يهدف هذا البحث إلى “سرد” المسار التعليمي لأحد الشباب كما تبدَّى في ثلاثة أسئلةٍ رئيسية:

1- ما قصة المسار التعليمي لهذا الشاب الذي يُقيم ويدرس حاليًا بالولايات المتحدة؟ كيف تلقَّى تعليمًا “نظاميًّا” والتحق بمدارس الأستاذ كولن؟ وهل تُعتبر قصته نموذجًا لشباب آخرين يعيشون أوضاعًا مماثلة؟

2- كيف تجلَّت العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني -كواحدةٍ من أفكار حركة كولن- في تجربة هذا الشاب؟

3- كيف أثَّر التحاقه بحركة كولن على رؤاه التعليمية؟ وما الوقائع البارزة والفعاليات والأنشطة التربوية التي انعكست على تصوراته للعدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني؟

وقد نجمت هذه الأسئلة عن بحث يستنطق السردية كوسيلةٍ لفهم كيف يُمكن لتَتابُع أحداث الحياة أن تصوغ منهجًا تعليميًّا له القدرة على إحداث التغيير، وكمحاولةٍ لتعقُّب وإلقاء الضوء على نموذجٍ حياتيٍّ يرتبط بحركةٍ اجتماعيةٍ دينيةٍ وفلسفية.
[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]

أصبح التأثير الإيجابي لتجربة حركة فتح الله كولن التربوية باديًا لبعض وسائل الإعلام الكبيرة، تلك التجربة التي تفيد من خبرة الغرب العلمية ومعارفه في مجال العلوم الاجتماعية وتُبقي في الوقت نفسه على أنماط الحياة الدينية الإسلامية. (صحيفة نيويورك تايمز، 8 من يناير 2008 – مجلة الإيكونوميست، 6 من مارس 2008).

وفي الولايات المتحدة، لاقى المُتَبَنُّون لهذه الأطروحة نجاحًا متزايدًا داخل أوساط الأكاديميين الأمريكيين والزعماء الدينيين، مُشيرين إلى تجربة تربوية مشابهة جرت في تركيا، الموطن الأصلي للأطروحة. تلك الدولة التعددية الديمقراطية الحديثة التي طالما كانت ملتقى لمختلف الحضارات، فضلاً عما قدمته من نماذج التسامح الديني منذ أمد بعيد.

وقد حظي مجموعةٌ من الزوار الأمريكيين –بمن فيهم كاتب هذا البحث– بفرصة زيارة بعض مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي والتعليم العالي التي تعمل في إطار المنظومة التعليمية القومية التركية، والتي تدعم مقاربات عمل قائمة على إشراك المجتمع المحلي، والتي تُعزز ما تُسميه نودينجز (2002) رعاية الآخرين وزرع الثقة (ماركوفا وجيليسبي، 2007)، فضلاً عن تعزيزها احترامَ شتى الأعراق والثقافات واللغات وأنماط الحياة، وهو ما يندرج عادةً ضمن النقاشات التي تتناول التنوع بوصفه فرعًا من العدالة الاجتماعية (نودينجز، 2002 – هنري، 1999، 2003).

إن الآباء يبعثون الأبناء إلى مدارس كولن بسبب تفاني المُعلّمين، وجودة المناهج، والرؤية الشاملة التي يوطدون دعائمها فيما يتعلق بالإنسانية والتسامح التربوي والحوار.

ويتناول هذا البحث قضية التأهل للريادة المجتمعية، مع الإشارة إلى مسائل العدالة الاجتماعية التي تتبدَّى في نوعية التعليم الذي يتلقاه المشاركون في حركة كولن، ويستعمل بياناتٍ نوعيةً مُجمَّعةً، كاشفًا عن أنماط مهمةٍ في دراسة موضوع التعليم تقود إليها هذه البيانات.
وقد وُضعت دراسة الحالة –التي أبرزَها تحليلُنا للبحث– بحيث يجري استخدامها كوسيلةٍ تعليمية: 1-توفير المعلومات. 2-إثارة النقاش. 3-اقتراح مزيد من القراءات والتجارب المُعاشة لطلاب الدراسات العليا في فصول التعليم الدولي المقارن.

وبينما عكف أصلان دوغان على دراسة النماذج التربوية للأستاذ كولن، رابطًا بينها وبين باندورا وفيجوتسكي وبافيو، فإن هذه الدراسة (نييتو، 1996، 2002، 2007 –ميرسيث، 1995 –ميريام، 2004) تهدف إلى بسط المسار التعليمي لأحد الشباب كما تجلَّى في مواجهة قضايا العدالة الاجتماعية والتسامح الديني والمشاركة التبادلية في التعليم.

أسئلة البحث

مُتَّبعًا منهجيةً نوعية (نييتو، 1992-2002-2006، ميرسيث، 1995)، يهدف هذا البحث إلى “سرد” المسار التعليمي لأحد الشباب كما تبدَّى في ثلاثة أسئلةٍ رئيسية:

1- ما قصة المسار التعليمي لهذا الشاب الذي يُقيم ويدرس حاليًا بالولايات المتحدة؟ كيف تلقَّى تعليمًا “نظاميًّا” والتحق بمدارس الأستاذ كولن؟ وهل تُعتبر قصته نموذجًا لشباب آخرين يعيشون أوضاعًا مماثلة؟

2- كيف تجلَّت العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني كواحدةٍ من أفكار حركة كولن في تجربة هذا الشاب؟

3- كيف أثَّر التحاقه بحركة كولن على رؤاه التعليمية؟ وما الوقائع البارزة والفعاليات والأنشطة التربوية التي انعكست على تصوراته للعدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني؟

وقد نجمت هذه الأسئلة عن بحث يستنطق السردية كوسيلةٍ لفهم كيف يُمكن لتَتابُع أحداث الحياة أن تصوغ منهجًا تعليميًّا له القدرة على إحداث التغيير، وكمحاولةٍ لتعقُّب وإلقاء الضوء على نموذجٍ حياتيٍّ يرتبط بحركةٍ اجتماعيةٍ دينيةٍ وفلسفية. كما أنها تنبع من الرغبة في معرفة الدور الذي لعبته العدالة الاجتماعية من المنظور القومي/المجتمعي التركي، والرغبة في معرفة رسالة حركة كولن فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية.

المنهجية النوعية (Qualitative)

رغم أن جمع البيانات النوعية قد صار له ما يقرب من خمسين عامًا من البحث في حقل التعليم بوصفه –أي التعليم– موضوعًا للدراسة، ومائة عامٍ في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، إلا أن الاعتماد على جمع البيانات الإثنوغرافية وتحليلها من أجل إجراء “دراسات حالة” في مضمار التعليم لم يُعرف إلا بعد ذلك بوقتٍ طويل.

ومن أجل إتمام هذه الدراسة، وُظِّفت بعض المنهجيات التقليدية لجمع البيانات، مثل:

1- ملاحظة المـُشارك. 2- الاعتماد على مزودي المعلومات الرئيسيين. 3- إجراء المقابلات: سواءً المُعدَّة سلفًا أو غير الُمعدَّة سلفًا. 4- جمع تواريخ حياة الأشخاص. 5- فحص آثار الأشخاص. 6- جمع البيانات المصوَّرة. 7- تحليل الحدث. 8- الاستفادة من الإجراءات غير المباشرة.

وخلال هذه الحالة موضوع الدراسة، عمل الكاتب كملاحظٍ مُشارك، وكذلك مهَّد الطريق لإجراء المقابلات مع العيِّنات، وإعداد تقارير الخطة، ومحاضر العمل، وغيرها من الوثائق اللازمة للبحث. علمًا بأن للكاتب خبرةً سابقةً في جمع البيانات النوعية وتحليلها تبلغ زهاء ثلاثين عامًا.
ويُمكن لجمع البيانات النوعية المُفضي إلى دراسة الحالة أن يُساعد في توضيح تفاعلات القوى الاجتماعية في سياقاتها الميدانية، وأن يُسهم في الوقت نفسه في إيضاح ما بينها من علاقات السبب والنتيجة من خلال التحليلات الميدانية الوثيقة.

وتقترح نييتو (2000) إمكانية أن تَحُل المـُعطيات الإثنوغرافية محلَّ النظرة النفسية التي ارتأى النقدُ منذ سبعينيات القرن العشرين وما بعدها أنها مُحملةٌ بكثرةٍ من الافتراضات الثقافية الأوربية الغربية، ومن ثَمَّ إمكانية الحصول على بياناتٍ تخلو نسبيًّا من الانحياز الثقافي، شريطة أن تتسم بكونها:

بداخلنا -نحن البشر- قدرةٌ على بلوغ الكمال البشري، وحُقَّ لأولئك الذين يستوعبون هذا الكمال داخل نفوسهم ويُحققونه فيها أن يؤثروا في مجتمعاتهم، حكاما كانوا أم مستشارين أم زعماء محليين.

