الطريق إلى العمرانية

الجلسات الاستشفائية لليوم الأول، عادة ما تضغط على النفوس وتتعبها، لتحولها في محاولة الاستجابة للعلاج، إلى مجرد أجسام فضائية معقدة، يستعصي معها انكسار القيود والأغلال النفسية بسهولة.

أحسست بتعب ذهني غير عادي، شاركني فيه ربان الرحلة زياد، حيث عبر احمرار عينيه عن شعور مزدوج، نطقت به في صمت داخلي، لكن لم ينطق به زياد. “زياد أبي” كما ينادونه في تركيا، تطوع بنفسه لتحصيل ما وراء أفق الدنيا، ملبّيًا نداء اللانهاية الذي أشرب في قلبه، وغَذّى روحه.

ونحن نعْبر جسرًا من جسور البوسفور، الذي يصل البحر الأسود، شمالا ببحر مرمرة، وفي وقت ذروة ازدحام المواصلات، هتف منادي المؤذن، بصوامع إسطنبول، ليقشعر بدني وينقلب إحساس التعب إلى لهفة شوق أمّ رؤوف تضم بصدرها الحاني، صوت الأذان الملبي، بعدما أريد له زمن التيجان المؤقتة القذف به في اليم، وليبعث في فؤادها الفارغ الذي لم يشأ القدر لحكمة إلهية أن يملأه، كما ملأ فؤاد أمّ موسى، بحياة تبعث بسخاء نغمات عشق لوصال رباني يتجاوز كياني.

إنه نداء التاريخ الذي سافر بي عبر الزمان، إلى عهد السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني، وأوقفني عند محطة فتح القسطنطينية بجيشها المكون من 265 ألف مقاتل، في مقدمتهم الشيوخ والعلماء وكبار رجال الدولة، يقودهم السلطان محمد الفاتح، يتقدم تحت وابل من النيران والسهام، ليقتحم بجنوده أسوار المدينة، ويدخل السلطان محمد الثاني يوم ثلاثاء 20 من جمادى الأولى سنة 857هـ / 29 من مايو 1453م فاتحا ملبيا نداء ربّه، ساجدا حامدا لفضله ونعمه.. فأَعلن الأذانَ في كنيسة آياصُوفْيا، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر أبي أيّوب الأنصاري.

نعم إنه نداء الروح.. ينبعث بروح عودة فرسان جدد.. حطّموا بنورانية أرواحهم وبفتح الله على يدهم خرافة الخرافات، وأسطورة الأساطير.. تجاوزوا بأفكارهم، وكلماتهم، وحكمتهم، وكفاحهم وقدرة تحمّلهم، الرقم القياسي في موسوعة جينيز العالمية.. فتجاوزوا زمانهم ومكانهم، وكثفوا جهودهم لجمع الصيف بالشتاء، والشتاء بالربيع، لتتساقط أوراق الخريف، وتنمحي في صمت مهيب وهدوء حكيم.. تلك أسماء سميتموها انتم وآباءكم.. وشهدت مريم حفيدة المجاهد الأنصاري طلحة الدريج، رفيق درب الفاتح، وأبي أيوب الأنصاري على سقوطها واندحارها.. أمام قلعة صممت هندستها على شكل اسم محمد .. وبارتفاع صوت آذان عثماني أصيل يذوي “الله أكبر، الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح”…

تم التوقيع النهائي على ضمور وشحوب ونهاية مَن فكّروا يوما في قطع مد تيارها النوراني المتناغم، مع مشاعر الملكات الإنسانية.

كنت أدرك ثقل هذه المعاني على نفسي وجسدي، ورغم ثقل الضغط الذي شد عصبة كتفي، حاولت الإمساك بيد الطفل جمال الصغير، ابن الخدمة وحفيد شراب الوصال.. عساي أستعيد قوة مشاعري وأضبط انفلات وصلات تناغم روحي.

كنت أسترق السمع، من روح من كانت عيناه توحي بالعياء، وأعلم أن العياء في هذا المسلك لا يعبر عنه باللسان، لأنه فعل ملتهب، وامتحان عسير أمام جسر بركاني متفجر، يسير فيه السالكون، بأقدام حافية مكتوية، بلهيب نار حارقة، تطفئها مقامات التخلية والتحلية.

إنه تفجر ألطاف مقامات القلب والشعور والحس بطاقات معنى المعنى.. يتمدد شوقا في أغوار ملكات من يذوق نشوة تعانق امتداد الزمان والمكان، بنفحات إيمانية تحفر هناك عميقا في مجرى ينابيع معراج السالكين.

