أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض
12 يونيو/حزيران (2014م)
لا شك أننا بحاجة ماسة إلى الجدية في محاسبة النفس معترفين بأن العالم الإسلامي يعاني اليوم حالة من العجز وقلة الحيلة.
وفي الحقيقة إننا نشاهد مشكلات سياسية اجتماعية في شتى بقاع الأرض وهذه المشكلات تتحول أحيانًا إلى صراع دموي، لكن لا يمكن عقدُ مقارنةٍ بين المشاكلِ الاجتماعية والسياسية الواقعةِ في أيِّ بُقعة في العالَم مع تلك التي يعيشها العالمُ الإسلاميُّ الذي يمرُّ بأكملِهِ تقريبًا بأزمة كبيرة، كما أنَّ بعضَ المناطِق المحيطة بتركيا تحوَّلت إلى بحيرات من الدماء، وليس هناك بلد إسلامي تقريبًا إلا وفيه أزمات تزعزع استقراره وأمنه، ولقد تبين لنا ببداهة أن الاستقرار والأمن الذي حققته الأنظمةُ البعثيّةُ في العراق وسورية في الماضي ما هو إلا استقرار سطحي سرعان ما يتدهور، والفِئاتُ المجتمعيَّةُ التي تبدو كأنها تعيش جنبًا إلى جنب، ينفصِل بعضها عن بعض ويتفكَّكُ أيَّما تفكُّكٍ ما إنْ تقع أيُّ هزّةٍ في النظام القمعيِّ، حتى تبدأ بعدها حالةٌ من الاستقطاب والصراع، ولقد سقطتْ أنظمةٌ قمعيّةٌ كانتْ أكثرُ صلابةً من تركيا، فترى مثلًا الاتحاد السوفيتي الذي ظلَّ صامدًا خلف “الستار الحديدي” سبعين عامًا، وفي النهاية تفكك وانتهى عهده، و قد وقعتْ مشاكلُ كبيرةٌ، لكنَّ الصِّراعاتِ التي شهدتها ساحات النزاع في العالم لم تكن وخيمةً وثقيلةً ومُدمّرةً وقاسيةً، كتلك التي وقعت في العالم الإسلاميِّ.
يبدو أن هناك مشكلات يجب علينا التركيز على حلها، وهذه المشكلات ضَربتْ بجذورِها في أعْماق تاريخنا القديم، وإذا قارنّا مثلا وضعية غير المسلمين عبر التاريخ في البلاد الإسلامية بوضعيتهم في البلدان الأخرى، سنجد أنهم عاشوا في ظروف جيدة نسبيًّا في بلاد المسلمين، حتى إنهم استطاعوا حماية كياناتهم إلى حدّ ما، بينما نلاحظ في تاريخ أوروبا القديم أنها لم تمنحْ لأيِّ فصيل ديني آخر حرية العيش المشترك معها، وعلى سبيل المثال لم تتحمّلْ لمئاتِ السنين المذهب البروتستانتي الذي خرج من رَحِمِ تفسيرٍ مختلفٍ للنصرانية الغربيّة، صحيح أن أهل الذمة تمتعوا في العصور الماضية من التاريخ العثماني بحرية وأمن تحت الحكم الإسلامي وهذا أمر يستحق التقدير والمدح ولكن من ناحية أخرى نلاحظ في تاريخنا الإسلامي القديم أنه لم يخل في أي فترة منها تقريبًا من الصراعات الدموية والتي راح ضحيتها العديد من المسلمين قتلى بأيدي إخوانهم المسلمين، نعم، علينا الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، ومِنَ الواضحِ أنّنا نتوارثُ أمورًا سيّئة من التاريخ، فالظلم يطغى على معاملات المسلمين بين بعضهم البعض كما كان الوضع في الماضي، ولا يعترفون بالشرع الحنيف في وجود كياناتهم، واختلافاتهم المذهبية والمجتمعية، فكل من استطاع الوصول إلى السلطة يسعى لاستغلالها لصالحه وتوسيع نفوذه، فنحن نرى أن المسلمين يقتل بعضهم بعضًا في عدد من البلدان الإسلامية كما هي الحال في سورية والعراق، وعلى سبيل المثال نرى عناصر منتسبين لتنظيم القاعدة يقتلون سائقين علويين اقتادوهم للتحقيق معهم، بحجة أنّهم لا يعرفون عدد ركعات الصلاة، كما تجد مقاتلات النظام السوري النصيري تقصف مدنًا ومجمعات سكنية وتسويها بالأرض.
وأمّا إيران التي قامت بثورةٍ عظيمةٍ سعيًا نحْوَ بناء جمهورية إسلامية فقد لعبت دورًا في تحويل الأراضي السورية التي كانت تنعم بالاستقرار النسبي إلى بحيرةٍ من الدماء بحجة أنّ حساباتِها الاستراتيجية تتطلّبُ ذلك، وتركيا التي سعت إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية تُسْهمُ هي الأخرى في تحولِ سورية إلى مجزرةٍ يُقتل فيها الناسُ بدم بارد وذلك من أجلِ تحقيق أحْلامِها الراميةِ للعودةِ إلى السيْطرة على المنطقةِ كما كانت في الماضي لأربعةِ قُرونٍ متواصلة في العهد العثماني.
وكذلك الإسلاميون الذين وصلوا إلى سدة الحكم بوعدهم القاطع لأنصارهم بمناصرة الفلسطينيين وتوعدهم إسرائيل بتلقينهم درسًا قاسيًا نراهم الآن يتسببون في تحويل سورية التي هي الدولة الوحيدة التي تقف بجوارهم في القضية الفلسطينية إلى دمار وخراب، وحسب رؤيتي الشخصية فإن القضية الفلسطينية قد انتهت وأفل نجمها بعد الأحداث الأخيرة في المنطقة، وقد قال “نجم الدين أربكان” الذي يعتبر من كبار الزعماء الإسلاميين في تركيا في عام (2007م):
“إنّ إسرائيل ستنتقم لهزيمتها في حرب لبنان عام (2006م) من خلال عملية كبيرة تكسر خلالها شوكة سورية في المنطقة وتنزل ضربة قاسية بحزب الله وسوف تستخدم في هذه العملية تركيا، وحينئذ ينزلون ضربة قاصمة للقضية الفلسطينية”.
وحدث هذا بالفعل، وإسرائيل تعيش حالة من السعادة العارمة بسبب الأحداث الجارية في المنطقة في حين أن قطاع غزة قد أصبح لا حيلة له، أصابته المهانة والذلة وصار لا يقدر على الدفاع عن نفسه، فليذهب إذن قادةُ غزة عديمي البصيرة! وليكونوا مجرد رقعةٍ في ثوب حركة فتح!
وفي تركيا فقد تحولت السلطة الحاكمة في الآونة الأخيرة التي تم الوصول إليها بعد 150 عامًا من الكفاح إلى كابوسٍ بسبب انعدام البصيرة والجهل وقلة الوعي والجشع والتعصب وشغف امتلاك كلِّ شيء، ومن المؤكد أن جميع أطراف الشعب شركاء في الحال الذي وصلت إليها بلادنا في الفترة الأخيرة من ظلم وقهر، ولقد حكيت لقرائي الكرام في إحدى مقالاتي السابقة قصة الثيران الثلاثة مع الأسد، وذكرت أنه سيحين الدور على الآخرين بعد القضاء على حركة “الخدمة”، وقد تبين للجميع أن هناك استهدافًا للحركات الإسلامية كافة في تركيا، ومن أجل تجاوز هذه المشكلات وحلها جذريًّا لا بد أن نجلس ونتشاور ونتحاور بشكل جاد ولكن وا أسفاه ونحن بدلًا من أن نتشاور ونتحاور ونحاول حل مشكلاتنا؛ ندخل في صراعات ونزاعات ونلجأ إلى الاستقطاب رغم أننا نعيش حالة من العجز…

ظاهرة اجتماعية لها حاضنة شعبية
5 فبراير/شباط (2015م)
إن تركيا تشهد اليوم على الصعيد المحلي توترًا بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة”، وهذه الأزمة القائمة بين الطرفين اكتسبت بمرور الزمان أبعادًا مختلفة، كما أن التطورات الجارية على الصعيد الإقليمي في سورية والعراق المجاورتين لتركيا يُلزِمنا الوقوف عليها بأبعادها المختلفة.
إنني أرى أن منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا تنجرف في الآونة الأخيرة نحو فوضى حقيقية، ولذلك أناشد جميع الأطراف المتنازعة سواء في تركيا أو في سورية والعراق أن تفضل طريق التفاوض عند حل المشكلات الناشبة بينهم، إذ أُلاحِظ منذ مدة أن بلادنا تشهد حالة من الغضب والعداء غير مسبوقة.
إن هناك طرفًا في تركيا قد يتعرض لظلم وانتهاك حقوقه من قبل سلطة حاكمة، وهذا صحيح ولكني أريد أن ألفت الأنظار هنا إلى التطورات الجارية على الحدود التركية الجنوبية لتتخذ الأطراف المتنازعة عبرة وعظة: لو كانت الاشتباكات قد توقفت على سبيل المثال في سورية عندما مات ألف شخص، لما كنَّا نتحدث اليوم عن مقتل ما يقرب من 250 ألف شخص، ولو كانت الاشتباكات قد توقفت بعد سنة من اندلاعها، لكانت حياة 150 ألف شخص قد أُنقذت، ولو توقفت الاشتباكات اليوم ستنقَذ حياة من سيموتون غدًا وهكذا.
إن العقل يثبت لنا أن اتخاذ خيار الصراع في حل المشكلات لا يؤتي ثمارًا مرجوّة على الإطلاق، فالعامل الأساسي في تفاقم الأزمة وعدم وصول أحد الأطراف إلى غايته في سورية هو تغاضي الأطراف التي بدأت في صراع شرس فيما بينها عن هذه النقطة الهامة وهي؛ أن الأطراف المتنازعة في سورية ليست مجرد تنظيمات تتبنى أيدولوجية سياسية معينة فحسب بل كل من تلك الأطراف ظاهرة اجتماعية ذات حاضنة شعبية لا يمكن فكها عن المجتمع، هذا والعامل الذي يطيل عمر الحروب الأهلية هو الحاضنة الشعبية لأطراف النزاع، وهذا ما لاحظناه في الحروب الأهلية التي نشبت في لبنان والعراق وأخيرًا في سورية، فلو كان بشار الأسد لا يستند إلى قاعدة شعبية، لكان من السهل إسقاط نظامه، فالحقيقة أن بشار الأسد يحصل حتى الآن على 45% من دعم الشعب السوري، ونستنتج من ذلك أنه لا يمكن القضاء على ظاهرة اجتماعية لها حاضنة شعبية في المجتمع، وبالتالي هناك طريقان أمام أطراف النزاع؛ إما أن يختاروا طريق التفاوض والصلح وإما أن يواصلوا القتال حتى يستنفد الجميع قواهم.
