحي، صفة لا تنفكّ عن المبلغ.. وهذا يعني بلوغه اليقين، ومن بلغ اليقين فقد جُهّز بالفضائل كلها.
  25. في أثناء قيام المبلغ بوظيفته، عليه أن يحمل قلبًا سليمًا معافًى، وروحًا رقيقة نقية.. ولكي يرى الله والرسول صلى الله عليه وسلم ظهيرًا له في عمله، لا بدّ أن تكون حياته صافية كصفاء دعوته في الأقل. وهذا لا يتحقق إلا بصفاء العيش.

[1]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، مصر.

 

[2]     انظر: كتاب: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فصْل: أصول التبليغ في الإسلام، النقاط: 8، 9، ص:210.

 

[3]     البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 419.

 

[4]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:57.

 

[5]     الفردوس، للديلمي، 2/174.

 

[6]     الترمذي، القيامة 55؛ ابن ماجه، الفتن 23؛ أحمد بن حنبل، المسند، 2/43.

 

[7]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:58.

 

[8]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:58.

 

[9]     طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:96.

 

[10]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:96.

 

[11]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:97.

 

[12]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:97.

 

[13]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:98.

 

[14]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:98-99.

 

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.