كان الهدوء يخيم بنفحة رحمانية على ركاب الحافلة التي بدأت تنعرج نحو درب ضيق يوصل إلى باب نزل “باران”، حيث اللقاء بنسيم أمان يحتضن آمالي الإنسانية في الأمومة، بل في عشق أصيل لكل أبناء وبنات العالم.

نزلت أمّ سداد من الحافلة لتودّعني، بينما الطفل جمال يدير رأسه الصغيرة نحو أمه، ويلوح بيديه الصغيرتين من نافذة الحافلة، وبابتسامة ملائكية يتخللها حياء منبعث من فطرة الأصل، يبادلني التحية والتلويح وأنا أردد في دعابة، “جمال شُوكْ كُوزَال، جمال شُوكْ كُوزال”.

وفي سمو آداب راقية، كانت أم سداد تصر على إيصالي لقلب بهو نزل الأعماق المرجانية، لتضمني بعطف دافئ كأنها أم حنون، تسلمني لرعاية نزل سياحة العاشقين، حيث العناق مع روح مرجانة المرجانات فاطمة.

 

باران نزل فيض الروح

عند وصولي بهو نزل بَارَان -وباران باللغة التركية تعني “الغيث”- وجدت فاطمة في انتظاري وهي تقول:

– هُوشْ كَالْدِينِيزْ مريم أبْلا، هُوشْ كَالْدِينيز. اشتقت لك…

ترددها وهي تركض نحوي لترتمي في أحضاني كطفلة عمرها سنتين:

– ما بالك يا فاطمة تلهثين؟ وما بك حافية القدمين في هذا البرد القارس؟

– أنا مشتاقة لعناقك أستاذتي لدرجة لم أتمكن فيها من لبس حذائي..؟! كيف كان يومك أستاذتي؟

– آه يا فاطمة، ماذا أقول لك وأنا أشمّ باحتضانك رائحة نفسك الزكية تسحبني، نحو رائحة عطر ياسمين البساتين والحقول التي كنت أجوبها اليوم.!

وبلغة إنجليزية تختلط فيها نكهة مد الحرف التركي، تسأل فاطمة:

– أين ذهبت إذن؟

– يا لله لا تسأليني أين ذهبت، فأنت تعرفين الأماكن التي زرتها.. ولكن اسأليني عن شيء آخر يا فاطمة..؟

– أسالك ماذا يا مام..؟

تقولها وهي تبتسم وتضغط على مفتاح المصعد نحو الطابق الخامس. لم أكن بعد وصلت إلى مرحلة استيعاب سر أسرار الخامس.. فقد كنت أطل اليوم من شرفة مدير المدرسة في الطابق الخامس.. وسكني في نزل باران في الطابق الخامس.. وقد كان سجل ميلادي في اليوم الخامس.. من الشهر الخامس.. ليبقى سر حكمة اكتمال المنافذ المفتوحة على الخامس.. في أحضان العناية الإلهية…

في المصعد الضيق، كانت نور تمسك بيدي.. بينما كنت أردد في نفسي: “أخيرا يا مريم، عدت إلى حضن فاطمة، لتنعمي بدفء لين ورقة النور الذي يشع من أعماق روحها”.. أتأمل وجهها الملائكي وهي تخبرني عن برنامج موعد الغد، وكأنه مرآة تعكس سر فيوضات فضاء المكان..

– إلى أين سنذهب يا فاطمة غدا؟

فاطمة:

– إلى عشاء رتّبته لنا الأَبْلاَ عائشة، مع أَبْلا متولي.

أسألها:

– مَن الأبْلا عائشة؟

فاطمة:

– عائشة أَبْلاَ، هي ابنة الخدمة، وهي المكلّفة بترتيب برنامج رحلتك العلمية النورانية أستاذة مريم.

أجبتها:

– أظن أنني تذكرتها، هي السيدة التي استقبلتنا صباحا في بهو النزل، وأخبرتني أنها أَبْلاَ متولّية بالعلم، حضرت لتعلم البنات دروسا في الأخلاق والتزكية.

*           *           *

لم أكن أميّز بعد معنى الأَبْلهات المتولّيات والعالمات. فقط أعرف أن “أَبْلاَ” هي “الأخت الكبيرة”، كما علمت في الثقافة المصرية، لكن المصطلح هنا في تركيا، أضيف له معنى المتوليات..!