وإذا كان من المستحيل القضاء أو السيطرة بشكل تام على ظاهرة اجتماعية لها حاضنة شعبية فالحل إذن يكمن في اتخاذ خيار الصلح ومحاولة التوصل إلى تسوية النقاط المتنازع عليها بعقلية سليمة، فقد شهدت تركيا في العام الجاري محاولة السلطة الحاكمة مصادرة “بنك آسيا” المقرب من حركة “الخدمة” فتعرض البنك المذكور لمداهمات من قبل الأمن، فظنت الحكومة أو قادة حزب العدالة والتنمية آنذاك أن جميع المودعين في “بنك آسيا” سيهرعون في صبيحة اليوم التالي لسحب مدخراتهم من البنك، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا، فعملاء البنك سارعوا إلى توفير الأموال لإيداعها في حساباتهم أو فتح حسابات جديدة، ونفس الوضع تمامًا حدث عندما حاولت السلطة الحاكمة في تركيا مصادرة جريدة “زمان” التركية حيث بلغ معدل توزيع الجريدة أكثر من مليون نسخة عقب مداهمة الشرطة المقر الرئيسي للجريدة واعتقال رئيس تحريرها آنذاك السيد “أكرم دومنلي (EkremDumanlı)”، تعرضت الجريدة أثناء ذلك لضغوط وممارسات شديدة، وكانت قبل هذه المحاولة توزع أقل من مليون نسخة يوميًّا، كما أن أحزاب “الرؤية الوطنية” ذات الطابع الإسلامي والأحزاب الكردية قد حلت في الماضي بسبب موقفها المعارض للسلطات الحاكمة في وقت سابق وأصحاب هذه الأحزاب والرؤى أسسوا أحزابًا جديدة بأسماء مختلفة ليواصلوا مسيرتهم، فإن جريدة “زمان” التركية أو المؤسسات الأخرى المقربة من حركة “الخدمة” إذا تعرضت اليوم للإغلاق والمصادرة فإنه من البديهي ستقوم هذه الجريدة أو غيرها من المؤسسات بتغيير أسمائها وستواصل أعمالها الخدمية دون انقطاع طويل، وكذلك الحال في قنوات “سمانيولو (STV)” الإعلامية التي اعتقل مديرها دون دليل واحد لإدانته حتى الآن إذا تعرضت في الأيام القادمة للمصادرة والإغلاق فسيقوم أصحابها بفتح قنوات أخرى بأسماء مختلفة لتواصل مسيرتها ونشر أفكارها.
إن الأحداث التي شهدتها تركيا على مدار الثلاثة أعوام الماضية قد أظهرت للجميع أن حركة “الخدمة” ليست مجرد جماعة وهمية أو تنظيم منفك عن المجتمع التركي بل هي ظاهرة اجتماعية ذات حاضنة شعبية قوية ولذا لا يمكن للحزب الحاكم في تركيا القضاء بشكل تام على هذه الظاهرة، فأنصار الحركة الذين احتشدوا في ميدان “جغليان (Çağlayan)” بمدينة إسطنبول تنديدًا بالاعتقالات في صفوف الإعلاميين المقربين من الحركة في 14 ديسمبر (2014م) قد أعلنوا للجميع أن الحركة صامدة للدفاع عن حقوقها في إطار القانون، إنني شخصيًّا لم أتوقع في البداية أن تظهر الحركة صمودها إلى هذه الدرجة أمام الإجراءات الاستفزازية التي يمارسها الحزب الحاكم ضدها في الآونة الأخيرة، صحيح أن الحركة قد وقعت في حالة من الارتباك والقلق بعض الشيء في البداية، لكن سرعان ما استجمعت قواها ووحدت صفوفها وزادت مقاومتها بمرور الوقت، هذا وقد اكتسبت جريدة “زمان” التركية المقربة من الحركة أكثر من مائة ألف قارئ من شرائح مختلفة في المجتمع التركي، كما تقارب في ظل هذه الظروف مفهوم الديموقراطية والدين لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة مما جعل الأكاديمين الأتراك يستوعبون إمكانية الجمع بين الدين والديموقراطية.
وفي النهاية أود أن أقول إن الأهم من ذلك كله أن الشعب التركي الآن بحاجة ماسة إلى السلام المجتمعي والاتحاد حتى لا يخسر ما اكتسبه وبناه خلال العقدين الأخيرين من الزمان.

موالاة الحكومة أو معارضتها
7 أغسطس/آب (2015م)
إن أي سلطة حاكمة على وجه الأرض قد تنتهك الحقوق بوجه أو بآخر، غير أن الشخصية الوحيدة التي يمكن لها الدفاع عن نزاهة نظامها وسلطتها من الانتهاكات غير القانونية هي النبي ، والدليل على ذلك ما نراه في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ  وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ : “وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ” .
هناك ثلاثة محاور أساسية في الحوار الذي جرى بين النبي  وذُو الْخُوَيْصِرَةِ وهي:
الأول: أن العدل هو أساس الملك أو الحُكم.
الثاني: أنه يمكن للرعية أن تطالب حكامها بإقامة العدل.
الثالث: هي أن الحكام غير العادلين سيكون مصيرهم الخسران في الدنيا والآخرة،
فالخطبة التي ألقاها النبي  على منبره في المدينة قبيل وفاته تؤكد لنا أنه لا يُعفى أحد من أداء ما عليه من حقوق حتى ولو كان رئيس دولة، والجميع له حق في البحث عن حقوقه والحصول عليها في إطار القانون فلقد صعدَ النبي  المنبرَ وقال “أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهُ إِلَّا هُوَ، وَقَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ، مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي، فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ ضَرَبْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَذْتُ لَهُ مَالًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي أَتَخَوَّفُ الشَّحْنَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ أَلَا وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي، وَلَا مِنْ خُلُقِي، وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي، وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ” .
من الطبيعي جدًّا أن تختلف الهويات السياسية بين رجال السياسة أو المسؤولين، ومن الممكن أيضًا أن تكون الأعمال والإجراءات التي يقوم بها هؤلاء متنافية مع المبادئ الدينية التي يزعمون أنهم يستندون إليها، هذا ولا يجوز للحاكم الظالم أن يلتمس الشرعية لأعماله غير القانونية من الدين، لأن الدين لا يأمره بالظلم كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ… ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/135)، فقد يرتكب المسلم الظلم بغية تحقيق المكاسب التي تروق لنفسه كالمكاسب الشخصية والعائلية والفئوية والطبقية والفكرية والعرقية وذلك باسم الإسلام، غير أن الإسلام ليس مسؤولًا عما يفعله المسلمون إلا إذا كانت لأعمالهم مستندًا صحيحًا من النصوص الإسلامية.
أعتقد أن هناك عاملين مهمين لقيام الحكام الذين يدَّعون الانتماء إلى الإسلام بتصرفات وأعمال وإجراءات تخالف غاياتهم السامية، أولهما أنه ليست لديهم معلومة كافية لأهدافهم السامية، وليست لديهم خبرة كافية لتطبيق بعض المبادئ الأساسية التي يعرفونها لحياتهم السياسية، وأما ثانيهما: ليس لديهم إيمان بأنهم يستطيعون تنفيذ مبادئهم على أرض الواقع، فهؤلاء عندما يصلون إلى سدة الحكم بدأوا يعتقدون أن المبادئ التي كانوا يدافعون عنها لعدة سنوات ما هي إلا مجرد فكرة خيالية لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع وبالتالي نجدهم سرعان ما ينجرفون وراء أهوائهم وطموحاتهم الشخصية.
ولا أحد يود التخلي عن السلطة بعد أن وصل إليها، علمًا بأن تمسك أحد بالسلطة الظالمة يؤدي إلى تضاعف المظالم في هذا البلد… وإن كان من يقترف الظلم يحاول تبرير ظلمه بنصوص دينية كلما ضاق من الانتقادات، حينها يقوم الجهَّال من الناس الذين يتعرضون للظلم بإلقاء اللائمة على الدين الإسلامي الذي يدعي الظالمون انتماءهم إليه، وهذا أشبه بهجر المسجد بسبب الغضب من الإمام.
وللأسف هذه هي حال الساسة الذين يُعتقد أنهم من ضمن المنتسبين إلى التوجهات الإسلامية في تركيا، وهنا أرى أنه من الواجب على رجال الدين والعلماء الأفاضل في تركيا أن يبينوا أمام الرأي العام المظالم التي تشهدها البلاد باسم الإسلام، ويعلنوا للشعب أن هذه الإسلام بريء من هذه الإجراءات غير القانونية، فهذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون ظهور التوجهات والأفكار المناهضة للإسلام في بلادنا.
إنني لا أنتقد من يقف الآن في تركيا بجانب الحزب الحاكم، بل أناشد جميع المتدينين والمحافظين الذين يعلنون ولاءهم لهذا الحزب أن يذكروا لنا الأدلة من كتب التفسير أو الفقه أو الحديث التي تؤيد الإجراءات غير القانونية والأعمال المنافية لحقوق الإنسان التي تنفذها الحكومة ضد من تصفهم بالمعارضة سواء كانت حركة “الخدمة” أو غيرها من الأطراف المعارضة.
في الحقيقة لم يقم المؤيدون ولا المعارضون وسط هذه المشاحنات بإجراء نقاش حول الحكومة مبني على أسس إسلامية، بل أهملوا المثل الأصيلة فيما استجد من الوقائع السياسية، وليس التيار الإسلامي في تركيا وحده هو الذي تضرر في الآونة الأخيرة في بلادنا بل الإسلام نفسه أيضًا يتضرر الآن في تركيا جراء الأحداث الأخيرة.