أ- تخصيصية: أي أن تتناول شخصًا واحدًا/مجموعةً اجتماعيةً واحدة.

بـ- وصفية: أي أن يكشف الناتج عن أغوار السلوك البشري.

جـ- كشفية: أي أن تُزودنا بفهمٍ أعمق.

د- استقرائية: أي أن تنشأ الفرضيات من البيانات ذاتها.

وهو ما يعني أننا نفيد من جمع البيانات النوعية هاهنا في طرح أسئلة البحث ورسم أبعاد حالةٍ تصلح للدراسة الأكاديمية، وهي حالةٌ تخصيصيةٌ وصفيةٌ كشفيةٌ استقرائية.

وقد كانت لسونيا نييتو من جامعة ماساشوسيتس، أمهرست، (1996، 2000، 2007) قصب السبق في استغلال جمع البيانات النوعية بغرض وضع دراسة حالة تبحث مسألة الاحتكاك الثقافي في التعليم، وكانت نييتو قد ارتأت أن من شأن دراسة الحالة أن تُتيح الفرصة لفهم قضايا الاحتكاك الثقافي في المنظمات التعليمية، مع إمكان تحليل هذه القضايا في سياقاتها الثقافية والمجتمعية.

وذلك فيما تذهب ميرسيث إلى التأكيد على جدوى دراسة الحالة في هذا الصدد؛ كَوْن الحالة: “وثيقة بحثية وصفية، غالبًا ما يكون أسلوبها سرديًّا، تستند إلى مواقف أو أحداث حياتيةٍ واقعية، وتسعى إلى تقديم تمثيلٍ متوازنٍ متعدد الأبعاد لبيئة العمل والمشاركين والواقع الفعلي للأوضاع”. . وتُضيف ميرسيث قائلة: “إنما تُعيَّن هذه الحالات التي تستحق الدراسة أساسًا بغرض طرحها للنقاش، وهدفها أن تتضمن قدرًا وافيًا من التفاصيل والمعلومات؛ بغرض تحفيز الباحثين ذوي وجهات النظر المتباينة على استخلاص التحليلات والتفسيرات. وهو ما يعيد التأكيد على ثلاث خصائص رئيسيةٍ تتسم بها: أ- أنها واقعية. بـ- أنها تعتمد على دراسة وبحث دقيقين. جـ- أنها تُعزِّز من إمكانية تكوين الباحثين لوجهات نظر متعددة. (ميرسيث، 1996).

وكان آخرون قد لجأوا إلى استخدام هذه المنهجية؛ لأنها تُتيح فرصة دراسة التعليم بوصفه شكلاً من أشكال التطور البشري منظورًا إليه في إطار تعقيداته الاجتماعية والثقافية بما تتضمنه من بُنى اجتماعية متعددة. (هنري، 1999)

وهكذا يقوم هذا البحث على استغلال المنهج النوعي الذي يُلجأ إليه لمساعدتنا في فهم مجموعة من الأنماط التعليمية داخل سياقاتها.
جمع البيانات

يُوضح الباحث هنا الطرق التي تَوسَّل بها هذا البحث لجمع البيانات، وأهمها: ملاحظة المـُشارك، والاعتماد على مُزوِّدي المعلومات، وإجراء المقابلات المُعدَّة سلفًا وغير المُعدَّة سلفًا، وجمع تواريخ حياة الأشخاص، والإثنوغرافيا الفوتوجرافية، وتحليل الحدث، وتحليل آثار الأشخاص. وقد جُمعت البيانات -بما في ذلك الملاحظات المكتوبة والصور- وخضعت للتحليل، ولُوحظت الأنماط المترتبة على هذه البيانات وطوبقت بنتائج الملاحظات واللقاءات اللاحقة.ولإتمام هذه الدراسة، اتُّبعتْ ثمانية أساليب رئيسية لجمع البيانات النوعية، وجرى استغلال كل واحد من هذه الأساليب خلال التحليل البحثي لوصف النتائج وتطوير الدراسة السردية لحالة شابٍّ في طريقه للتحول إلى أحد رواد مجتمعه المحلي (راجع المُلحق أ)، علمًا بأن لكل أسلوبٍ من هذه الأساليب تقنياته الخاصة لجمع البيانات وطرقه المختلفة في التحليل والتفسير. وجميعُها مُدرَجٌ بالأسفل، كلُّ أسلوبٍ على حده.

النوع، الوصف، البيانات البحثية المُجمَّعة

ملاحظة المـُشارك: يشترك الباحث في ملاحظة المجموعة موضوع الدراسة وجمع البيانات عنها والانخراط في أنشطتها، ويحضر فعالياتها كشاهد عيان، ويتابع تفاعلها بعضها مع بعض:

• 1982 رحلة إلى تركيا استغرقت 9 أيام (برنامج دراسة المرأة الإيجيَّه نسبة إلى بحر إيجه).

• 2007 رحلة إلى تركيا استغرقت 12 يومًا (حركة كولن/إحدى مراكز المجتمع المحلي).

• زيارات متعددة لمراكز بالمجتمع المحلي.

• زيارات متعددة لمنازل مواطنين أتراك.

• وجبات عَشاء متعددة على شرف أعضاء من حركة كولن.

• لقاءات متعددة مع أعضاء من حركة كولن في سياقات أخرى.

• نقاشات متعددة مع مواطنين أتراك لا يتبعون حركة كولن.

الاعتماد على مُزوِّدي المعلومات

مُزَوِّدو المعلومات هم أعضاء في المجموعة بوسعهم النفاذ إلى حياتها، راغبون في مشاركة خبراتهم ورؤاهم ووجهات نظرهم وما اكتسبوه من خلال احتكاكهم بالآخرين، إلى جانب مشاركة منظومتهم الإدراكية وتفسيراتهم لسلوك المجموعة:

• نحو 500 ساعة من الاحتكاك المباشر والنقاش الذي ترتب عليه إجراء مقابلات غير مُعدًّة سلفًا (عفوية) مع أشخاص ينتمون للحركة.
المقابلات المُعدَّة سلفًا والعفوية: فرصة لجمع البيانات من خلال الأسئلة.

• أكثر من 20 ساعة من المقابلات الرسمية.

إن عُمَر وغيرَه من شباب جيله -بدراستهم للتاريخ- قد كشفوا عن إدراكهم لبعض الأدوار التي لعبها التاريخ التركي في خلق أمةٍ تتسم بالتنوع، كما دل ذلك على استيعابهم لرؤية كولن حول الحوار والانفتاح على وجهات نظر الثقافات الأخرى.

• أكثر من 100 ساعة من المقابلات العفوية/غير الرسمية (75 ساعة منها داخل تركيا).

تواريخ حياة الأشخاص: جمع البيانات يُفسر سلوك المجموعة من خلال المشاركين، ويساعد الباحث في التوصل إلى النتائج (التركيبة الاجتماعية) أو وضع البيانات في سياقاتها الاجتماعية وداخل إطارها الزمني

• تم جمعه وتسجيله من شخصٍ اسمه “عُمَر” (وهو اسمٌ تخيليٌّ لأحد المستجيبين لأسلوب جمع البيانات الخاصة بتواريخ حياة الأشخاص).

الإثنوغرافيا الفوتوجرافية: تقنية لتسجيل البيانات تُزوِّدنا بطريقةٍ يُمكننا من خلالها أيضًا أن نفسر سلوك المجموعة.

• أكثر من 50 صورة فوتوجرافية من رحلة إلى تركيا في عام 1982.

• أكثر من 400 صورة من رحلة إلى تركيا خلال عام 2007.

• أكثر من 25 صورة لبعض فعاليات وتجمعات المجتمع المحلي.

تحليل الحدث: محاولة للتحقق من الأحداث وأهميتها ومغزاها كما رآها شهود عيان مختلفون.

• أكثر من 30 فعالية جرى تحليلها

تحليل الآثار: تُخلِّف جميع التصرفات البشرية وراءها آثارًا، مثل: الوثائق، والقُصاصات، والنفايات. إلخ التي تخبرنا ببعض الأشياء عن التاريخ السلوكي.