كنت أحاول استفسار الأمر، استعدادا لتلبية دعوة الأَبْلاَ المتولية التي أجهل تماما معناها، وفي استغراب شديد أسأل رفيقتي:

– غريب اسم “متولي” للمرأة، أليس كذلك؟! نحن نعرف عم متولّي والحاج متولّي، لكن أبْلا متولي لم نسمع بها من قبل.!

ما بين حضور وغياب لغوي للتواصل، لم أجد بديلا، من الصمت جوابا عن أسئلتي.. فالعزلة اللغوية مغامرة خطيرة غير مضمونة العواقب.. ودفء مشاعر ترحيب السيدتين المرافقتين لمأدبة العشاء، لهيب يجمع حوله، كل الحاضرين في فصل برد ليالي إسطنبول.. في زاوية الغرفة، أهيئ نفسي للبس الجلباب المغربي الذي رشحته، ليحمل رمز معاني روح التراث المغربي الأصيل في مثل هذه المناسبات.. بروح مبادرة سلامة سير اللسان، تنطق إحداهما، محاولة كسر حاجز الانزلاق في هاوية الأخطاء اللغوية، تلك اللغة العربية التي كانت ذات يوم في تركيا أخطر من تجارة الأسلحة والمخدرات.! بمعرفتها البسيطة باللغة العربية، استطاعت فهم فحوى السؤال.. ورغبة منها في كسر صمت لحظات الانتظار، نطقت بلغة عربية ممزوجة بلكنة بدو سورية:

– نحنا نروح عند الأبْلا وهاي الأَبْلاَ متولي.. نحنا أَبْلاَ وهي أَبْلاَ، بس هيو متولي.

وبابتسامة عريضة ممزوجة بلطف مشاعر، نحو من استشعرت، بأنها تريد شرح أمر مهم لم أفهمه..

– جاء ردي “بأيوا “…

وردي “بأيوا ” ممتدة، دليل على عدم فهمي بوضوح للموضوع.. قصة “أيوا “ممدودة، هي من وحي تجربتي مع أستاذي أسعد السحمراني، أستاذ العقائد والأديان المقارنة بكلية الأوزاعي ببيروت، الذي ألف خمسين كتابا ونيفًا، في بحر العلوم، من فكر وآداب وتاريخ عقائد وأديان وفلسفة، وموسوعات، وتربية، وفكر إسلامي.. وأشرف على تصحيح رسالة أطروحتي، بنفس مناهج التحفيز التي سجلتها في مدارس الفتح التركية.. الدكتور أسعد حين كان يدعى إلى المغرب، لحضور المؤتمرات وللدروس الحسنية الرمضانية، كان يسمعنا نتحدث باللهجة المغربية الدارجة، فلا يفهم شيئا.! لكنه يصر على عدم إحراجنا كل مرة بالسؤال عن المعنى فيردد “أَيْوا “بالمد.. فنعي جيدا عند حصول المد، أن الرجل لم يفهم معاني ما نقوله بالدارجة.. وبلطف نحاول تغيير الحديث باللغة العربية الفصحى، حتى يستوعب معاني الكلام.. أتابع:

– أيوا يا فضيلة، قصدك أنكم تسمّون في تركيا الفتاة باسم “متولي”؟

فضيلة:

– لالالالا… نحنا ما بنسمّي متولّي.. الأَبْلاَ متولّي هي، من النسيان اللي تعطي منحة للولدان..

– أيوا…

الآن لم أمد فيها كثيرا، لأنني حاولت استيعاب جزء من الجواب.. صحيح لم أفهم المعنى كاملا، لكن كثرة أسفاري العلمية، وتعاملي مع لهجات عديدة، علّمتني مهارة تركيب المفردات.. فمدلول المنحة، والعلاقة بالولدان، أحالني إلى تركيبات المتشابه من الألفاظ.. حوّلت “نسيان” إلى نسوان، و”ولدان” لطلاب، فحصل المقصود..

الساعة الثامنة موعد العشاء، والسيدة رزان في انتظارنا، تحت حديقة مدخل النزل توجه لنا إشارات ضوئية متتالية، توحي بأهبة من استلمت قيادة القافلة، للاتجاه نحو البيت الموعود. بدأت “رزان” تجوب بنا شوارع إسطنبول التي تشبع حس الأبد في الوجدان.

 

الحاج متولي على ضفتي البوسفور

شوارع إسطنبول تشد المتأمل في جمالها بروعة الشرق والغرب الرابض في كل زاوية منها. أحيانا يخالجك إحساس بأن جميع الشوارع متشابهة، ببيوتها ومحلاتها، وأسواقها وهندسة زقاقها، وحلي شوارعها.