الأسباب الحقيقية للنزاع بين الحركات الدينية في تركيا
8 نوفمبر/تشرين الثاني (2014م)
تطرقت في إحدى مقالاتي التي نشرت في جريدة “زمان” التركية بتاريخ 8 مايو/ أيار (2014م) إلى الحديث حول سبعة أطر تعصف بالشرق الأوسط وهي:
النزاع بين منتسبي الأديان.
النزاع بين منتسبي المذاهب.
النزاع بين المجموعات العرقية.
النزاع بين طبقات المجتمع.
النزاع بين الحكومات أو الحكام.
النزاع بين الأجناس.
النزاع بين الحركات أو المجتمع المدني والفرق الثقافية.
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق النزاعات القائمة بين أنماط الحياة ليصل بذلك عدد هذه الإطر إلى ثمانية.
وهناك عوامل عدة تلعب دورًا مهمًّا لتصعيد هذه النزاعات، والطمع في السلطة وامتلاك كل شيء يعد من أهم هذه العوامل التي تؤدي إلى نشوب النزاعات في المجتمع، وعندما ننظر إلى الصعيد التركي نجد أن التوتر والنزاع اللذين نعيشهما في الساحة التركية ينبعثان مع الأسف الشديد من هذين العاملين، والشكل الأكثر اتساعًا لهذا النزاع نجده متمثلًا في مشاهد النزاعات المذهبية والعرقية الدامية في الشرق الأوسط.
وتلجأ أنظمة الحكم إلى الديكتاتورية عندما يسيطر عليها شعور الطمع في التمسك بالسلطة؛ وذلك من أجل حمايتها وضمان دوامها، ومن ثم يزداد تمسكها بالديكتاتورية أكثر، شأنها في ذلك شأن العطشان الذي يشرب من البحر ولا يرتوي بمائه، فتصير في نهاية المطاف أنظمة ديكتاتورية مع أنها بدأت مسيرتها السياسية بإعلان تمسكها باحترام القانون وإقامة العدل وعدم قمع الحريات.
وإذا نظرنا إلى هذه المسألة بمزيد من الإنصاف والموضوعية نجد أن الحكام أو الإداريين ليسوا هم المسؤولين وحدهم عن تحول نظام الحكم القائم على احترام حرية الرأي والمساواة والعدل إلى نظام ديكتاتوري قمعي، فمثل هذه الأنظمة أو الإداريين غالبًا ما يمهدون لنهايتهم المؤسفة بعد اتخاذهم قرارات خاطئة تحت عوامل أو ضغوط جهات مختلفة.
وحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يدير البلاد منذ أكثر من اثني عشر عامًا نراه اليوم يسير بخطوات سريعة إلى هذا الاتجاه، وفي حقيقة الأمر إن هذا الحزب لم يصل إلى سدة الحكم بين عشية وضحاها بل حصل على تأييد فئات متدينة من الشعب كافحت قرنًا من الزمان وعانت في سبيل ذلك معاناة ومشقات كبيرة، فالله  قد منح الحزب الحاكم فرصة إحياء تركيا من جديد لتكون أملًا للشعب التركي بل ولشعوب المنطقة بأكملها، ولكن يا أسفاه لم يستغل هذا الحزب هذه الفرصة بعقلانية وفراسة، بل انغرس في مفهوم القومية التركية بدلًا من أن يستغل هذه الفرصة عن طريق استخدام القوة العقلية المرنة النابعة من الحكمة والمعرفة الإسلامية العميقة، وعدم نجاح أصحاب السلطة في استخدام هذه القوة في تحقيق العدالة الاجتماعية أدى في النهاية إلى نشوب نزاع وعداوة بين المتدينين، فكل طائفة منهم تدعي أنها على الحق وتسعى لتدعيم وتقوية موقفها، وهناك بعض الحركات والتكتلات الإسلامية قد وقعت في أخطاء كبيرة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ تركيا، ونلاحظ أن هذه الحركات باستثناء البعض منها لم تطور علاقاتها بحزب العدالة والتنمية على أساس السلام والتفاهم والتصالح، بل على أساس التمييز والسيطرة والقمع، بل إن هذه الحركات تحث الحزب الحاكم ليتخذ مزيدًا من الإجراءات القمعية ضد حركة “الخدمة” في حين أن هذه الحركات تقوم بكل أسف بالأعمال التي تتهم بها حركة “الخدمة”.
وقد أصاب الكاتب الصحفي “نوزات تشيتشك (NevzatÇiçek)” حين لفت الأنظار إلى هذا الموضوع في مقاله المنشور في صحيفة “تايم تورك (TimeTürk)” حيث قال: “أغلب الحركات في تركيا سلكت طريقًا خاطئًا في عهد حكومة “العدالة والتنمية” حيث إنها بدلًا من أن تستغل مجال الحرية المتوافرة في تركيا على أكمل وجه، ووضع أساليب تربوية مثالية، والتوجه إلى حل مشاكل الشباب، وإيجاد أنظمة تربوية جديدة، ورفع المستوى الثقافي والفكري لدى المجتمع، فقد استسلموا للنظام ظنا منهم أنهم قد سيطروا عليه، وباختصار فإن الدولة التي كانوا يعارضونها فيما سبق ويسعون للسيطرة عليها قد هيمنت هي عليهم بقوتها وإمكانياتها وبما قدمت إليهم من منافع، بل اعتمدت الدولة عليهم في استدامة نظامها، وأرى أن السبب الأساسي لنشوب أزمات في الساحة التركية أن الحابل قد اختلط بالنابل أي لم تلتزم القوى السياسية أو القوى المدنية بمهمتها المنوطة بها، كما نلاحظ في الآونة الأخيرة أن الحكومات التي تمثل الجناح السياسي والحركات التي تمثل الجناح المدني لا يثقان ببعضهما”.
وكان “كنعان أيفرين (KenanEvren)” الذي تولى منصب رئيس الجمهورية في تركيا عقب انقلاب عسكري قاده في 12 سبتمبر عام (1980م)، والذي تعرض لانتقادات حادة بسبب موقفه السياسي الذي اتبعه في تلك السنوات قد رد على منتقديه وهو يعتريه الغضب: “إنني أعلم أنه ليس لديكم معلومة حول الجهات المدنية التي ألحت علينا مطالبة بقيامنا بانقلاب عسكري في عام (1980م)”، فبعض الحركات والتكتلات الدينية في تركيا تتبع في هذه الفترة سياسة هدامة ومدمرة مستغلة الأجواء التي تهب في صالحهم دون أن تدرك أن هذا الموقف يضر “حزب العدالة والتنمية” بالدرجة الأولى، وأرى أن المتدينين في تركيا لم يكونوا في تجربتهم الأولى النموذج الذي يحتذى به سواء في العلاقة بين الدولة والحركات أو الحركات فيما بينها.

من على الحق؟
19 يونيو/حزيران (2014م)
لا شك أن العالَم الإسلامي والشرق الأوسط وتركيا يمرون في الوقت الراهن بفترة عصيبة، ونحن بحاجة ماسة وبخاصة في هذه الأيام الصعبة إلى التفاهم والحوار والالتفاف حول أهداف مشتركة حتى نستطيع تجاوز هذه الأزمات التي نواجهها في بلادنا.
إن الصراع على السلطة يكون شرسًا، ويتسبب في جرح المشاعر وانكسار الخواطر، ويضر كذلك بوحدة المجتمعات، وقد شهد التاريخ الإسلامي على مر العصور مثل هذه الصراعات من أجل الوصول إلى سدة الحكم والتي نتج عنها سفك الدماء والقتل والدمار، حتى إن بعض الصحابة الكرام قد دخلوا في صراعات من أجل هذه الغاية، وفي الوقت الذي نعتبر نحن هذه الصراعات التي نشبت بين بعض الصحابة الكرام نتيجة لاجتهاداتهم المختلفة؛ فإننا لا يمكن لنا الحكم عليهم بالخطأ أو الصواب، فمثل هذه الصراعات الكبيرة لا يمكن لأحد الفصل فيها إلا الله .
يُحكَى أن مجموعة من الخوارج خرجوا على رجل وقطعوا طريقه، وسألوه: “مَن يا تُرَى على الحقّ، هل هو عليُّ بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان ؟”، والرجل لم يعرف إلى أي فريق ينتمي هؤلاء، ورغم أن قلبه يميل إلى سيدنا عليّ ، تَوَقَّف قليلًا ثمّ أجاب قائلًا: “لا شك أن عليًّا على حقّ، ولكن لم يكُن معاوية مُخطئًا”.
إن هناك حقيقة مرة وهي أن العالَم الإسلاميّ اليوم مُمَزَّق ماديًّا ومعنويًّا، ينتشر في أرجائه الظلم والقهر والفساد والبطالة والتحطم الأخلاقي والفقر فضلًا عن الصراعات المذهبية والعرقية، كما نرى في كثير من البلدان الإسلامية أن المسلمين يقتل بعضهم بعضًا، من الطبيعي أن تكون هناك فئةٌ على حقٍّ، ولكن ينبغي أن يُنظَر أيضًا إلى الفئة الأخرى، فهل هي مُخطئة تمامًا؟
وهناك حقيقة أخرى هي أن من طبيعة الإنسان أنه يختلف وينازع الآخر، ولكن المعضلة هي عدم حل تلك الخلافات والنزاعات التي تنشب بيننا بالتفاوُض والحوار، وعندما تحدث مشكلة بيننا سرعان ما نتكتَّل ويصارع بعضنا بعضًا، وأضحينا لا نتحمّل الآخر، ولا نتقبَّل انتقاداته، وعَمِيَت أبصارنا عن رؤية أخطائنا وهفواتنا، وبتنا نستخدم ألسنتنا كسهامٍ مَسْمُومةٍ.
لا شك أن أي حزب حاكم في أي بلد من العالم قد يخطئ في الإجراءات أو القرارات التي يتخذها لأنها في النهاية ما هي إلا من صنع البشر، فالأنبياء وحدهم المعصومون من الخطأ، وحتى زلاتهم الصغيرة كانت تُصَحَّح بالوحي، لهذا فأكبر معروف يمكن إسداؤه للحزب الحاكم هو انتقاده، كما أن أكبر ضرر نقدمه له هو إظهاره على أنه لا تشوبه شائبة، والحاكم الفَطِن هو ذلك الذي يحترم من ينطق بكلمة الحقّ في وجهه علنًا.