تُجمَع هذه الأشياء وتُشكِّل جزءًا من السردية، أو قد تدفعنا إلى تساؤلات تحتاج بدورها إلى مزيدٍ من جمع البيانات

• كُتُب، كتابات، وثائق، مقالات، استمارات

الإجراءات غير المباشرة: مؤشرات للسلوك تُزوِّدنا هي نفسها بالمعلومات.

• في مواقف متنوعة

وقد أثمر هذا التجميع البياني والجهد التحليلي عن أربعة أنماط تكَشَّفَت بوصفها نتائج للبحث.

النتائج: أنماط المباحث التعليمية والعدالة الاجتماعية.

جرى بحث البيانات المنبثقة عن جمع البيانات النوعية للكشف عن أنماط يكون لها تأثيرٌ على التعليم الرسمي وغير الرسمي، فظهرت أربعةٌ منها: 1- الدعم العائلي الذي يهدف إلى تعزيز سمات القيادة والتحصيل العلمي. 2- دور حركة كولن في خلق البيئة التربوية وتشجيعها. 3- شعور الشخص موضوع الدراسة بمقاصد وأهداف واجباته تجاه المجتمع. 4- الدعم الذي يُقدِّمه السياقان الثقافي والقومي في تركيا للتنوع.

علمًا بأن وجود أحد هذه الأنماط لا يعني بالضرورة غياب بقيتها، بل قد توجد معًا مجتمعة. وفيما يلي، سنناقشها كلًّا على حدة:

1- الدعم العائلي

“لدينا نحن البشر بداخلنا قدرةٌ على بلوغ الكمال البشري، ولا مفر لأولئك الذين يستوعبون هذا الكمال داخل نفوسهم ويُحققونه فيها من التأثير في مجتمعاتهم، سواءً كانوا من الحُكام أو المستشارين أو الزعماء المحليين. ولحدوث ذلك، لا بدَّ أن يتعلم الأشخاص تعليمًا ملائمًا يشعرون بالرغبة فيه. إنهم يسعون إلى تثقيف شبابهم من كافة شرائح المجتمع؛ حتى يكونوا على قدرٍ عالٍ من التمرس والفضيلة”. (كارول، 2007).

يعكس هذا الاقتباس من أدبيات حركة كولن ما للدعم العائلي من أهمية. ولمَّا تتبَّعنا مسيرة حياة “عُمَر”، وجدناه قد نشأ في كنف عائلةٍ يغلب عليها شعور الفخر بانتمائها إلى وطنها. وقد لعبت أمه –على وجه الخصوص– دورًا واضحًا في تقديره للتحصيل العلمي، لدرجة تضحيتها بابنها ذي الأربعة عشر ربيعًا المتمثلة في إرساله بعيدًا عن المنزل؛ ليتسنَّى له تلقي تعليمه الثانوي.

وفيما بعد، حين أُتيحت له فرص تلقي تعليمه الجامعي والدراسات العليا، تحمست أمه لمحاولاته المستمرة للدراسة والحياة وفقًا لما يسمونه “تطبيق الإسلام”. فخلال حواراتٍ أُجريت مع الباحث في عام 2007، عاود كلا الوالدين تأكيد دعمهما الكامل لعُمَر وثقتهما في قدرته على إحراز النجاح في التعليم، ولو في بلادٍ أخرى بعيدة، ما يعني أن الأم –في حالة عُمَر– قد أبانت عن هذه الصورة من صور الدعم بطريقةٍ لا يُخامرها الشك. هذا الدعم العائلي –وبخاصةٍ من جهة الأم– تُسفر عنه البيانات بصورةٍ متكررةٍ وتؤكده الملاحظات.

إن كثيرين في الغرب، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، يفتقرون إلى فهم عُمق هذا الدور الجنساني (Gender Role) أو المكانة الاجتماعية التي تتمتع بها المرأة في المجتمعات الإسلامية؛ إذ غالبًا ما يدلف هؤلاء المتابعون إلى الموضوع مُحمَّلين بتصوراتٍ ثقافيةٍ مُسبَقة ومضللة، وبخاصةٍ فيما يتعلق بقضايا التمييز الجنساني الذي يعزون ممارسته إلى المؤسسات الدينية، بما يتضمنه ذلك من النظرة الشائعة إلى المرأة بوصفها “مهيضة الجناح”، والتي يرجع سببها إلى أوجه القصور التي تعتوِر المشاركة المجتمعية والعائلية للمرأة.

ولعل ما أوردناه من بياناتٍ في هذا الصدد جنبًا إلى جنب دراستنا لحالة عُمَر أن يُمكِّننا من البدء في إجراء تقصيّاتٍ ونقاشاتٍ تكون أكثر عمقًا حول دور المرأة في تركيا والدول الإسلامية، مع طرحها تساؤلاتٍ تتناول الدور الفعلي للمرأة، ومدى دينامية الأسرة المسلمة، ومدى أهمية دعم الأسرة للتحصيل العلمي.

2- دور حركة كولن في تهيئة البيئة التربوية

أصبح التأثير الإيجابي لتجربة حركة كولن التربوية باديًا لبعض وسائل الإعلام الكبيرة، من حيث الإفادة من خبرة الغرب العلمية ومعارفه في مجال العلوم الاجتماعية وحفاظهم في الوقت نفسه على أنماط الحياة الدينية الإسلامية.

“إن الفلسفة التعليمية لفتح الله كولن هي مصدر إلهام حركته، وهي فلسفةٌ –يُمكننا القول– ذاتُ أربعة أبعاد، أولها: أنها مقاربةٌ جديدةٌ للمشروع التعليمي ولمهنة التدريس. وثانيها: ما تتسم به من الغيرية والإيثار، أي إشاعتها لروح الرغبة في خدمة المجتمع داخل الأوساط التعليمية. وثالثها: هو البعد الاجتماعي الذي ينتظم المدرسةَ والأسرةَ ورعاةَ العملية التعليمية في علاقةٍ ثلاثيةٍ تُسدي خدماتها الإيثارية لصالح الإنسانية. وأخيرًا، فإننا نرى توليفةً تضمُّ كلًّا من القلب والعقل، والتراث والمعاصرة، والروحي والعقلاني”. (أصلان دوغان وشتين، 2007).

في هذا البحث، نعتقد أن حركة كولن قد لعبت دورًا بارزًا في حياة عُمَر وغيره من الشباب، وفي نوعية تعليمهم منذ المرحلة الثانوية.
فأولاً: أتاحت الحركة لصغار الشباب فرصة التعرف إلى شبان يكبرونهم قليلًا كانت لهم أهميتهم بوصفهم قدوة ساعدوهم على الانخراط في المجتمع وقتَ كانوا يعيشون بعيدًا عن عائلاتهم، وتولوا شؤونهم، ووفروا لهم الرعاية والصحبة، وأبانوا لهم في أثناء فترة دراستهم عن احتضان العقيدة الإسلامية للتنوع.

وثانيًا: ساعدت الجهودُ التي بذلها شبابُ حركة كولن عُمَرَ وغيره من صغار السن على أن يلعبوا دورًا في تعليم رفاقهم (إستراتيجية تعليم الرفاق)، سواءً كانت المادةُ العلميةُ أكاديميةً أو دينيةً، وهو ما ساعدهم بدوره على اتخاذ القرارات التعليمية والمهنية الصعبة، وما حفز عُمَرَ بالأخص على أن يعتاد شيئًا فشيئًا لعبَ أدوارِ القيادة المتماسكة وسط أقرانه والطلبة الأصغر منه سنًّا.

ولا يبدو أن هذه الروابط داخل الحركة قد سعت إلى أن تحل محل العلاقات العائلية، بل ساعدت بالأحرى على تعزيز تلك العلاقات، مع نسجها في الوقت نفسه شبكةً قويةً من الانتماء جرى استغلالها لإشباع الحاجة العاطفية.

ثم بعد إنهاء تعليمه الجامعي، واصل المنفقون في حركة كولن دعمهم لعُمَر في أثناء سفره إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراساته العليا، بينما كان يُطوِّر من أفكاره وأنشطته الداعمة للحوار بين الأديان وتعرفها على بعضها البعض بوصفه واحدًا من أبناء الحركة.

وقد كتب شُرَّاح حركة كولن قائلين: “إن أنشطة تعليم الرفاق بعضِهم بعضًا، هي واحدةٌ من الاستراتيجيات التي تلجأ إليها المدراس لخلق بيئةٍ تسود فيها ثقافة شراكة الأقران التي تنظر إلى النجاح الأكاديمي بعين الاحترام، وتسود فيها شراكة الآباء في العملية التعليمية”. (أصلان دوغان وشتين، 2007).