“رزان” تتنقل بنا من شارع لآخر، وكأنها تقدم لي نبذة جمالية تاريخية، عن هوية ذات القلبين المشلوحين على ضفّتي البوسفور، كأنها خاطبة تعرض لي برق بالغ، مفاتن عروس أتوسط لخطبتها.

من على جسر مضيق البوسفور، كنت أطلّ ناحية الضفّتين لأسجل بعبوري شهادة على قوة هذا الجسر.. الرابط الحضاري بين ثقافات أسياد أوربا.

جمال مضيق البسفور والجسور المعلقة، والمساجد الكبيرة بعتقها، وخشوع أرواحها، تفترش شواطئ البحر… كِلا الضفتين تزين المضيق، بأبنية تاريخية أنيقة، تنوع نمطها المعماري، مع بهجة عمارة قصور، تستريح تحت ظلاله بأمان من دون أن تخشى أمواج بحرَي مرمرة والأسْود. البواخر تخترق المضيق بهدوء، ومياهه تمتزج بألوان سحب السماء.

هكذا هي المدينة التي سجلتها ذكريات الأديب الروائي التركي”أورخَان بَامُوق”، والذي تبدو بسفورا لبحر داخلي يستعصى تصنيفه. فمساجدها شامخة العمران، تنطق بفنّ المعمار الإسلامي، ككتاب تاريخي يشهد وينطق بحكمة فائضة. مآذنها الممتدة تسمو نحو الأفق، وكأنها نغم مسبوك في سانفونية ممتزجة الأصوات تعبر بصوت واحد عن لحن الخلود. صوامعها تسحر العيون ببريق صنعتها، وتأسر العقول بتلألؤ نجوم تحوم فوق سطوحها، لتكشف ما وراء ستار امتداداتها، ومقصد تفرعاتها، نحو ذروة عرش العناية الإلهية.

إن جند الإدراك الذين يرتّبون برنامج رحلتنا، يدركون تماما سر وظائف الغاية والوسيلة، ويشغلون منافذ الرؤية المتأملة في اللانهاية.. يحولون هذه الصروح الحضارية العمرانية، إلى أفلاك سماوية، تدور في الفلك القرآني، لتجدد أركان الحضور المعماري، وتربطه بجسور البناء العمراني للإنسان، تيسيرا ومواءمة وتعايشا.

إنهم من يقطعون زمن العقم الممتدّ، منذ قرون بين الصوامع والمآذن، لينتجوا جيلاً من الرحم الولود، الذي ملكوه سلامة الوجدان، قبل سلامة البنيان والمعمار.

كانت “فضيلة” تحاول قطع شرودي، المنسجم مع فضاءات جمالية المكان، وهي تقول:

– أستاذة مريم، نحنا أَبْلاَ مدرس.. ندرّس قرآن، علوم، تفسير، تزكية، أخلاق، رسائل النور.. والنور الخالد للأستاذ فتح الله. ونحنا رايحين هالحين عند أَبْلاَ، بسهاي الأَبْلاَ، هي ما تعطي دروس، هي تعطي المنح للبنات والولْدان مشان يدرّسون.. وهي متولي بالبنات مثل أمّهم، يعني هي تجيبهم عندها البيت. تروح معاهم السوق، الطبيب لو مرضون، فهمانا عليا أستاذة.

– نعم نعم، ماشاء الله، فهمانه عليك يا فضيلة.. فهمانه. وكم منحة تتكلف بها الأَبْلاَ المتولي في السنة؟

– هاي الأَبْلاَ للي نحنا رايحين عندا، بتعْطي في السنة 100 منحة، وكل منحة بـ 2000 أوروو.. في عنا من الأَبْلاَت والأبيهات الأصناف مَن يعطون 500 منحة في السنة، مع شراء بيوتات فخمة وإسكانهم فيها..

كادت أنفاسي تسحب مني وأنا أقف إجلالا وإكبارا، لمن أوصلت المعنى الحقيق للمتولي. الآن فقط استوعبتُ معنى المتولي.. فمتولّي الأناضول ليس هو الحاج متولّي الذي عرفناه في المسلسلات المصرية، متولي تركيا تقوي عزم الهمم لبِناء جيل المستقبل، والحاج متولي تولى التفنّن في تعدد النسوان، على حد تعبير فضيلة.