إن الذين يرون الحزب الحاكم على أنه منزه عن الخطإ ولا تشوبه شائبة، يعتبرون دومًا الانتقادات الموجَّهة إليه على أنها هجوم مُدمِّر دون أن يتطرقوا إلى جوهر الموضوع، فضلًا عن ذلك يتهمون المنتقد بأن انتقاداته نابعة عن حقده وكراهيته تجاه الحزب ويتهمونه كذلك بأنه ينتمي إلى حزب أو فئة معادية للحزب الحاكم، ويقولون له “من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة”، أضف إلى ذلك أنهم لا يقدمون إجابات صريحة عن الانتقادات الموجَّهة إليه، ويجب على الحزب الحاكم ألا يهتم بنية ومقصد الناقد، بل الواجب عليه الإجابة عن أسئلة منتقديه برحابة صدر، وتعليلها ومحاولة إقناعهم بها، وأنا أرى بأن هؤلاء الكتّاب المداهنين يُلحِقون ضررًا جسيمًا برموز الحزب الحاكم، وبالسَّاسَة المنتمين إليه بل بالحزب نفسه.
إن الذين يتابعون مقالاتي التي تنشر في جريدة “زمان” يعلمون جيدًا أنني أنتقدُ حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه، كما أني أدعمه وأدافع عنه إذا اقتضى الأمر ذلك، وانتقادي للحزب ليس نابعًا من المشكلات التي تشهدها البلاد منذ 6-7 أشهر الماضية، أحمد الله أنني أتمتع باستقلالية العقل والفكر فلم ولن أبيعهما لأحد، ولم أهن كرامتي الفكرية من أجل الحصول على منصب في البرلمان أو في الوزارة مستقبلًا، إنني أرى أن الدولة مضت قُدُمًا في الفترة الأخيرة نحو الإجراءات التعسفية التي انتهجتها سابقًا في الانقلابات السابقة في تركيا، فأنا كرجل عاصَرَ الانقلابات التركية كافَّةً، أرى وجهَ شبهٍ كبير بين الإجراءات التي تنتهجها الدولة في الوقت الحالي والإجراءات التي انتهجت في أيام الانقلابات، وأكرر منذ فترة مؤكدًا أن هذه العمليات التي تشهدها البلاد والتي تهدف إلى القضاء على حركة “الخدمة” ستتوسع في المستقبل القريب وستشمل الحركات الإسلامية الأخرى بما فيها الحزب الحاكم، والأحداث الأخيرة التي تشهدها البلاد تؤكد ما أقوله حيث تبين في هذه الأيام أنه كُشِفَ عن “الجناح اليساري القومي” فقط من تنظيم “أرجنكون” الذي يعتبر الدولة العميقة في تركيا، وأما الجناح الذي يصف نفسه بـ”المتدين” فلم يكتشف بعد، فهذا الأخير يتلاعب بالحزب الحاكم ويحكم قبضته عليه.
وعندما ننظر إلى السياسة الخارجية للحزب الحاكم نجد أن هناك فشلًا كبيرًا في السياسة التي اتبعها الحزب في الشرق الأوسط حيث فقدت تركيا وضعها ومكانتها في المنطقة، سواء بين الأنظمة الحاكمة أو بين المثقَّفِين وحتى بين الشعوب العربية نفسها، وفي الفترة الأخيرة تبين أن انتقاداتي كافَّةً بشأن هذه السياسات الخاطئة في الشرق الأوسط كانت على صواب، وفي الواقع أنني لا أشعر بالسعادة لظهور صحة انتقاداتي في هذا الشأن، وما يؤسفني أكثر أنهم لا يزالون يتمادَون في الأخطاء ذاتها، ففي الوقت الذي نقول فيه لهم: “ستقعون في حادثة مُمِيتَة بهذه السيَّارة التي ركبتموها مع سائق لا يحمل رخصة قيادة، انظروا، فقد تسببتم في قتل إخوانكم السوريين الذين وثقوا فيكم، فرمَّلْتم نساءهم ويتَّمْتُم أطفالهم”، نجدهم يردون قائلين: “تريد منّا ألا نركب سيارتنا أصلًا خوفًا من احتمال وقوع حادثة؟، فلتهتم بشأنك لقد رأيناك تسكب الحساء على نفسك بينما تحتسيه”! يقصدون بذلك إبعاد من ينتقدهم عن جوهر الموضوع إلى موضوع آخر بعيد عن المقصود.. إذا ما أمعنا النظر في هذا المثال فإننا لا نجده يمتُّ إلى جوهر الموضوع بصلة، وليس إجابةً صريحة مقنعة على نقدنا.
وفي النهاية أرى في هذه الأيام أناسًا كنت أحترمهم وأقدرهم في الماضي قد انغمسوا الآن في نشوة السلطة واسودت ضمائرهم إذ أصبحتُ لا أسلم من إساءاتهم لي وكتاباتهم العدائية، فأمثال هؤلاء ليس لَدَيَّ وقتٌ أضيِّعه معهم، أدعو الله  أن يُصلِح حالهم.

التهديدات الثلاث
23 يناير/كانون الثاني (2014م)
إن الدولة التركية اتبعت في فترات معينة من تاريخها سياسة “ترميم النفس” من خلال عمليات عميقة؛ والانقلابات العسكرية التي وقعت في 27 مايو عام (1960م)، و12 مارس عام (1971م)، 12 سبتمبر عام (1980م)، ومذكرة ما بعد الحداثة في 28 فبراير عام (1997م)؛ ما هي إلا نماذج من هذه العمليات التي قامت الدولة من خلالها بترميم نفسها وكيانها، ويعتقد بعض الناس في تركيا أن مذكرة 28 فبراير التي عانى منها المتدينون بشكل عام تعد نهاية هذه العمليات ولكن هذا الاعتقاد غير صحيح إذ إن الدولة لا تزال تواصل عملياتها ضد من تسميهم أعداءها.
إن من أهم الأمور التي تخشاها الدولة هو ابتعادها عن الحركات التي يشكلها المجتمع، والدولة ترى نفسها في خطر دائم، وفي عام (1970م) حاربت الدولة التركية عناصر التهديد الشيوعية والفوضوية التي تسربت إلى هيكل الدولة حيث قامت الدولة بانقلاب عسكري دموي في 12 سبتمبر وقضت على جميع هذه العناصر، وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر اعتبرت الدولة المتدينين وأنصار الزعيم الإسلامي “نجم الدين أربكان” خطرًا عليها وتحركت هذه المرة بانقلاب سمي في التاريخ التركي “انقلاب ما بعد الحداثة” أو “مذكرة 28 فبراير” وعزلتهم عن الساحة.
ومع تفكُّك الاتحاد السوفييتي لم يعُد الشيوعيون يُمثِّلون مصدر تهديدٍ للدولة، وأما الأكراد القوميون “الانفصاليون” بدؤوا ينعمون الآن بالراحة والإطمئنان النسبي بعد أن أصبحوا جزءًا من عملية التسوية التي تجري حاليًّا بين الأكراد والحكومة الحالية منذ عام (2009م)، وعندما نعود إلى الحديث عن مذكرة 28 فبراير (1997م) فإن أهم خطر بالنسبة للدولة في ذلك الوقت هو ما يسمى بـ”الرجعية” التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية -حسب وجهة نظرهم-، ولكن هذا التهديد سرعان ما قُوبِل بالرفض من قبل الشعب حينها افتقرت الدولة إلى إمكانية استرداد نفسها من براثن جماعاتٍ أخرى، وفضَّلَت الإذعان للفصائل الدينية المتدينة التي ترغب بشدة في السلطة بعد انفصالها عن الحركات الإسلامية التقليدية، حيث توافقت تطلعات القادة المتدينين الجدد في مطلع القرن الحادي والعشرين والتي تتمثل في الوصول إلى مقاعد السلطة مع المخطَّطات التي رسمتها القوى العالمية للسيطرة على المنطقة، لتنطلق بذلك مرحلةٌ جديدةٌ على أساس الاتفاق -الصريح أو الضمني- الذي توصَّل إليه كلا الطرفين.
ونتيجة لذلك في عام (2002م) وقعت الدولة بين مطرقة ضغوط الإصلاح التي طالبت بها الجهات الخارجية، وسِنْدان القوى الاجتماعية الداخلية المطالبة بالتغيير، فلم تجد ملاذًا تلجأ إليه، وسلَّمَت نفسها لحزب العدالة والتنمية الذي أعلن تخلِّيه عن أيديولوجية ما يطلق عليه الإسلام السياسي بعد أن برز على الساحة بوصفه ائتلافًا يضمُّ جميع الفصائل الدينية، ولكن بعد مرور فترة من الزمان تحركت كل من القوى العالمية والدولة العميقة المعادية للإسلاميين وذلك بعد أن أدركوا أن المتدينين بدؤوا يخرقون الحدود التي رسمت لهم أضف إلى ذلك أن مؤسسات الدولة أخذت تحمل طابعًا دينيًّا، وأصبح التهديد الجديد يتمثل في حزب العدالة والتنمية الذي ظنته الدولة مصدر النجاة بالنسبة لها في عام (2002م).
ووجهة نظري الشخصية فإن القوى الداخلية والخارجية تقسم التهديدات التي يجب التخلص منها إلى ثلاث فئات رئيسية: الأولى تمثل في حركة “الخدمة” والثانية: حزب العدالة والتنمية، والثالثة: التجمُّعات والفصائل والمنظَّمات الدينية الأخرى، وفي السياق نفسه فإنني أرى أن البيان الذي أصدرته مؤسسة الاستخبارات التركية والذي ينص على تتبع ومراقبة الموظفين والعاملين بالدولة المنتمين لِما يسمى بالدولة الموازية ذو مغزى كبير، وأنا متأكد من أن نطاق هذه التسمية لا ينحصر على الأفراد المحبين أو المقربين لحركة “الخدمة” بل يشمل كذلك الحركات الإسلامية الأخرى.
والدولة التي اتبعت سياسة القضاء على المتدينين تحت مسمى “محاربة الرجعيين والمتشددين” في أحداث 28 فبراير نراها الآن تُغير التسمية وتسمِّي التهديد الحديث بـ”الدولة الموازية” وكما أن الدولة التي استهدفت أموال المتدينين خلال أحداث 28 فبراير تحت مسمى “القضاء على رأس المال الأخضر” ونراها حاليًّا تحاول الاستيلاء على البنك المقرب من الحركة وإقصاء رجال الأعمال المحبين لـ”الخدمة” عن مجال التجارة والاقتصاد.