وكانت عدة منظماتٍ تعليميةٍ قد أفادت من هذه العلاقة بين الأقران في دعم الرسالة التعليمية وتعزيزها.

وخلال الدراسة الأكاديمية لحالة عُمَر، يُمكن تركيز النقاش على اكتشاف كيفية تأثير استعمالات إيجابية أخرى للعلاقة بين الأقران على المنتوج التعليمي، كما ينبغي لهذا النقاش أن يحفز مزيدًا من إعمال الفكر في موضوع علاقات الأقران داخل المدارس، سواءً في تركيا أو في غيرها من المجتمعات.

3- الشعور بمقاصد الواجبات وأهدافها تجاه المجتمع

تُعدُّ الدراية والتقدير المبكران للمشاركة المدنية، جنبًا إلى جنب استغلال المواهب الناضجة قياديًّا لتطوير الاستجابات المجتمعية للقضايا والمشاكل التي يواجهها أفراد كلٍّ من المجتمع المحلي والإقليمي أحدَ الجوانب المهمة في تعليم الشباب، بمَن فيهم “عُمَر” الذي أوضح هذا الشعور بالواجب تجاه مجتمعه في طلب التحاقه بالدراسات العليا قائلًا: “إن تركيا دولةٌ ناميةٌ تتمتع بإمكاناتٍ هائلةٍ تتمثل في ثروتها من الشباب. وأنا أعتقد أن على كلِّ واحدٍ منا أن يُقدِّم شيئًا لمجتمعه”. هذه العبارة التي أدلى بها عُمَر، والتي عاودت الظهور في أثناء إجراء المقابلات مع غيره من المُتطوعين للبحث، تعكس وجهة نظر حركة كولن بصورةٍ واضحة، إذ وفقًا للأستاذ كولن “تتمثل غاية التعليم في تلبية احتياجات الإنسان والمجتمع وحل مشاكل العالم”. (أصلان دوغان وشتين، 2007).

تناول هذا البحث بالدراسة أربعة أنماطٍ بارزة تتمثل؛ في الدعم العائلي، ودور حركة كولن، وإحساس عُمَر بمقاصد وأهداف واجباته تجاه المجتمع، ودعم السياق التركي للتنوع.

ويظهر هذا السلوك من دعم المشاركة والانخراط بوصفهما أداءً للواجب تجاه المجتمع أو الأمة كأحد المبادئ الأساسية للحركة. وإذ يُشار إليه في أدبياتها باسم “الإيثار”، فإنه يتحدث عن خَلْق نماذج قيادةٍ مجتمعية، ويتجلَّى في توقع أن يقوم الشباب بإسداء خدماتهم للمجتمع.

وبتتبع مسيرة حياة عُمَر، وجدناها حافلةً بأمثلةٍ لهذا الشعور بالواجب، وبالأفعال التي تهدف إلى رد الجميل بغرض دعم المجتمع الذي ينتمي إليه.

ويرتبط هذا الإحساس بالواجب بممارسات التعليم والتعلم من خلال مستوياتٍ عدة؛ إذ تكشف قصة حياة عُمَر عن إحساسه بالواجب تجاه وطنه، وتجاه مجتمعه المحلي، وتجاه الإنسانية كافة، وجميعها تجلياتٌ حقيقيةٌ لتطلعاته. وبسبب هذه التطلعات، يلتزم عُمَر بصورةٍ واضحةٍ بدراسة الثقافات والأعراق واللغات الأخرى، فضلًا عما يُبديه من الالتزام العميق بإطلاق شرارة الحوار بين مختلف الجماعات المتباينة.

كما تبدَّى الشعور بالواجب في تضاعيف المناهج الدراسية للمدارس التي زرناها في تركيا(1)، وخلال لقاءاتٍ ومحادثات أخرى.

وقد نوقشت هذه الطبيعة التبادلية للعلاقة بين الفرد ومجتمعه وكيفية مساهمتها في خلق رأس المال الاجتماعي نقاشًا مستفيضًا في مجموعةٍ متنوعةٍ من المصادر الأخرى، مثلما فعل روبرت بوتنام في “أن تلعب البولينج وحدك”. وأيضًا فإنه ينبغي لهذا النمط من النتائج أن يصبح موضوعًا للنقاش، مُستغلًّا حالة عُمَر، وأن يتحول إلى استقصاءٍ للتبادلية يُساعد على تأسيس العدالة الاجتماعية بوصفها مبحثًا للدراسة.

4- دعم السياق التركي للتنوع

“لديَّ شغفٌ بالسفر وباستيعاب ثقافات العالم المختلفة”. (عُمَر، في طلب التحاقه بالدراسات العليا في الولايات المتحدة).

“إنهم -الآباء- يبعثون بهم -الأبناء- إلى المدارس -التابعة للأستاذ كولن- بسبب تفاني المُعلمين، وجودة المناهج، والرؤية الشاملة التي تُوطد المدرسةُ دعائمَها –من خلال مُعلميها– فيما يتعلق بالإنسانية كافة، وبالتسامح التربوي، والحوار”. (كارول، 2007).

يزخر التاريخ التركي بنماذج للتواصل الاجتماعي والثقافي، كما ينطوي على أمثلةٍ للسعي وراء المعرفة سعيًا يتجاوز الحدود السياسية ويُوسِّع من إطار التسامح الديني، ولكل ذلك أهميته لهذا البحث ولفهم المجتمع والتعليم التركيين في الوقت الراهن.

إن عُمَر وغيرَه من شباب جيله بدراستهم للتاريخ، ، قد كشفوا عن مواقف تدل بصورةٍ واضحةٍ على إدراكهم لبعض الأدوار التي لعبها التاريخ التركي في خلق أمةٍ تتسم بالتنوع، مثلما تدل على فهمهم واستيعابهم للدور الذي تعزوه رؤية الأستاذ كولن إلى الحوار والانفتاح على وجهات نظر الديانات والشعوب والثقافات الأخرى.

ومن الواضح أن المجتمع التركي اليوم هو مجتمعٌ بالغ التعددية، مجتمعٌ يتقبل الأشخاص ذوي الخلفيات العرقية والإثنية المتشعبة. وهو ما يدفعنا –في حالتنا تلك– إلى النظر إلى تاريخ المنطقة نظرةً مُغايرة، إذ تزخر كثرةٌ من ملاحظات الباحث المـُستقاة من واقع خِبرته بالمواطنين الأتراك داخل تركيا وفي غيرها من البلدان الأوربية (كألمانيا وفرنسا والنمسا) والولايات المتحدة بالأدلة على وجود هذه التعددية وذاك التقبل، علمًا بأن الباحث شخصٌ أسود البشرة.

ومع الأسف، يُغفل قدرٌ كبيرٌ من مناهج تدريس التاريخ الأوربي الغربي وتاريخ الولايات المتحدة الإشارةَ إلى تاريخ تركيا والشرق الأوسط باعتباره عاملًا أسهَم في تطور مجتمعاتهم الخاصة. ثم إن مجرد الدراسة العابرة للإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية كفيلٌ بالكشف عن جذور للتسامح الديني والعرقي كان لها أثرها الواضح على مسيرة التطور الأوربي. كما يشي استكشافنا لتاريخ نصف الكرة الغربية بوجود سوابق لنشوء مجتمعاتٍ تكاد تخلو من الصراع العرقي. ورغم ذلك، فقد وجد الباحث من واقع خبرته في التدريس والاحتكاك بالمدارس الأمريكية على مدى أربعة عقود أن مثل هذه المعلومات نادرًا ما يُشار إليها داخل مدارس الولايات المتحدة.

وكذلك يذهب بحثنا هذا إلى أن وجود إطارٍ أو سياقٍ لفهم قصص شباب حركة كولن إنما يُمثِّل جسرًا بين كون المجتمع التركي مجتمعًا متعدد الأعراق والثقافات وبين صيرورة إطار التعددية والتسامح هذا –بفضل تعاليم الأستاذ كولن– جزءًا من المُعطيات التي تؤدي إلى نشأة العدالة الاجتماعية والحوار الديني وتعزيزهما. وفي دراستنا هذه، يُمثِّل الدعم التركي للتنوع عنصرًا من عناصر كلٍّ من التركيبة النفسية القومية وتَقدُّم مسيرة عُمَر الواثقة في التعلم والقيادة.

تناوُلُ العدالة الاجتماعية من خلال التعليم، يشتمل على أكثر من مجرد ترديد شعارات؛ فهو يتطلب تهيئةً مدروسةً لمناخٍ غير مُحتقن وغير مُنحازٍ ضد أحد الأعراق، مناخٍ يشتمل على تدابير تُجابه الانتهاكات واسعة النطاق.