 

آه يا عم متولي

آه يا عم متولي، كم أخذتَ من أعمارنا سدًى في حكي الفراغ الممزوج برائحة الوهم! آه يا متولي المسلسل المصري، كم سحرت ملايين الشباب المحروم من الزواج بواحدة، لمحنهم المادية، وهم يتفرجون على حكاياتك مع زوجاتك الأربعة.!

هيهات هيهات على مقاربة الوهم بحقيقة مرارة وهج مشاعر شباب وشابات، لا يسمع أنين آلامهم، ولا تحترم خصوصيات مرحلتهم المأزومة، في النصيب من مشاعر الحب بالحلال والاستقرار.!

أين أنا من سينارْيوهات متولّي مدينة الإعلام الفرجوية! رحمة الله على متولي العرب، مَن تولى عن درب بناء الإنسان.. رحمة الله على مَن ولى ظهره بعيدا عن مَن هم أشد حاجة للتولي.. احمرّ وجهي، وتوقد رصيد إيماني، فتعاطفت مواجيدي مع أشجاني، بألم تحول إلى آهات تتلظى بالحزن والحسرة.. أنا من حسبت نفسي مسكنة أوجاع الطلاب بنتاج المعرفة، على المستوى العقلي والروحي، مزودة لهم بلقاح علم يغذيهم العمر كلّه..

أين أنت يا محبة طلاب العلم ونصيرتهم، في حب وعشق العلم والمعرفة؟ أين أنت يا مريم مما فهمته الآن من أحكام فقه التولي.. اللهم تولّنا.. أساتذة وطلابا.. برحمتك..

آه يا زمن المعرفة.. ويحا لمن تخلوا على توليك ورعايتك.. ويحا لمن أداروا ظهرهم لك وجحدوا لأفضالك عليهم. آه لمن أجادوا بالعطاء والسخاء، لبناء جدران تحمي الإنسان، وتنكّروا لبناء العقول، وتكفّلوا بالأرامل ويتامى الفقر، وتناسوا رعاية أيتام الجهل..

زودوكم يا أبناء جيلي بخبز جاف، مِن مرق المعرفة والعلم.. كسوكم بثياب قطنية صوفية، نسيجها مختلف الصنع، وفرطوا في بناء أركان العلوم في زوايا عقولكم…

 

نسائم عطر السائحين

تقطع “فضيلة” ذكرى آلام تشعرني بأنه قد تطول سنين من الانتظار، لتحريك عملية بناء العقول، واستخراج كنوزها من الأعماق المرجانية. وهي تتمتم مع “رزان” بكلمات تركية لم أكن أعرف معناها، ولكن من كثرة ترديدها للفظ الجلالة “الله، الله، الله”، أدركت أن حدثا ما وقع.. فالقلق بادي في وتيرة الكلام، وحركات اليد توجه في إشارة لليسار. كنت أعلم أن تدخلي لن يسمع وسط أصوات المعنيات بالأمر، ولكن لم أجد بدّا من التفاعل، فأنا واحدة من المجموعة، وعليّ أن أشارك في معطيات هذا الأمر الجلل.

– خير إن شاء الله، خير…

“فضيلة” التي تفهم لغتي، كانت منشغلة في توجيه وترشيد صاحبة السيارة، بينما كنت أحاول رصد معاني الإشارات التي توحي بأنه قد حصل خطأ في الطريق، وضيعنا المخرج الصحيح.

الأمر ليس سهلا، فنحن في الطريق السيار، وإذا تابعنا السير سنتوجه نحو مدينة بُورْصَة.. فجأة ومن دون ارتباك، تدير “رزان” مقود السيارة، وتتراجع إلى الوراء بحذر شديد في اتجاه المخرج. أعناقنا مستديرة نحو الاتجاه المعاكس، وعيوننا مترصدة لنتائج مجريات الحدث..

الكل يردد “بسم الله الرحمن الرحيم”، و”زران” تمسك المقود بتحكم واضح، إلى أن وصلت إلى فواهة المخرج..

– الحمد لله، الحمد لله يا رزان.. أنت سائقة بارعة.

أقولها بالعربية، وأطلب من “فضيلة” أن تترجم لها..

