ما “الخدمة”، وما طبيعتها؟ وكيف نُحَدَّد هويتها؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تُطرَح دائما. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، نذكر منها المكانة التي تحتلها حركة “الخدمة” في عمق الواقع التركي باعتبارها فعالية إنسانية ذات جذور في المجتمع، وباعتبارها نسيجا من مؤسسات ومنظمات فكرية وثقافية وإنسانية واجتماعية، متكاملة في أهدافها وأنشطتها ومناهجها، قدر تباعدها واستقلال بعضها عن بعض، زيادة على سمْعتها الطيبة في تركيا وفي آسيا وأوربا وأمريكا وإفريقيا.. دون أن يغيب عن الذهن أن “الخدمة” مجرد إطار نظري بدأ في يوم من الأيام وتحوَّل بفعل ما نُفث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع حركي متميز.. وبعبارة أخرى إن “الخدمة” مجرد فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري يحرك أمة بكاملها ويستهوي الصديق ويثير حفيظة العدو.

الخدمة” مجرد فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري يحرك أمة بكاملها يستهوي الصديق ويثير حفيظة العدو

إشكالية تصنيف “الخدمة”

قضية تصنيف “الخدمة” قضية صعبة جدا. فهي بداية لا تعتبر طائفة دينية في مقابل مصطلح (Sect) في اللغة الإنجليزية الذي يعنى “الجماعة الدينية” التي تبني لنفسها ممارسات وطقوسا دينية تميزها عن غيرها، وتكون في الغالب متمحورة حول شخصية تمتص كل الاهتمام وكل عناصر النجاح. زيادة على أن الطائفة الدينية جماعة منغلقة على ذاتها وحريصة على أن يظل عالمها الداخلي مجهولا وسريا وغامضا. لكن دعوة “الخدمة” أبعد ما تكون عن دائرة الطائفة الدينية، وعن الطائفية بصفة عامة، وهو الحكم الذي يُجمِع عليه أغلب من درس “الخدمة” من هذه زاوية من علماء الاجتماع الغربيين، إذ يؤكدون أن حركة “الخدمة” ليست طائفة دينية (Sect)، لأن بنيتها مختلفة بصورة كلية عن خصوصيات الطوائف الدينية وخاصة الطوائف السرية.

الخدمة وعمق التقاليد الإسلامية

إن أهمّ ما يلح عليه فتح الله كولن أدبياته هو تأكيد الانتماء إلى عمق التقاليد الإسلامية التي استطاعت نسج إحدى أكبر حركات التغيير التي عرفتها الإنسانية على مدى تاريخها الطويل. فالمتأمل في خطاب الأستاذ فتح الإصلاحي التغييري، والمتمعن فيه سيقف على حماس عميق ورغبة واسعة، بل وعقيدة راسخة بأن التقاليد الإسلامية كما تذوقها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا، ومجمل المؤمنين، قادرة على تغيير العالم كله وليس تركيا ومنطقة الأناضول والعالم الإسلامي فحسب.

أسست مؤسساتُ الخدمة -كل واحدة على حدة- خطابا تفسيريا لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، لكن بالحفاظ على الأصل في إطار تفاعل واسع مع هذا الخطاب

الخدمة خطاب إصلاحي تغييري

لا يريد هذا التحليل إبراز شخصية الأستاذ فتح الله عنصر مركزيا في حركة “الخدمة”، فيُظَنّ بأن الخدمة وشخصية الأستاذ فتح الله هما وجهان لعملة واحدة. والحال أن الحديث ليس عن شخصية في علاقتها بجماعة مجتمعية، بل إن الأمر يتعلق بخطاب إصلاحي تغييري انطلق منذ ما يزيد عن خمسين سنة خلت، فأحدث تغييرا جذريا في نمط تفكير فئات واسعة من المجتمع التركي ليتطور الأمر فيما بعد إلى حالة وعي حركي عم كل فئات المجتمع، أو إلى صحوة مدنية استشعرت عمق الخطاب الذي زرعه الأستاذ فتح الله كولن، فتوافق الخطاب مع آثار تقاليد دفينة في “لاوعْي” المجتمع و”لاشعوره” فانطلق يحاول تحويل الصحوة إلى حركية فعالة. فهل تمكنت الخدمة من أن تبني خطابها خاصة؟

خطاب واحد وتفسيرات عدة

في الواقع لا يمكن الحديث في هذا المقام عن خطاب واحد، وإنما يمكن الحديث عن خطابات كثيرة شارحة أو مفسرة أو مؤولة لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، تبعا للمجالات الإنسانية والحقول المجتمعية التي تتحرك فيها الخدمة بمختلف مؤسساتها. بعبارة أخرى لقد أَسست مؤسساتُ الخدمة -كل واحدة على حدة- خطابا تفسيريا لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، لكن بالحفاظ على الأصل في إطار تفاعل واسع مع هذا الخطاب.

ولذلك يصعب الحديث عن خطاب خاص بالخدمة باعتبارها الإطار المفهومي الاصطلاحي الذي يرمز إلى الحركية التي تأسست انطلاقا من خطابه.

خطاب الأستاذ فتح الله أبعد ما يكون عن الخطاب الطائفي أو الخطاب الذي يريد بناء دين أو عقيدة أخرى غير العقيدة الإسلامية

الخدمة بين المثقف  العربي والغربي

ولذلك يتوجب على من يشتغل بقضية هوية حركة الخدمة التمييزُ في هذه الأسئلة بين تلك الأسئلة التي يثيرها المثقف الغربي، وتلك التي يثيرها مثقف مسلم من العالم العربي أو من أي بلد إسلامي آخر. إذ الملاحظ أن المثقف الغربي عندما يتساءل عن هوية الحركة تميل أسئلته إلى التركيز على طبيعة الحركة من جهة الطائفية ومن جهة كونها ديانة جديدة. في الوقت الذي لا يثار فيه هذا الأمر بالنسبة للمثقف المسلم لمعرفته اليقينية بأن الحركة هي إحياء لتقاليد إسلامية أصيلة، وبأن خطاب الأستاذ فتح الله يؤكد بأن الكتاب والسنّة والمصادر الأخرى هي الأساس الذي يقوم عليه الفكر والحركية عنده. ثم إن قرب هذا المثقف من حقيقة الإسلام يمكّنه من أن يدرك بأن خطاب الأستاذ فتح الله أبعد ما يكون عن الخطاب الطائفي أو الخطاب الذي يريد بناء دين أو عقيدة أخرى غير العقيدة الإسلامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: من كتاب “أشواق النهضة”

Leave a Reply

Your email address will not be published.