تحليل البيانات: أهمية التعليم

يتناول هذا البحث بالدراسة أربعة أنماطٍ بارزة تتمثل في: 1- الدعم العائلي. 2- دور حركة كولن.

3- إحساس عُمَر بمقاصد وأهداف واجباته تجاه المجتمع. 4- دعم السياق التركي للتنوع.

ونحن نفترض أن هذه الأنماط الأربعة تكشف عن وجود ثلاثة اتجاهاتٍ لها أهميتها من الناحية التربوية؛ إذ يُمكن لها أن تُسهم في إفادة الحقل التعليمي من هذا البحث. وأول هذه الاتجاهات هو نسق التعلم التحولي، وثانيها أهمية التعليم في إزالة الحدود والحواجز بين الأشخاص، وثالثها مُتعلقٌ بكيفية إدخال “التعليم من أجل القيادة” وتطبيقه.

التعلم التحولي

أدَّى واحدٌ من البحوث التعليمية البارزة إلى إكساب بعض أشكال الأنشطة التعليمية اسمَ “الأنشطة ذات الطابع التحولي”. ولسنواتٍ عديدة، كـرَّس المضمار التعليمي قدرًا وافرًا من الوقت لتشجيع المُعلمين على ممارسة التأمل الذاتي النقدي من خلال الكتابات التأملية، وتدوين اليوميات، وكتابة المذكرات حول تجارب الاحتكاك الثقافي إلخ، وهو ما أملَ خبراء التربية من ورائه إلى اكتشاف الصلة أو العلاقة بين ثقافة المُعلمين الخاصة والسياق الثقافي العالمي.

وكانت نظرية ميزيرو في التعلم التحولي (1991) قد زوَّدتْ خبراء التربية ببعض التبصُّرات حول تعليم الكبار، فقد ذهب إلى أن الأشخاص البالغين يدلفون من بوابة التفاعل مع العالم وهم مُحمَّلون بتجاربهم السابقة. وخلال سنوات التشكُّل، يُطوِّر الأطفال من طرقهم في رؤية العالم المحيط وفهمه. وهكذا، فبدمج هذه الخبرات السابقة من الرؤية والفهم مع طبيعة العالم المتغيرة بصفةٍ مستمرة، يُكوِّن البالغون وجهات نظرٍ جديدةً تُشكِّل ما يُعرف باسم “التعلم التحولي”.

وكما تقترح نظرية ميزيرو، فإن عُمَر وأعضاء حركة كولن يستحضرون جميع تجاربهم السابقة والحالية في أثناء انخراطهم في العملية التعليمية. وبإفادتهم من وسائلهم التأملية المُستقاة من دراساتهم الإسلامية، تلك الوسائل التي تُسلط الضوء على الخبرات الثقافية والمجتمعية، أمكن لعُمَر والآخرين تكوين وجهات نظرٍ مستمدةٍ من معرفتهم الثقافية الخاصة، وذلك بهدف إفادة الآخرين من خلال وجهات النظر الثقافية المتنوعة والمختلفة هذه التي تمدهم بالقوة. وفي حالة إذا لم ينظر المرء بعين التقدير إلى وجهات النظر المُغايرة لوجهة نظره الشخصية مثلًا، أو في حالة عدم انفتاحه على المعارف التي تُناقض قيمه الراسخة، فإن فرصه في تطوير معرفته بمختلف الثقافات أو درايته بالأطروحات المناقضة لموقفه من القضايا العالمية أو تَفَحُّصها تفحصًا جادًّا تكاد تكون منعدمة.

التعليم كتجلٍّ للعدالة الاجتماعية

تناوُلُ العدالة الاجتماعية من خلال التعليم يشتمل على أكثر من مجرد ترديد شعارات؛ فهو يتطلب تهيئةً مدروسةً لمناخٍ غير مُحتقن وغير مُنحازٍ ضد أحد الأعراق، مناخٍ يشتمل على تدابير من شأنها أن تضع خططًا وترسم سياساتٍ تُجابه الانتهاكات واسعة النطاق.

كما يتطلب تناوُلُ العدالة الاجتماعية اتخاذ إجراءاتٍ مُحدَّدةٍ تعمل على إبراز السلوكيات المُفضية إلى تحقيق العدل ودعم هذه السلوكيات، وبخاصةٍ تلك التي تصب في صالح الجماعات التي حُرمت حقوقها الشرعية على مدار التاريخ.

وعلاوةً على ذلك، فإن من شأن العمل على بلوغ العدالة الاجتماعية أن يُعزِّز من تطوير منهجيةٍ تشمل جميعَ الأطفال/جميعَ الأسر تتناولُ الممارسة التربوية وعملية رسم السياسات. (فريري، 1970).

وهكذا يتطلب العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية داخل العملية التعليمية ما يلي:

• فهم ما تعنيه “الثقافة” وطريقة عملها في المجتمعات والمنظومات التعليمية والحياة السياسية.

• استيعاب كيفية تأثير العنصرية، سواءً في الحاضر أو الماضي، على السياسات والمنتوجات التعليمية.

• الدراية والدربة على التجاوز الثقافي ومعالجة قضايا التمييز المتواجدة منذ أمدٍ بعيد.

• القدرة على تحقيق التواصل بين الثقافات.

• القدرة على وضع استراتيجيات القيادة التي تنتظم جميعَ الأشخاص بطريقةٍ فعالة.

لقد رسمت أطروحات حركة كولن توجهاتٍ مُحددةً تتناول الحاجةَ إلى العدالة الاجتماعية والإفادةَ من التعليم في إزالة الحدود والحواجز بين الجماعات البشرية، فضلًا عن الاستعانة به في استيعاب دروس الماضي. (ميشيل، 2003).

وبعدُ، فإن ثمة عددًا من العوائق الثقافية الفطرية التي تحول بيننا وبين أن نعيش ونعمل ونُعلِّم في الوقت نفسه الذي نُراعي فيه العدالة الاجتماعية؛ فقد تربينا على هذه السلوكيات في المنزل والمجتمع والكنيسة والمسجد والمعبد والمدرسة ومن خلال وسائل الإعلام، وقلَّما نتناولها تناولًا نقديًّا أو نضعها موضع المساءلة أو نتساءل عما لها من تأثيراتٍ على الآخرين. وقد لُقِّن كثيرٌ منا بعض الممارسات التي نَفذت إلينا في غيبةٍ من الوعي، والتي نعتقد بصحتها اعتقادًا جازمًا، من قبيل: “إن طريقتنا في السلوك طريقةٌ صائبة”، أو “كل الآخرين على خطأ [عدا جماعتي]”، أو “إنهم يتبعون أساليب مختلفة” [وبالتالي خاطئة]، أو “إنهم مُنحطون ومعوزون”. لكنْ أن تكون مُربِّيًا يعني أن تُفتش داخل نفسك تفتيشًا عميقًا، وأن تُخضِع بعض ما تقبلته بوصفه الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأمور للمساءلة، وأن تسلك سلوكًا مُغايرًا لدعم قيمة العدالة الاجتماعية. ولذا فإن أحد الجوانب التربوية المهمة لدراسة الحالة التي نُقدمها هذه هو منهجية حركة كولن في معالجة قضية العدالة الاجتماعية.

أنْ تكون مُربِّيًا يعني أن تُفتش داخل نفسك تفتيشًا عميقًا، وأن تُخضِع بعض ما تقبلته بوصفه الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأمور للمساءلة، وأن تسلك سلوكًا مُغايرًا لدعم قيمة العدالة الاجتماعية.

التعليم كسبيلٍ إلى القيادة

نادرًا ما تتأتَّى القيادة إن تُرك الأمر للمصادفة، رغم أن بوسع أحداث شتى، وأحيانًا أحداث عشوائية، أن تتجمع سويًّا فتنهض بها.

وثمة جهودٌ مدروسةٌ تقوم بها حركة كولن لاستنهاض وتعهُّد قيمة القيادة التي تُمثِّل –كذلك– في هذه الحالة المحدَّدَة اتجاهًا آثره الشاب عُمَر في أثناء دراسته وعمله المجتمعي. وقد وُثِّقت كثرةٌ من هذه الممارسات القيادية (أغاي، 2003) المستلهمة من فكر الحركة بوصفها ممارساتٍ ناجحة:

• العلاقة بين الأقران وتعليم الرفاق.

• التعاليم التي تُشجع الانفتاح على الأفكار الجديدة.