فترد رزان:

– أستغفر الله.. أستغفر الله…

نعم شخصية المرأة التركية قوية ومتميزة في مواجهة حالات الطوارئ… ذكّرتني قوتها وإرادة صمودها بقصيدة حي النساء، لعبد الرحمن العشماوي وكانت مهداة لنساء غزة فلسطين.. فبدأتُ أرددها في صمت وأنا أعلم أنني حتى لو جهرت بأبياتها لن تفهم المعاني:

حَيِّ النِّساءَ فقد مَسَحْنَ العارا

وهَطَلْنَ غَيْثَ بطولةٍ مِدْرَارا

 

حيِّ النساءَ وقَفْنَ رَمْزَ بطولةٍ

وغَدَوْنَ في ليلِ الخضوعِ مَنارا

لمَّا رأين المعتدينَ تجاوزوا

كلَّ الحدودِ وحطَّموا الأَسوارا

ورَأَيْنَ سيفَ الغدر يحصد جَهْرةً

أبناءَهُنَّ ويَمْسَح الآثارا

ورَأَيْنَ أنصافَ الرِّجال توقَّفوا

فخيولهم لا تعرف المضمارا

ورأَيْنَ أُمَّتَهُنَّ تفتح بابَها

للغاصبينَ وتَخفِضُ الأَبصارا

ورَأَيْنَ صَمْتًا عالميًا قاتلاً

خَذَل الضعيفَ، وأيَّد الأشرارا

لمَّا رَأَيْنَ اللِّصَّ يقتل آمنًا

ويُخيف أرملةً، ويَهدم دارا

أَسْرَجْنَ من خيلِ الشموخِ أَعزَّها

وضَرَبْنَ من دون العدوِّ حصارا

ما سِرْنَ سَيْرَ المستكينِ، وإنما

سَيْرَ الأَبيِّ يواجه الأخطارا

يَحْمِينَ أشبالَ العقيدة حينما

فَتحَ العدوُّ على البيوتِ النَّارا

طَيَّرْنَ في الآفاقِ صَقْرَ كرامةٍ

من بعد أنْ غَذَّيْنَه الإصرارا

وَاجَهْنَ طاغيةَ الزَّمانِ بهمَّةٍ

ومَلأْنَ غزَّةَ عِزَّةً وفخارا

وكَشَفْنَ للدنيا العدوَّ، فلم يَعُدْ

يَسْطِيعُ تَلفيقًا ولا إنكارا

مُتَحَجَّبَاتٍ سِرْنَ في أَلَقِ الضُّحَى

فَغَدَوْنَ في وضحِ النَّهارِ نهارا

حَيِّ النساءَ الفاضلاتِ رَفَعْنَ من

إِيمانهنَّ بربِّهنَّ شعارا

جَاوَزْنَ حَدَّ المستحيل فَصِرْنَ في

باب الشموخِ لغيرهنَّ منارا

أَبْصَرْنَ مليارًا ونصفًا غافلاً

فرمَيْنَ سَهْمًا يُوقظ المليارا

حيِّ النساءَ لَبِسْنَ ثوبًا سابغًا

ونَفَضْنَ عن وجهِ الإباءِ غبارا

 

وصلتُ إلى هذا المقطع، حين أوقفني سؤال “فضيلة” عن شكل خياطة جلبابي الذي أعجبت به وزميلاتها.. تتابع فضيلة الحديث معي عن القفطان والتطريز المغربي، وكأن شيئا لم يحدث!. إنها قوة رائدة في حسن إدارة الأزمات.

هناك مشترك فني غير عادي بين المرأة التركية، والمرأة المغربية والمسلمة عموما، في القدرة على تحمل المسؤولية، وحسن إدارة الأزمات الأسرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية…

فضيلة:

– أستاذة مريم، هذه الأَبْلاَ هي تسكن هنا في هذه الإقامة الفخمة. نحن وصلنا إلى هنا إلى بيت الأبْلا، الحمد لله على سلامتنا.

 

الأَبْلاَ متولي توأمة فاطمة الفهرية

كان الجو باردا جدا بالخارج، لكن ما سمعته من “فضيلة” عن حكمة معنى المعنى في فهم حكم صيغة الأَبْلاَ المتولي، جعل جسمي يتّقد بحرارة، كمن قطعت مسافة عشرة كيلومتارات عدوا من دون توقف.

في منحدر منزلق نحو إقامة مركب فخم، يضم العديد من البيوت والفيلات والقصور المحاطة، بحراسة خاصة، موزعة على زوايا باب المدخل الرئيسي.

قبل أن ننحدر يمينا عبر مدخل محفوف الجنبات بنباتات برية خضراء، كانت السيدة متولي تقف مرحّبة بنا بابتسامة ملامح ملائكية… زينة أنيقة توحي بأنها سيدة من نساء المجتمع الراقي، ممشوقة القد، بشرتها صافية، طلعتها كالشمس أقرب إلى السماء، وبريقها كالقمر في أقصى الكرة الأرضية. شعرها خروبي، وأسنانها بيضاء، متساوية مثل أسنان المشط.. وجهها مرآة مستديرة كأنه قمر مضيء.