وفي النهاية أود أن أقول إن الدولة ترمِّم من نفسها وذلك باستغلال الضحية السابقة أداةً قبل أن تعود للتخلُّص منها في وقتٍ لاحق بعد تحقُّق الغرض من استخدامها، فقد كان اليساريون هم ضحايا انقلاب 12 سبتمبر، ثم ما لبثت الدولة أن استغلتهم أداةً في الانقلاب ما بعد الحداثة في 28 فبراير (1997م)، وكان حزب العمال -وهو الفاعل الرئيسي في هذا الانقلاب- قد احتشد في يناير (1997م) بمدينة إسطنبول رافعًا لافتاتٍ تنادي بتنفيذ مبادئ ثورة أتاتورك التي تحد من ممارسات الحركات الدينية، ولا شك أن ضحايا أحداث 28 فبراير هم الإسلاميون والمتدينون، وبعد هذه الأحداث رأينا أن بعضًا من هؤلاء أعلنوا تخليهم عن فكرة الإسلام السياسي ووصفوا أنفسهم بـ”المتدينين”، وعندما وصل هؤلاء إلى سدة الحكم قضوا على قادة مذكرة 28 فبراير وأحالوهم إلى المحاكم للتحقيق معهم وفي نهاية هذه المحاكمات دخل عدد منهم إلى السجون، ولكن الدولة العميقة سرعان ما استجمعت قواها وأُطلق سراح جميع المعتقلين الذين تم التحقيق معهم ضمن قضايا الانقلاب على الحكومة، كما قام هؤلاء المنتسبون للدولة العميقة بإشعال الفتنة والعداء بين من يعتقد أنهم قد أضفوا طابعًا دينيًّا على شؤون الدولة، وكذلك نرى أن هؤلاء المنتسبين للدولة العميقة يوصون كبار السياسيين في الحزب الحاكم بالتعاون مع من حاولوا الانقلاب عليهم في الماضي وذلك للقضاء على ما سموها “الدولة الموازية”، يبدو أن هناك مخططًا دقيقًا يقوده بعض الأطراف الخفية في بلادنا، وإذا نجح هذا المخطط سيتمُّ التخلُّص من حركة “الخدمة” أولًا، ثم من حزب العدالة والتنمية، وأخيرًا من جميع الفصائل الدينية في تركيا.
وفي النهاية أود أن أؤكد على أمر في غاية الأهمية وهو؛ أن السبيل الوحيد من أجل إصلاح هذه الدولة هو تطبيق الدستور والقوانين ولا أقصد بذلك القوانين العرفية أو التقليدية بل أقصد القوانين التي تراعي حقوق جميع أفراد المجتمع دون تمييز بينهم، ومع الأسف الشديد فإن من وصفوا أنفسهم بـ”المتدينين” ووصلوا إلى سدة الحكم في بلادنا لم ينجحوا في حمل هذه المهمة، بل إنهم ظنوا أنفسهم بمثابة الدولة الخالدة التي لا تُقهَر… ولكن هيهات!

الحقد والعدل لا يجتمعان
20 أكتوبر/تشرين الأول (2014م)
إن غاية المسلم في هذه الحياة هي تطبيق مبادئ الإسلام وتحري الحق والعدالة في كل تصرفاته وسلوكياته، فالعدل أساس النظام على وجه الأرض كما هو أساس النظام في الكون، فكلمة العدل في اللغة تأتي بمعنى “وضع الشيء في موضعه المناسب والإتيان بالفعل في محله”، وعلى هذا ينبغي على المؤمنين احترام الحقوق دومًا فيما بينهم في العلاقات الاجتماعية، في الأسرة، والجوار، والقرابة، والتجارة والاقتصاد، والإدارة والسياسة في تنظيم الحياة، في العلاقات بين المجتمعات والدول وغيرها من العلاقات الإنسانية، كما يجب على المؤمنين تجنُّب التصرفات والمواقف المخلة بحقوق الآخرين، وعليهم أن يفعلوا ذلك ابتغاء وجه الله، فالعدل هو بمثابة ضمان للسلام والطمأنينة والكمال الأخلاقي، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/8)
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور الحقد والكراهية والعداوة بين الناس هو تحول الخلافات التي تنشب بين الأفراد لمسألة ما إلى التفرقة والاستقطاب وصولًا إلى الصراعات والنزاعات، هذا هو الواقع ولكن الواجب فعله هو إزالة هذه الخلافات والنزاعات والصراعات وفقًا للقوانين والأحكام التي وضعت من أجل ذلك، فإذا ما طبقت هذه الأحكام والقوانين بشكل صحيح تكون العدالة قد تحققت حينئذ في المجتمع.
وفي ظل هذا الجو من العدالة الاجتماعية التي تطبَّق فيها القوانين لإحقاق الحق وإبطال الباطل لن يتعرض أحد للظلم والاضطهاد كما أنه لن يعترض أحد عندما تصدر في حقه عقوبة بسبب تورطه في جريمة، وأما إذا حدث في مجتمع ما انتهاك للقوانين وتطبيق للإجراءات التعسفية التي تتنافى مع القوانين والأحكام الشرعية ضد المعارضين أو فئة معينة من الشعب، عندئذ تزداد في هذا المجتمع الصراعات والنزاعات بين أفراده وتجرح مشاعر الناس، فعلى سبيل المثال إذا قَتَلَ أحدٌ قريبًا لكم، فليس من العدل أن تقتلوا قريبًا له لأنه برىء ليس له أي شراكة في هذه الجريمة، أوليس قتل شخص أو تحميله مسؤولية الجريمة التي ارتكبها الآخرون منافيًا لقوله تعالة ﴿…وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/164)، ولا يمكن أن يُعاقب أحدٌ بسبب جرم غيره، فإن ثبت ارتكاب شخص أو عدة أشخاص من أتباع مجموعة ما جريمة، يجب أن يحاكم هؤلاء المجرمون من قبل محاكم عادلة، وعلى ذلك أليس معاقبة المجموعة كلها، ووضع جميع أفرادها تحت المراقبة، وحرمان محبيها من وظائف الدولة وطرهم من أعمالهم، وعزلهم عن الحياة الاجتماعية، والتخطيط لمصادرة أموالهم وممتلكاتهم -وأقصد بالمجموعة هنا بعض الحركات الإسلامية في تركيا وعلى رأسها حركة “الخدمة” التي تتعرض لإجراءات تعسفية من قبل الحزب الحاكم في تركيا- ظلمًا كبيرًا وخرقًا لمبدإ العدالة الاجتماعية ناتجًا عن الحقد والكراهية؟
وانطلاقًا من الآية التي ذكرناها آنفًا فإن تحميل مجموعة من الناس المسؤولية بسبب تورط فرد منهم في جريمة يعد انتهاكًا لمبدأ العدالة الاجتماعية التي تراعي حقوق الآخرين، كما أنه لا يجوز تنفيذ إجراءات تعسفية ضد هذه المجموعة بغرض الثأر والانتقام ولو كانت هذه العمليات في إطار القانون.
ويقول الإمام القرطبي  عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، “وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَأَنَّ الْمُثْلَةَ بِهِمْ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَإِنْ قَتَلُوا نِسَاءَنَا وَأَطْفَالَنَا وَغَمُّونَا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُمْ بِمُثْلَةٍ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ إِلَيْهِمْ” .
لا شك أن مسألة تحقيق العدالة لا تنحصر على إصدار الأحكام العادلة في القضايا المتعلقة بالنزاعات بين الناس، ولا يمكننا أن نتغاضى هنا عن أهمية إصدار القاضي حكمًا عادلًا بين المتخاصمين في مسألة ما، ولكن لا بد ألا ننسى أن قول الحق والشهادة الصادقة وعدم التطفيف في المكاييل والموازين أيضًا تعتبر من العدالة، ويرى الأستاذ “إسماعيل حقي الإزميري (İsmailHakkı)” أن هذه الأمور التي ذكرناها آنفًا تندرج تحت “العدالة الظاهرية”، وأن هناك “عدالة باطنية” حيث قال: “إن محاسبة النفس لدى الإنسان وتطهير القلب من المساوئ وجعله صافيًا نقيًا هو من تجليات “العدالة الباطنية”، ومن جملة ما يدخل في هذا الباب أيضًا مراعاة الأحكام الشرعية والرضا بما قدر الله والتحلي بالأخلاق الفاضلة”.
وباختصار لا بد من مراعاة تقوى الله عند تحقيق العدالة، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده، هل المسلمون الآن يتعاملون فيما بينهم على أساس العدل؟ مع الأسف الشديد فإننا نجيب على هذا السؤال بكلمة واحدة وهي “لا”، فالصراعات المذهبية والعرقية، والحقد والعداء المتبادل بين الفرق والمجموعات في العالم الإسلامي قد أدت إلى تغاضي المسلمين عن مسألة تحقيق العدالة.
ولا شك أن المسلمين اليوم يعلمون جيدًا أن دينهم يأمرهم بتحقيق العدل في جميع معاملاتهم فيما بينهم ومع أنهم يقرون أنهم يؤمنون بالله تعالى وبما جاء به النبي  إلا أن إيمانهم هذا لا يصلح حياتهم، فهم لا يؤمنون بـ”العدالة الباطنية” حتى يكون لديهم اهتمام وسعي لتحقيق “العدالة الظاهرية” أو الموضوعية.
والعالم الغربي يعتقد أن الدين الإسلامي هو السبب في ذلك الحال المزري الذي وصل إليه المسلمون اليوم، والحقيقة أننا نقوم بأعمال تتنافى مع هذا الدين الحنيف الذي سيأتي يوم القيامة ويرفع شكواه إلى الله تعالى قائلًا: إن قومي اتخذوا هذا الدين مهجورًا.

حركة “الخدمة” تواجه الأزمة
7 يوليو/تموز (2014م)
تكاد أجندة تركيا لا تخلو يومًا واحدًا من الحديث عن حركة “الخدمة”، حيث تتعرض الحركة في الآونة الأخيرة لاتهامات من قبيل تدبير مؤامرة ضد الحكومة لمصلحة جهات أجنبية، وتشكيل تنظيم موازٍ داخل هيكل الدولة، وجمع معلوماتٍ ووثائق، وتسجيل مقاطع مصوّرة بشكل يخالف القانون والأخلاق، واستخدامها كوسيلة للابتزاز.