• المران على التنوع والاحتكاك الثقافي والتبادل الاجتماعي.

• التأثير في المجتمع.

• دعم الأسرة، وبخاصةٍ عند اتخاذ القرارات الجوهرية.

• إنشاء المدارس ضمن منظومةٍ أكبر، مع احتفاظها بقدرتها على تحريك الموارد العمومية.

• أنشطة القيادة التي تخضع لدعم وإشراف وتوجيه عددٍ أكبر من الممارسين ذوي الخبرة.

وكما أبان هذا البحث، فإن حركة كولن قد استعانت –في كلٍّ من هذه النماذج– بالتطبيقات التي تُعزِّزها الأدلة؛ لتطوير فرص القيادة ودعمها، وتطوير التعليم ودعمه بوصفه سبيلاً إليها، وذلك لصالح لفيفٍ من الشباب والفتيات، فضلاً عما ثبت من جدوى الانخراط في المجتمع. (كريتزمان وماكنايت، 1993).

محدودية الدراسة

ثمة عديدٌ من القيود المفروضة على هذه الدراسة؛ فبينما تتناول نمطًا من النشاط التعليمي داخل سياقاته، وتستعين بالبيانات النوعية لطرح سؤالٍ بحثيٍّ مُحدَّد، فإنها تتمخض –بالمثل– عن دراسةِ حالةٍ تتسم بكونها سرديةً بغرض استخدامها في الدرس الأكاديمي. ولذا فإن كلًّا من هذه الشروط والإجراءات المُتَّبَعة في هذا البحث قد يُصبح من مُحدِّدَاته.

وليست غايةُ البحث أن يصل إلى تعميماتٍ تُستقَى مما عُوَّل عليه من تفاصيل مُحدَّدَة، وإنما أن يمدنا بالأحرى ببعض التبصُّرات حول أنماط السلوك، وهو ما يحدُّ من الدراسة.

كما أن هناك قيدًا آخر واضحًا يحدق بالإفادة من هذه الدراسة، فهي لم تُعَدَّ لاستخدامها في طرح أسئلةٍ كبرى تتعلق برسم السياسات، بل في الأغلب لمُداعبة حاجتنا إلى طرح مزيدٍ من الأسئلة والبحث عن إجاباتٍ مناسبةٍ لها. وكذلك فإن البيانات وتحليلها يحفزان القيام بمزيدٍ من الاستقصاء؛ إذ لم يُقصد لهذه الدراسة أن تخضع للقياس الكمي.

وككل الدراسات، فإن المدى الذي يُمكن أن تمتد إليه النتائج المُستخلصة لتنطبق على عددٍ أكبر من السكان هو مدىً بالغ الانحصار والضيق.

الأبحاث المستقبلية

ثمة كثرةٌ من مجالات الدراسة المستقبلية واضحةٌ في ذهن الباحث، منها:

• إلى أي مدىً تتضح النتائج الأربع في البحوث المتعاقبة؟

• إلى أي مدىً تتضح الصلة بين العدالة الاجتماعية والنموذج التعليمي القائم على إرشاد الأقران بعضهم بعضًا؟

• ما الدور الذي يلعبه أفراد العائلة في دعم احتواء حركة كولن لأطفالهم؟

• كيف يُسهم التعليم في بناء القيادة داخل حركة كولن وكيف يتم دعم ذلك؟

• ما العلاقة بين التأكيد على التنوع الاجتماعي والثقافي واستجابة المرء لنداء الواجب تجاه رابطته بمجتمعه؟

إن كلًّا من هذه الخطوط المبحثية، وغيرها كثير، بحاجةٍ إلى أن تتناولها الأبحاث المستقبلية. كما أن ثمة مضمارًا آخر يصلح للبحث المستقبلي يتمثَّل في التطرق للإفادة من دراسة حالة عُمَر كمادةٍ للدرس الأكاديمي وكمُحفِّزٍ لإثارة النقاش حول التعليم التركي، ودور الأسرة في التحصيل العلمي، وفهم السياقات التربوية في المجتمعات الإسلامية، وما أشبهها من مجالات البحث.

خاتمة

سعت هذه الدراسة، من خلال الاستناد إلى المنهجية النوعية (qualitative methodology) في دراسة الحالة، إلى بسط قصة الحياة التعليمية لأحد الأشخاص على ضوء ثلاثة أسئلةٍ رئيسية:

• ما قصة المسار التعليمي -سواءً التعليم “النظامي” أو التابع لحركة كولن- لهذا الشاب الذي يُقيم ويدرس حاليًا بالولايات المتحدة؟

• كيف تجلَّت العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني كواحدةٍ من أفكار حركة كولن في تجربة هذا الشاب؟

• كيف أثَّر التحاقه بحركة كولن على رؤاه التعليمية؟

يتطلب تناوُلُ العدالة الاجتماعية اتخاذ إجراءاتٍ مُحدَّدةٍ تعمل على إبراز السلوكيات المُفضية إلى تحقيق العدل ودعم هذه السلوكيات، وبخاصةٍ تلك التي تصب في صالح الجماعات التي حُرمت حقوقها الشرعية على مدار التاريخ.

قصص الحياة التعليمية

نخلُص إلى أن من شأن الاستعانة بقصص الحياة التعليمية والاستقصاءات والسرديات المستندة إلى بياناتٍ مُستقاةٍ من هذه الاستقصاءات أن يُزودنا بوسيلةٍ لتَبَيُّنِ كيف يُمكن لتتابع أحداث الحياة القائمة على أساسٍ مجتمعيٍّ أن يتمخض عن مناهج دراسيةٍ بوسعها تغيير الحياة، وكيف يُمكننا من خلال هذه الأحداث المجتمعية أن نتتبع نمطًا حياتيًّا يرتبط بحركةٍ اجتماعيةٍ دينيةٍ فلسفية وأن نُلقي الضوء على هذا النمط.

العدالة الاجتماعية مبحثًا

نخلُص إلى أن الدور الذي لعبته العدالة الاجتماعية من المنظور القومي/المجتمعي التركي وكذلك دور حركة كولن في تكريس العدالة الاجتماعية بوسعهما إثراء الممارسة التربوية وتعميق فهم الطلاب لهذه الممارسة من خلال إلقاء الضوء على الأطروحات الواقعية ذات الأساس النظري.