– مرحبا مرحبا، هُوشْ كَالْدِينِيزْ، هُوشْ كَالْدِينِيز..

تتقدم نحوي بأدب حسن ضيافة الأحباب. تحضنني بدفئ له معنى وروح. وبفورة فرح ومظاهر بهجة الأعياد تنحني غير مبالية بعمق الأنا الداخلية.. تحاول مساعدتي في سحب أزرار حذائي الشتوي، ووضع خف بنفسجي اللّون تحت كعب قدمي. أمسكتُ يديها الناعمتين، بكل لطف، وأنا أردد “أستغفر الله، أستغفر الله”..

فأجابتني بابتسامة تعبئ من معين قلبها المفتوح، كمن يعبئ من ماء الكوثر:

– يُوكْ يُوكْ، أَستغفر الله، أستغفر الله. أنتم العلماء، ونحن في خدمة أهل العلم.

ذكّرْتِني يا أَبْلاَ متولي بفاطمة الفهرية، خادمة العلم والعلماء، مشيدة أول جامعة في التاريخ الإنساني بمدينة فاس. يا له من تواضع نساء الطبقة الراقية، حين يدخلن إلى عالم الإمكان العسير المفعم بأسرار مصدر الروح، فيكسرن طوق الأسر الذي وضعه صانعوا المجد المزيف بالماس والزمرّد واللؤلؤ.!

كانت روحها المفعمة بطاقة نورانية، مصقلة بقوة عزم إثبات الذات، وتذكير النفس بالسكون الدنيوي، قبل سكون أبدي يهوي بها إلى قاع الأرض. تنسجم جمالية روحها، وتأثيث فضاء المكان، المختلف فرشه، ومائدته بذوق عرفاني مغاير.

كان الصالون عبارة عن غرفة مزدوجة، تجمع بين مفارش، تنطق بروح أصالة البيت التركي.. سجاد راقي، لوحات تعبر عن تراث ينطق بسر من سطر ملامح ريشتها.

بلغة إنجليزية فصيحة، تستبقني صاحبة النخوة الممزوجة رائحة عطرها بنسيم التواضع. سألتني:

– أستاذة، تتحدثين اللغة الإنجليزية؟

أجبت:

– نعم نعم سيدتي.

أقولها وأنا أتحرر من سلطة قهر اللاوصال اللغوي والروحي، الذي يتجانس ومخارج الكلمات، فيصل شوق العاصف، من القلب إلى القلب.

يبدو أن السيدة متولي لاحظت لهفة ردي المتسرع، فلا سلطان على لساني من منع جوارح الشوق، لسماع مباشر، دون ترجمة، فجوانح الروح تعشق نسيم عطر الأحبة.. وبابتسامة رقيقة تلملم حواشي شفتيها. سألتني:

– ما اسمك سيدتي؟

– اسمي مريم، وأنا ضيفة الأحبة من بلد المغرب؟

علقت مبتسمة:

– تقصدين فاس. أنا زرتها من سنتين رفقة عائلتي.

وكهائمة ولهانة بتراب أرض مملكتها المغربية، أجبتُها جواب العاشق السائح، الذي يضرب فيافي الصحراء، سيرا نحو ديار الحبيب:

– المغرب يا سيدتي أرض التعايش، تَوَارَثَ تقاليدَ كرم ضيافته، وترحابه بالوافدين عبر الأجيال. كُتبُ تاريخ بلادي، جملت صفحاتها، بشهادات كرم وشهامة المغاربة.. خصال علمائهم المبنية على روح التسامح، جعلتهم يستقبلون الوافدين المضطهدين الفارين احتماء بأرضه. لقد صنع المغاربة بتقاليد الاحتفاء، تاريخ المغرب الوضاء. بالتسامح أشرقت شمس الإسلام على البلاد، وبفضله التفّتْ قبائلُ المغرب الأمازيغية، وبايعت المولى إدريس الأول القادم من المشرق إلى المغرب عام (172هـ)، بعد هزيمته في وقعة فخ سنة (785م)، إكراما لنسبه النبوي الشريف. المولى إدريس الأول سيدتي، لم يكن مغربي الأصل والجذور. دخل المغرب لاجئا محتميا بأهلها، فجعلوا منه تكريما لنسبه الشريف ملكا عليهم. هل سمعت سيدتي هكذا تسامحًا في تاريخ البلدان؟! فأي نعمة هذه التي تغرق قلوب أجداد المغرب، أمازيغا، وعربا، وحسانيين، وأندلسيين، في زمن كانت فيه بنادق ومدافع البلدان، تحاصر كل غريب يسعى بين القرى الخالية، وتصادر حقه في الحماية وطلب الأمان! الأمان -سيدة متولي- لم يكن موجها فقط لسلالة الأحفاد من النسب الشريف، بل كان مكفولا للناجين من محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس، فاحتمت في موطنه أسر عريقة من المسلمين واليهود، ضمن أكبر عملية إنقاذ لإحدى مشاعل الحضارة الإنسانية في الأندلس، والتي أرادت العنصرية الدينية، مسحها من التاريخ. هذا هو المغرب الكبير سيدة متولي. أما “فاس” التي تسمّين بها المغرب، فكانت شاهدة عصر على احتضان جموع الآلاف الوافدين من الأندلس ومن المشرق العربي. دعيني سيدتي أسرد لك ما وصف به ابن الخطيب مدينة فاس: “اجتمع بها ما أولده سام وحام، فعظم بها الالتئام والازدحام، فأحجارها طاحنة، ومخابزها شاحنة، وألسنتها باللغات المختلفة لاحنة، ومكاتبها مائجة، وأوقافها جارية، والهم إلى الحسنات وأضدادها متبارية”. هذا التعدد أفرز اندماجا لا نظير له بين مختلف المكونات الثقافية واللغوية، على مستوى اللباس والطبخ وفنون العمارة والتصوف والآداب والفن والموسيقى والأمثال، مما دعاهم لتسمية هذا النسيج المتعدد الثقافات بـ”أهل فاس”، وهكذا عرفتموها -أهل الأناضول- ولا زلتم إلى اليوم تسمّون أهل المغرب بـ”أهل فاس”. “فاس” يا سيدتي، هي مدينة العلم ومجد تراث الأجداد. فاس، أول جامعة في العالم بأسره، وهي جامعة القرويين التي بنَتْها فاطمة بنت محمد الفهري المكناة أم البنين، عام 245هـ / 859م التي أصبحت بحج الوافدين من علماء العالم، القلب النابض للمغرب.. القرويين سيدتي منها أخذ البابا سلفستر الثاني (Gerbert d’Aurillac) منتصف القرن العاشر الميلادي علم الحساب، فكان أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا. أسَمعتِ شيئا عن هذه الأطوار التاريخية وأنت تجوبين أسوار مدينتها العتيقة؟!

طبعا لا، تجيب السيدة متولي وهي يقول:

– كيف لنا أن نسمع هذا الخير؟ فالمرشد السياحي الذي رافقنا كان مفتونا بأخذ الصور للأطفال، وأوضح لنا بعض الإشارات البسيطة فقط!

سراج الروح ببلاد الأناضول، تحاصره أضواء تشع أنوارها ما بين فاس وإسطنبول. وما هي إلا ثوان حتى عدت إلى زوايا نور آفاق سكن العاشقين، ورفع هامات المحبين فاس عاصمة المغرب العلمية والعرفانية والروحية والفنية والحضارية. ففاس جزء من هذا المغرب الكبير، الممتد من شماله نحو أغوار مجاهل إفريقيا، ليتلوّن بأحلى وأبهج حلة الرباط وسلا والبيضاء، ويتعطر بعبق رائحة ورد قلعة مكونة وأكادير والراشدية، ويخضب بحناء زعفران ورزازات ومراكش، ويتوج بتيجان زمرد عرفان تطوان وطنجة عروس الشمال، ويتلحف بإزار خمار وجدة والناضور والحسيمة، ويحلى بفضة أكادير والصويرة وتارودانت، ويزين بذهب تزنيت وتافراوت والعيون في الصحراء المغربية.. هذا يا سيدتي الكريمة، جزء من كلّ تتربع عليه عروسة شمال إفريقيا المغرب، والتي تسمّونها في تركيا “فاس”…

تبتسم مريم إحدى صديقات صاحبة البيت، التي جاءت خصيصا للترحاب بنا، وهي تردد:

– أنا مشتاقة لزيارة هذه العروسة الفاتنة الممزوجة بسحر روح أهل المغرب الطيبة.

كان النقاش يجرني وصاحبة البيت للحديث عن ثقافة بلدنا وعن عاداتنا في الأكل والطبخ.. عن علمائنا وزوايانا ومناظرنا الخلابة في المغرب.. بينما كانت ترص أصناف وأطباق المطبخ العثماني الشهية.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.