ولا ريب في أن هذه الاتهامات الخطيرة لا يمكن التغاضي عنها، ولكن الأمر العجيب في هذه المسألة أن من كالوا هذه الاتهامات الخطيرة لم يستطيعوا أن يقدموا أي أدلة أو وثائق واقعية مقنعة يبرهنون بها على صحة هذه التهم حتى هذه اللحظة، كما أن المسؤولين الكبار من حركة “الخدمة” وعلى رأسهم الأستاذ فتح الله كولن يرفضون هذه الاتهامات جملةً وتفصيلًا وبشكل قاطع.
وترى حركة “الخدمة” أن الحزب الحاكم ينفذ مخططًا من أجل القضاء عليها منذ عام (2004م) وذلك بعد اتخاذ مجلس الأمن القومي التركي مجموعة من القرارات تصف حركة “الخدمة” بأنها “كيان يهدد الأمن القومي”، ومن جهتها تحاول الحركة الدفاع عن نفسها من خلال وسائل الإعلام التابعة لها.
والحزب الحاكم إذا تخلى عن تلفيق الأدلة وتزوير الوثائق التي يتهم من خلالها الحركة بأنها تهديد قومي يجب القضاء عليه، فإن الورقة الوحيدة التي يمكنه استخدامها لمحاربة الحركة هي اعتبارها حركة معارضة تستخدم وسائل الإعلام المقربة منها في استنكار الإجراءات التعسفية التي يتخذها الحزب الحاكم في الآونة الأخيرة.
وأما أنا فقد بذلتُ كل ما بوسعي حتى لا يتضخم الخلاف الذي ذكرته آنفًا ويتسبب في حدوث فرقة بين أبناء الشعب الواحد في تركيا، وأعتقد أن هذه المسألة لم تكبر وتتفاقم لهذه الدرجة لو تحمل الكتّاب وأصحاب الرأي -الذين أؤمن ببصيرتهم- المسؤولية على عاتقهم وتدخلوا من أجل حل هذه المشكلة وإخماد “نار الفتنة”، وطبّقوا “مسألة التحكيم” الذي يأمر به الإسلام عند الخلاف، وما آمله الآن هو أن نتخطى نحن مسلمي تركيا هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
ويقينًا بقوله تعالى: ﴿…وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/216)، فإن ما ظاهره القهر يمكن أن ينطوي على كثير من الخير، لذلك ينبغي للجميع أن يستخلص العبر من هذه الأزمة الدراماتيكية.. وأنا أؤمن بأن أتباع الحزب الحاكم سيستخلصون الدروس اللازمة من هذه الأحداث عاجلًا أو آجلًا، كما أن أتباع حركة “الخدمة” سيحللون هذه الأحداث بكل جوانبها.
إن بعض قرائي الكرام يوجهون إليّ في هذه الأيام أسئلة منها: “لماذا لا تنتقد حركة “الخدمة” بقدر ما تنتقد الحزب الحاكم؟ وهل “الخدمة” في رأيك بريئة من أي اتهام ينسب إليها؟.. وأرد على هذه الأسئلة في النقاط التالية:
أولًا: لا يسلم أي نشاط بشري من الخطأ، فالإنسان بطبيعته خطَّاء! ولم يُعصم أحد من الخطأ سوى الأنبياء والرسل .
ثانيًا: وانطلاقًا من هذا المبدأ فإن حركة “الخدمة” أيضًا معرضة لارتكاب الأخطاء، وإن حلَّلت الحركة الأخطاء التي وقعت فيها اليوم تحليلًا دقيقًا وحاولت تلافيها واستخلصت منها العبر والدروس اللازمة؛ فستواصل طريقها بنجاح في المستقبل بعون الله تعالى.
ثالثًا: هناك بُعدان لحركة “الخدمة” يمكن أن نتناقش حولهما، وهذان البعدان يتلخصان في نقطتين أساسيتين الأولى: أسلوبها في خدمة الإسلام، والثانية: موقفها الاجتماعي ورؤيتها السياسية، فنحن في هذا الصدد نناقش المسألة من زاوية سياسية وليست من زاوية دينية، ولا نريد أن نقول إن أسلوب الحركة في خدمة الإسلام ليس قابلًا للنقاش، بل نريد أن نؤكد أن هذه المناقشة ليست مَهمَّةَ الذين لا يملكون القدر الكافي من المعرفة لمناقشة مثل هذه الأمور من السياسيين وكُتّاب الأعمدة.
وعندما ننتقل للحديث عن موقف “الخدمة” الاجتماعي والسياسي، أقول إنني قد عبرت عن أفكاري وبعض انتقاداتي حول حركة “الخدمة” في كتابي “الدين، المدينة والجماعة: نموذج فتح الله كولن” الذي نشر في عام (2007م) باللغة التركية، ومع أنني لا أزال متمسكًا بتلك الأفكار والانتقادات حول “الخدمة”، إلا أنني لا أوجه إليها انتقادات اليوم لسببين اثنين:
الأول: أنني أؤمن بأن هناك محاولة دولية مدعومة من القوى الداخلية في تركيا تهدف إلى إخراج الوجود الإسلامي بالكامل من المؤسسات الحكومية وعزله تمامًا عن الحياة السياسية وتهميش وضعه في المجتمع بطرق غير شرعية، وهناك مجموعة صغيرة داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم تتولى زمام الأمور في الحزب، وهذه المجموعة أشعلت فتيل هذه المحاولة بإعلان حرب شرسة على حركة “الخدمة” في وقت لم تكن الحركة تتوقع أنها ستتعرض لمثل هذه المحاولة على هذا النطاق الواسع، كما أن الحركات الدينية الأخرى بالإضافة إلى حزب العدالة والتنمية يدخلون ضمن المستهدفين بهذه المحاولة، وباختصار فإن القوى الدولية تخلّت في الآونة الأخيرة عن “مفهوم الإسلام المعتدل” وتدير حاليًّا مؤامرات ضد المتدينين بأيدي أناس يدّعون أنهم متدينون وأتباع الإسلام السياسي.
الثاني: أن انتقاد الأخطاء التي وقعت فيها حركة “الخدمة”، وهي على وشك أن تُذبح، هو بمثابة مساعدة للجزارين الذين يقدمون الأضاحي للقوى العالمية، شأنه في ذلك شأن الأزمة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية عندما رُفعت دعوى ضده تهدف إلى إغلاقه عام (2007) فلم يكن صوابًا توجيه الانتقادات إليه في هذه الفترة الحرجة، وكذلك الحال مع حركة “الخدمة” فليس صوابًا توجيه انتقادات إليها في وقت تتعرض فيه لعمليات تهدف إلى القضاء عليها، لكننا في هذه الفترة الحرجة يمكننا توجيه النقد الخفي لها، وستوجه لها الانتقادات العلنية عندما تتخطى هذه الأزمة بسلام.
وهناك أمر آخر وهو أن الدعم الذي أقدِّمه لحركة “الخدمة” هو من منطلق الواجب الأخلاقي.. وإذا كان حزب العدالة والتنمية أو حركة الفكر الوطني أو جماعات النور أو السليمانيين أو الحركات الدينية الأخرى في تركيا في الموقف نفسه، لما ترددت في تقديم الدعم ذاته، وبالفعل وقفت بجانب هذه الحركات في جميع الظروف الحالكة التي مرت بها في الفترات الماضية، ومن ثم لا أريد أن يتعرض كلا الطرفين محبي حركة “الخدمة” أو أنصار حزب العدالة التنمية على السواء إلى أي ضرر بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد في الآونة الأخيرة.

هل هناك فرصة للصلح؟
31 يناير/كانون الثاني (2015م)
لا شك أن تفاقم الأزمة بين حركة “الخدمة” والحزب الحاكم في الآونة الأخيرة في تركيا يلحق الأضرار الجسيمة بكيان المجتمع التركي، وأعتقد أن الجماهير العريضة من الشعب التركي ترغب في إنهاء هذه الأزمة في أقرب وقت ممكن.
ونحن نعلم أن هناك الكثير من الدول التي تبدو في الظاهر أنها تنعم بالاستقرار والأمن قد نشبت فيها الحروب الأهلية مما أسفر عن مقتل مئات الآلاف من الناس ونزوح الكثيرين عن أوطانهم، وإذا عمت الفوضى والمصائب والأزمات في بلد ما، فهذا يعني أن رجال السلطة الحاكمة ورواد الفكر والعلماء في هذا البلد قد أضاعوا بصيرتهم وفراستهم.
ومن الواضح أن هذه المشكلة التي نشبت بين الطرفين تشغل الرأي العام في تركيا، ربما أن هذه المشكلة ليست بسيطة كما تبدو من الظاهر، ولا ينكر أحد أن كلا الطرفين لديهما أخطاء، فيجب على كلا الطرفين أن يراجعا حساباتهما في ظل مناخ تسوده العدالة وضبط النفس.
وفي تعليقه على الأوضاع الراهنة في تركيا قال الكاتب الصحفي الموالي للحزب الحاكم “أحمد طَاش جَتِيرَان (AhmetTaşgetiren)” -وهو يعتبر من أبرز الشخصيات في هذه المرحلة- لدى مشاركته في برنامج تليفزيوني؛ “ليست هناك مشكلة في مشروعية حركة “الخدمة”، إذن أين تكمن المشكلة في الحركة؟ أنا أرى أنها لا تكمن في الخدمات التي تقدمها للناس، فلا أحد يعترض على قيام الحركة بافتتاح المدارس والمعاهد لتسهم في رفع مستوى التعليم في البلاد، ومحافظتها على إقامة الصلوات ومساعدتها الفقراء والمحتاجين عن طريق جمعية “هل من مغيث (Kimseyokmu)؟” … فما هو سبب المشكلة إذن؟ إن المشكلة تتمثل في تدخل حركة “الخدمة” في شؤون الدولة بما يتوافق مع مصالحها الشخصية، وقيامها بمعاقبة رجال السياسة الذين لا ينفذون السياسات التي وضعتها لهم من خلال عناصرها المُندسَّة في أجهزة الدولة، فمن الطبيعي أن تتبنّى أي حركة فكرًا سياسيًّا خاصًّا بها، وقد يكون لها كُتاب صحفيون ينتقدون الحكومة، وقد يكون لها أتباع داخل أجهزة الدولة، فالجدير بالحكومات ألا تطارد أي إنسان بسبب انتمائه إلى حركة أو جماعة أو مذهب ما، ولكن يجب على هؤلاء المنتسبين لهذه الحركات أن يباشروا عملهم في أجهزة الدولة من خلال تنفيذهم الأوامر الصادرة عن مديريهم ورؤسائهم في العمل فقط دون أن يؤثر انتماؤهم لحركة أو جماعة في الانصياع لأوامر رؤسائهم في العمل”.