أثر حركة كولن

كما نخلُص إلى أن ثمة وقائع وأحداثًا وأنشطةً تربويةً مختلفةً كان لها أثرها في مفاهيم العدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتسامح الديني لدى الأشخاص المنخرطين في هذه المسارات وبعض أفراد عائلاتهم وغيرهم من المنتمين إلى دوائر مجتمعاتهم المحلية الأكثر اتساعًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش
(1) للأسف الشديد أغلق الحزب الحاكم مدارس الخدمة في تركيا بعد الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2017م دون أيّ مبرر قانوني، وطرد نحو 25 ألف من معلّمي هذه المدارس، ثم تشرَّد الطلاب إلى مدارس أخرى. (المحرر)
المراجع
(1) أغاي، بكيم. المنظومة الأخلاقية الإسلامية لحركة كولن في التعليم. في الإسلام التركي والدولة العلمانية: حركة كولن، تحرير يافوز وإسبوزيتو، مطبعة جامعة سيراكيوز، 2003.
(2) أصلان دوغان، ي. ا. م. سيرتن، “فلسفة كولن التعليمية فكرًا وتطبيقًا” في “المواطنون المسلمون في عالم العولمة: إسهامات حركة كولن”. تحرير روبرت ا. هانت، يوكسل ا. أصلان دوغان. سومرست، نيو جيرسي، شركة ذا لايت، 2006.
(3) كارول، جيل. حوار الحضارات، سومرست، نيو جيرسي، شركة ذا لايت، 2007.
(4) كولن، م. فتح الله؛ مقالات، نظرات، آراء؛ م. فتح الله كولن. شركة ذا لايت، سومرست، نيو جيرسي، 2006.
(5) مجلة إيكونوميست، 6 مارس 2008. استعادة على الإنترنت، 29/8/2009.
(6) فريري، باولو. بيداجوجيا المقهورين. نيويورك: مطبعة سيبيري، 1970.
(7) هنري، صامويل د. “استخدام دراسات الحالة في مجال التعليم لتوسيع الاتصال بالبيئات الحضرية والبيئات متعددة الثقافات”. ورقة بحثية مقدمة للملتقى السنوي السادس عشر للرابطة العالمية لبحوث وتطبيقات طريقة الحالة، جامعة إكستريمادورا، كاسيراس، إسبانيا، يوليو 1999.
(8) “منهجية لتعليم المُعلِّم تهدف إلى زيادة إيجابيات تفاعلات الاحتكاك الثقافي قبل وأثناء الخدمة”، التعليم والتعلم من أجل التفاهم بين الثقافات، حقوق الإنسان وثقافة السلام، مؤتمر برعاية اليونسكو. منشورة وعلى الإنترنت ضمن محاضر مؤتمر اليونسكو. جامعة جيفاسكيلا، جيفاسكيلا، فنلندا. يونيو 2003.
(9) كريتزمان، جون؛ ج. ماكنايت، بناء المجتمعات من الداخل إلى الخارج. جامعة نورث وسترن، 1993.
(10) ماركوفا، إيفانا؛ ا. غيليسبي، (تحرير) الثقة وعدم الثقة. نيويورك: شركة انفورميشن ايدج للنشر، 2007.
(11) ميريام، شاران. “دور النمو الإدراكي في نظرية ميزيرو للتعلم التحولي” في فصلية “أدالت ايديوكيشن”. المجلد 55، العدد 1، صفحة 60-68، 2004.
(12) ميرسيث، كاثرين ك. “الحالة، طريقة الحالة، والتطوير المهني للمُعلمين”، ملخصات إيريك: نوفمبر 1996. نظام إيريك لتبادل المعلومات حول التدريس وتعليم المُعلمين. واشنطن العاصمة: الرابطة الأمريكية لتعليم المُعلمين، 1995.
(13) ميزيرو، جاك. الأبعاد التحولية لتعليم الكبار. سان فرانسيسكو: جوسي باس. 1991.
(14) ميشيل، توماس. “فتح الله كولن مُرَبِّيًا” في “الإسلام التركي والدولة العلمانية: حركة كولن”، تحرير يافوز وإسبوزيتو، مطبعة جامعة سيراكيوز، 2003.
(15) نييتو، سونيا. تأكيد التنوع: السياق الاجتماعي السياسي للتعليم متعدد الثقافات. نيويورك: لونجمان للنشر، 1996؛ أديسون-ويسلي 2000، 2002؛ ألين وبيكون 2002، 2007.
(16) نودينجز، نيل. تعليم الأخلاقيين: بديل تربوي لإعداد الشخصية. نيويورك: مطبعة كلية المُعلمين، 2002.
(17) البدء من المنزل: السياسات التربوية والاجتماعية. بيركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2002.
(18) صحيفة نيويورك تايمز، 8 يناير 2008؛ استعادة على الإنترنت 29/8/2009.
مُلحق أ: حالة عُمَر

[gdlr_divider type=”solid” size=”50%” ]

ساعدت الجهودُ التي بذلها شبابُ حركة كولن عُمَرَ وغيره من صغار السن على أن يلعبوا دورًا في تعليم رفاقهم إستراتيجية تعليم الرفاق، سواءً كانت المادةُ العلميةُ أكاديميةً أو دينية.

ملاحظة: عُمَر هو اسم مستعار لمتطوع حقيقي.

قصة عُمَر

في غربيِّ تركيا، منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، وُلد عُمَر في أسرةٍ تركيةٍ تنتمي لطبقة العمال. أمه ربة منزل عكفت في بيتها على تربية الأطفال الثلاثة، بينما عمل والده بالإصلاحيات الحكومية، وهو العمل الذي تطَلَّب منه ومن أسرته الارتحالَ إلى أماكن مختلفةٍ عدةَ مرات، الشيء الذي تسبب في التحاق عُمَر بمدارس شتى إبان فترة تلقيه تعليمَه النظامي، بما في ذلك التحاقه بإحدى المدارس في إزمير.
يقول عُمَر إن أسرته داعمةٌ لطموحه التعليمي، كما يقول إنها كانت –في ذلك الوقت– “تمتثل للإسلام، لكن ليس إلى حدٍّ كبيرٍ من ناحية التطبيق”. ويصف نفسه بأنه كان طالبًا “جيدًا” خلال المرحلة الابتدائية، لكنه لم يكن طالبًا ممتازًا، ولا كان يتمتع بصفات الزعامة “الكاريزمية”، وإن “استهواه أداء الأمور بالشكل الصحيح”.

ويُشير عُمَر إلى ما يعتبره اختلافًا ثقافيًّا بخصوص مفاهيم الزعامة، إذ إن النمط الذي يُجسِّد الخصائص الرئيسية للزعيم في منطقة الشرق الأوسط هو النمط الذي ينظر إلى القائد باعتباره شخصًا مُؤثِّرًا يتمتع بالكاريزما.

وعند انتقاله إلى المرحلة الثانوية، كان على عُمَر وأسرته أن يتخذوا قرارًا مهمًّا؛ فبعد اختبارات الالتحاق بالمدارس الثانوية التي أُجريت على مستوى القُطر، قُبِلت أوراقه بمدرسةٍ مهنيةٍ للتجارة البحرية اقتضت إقامته في أحد “البنسيونات”؛ كَوْن المدرسة تبعد عن مقر إقامة عائلته في ذلك الوقت بحوالي 12-13 ساعة سفر بالأتوبيس.

يتذكر عُمَر النقاشات العائلية المكثفة والدور الفعال الذي لعبته أمه، ثم ما توصلت إليه العائلة من القرار بالتحاقه بالمدرسة.

وحالما التحق عُمَر بالمدرسة الثانوية، شعر بالسعادة لوجود شباب يكبرونه سنًّا يُقيمون معه في البنسيون، والذين كانوا على استعدادٍ لمساعدته في الأعمال المدرسية، وفي تنمية أحاسيس أكثر نضجًا بداخله، كما كانوا له بمثابة القدوة الإسلامية التي ساعدته على فهم الدين والفرائض بصورةٍ أكثر وضوحًا.

كان أولئك الشباب يتلقون كتابات وتعاليم الأستاذ محمد فتح الله كولن (2003)، وكما يقول عُمَر، كان البَوْن شاسعًا بين سلوكياتهم وما رآه من سلوكيات أترابهم الذين من نفس العمر؛ فقد تمسكوا بتعاليم الإسلام باعتبارها طريق الإنسان نحو نُشدان المعرفة بخشوع، ونحو تَقبُّل الاختلافات الاجتماعية والثقافية واللغوية، والأهم من ذلك كله نحو أن يصبح المرء مُتجاوبًا مع الآخرين ومسؤولًا عن إصلاح حياة أفراد مجتمعه.

شعر عُمَر بصدق هذه الأطروحة، ومع مرور سنوات دراسته الثانوية، صار واحدًا منهم، ساعيًا إلى أن يصبح قدوةً إيجابيةً للأولاد الذين يصغرونه، وأن يساعدهم بجد، وأن يعكف على دراسة كلٍّ من الإسلام ومناهج دراسته الثانوية؛ فبدأ في الكشف عن استعدادٍ فطريٍّ لأن يصبح قائدًا “رزينًا”، ومن خلال تعاليم الأستاذ كولن، تبنَّى تطبيقًا مُغايرًا للإسلام، حتى لِمَا عرفته أسرته حين كان طفلًا. (منذئذٍ، وعَبْر ما أحدثه من تأثير، عدَّلت الأسرة من طريقتها في تطبيق الإسلام).

لقد عمَّقت ساعات السفر الممتلئة بالفكر على متن أتوبيس من وإلى إسطنبول من تقدير عُمَر للممارسة الإسلامية المُغايرة التي يطرحها الأستاذ كولن؛ وعلاوةً على ذلك، فبحلول نهاية المرحلة الثانوية، انتهى –كذلك– إلى أنه قد ولَّى وجهه شطر المهنة الخاطئة؛ فتشغيل أنظمة ملاحة إحدى السفن التجارية لا ينبغي أن يكون طريقه كعضوٍ مُنتِجٍ في المجتمع.

خلال المرحلة الثانوية، صار عُمَر بالغَ الاهتمام بالقانون والإدارة العامة، بيد أنه أدرك أن الإعداد الذي توفره له مدرسته الثانوية القائمة على الدراسات الملاحية لن يُهيئه لهذا المسار؛ ولذا غيَّر اتجاهه، وإن احتفظ بأهدافه، مُتخذًا القرار بالتوجه إلى دراسة التاريخ في الجامعة.

وبمساعدة الناصحين من حركة كولن، اجتهد عُمَر في الدراسة، واجتاز الاختبارات العامة، والتحق بإحدى الجامعات الكائنة بمدينة إسطنبول.

ومرةً أخرى، وبصورةٍ أكثر تصميمًا، اتجه إلى العَيش مع شباب آخرين منخرطين في حركة كولن، ووقف على أهمية تناولهم الطعامَ وأدائهم العباداتِ الإسلاميةَ وتحصيلهم العلمَ معًا، مكتشفًا داخل نفسه ميلًا لخدمة مجتمعه –مع غيره من الشباب– من خلال الجهود التي تقوم بها الحركة.

وبعد حين، انتقل إلى أحد المساكن التي أمَّنتها الحركة لصالح الشبان العاكفين على تعلُّم هذا النمط من الممارسات الإسلامية، مُتقاسمًا مساحته المعيشية مع عددٍ آخر من الشباب الأكبر والأصغر منه سنًّا. وقد شكَّل هؤلاء الشباب تشكيلةً من مختلف الأعراق والطبقات الاجتماعية، وتبدَّى كلٌّ منهم كقدوةٍ للآخرين؛ كما سعوا إلى تعزيز السمات الإيجابية لمنهجية الحركة في تطبيق الإسلام.

لقد اتسموا بالخشوع في الصلاة، وبالإخلاص في محاولتهم العملَ على تعميق معرفتهم بالإسلام والعالم. وفيما يتصل بمجتمعهم، تعلَّموا –بشكلٍ أكثر عمقًا– عن تاريخ تركيا كملتقىً للثقافات والأفكار والتقانات، وعن كيف أثَّر وتأثر موقعها بتاريخ كثرةٍ من البلدان والحركات والمُستحدثات الأخرى. والأهم من ذلك أنهم تعلَّموا بالمِثْل كيف يكونون أكثر تسامحًا مع الآخرين، وكيف يتقبلون الضعف –وحتى الفشل– الإنساني.

ومثلما كانت الحال إبان فترة الدراسة الثانوية، فقد كان لسنوات الجامعة أهميتها وتأثيرها الهائلين في حياة عُمَر. وإذ آزرته أسرته، وأمه على وجه الخصوص، في أثناء سعيه لتَلَقِّي تعليمه العالي، فقد انتهى عُمَر إلى إدراك أهمية تعهُّدِ علاقات الأقران، والاطلاعِ المستمر بدلاً من ادعائه معرفةَ كلِّ شيءٍ سلفًا، وخدمةِ مجتمعه ورد جميله بالمِثْل.

وما إن حصل عُمَر على شهادته في دراسة التاريخ وقَبِل العمل كمُعلِّمٍ في إحدى المدارس الثانوية، حتى كان قد انغمس بكُلِّيته في حركة كولن والأنشطة المجتمعية. وقد كان هذا الانغماس في الحركة، إلى جانب الرغبة في خدمة مجتمعه، هما ما دفعاه إلى طلب الدراسات العليا في الولايات المتحدة.

في أواخر صيف عام 2003، غادر عُمَر من إسطنبول في مغامرةٍ لنيل دراساته العليا في مجال التعليم من إحدى الجامعات العامة متوسطة الحجم التي تقع غربي الولايات المتحدة، وللعمل مع إحدى مجموعات حركة كولن الناشئة بإحدى مدن هذه الناحية.

استغرقت الرحلة أكثر من ست عشرة ساعة؛ لتُمثِّل نقلةً إلى ثقافةٍ مُغايرةٍ وسياقٍ اجتماعيٍّ ودينيٍّ وسياسيٍّ مختلف، نقلةً إلى بلدٍ تلبَّستها –إثرَ هجمات الحادي عشر من سبتمبر–حساسيةٌ شديدةٌ تجاه كلِّ مَن يُعلن اتِّباعَه للإسلام ويكون من أصول شرق أوسطية. وكانت ملامح عُمَر –التي لا تختلف كثيرًا عن ملامح سكان هذه المنطقة– تشي بالكثير عن أصوله.

ولدى وصوله، كانت حكومة الولايات المتحدة قد شنَّت –ابتداءً– الحرب ضد طالبان في أفغانستان، ثم ضد حكومة صدام حسين في العراق؛ ورغم أن كِلا الحربين لم تحظيا بالدعم الشعبي من جمهور الناخبين، فإنهما قد رسمتا حدودًا واضحةً وَجَد الرجالُ والنساء ذَوُو الأصول الإسلامية والشرق أوسطية أنفسَهم خارجها.

وفي نفس هذه المدينة، صرَّح أحد طلبة الدكتوراه الشرق أوسطيين، بعد تعرضه للمضايقة في أحد طوابير السينما، بأنه وخطيبتَه “قد توقفا ببساطةٍ عن الذهاب كثيرًا إلى الأماكن العامة”. ويقول عُمَر بأنه قد استشعر هذا القلق، وبأنه “قلَّل من مرات خروجه”، عاقدًا العزم على أن يُطأطيء رأسه “حتى تمر الموجة” في البداية. لكنه سرعان ما انشغل بالعمل مع الأتراك النازحين إلى المنطقة من الاتحاد السوفيتي السابق، ومساعدتهم على الحصول على الخدمات الاجتماعية، وبخاصةٍ اللغوية منها، ثم ما لبث أن ألقى دروسًا في اللغة والثقافة التركية بإحدى المراكز المجتمعية.

شيئًا فشيئًا، وبالمساهمة مع آخرين، بدأ عُمَر في توسعة أنشطة المركز المجتمعي، ودعوة أعضائه من غير الأتراك للمشاركة في تناول العَشاء، وفي النقاشات المرتبطة بحوار الأديان، واللقاءات التعليمية، وحضور الإفطارات الرمضانية. وبالشراكة مع زملاء آخرين في الحركة، نظَّم عُمَر ومجموعة أترابه سلسلةً من الرحلات يُسافر خلالها قادة المجتمع المحلي “غير الأتراك” إلى تركيا؛ لاكتساب خبرة التفاعل والحوار المباشرَين مع القادة المجتمعيين الأتراك. ومن خلال جهوده في عام 2007، وُجِّهت الدعوة إلى رجال أعمالٍ وأكاديميين ورؤساء مصالح عامة وزعماء دينيين ومسؤولين حكوميين مُنتخَبين لخوض تجربة الحوار مع أتراك داخل تركيا، فقبلوا الدعوة. وفي جولةٍ مكوكيةٍ امتدت قرابة الاثني عشر يومًا، زار أفراد المجتمع الأمريكي هؤلاء إسطنبول وإزمير وقونية ونيدة وأدرنة وقبادوقية وغيرها من الأماكن، والتقوا بأفراد وجماعات على الطعام، ورأوا تركيا رأي العين، وحظوا بفرصة الحديث المباشر مع زعماء شتى، وقضوا ليلةً في منزل أحد القادة المحليين.

كانت هذه هي الفرصةَ الأولى بالنسبة لكثيرٍ منهم للاحتكاك بإحدى الدول الإسلامية احتكاكًا مباشرًا، الفرصةَ الأولى لإجراء حوارٍ هاديءٍ مع إحدى النساء حول سبب ارتدائها غطاءً للرأس، والمرور بلحظاتٍ وجيزةٍ من تجربة سماع الأذان ينطلق من مئذنة، أو الدهشة عن قربٍ لمرأى فسيفساء بيزنطيةٍ مسيحيةٍ تعود إلى القرن الرابع.

لقد كان التأثير مذهلًا فيما يتعلق بالتوصل إلى فهم حيثيات حركة كولن، والحاجة إلى الحوار بين الأديان وسُبُلِه، وكلُّ ذلك بتوجيه عُمَر ورفاقه من صغار القادة بالحركة.

وكانت إحدى المواطنات الأمريكيات اللائي وُلدن في الجنوب قد تلقت الدعوة، وخلال مأدبة العَشاء في منزلها على وجبةٍ من أطباق “أريبيتاس” و”بوريكو”، قالت: “لقد تغيرت حياتي. فاقترابي من “بعض” النساء التركيات عَدَّل من آرائي المتعلقة بالإسلام وبِدَور المرأة. لقد شعرتُ بالأواصر التي تربطنا، رغم أن أحدنا لا يتحدث لغة الآخر”.

وبعد بضعة أشهر، خلال مأدبة عَشاء في المركز المجتمعي نظَّمها عُمَر وآخرون، عاودت المرأة قولَ ذلك أمام مجموعةٍ محليةٍ تتكون من نحو خمسين شخصًا، معظمهم مِمَّن يُفكرون في الاشتراك في إحدى رحلات حركة كولن إلى تركيا، لكنَّ من بينهم أيضًا تجارًا محليين يدعمون هذه الرحلاتِ ويدعمون الحوارَ بين الثقافات.