أولًا إنني أؤيد السيد “”أحمد طَاش جَتِيرَان” في آرائه التي ذكرها في الجزء الأخير من حديثه، ولكن السؤال هنا لماذا لا تستطيع تركيا تخطي هذه المشكلة إلى الآن؟ وإذا كان هناك موظفون حكوميون ينتمون إلى حركة “الخدمة” تورطوا بالفعل في مؤامرة ضد الحزب الحاكم من خلال عملية التنصت على رجال الدولة بطرق غير شرعية فأنا هنا أؤكد أن هذه العملية جريمة كبيرة لا بد من معاقبة متورطيها، ولكن هذه المعاقبة لا بد أن تنفذ في حق هؤلاء عقب محاكمة عادلة، ولا شك أن المدعي العام إذا أثبت بالأدلة والبراهين القاطعة أمام هيئة المحكمة تورط هؤلاء في مؤامرة ضد رجال الدولة لن يستطيع أحد سواء أتباع حركة “الخدمة” أو غيرهم أن يقفوا وراء مرتكبي هذه الجريمة، غير أنه لم يتمّ إبراز الأدلة التي تثبت صحة هذه الإتهامات حتى الآن، على الرغم من تأسيس الحكومة التركية في الآونة الأخيرة محكمة خاضعة لهيمنتها تحت مسمى “محكمة الصلح” للنظر في قضايا المؤامرات التي تحاك ضد الحكومة على حد زعمهم، فضلًا عن إصدارها قوانين تيسر عمل هذه المحكمة، إلا أنها لم تتمكن من إدانة المتهمين في هذه القضية، وعلى الصعيد ذاته يدعي هؤلاء المتهمون من رجال الأمن بأن المداهمات التي قاموا بها ضمن فضيحة الفساد والرشوة التي اشتهرت إعلاميًّا بفضحية الفساد والرشوة 17-25 ديسمبر، كانت بإذن من المدعين العموميين وتحت سمع وبصر مديريهم وبعض رجال الأجهزة السيادية في الدولة.
وأما الأمر الثاني الذي لا بد أن أؤكد عليه في هذا الصدد إذا افترضنا أن هؤلاء بالفعل تورطوا في هذه الجرائم كما يدعي السيد “رجب طيب أدوغان” والمسؤولون بالحزب الحاكم، أليس من الظلم أن تتعرض حركة “الخدمة” بكامل مؤسساتها ورجالها الذين يسعون لخدمة الوطن من خلال فتح المدارس التعليمة والمعاهد التحضيرية بالإضافة إلى الأعمال الخيرية على مستوى الجمهورية، وأوجه كذلك سؤالًا إلى هؤلاء فما ذنب المدارس والمعاهد والمؤسسات المالية والجمعيات الإغاثية والمجموعات الإعلامية التابعة لهذه الحركة، وبالله عليكم ما ذنب معلم غادر أهله ووطنه متجهًا إلى كينيا وغايته الوحيدة هي تعليم أبناء هذا البلد على مستوى عال، وما ذنب رجال الأعمال هؤلاء الذين يكسبون الأموال من أجل المساهمة في افتتاح مدرسة في المغرب العربي؟ أليس هذا الأمر منافيًا لقول الله تعالى ﴿…وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…﴾.
إنني أرى أنه من الواجب على السياسيين أن يهتموا بتحقيق العدالة وعلى الحركات والمؤسسات المدنية أن تقوم على خدمة المجتمع المدني وأما المثقفون فعليهم أن ينشروا الحكمة بين أفراد مجتمعاتهم، وفي سبيل تحقيق ذلك علينا أن نتفق على النقاط التالية:
1- التزام الدولة بالعدالة والحيادية تجاه جميع فئات وطوائف الشعب.
2- إن كل من حاك مؤامرة على الحكومة، يجب أن يحاكم ويعاقب إن ثبت جرمه أمام محكمة عادلة، بغضّ النظر عن شخصه أو الجماعة أو المجموعة التي ينتسب إليها، وذلك انطلاقًا من حديث النبي  الذي رواه ابن عباس :
“مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللهِ ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ” .
3- إذا كان هناك شخص ينتمي إلى هذه الحركة قد ارتكب جريمة بالفعل لا يجوز تحميل الحركة بأكملها المسؤولية بهذه الجريمة ومعاقبتها من خلال القضاء على جميع مؤسساتها الخدمية انطلاقًا من قول الله تعالى ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
4- أن يُسمح للجميع بالتعبير عن أفكاره وآرائه بكل حرية في إطار الظرف والأدب والاحترام المتبادل، كما يحق لهم ان يوجهوا الانتقادات كما شاؤوا بلا إهانة أو تجريح أو تكفير.
5- أن تحلل الأحداث التي أدت إلى نشوب الأزمة بين الطرفين بالتأني والفراسة والمنطق بعيدًا عن التعصب للجماعة أو الحركة أو الحزبية، والابتعاد عن الشخصيات التي طالما تسعى لتحقيق المكاسب الشخصية من خلال الأجواء الساخنة والصراعات بين فئات المجتمع في تركيا.

“الجمل وصفين” وأزمتنا اليوم
18 مايو/أيار (2015م)
لا شك أن من أخطر المصائب التي قد تتعرض لها تركيا هي نشوب انقسامات بين الحركات التي كرست نفسها لخدمة أبناء المجتمع، وللأسف نلاحظ في الآونة الأخيرة هذا الانقسام حيث تزداد المشاحنات والخلافات بين أبناء هذه الحركات يومًا بعد يوم بشكل يهدد البنية الاجتماعية لهذا البلد.
ولا أقصد هنا بالحركات حركة “الخدمة” أو الحركات الإسلامية الأخرى فحسب بل أقصد بذلك جميع الطرق الصوفية والفرق الدينية والجمعيات وغيرها من المنظمات الأخرى التي تباشر أعمالها وفق مبادئ الإسلام الأساسية في تركيا.
من المعلوم أن ديننا الحنيف يأمرنا بالوحدة وينهانا عن التفرقة والتشتت ونلتمس ذلك في قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ…﴾ (سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 49/10) هذا ويجب اللجوء إلى القرآن والسنة عندما ينشب نزاع بين فئتين من المسلمين كما تتحمل الفئة الثالثة مهمة الحكَم بينهما.
إننا نعلم هذه الأمور جيدًا ولكن هل نطبق ذلك في حياتنا اليومية؟
وقد رأينا في الآونة الأخيرة في تركيا تشرذم العائلات وتباعد الأشقاء وتزايد معدلات الطلاق والاستقطاب الشديد بين فئات المجتمع وذلك بسبب الخلافات السياسية التي نشبت في البلاد، أضف إلى ذلك أن هناك أصدقاء قدامى باتوا يمتنعون عن تبادل السلام فيما بينهم، ولا شك أن انقسام المجتمع بهذا الشكل سيؤدي في نهاية المطاف حفظنا الله إلى ضعفه وانهياره في النهاية، فلنفترض أن هذه الصداقات كانت لا تستند إلى أرضية سليمة ولذلك تباعد هؤلاء عن بعضهم ولكن كيف يمكننا أن نفسر ونوضح تشرذم العائلات بسبب الخلافات السياسية؟
فلو نظرنا في حياة الجيل الأول من المسلمين لوجدنا أن الخلاف كان قد وقع بين بعض الصحابة أيضًا، ولكن هناك سؤال يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد كيف يمكن أن يحدث خلاف بين الذين تلقوا التربية من النبي محمد ؟
إن الخلافات التي نشبت بين بعض الصحابة لم تكن نابعةً عن العصبية القبلية، وفي معركة الجمل وحدها قُتل أكثر من 20 ألف شخص بينهم صحابة وتابعون، فترمل آلاف النساء وتيتم آلاف الأطفال، والسؤال هنا في سبيل ماذا مات هؤلاء؟
إن نظرتنا السُنّية لهذه الأحداث تمنعنا عن الخوض فيها بالنقد، ولكن ألا يجب علينا التفكير والتمعن في تلك الأحداث المؤسفة لاستخراج الدروس والعبر؟
وحين أفكر في معركتي “الجمل وصفين” فإني أفهم سياسة اليوم بشكل أفضل، فما دام بعض الصحابة سفكوا دماء بعضهم فلا عجب في أن نرى قيام بعض المسلمين الضعفاء بإبادة بعضهم في أيامنا هذه، كما أننا إذا نظرنا إلى الأحداث بمنظور العلوم الاجتماعية لوجدنا أن هناك عوامل مختلفة لعبت دورًا فيها، لكن هناك عامل آخر أبعد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية هو الذي يتسبب في نزاع المسلمين قديمًا وحديثًا وهذا ما سنتحدث عنه في السطور القادمة.
إن الصحابة  قد نظموا نمط حياتهم في ظل الوحي الإلهي الذي هو بمثابة الحامي لهم وذلك في الفترة ما بين (610-632م)، حيث كانت جميع الأمور في مكة والمدينة تسير وفق الوحي الإلهي وتحت إشراف النبي  الذي كان يتلقى الوحي من الله  من حين إلى آخر، وفي حال حدوث أي خلاف بينهم كان النبي  يتدخل لحله، لكن مع انتقاله إلى الرفيق الأعلى وانقطاع الوحي زالت الحماية الإلهية، ولم يعد هناك نبي ينظم الأمور، وعندئذ وجب على المسلمين أن يقيسوا الأمور وفقًا للمنهج الإلهي الذي جاء به النبي  ويفرقوا بين الحق والباطل والصواب والخطأ، فساداتنا عائشة والزبير وطلحة  لم يكن بينهم الرسول  كي يراجعوه ويسترشدوا برأيه بل وجدوا أنفسهم أمام امتحان صعب عليهم أن يتخذوا فيه قراراتهم في ضوء ما يعلمون ويفهمون من الكتاب والسنة، وكما كانت هناك أسباب سياسية واجتماعية متعددة توجه تصرفاتهم السياسية، فكذلك اليوم توجد أسباب خارجية عديدة تساهم في الفتن والانقسامات التي نعيشها في الوقت الراهن، لكن نفوسنا أيضًا توجهنا وتدفعنا إلى القيام ببعض التصرفات والسلوكيات الخاطئة، فالعالم الإسلامي اليوم يعيش معركتي الجمل وصفين من جديد، وأضحى المسلمون يقتل بعضهم بعضًا كل يوم، أما تركيا فتُعد محظوظة بعض الشيء فلا تسيل فيها الدماء كما في سورية والعراق وليبيا واليمن.
وأنا أقول يا أيها المسلمون! لنتعلم الدروس ونستخلص العبر من الامتحان الذي ابتلي به الصحابة، فلنحاسب أنفسنا، ولنكبح جماح أنفسنا، ونلتزم بحدود الله، فإن نجحنا نحن في تركيا في تحقيق ذلك وسلكنا طريق السلام والصلاح نصبح عندئذ نموذجًا للعالم الاسلامي.

“الشيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضده”
3 سبتمبر/أيلول (2015م)
إن المقولة التي ذكرناها عنوانًا لهذا الموضوع هي من المسلَّمات التي لا جدال فيها، وهي ظاهرة اجتماعية لا نقاش حولها ولا غبار عليها.
وأعتقد أن هذا الحكم أنسب تعبير لما نعيشه اليوم في تركيا من انتهاك الحقوق والقانون والمآسي وما إلى ذلك من إجراءات استفزازية.
وأحيانًا ما تتحول الأفعال الرامية لإقامة العدل إلى ظلم وبغي، وعلى سبيل المثال إذا قام من تعرضوا للظلم في المجتمع باسترداد حقوقهم من الظلمة بأنفسهم دون اللجوء إلى السلطة القضائية للدولة والتي هي مسؤولة عن تحقيق العدل بين أفراد المجتمع؛ سيؤدي ذلك بداهة إلى ظهور ممارسات ظالمة في المجتمع، فالقانون والعدالة يعنيان حصول صاحب الحق على حقه، وتقدير عقوبة المتهمين على قدر الجرم وتنفيذها على هذا الأساس، وعلى ذلك من قام باقتلاع عين شخص جزاء ضرب ذلك الشخص ابنه فقد ظلمه.
ولذا فقد منع الشرع الحكيم الأشخاص أو الفئات في المجتمع من تأسيس العدالة الإجتماعية بأنفسهم دون الرجوع إلى الجهاز القضائي أو الأجهزة المعنية في الدولة، هذا وإن الدولة مكلفة بأربع مهمات أساسية هي:
تمثيل جميع أفراد المجتمع دون تمييز أو تفرقة بينهم.
جمع الضرائب من أفراد المجتمع واستخدامها في المصالح العامة.
تفعيل النظام العدلي أو الجهاز القضائي لتحقيق الأمن القومي وحصول أصحاب الحقوق على حقوقهم بالكامل.
تحمل المسؤولية الكاملة في الدفاع عن تراب الوطن.
لا شك أن العنصر الوحيد الذي يمنح الشرعية للسلطة الحاكمة هو مراعاتها للدستور والقانون، وعلى هذا فإن سيادة القانون لا يجوز تفويضها إلى شخص أو حزب أو فئة بعينها، ولقد حقق الإسلام هذه السيادة من خلال أحكام الشرعية في حين حقق النظام الديموقراطي الحديث هذه السيادة اليوم من خلال الدستور والقوانين وقرارات الأغلبية ناهيك عن الحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية كحرية التعبير والفكر والرأي، هذا وإن انتهكت الدولةُ سيادةَ القانون؛ فإن المجتمع سيفرز أناسًا لا يتوانون عن ظلم الناس بدعوى أنهم يؤسسون العدالة الاجتماعية ويعملون على إحقاق الحق.
عندما ننظر إلى حال الدول عبر التاريخ الإسلامي سنجد أنها لم تتمكن من تأسيس نظام حُكْمٍ يضمن العدالة الاجتماعية على الصورة التي نراها في عهد سيدنا وقدوتنا رسول الله  والخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ، فالدولة التركية على سبيل المثال خضعت لتغيير جذري في نظام حكمها وإيدولوجيتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلادي إذ انتهجت سياسة الظلم والقهر في سبيل مواصلة السلطة، ولم يتوان جميع حكامها في هذه الفترة عن ظلم المجتمع للحفاظ على سلطتهم، وكما أن من يزرع القمح لا يمكن أن يحصد الموز؛ فإن من يستغلّ نظام “دولة القومية” لمصالحه وطموحاته الشخصية لا يُنتظر منه إقامة العدل في مجتمعه.
فقد انتهج حزب العدالة والتنمية سياسة قمعية مع معارضيه دون إعمال الفكر حول النتائج التي ستسفر عنها مثل هذه السياسة في المستقبل كما كان يفعل من قبل السياسيون المنتسبون إلى التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية، وتتضح هذه السياسة اليوم في اتخاذ الحزب الحاكم قراراتٍ أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي التركي ضد بعض المجموعات أو فئات المجتمع وتسجيلها في ما يسمى بـ”الكتاب الأحمر” ، وعلى ذلك نجد السلطة الحاكمة تنتهج إجراءات استفزازية ضد هذه المجموعات فتقوم بمصادرة أموالهم ولا تتوانى عن تعذيبهم في السجون لسنوات طويلة، ومصادرة حتى حرية الدفاع عن أنفسهم أمام المحاكم وغير ذلك الكثير من الانتهاكات الأخرى…
وفي هذه النقطة أريد أن أؤكد بكامل المسؤولية أنني سأتناول كِلا الاتهامين الذين يتعرض لهما سواء الحزب الحاكم أو حركة “الخدمة” سأتناولهما بشيء من الإنصاف مع الالتزام بالحيادية والعدل وهما:
اتهام بعض المسؤولين بالحزب الحاكم بالتورط في عملية الفساد والرشوة التي ظهرت في 17-25 ديسمبر /كانون الأول (2013م).
اتهام حركة “الخدمة” بالوقوف وراء عمليات التنصت ضد المسؤولين الحكوميين وتدبير مؤامرة ضد الحكومة.
إن مبدأ افتراض البراءة وحق الدفاع عن النفس يضمنهما الدستور والقانون لكل من يتعرض للاتّهام؛ إذن لم تكن هناك ضرورة تستدعي من المتهمين بالحزب الحاكم للهروب من المحاكمة بل كان عليهم الانتظار كما فعل المتهمون من محبي الخدمة حتى يقول القضاء كلمته في هذا الشأن.
إننا نجد اليوم المجتمع التركي يعيش حالة من الاستقطاب الواسع بين شتى فئاته وحتى تحول هذا الاستقطاب إلى حالة من التوتر والصراع، كما نجد العداوة والبغضاء بشكل غير مسبوق بين المتدينين الذين يصنفون أنفسهم في “دائرة الإسلام”، ولا شك أن هذه الأحوال الخطيرة التي تمر بها البلاد لا تبشر بالخير وإذا استمر الأمر على هذه الشاكلة سيؤدي ذلك إلى ما صارت إليه سورية والعراق اليوم من حروب أهلية ونزاعات طائفية.
وأرى أن بعض الأطراف التي تعادي جميع المتدينين ولا ترغب في تحول تركيا إلى دولة القانون والديموقراطية يعملون ليل نهار من أجل إيقاع العداء بين المتدينين، كما يعمل المُندسُّون في الحركات الإسلامية في تركيا على قدم وساق، ويختلقون الفتن لإشعال نارِ حرب أهلية في البلاد، وفي الوقت ذاته تسعى القوى العالمية لتحريض الفوضى والنزاعات في منطقة الشرق الأوسط لإضعاف بلاد المنطقة وتقسيمها إلى دويلات صغيرة.
وعلى الصعيد نفسه نجد المتدينين في تركيا بدلًا من الاتحاد فيما بينهم والعمل على حل مشكلاتهم من خلال الأحكام الشرعية والدستور والقانون، نراهم ينتهكون جميع الحقوق والقوانين من أجل القضاء على خصومهم بشكل كامل؛ متغاضين عن الأضرار الجسيمة التي سيخلفونها من تفكك البلاد وجرها إلى الصراعات الداخلية.
وانطلاقًا من مبدإ عدم جواز تعميم الاتهام لمجموعة بأكملها بسبب الذنوب التي ارتكبها بعض من أفراد هذه المجموعة؛ فإن ما نراه اليوم من استهداف حركة “الخدمة” ومحاولة مصادرة أموالها وتضييق الخناق على جميع الفعاليات والخدمات والمؤسسات لهذه الحركة سواء في داخل البلاد وخارجها بدعوى أن بعضًا من محبي هذه الحركة قاموا بارتكاب جنايات وانتهاكات يُعاقب عليها القانون؛ فإن ما يجب فعله في هذه الحالة هو إخضاع هؤلاء المتهمين لمحاكمة عادلة، وإذا ثبت تورطهم في الجرائم التي تنسب إليهم يعاقبون على قدر جرمهم، وأما إذا ثبتت براءتهم يخلى سبيلهم، وبناء على ذلك فإن مثل هذه المعاقبات الجماعية ستؤدي إلى زيادة الاحتقان، فهذا الاحتقان ينقلب بمرور الوقت إلى ضده وهو الظلم، والظلم يؤدي إلى انتشار العداوة والبغضاء وتعميمها في أرجاء البلاد.
وفي النهاية إنني أناشد جميع روّاد الفكر وأصحاب الرأي والساسة أصحاب الضمائر الحية؛ أناشدهم وأستحثهم على ضرورة إيقاف هذا الإنزلاق نحو الهاوية، وأدعوا الشعب للوحدة والتضامن، إننا على شفا جرف مؤامرة كبيرة، وينبغي لنا ألا ننس أمرين مهمين وهما؛ إن تورطت الدولة في حرب أهلية وتمزقت فلا مكان حينذاك لتيار أو حزب سياسي أو سلطة، والأمر الثاني أنه ليس باستطاعة أي أحد رئيسًا كان أو مرؤوسًا أن ينقذ في الآخرة أتباعه الذين يوافقونه في منهجه الخاطئ! وسيقول لهم ﴿…فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ…﴾
علينا أن نصب الماء على النار لإخمادها بدلًا من صبِّ الزيت عليها وتأجيجها…

مقدمة الكتاب