المقال

مقدمة

تمثل كتابات فتح الله كولن المملوءة بهموم إصلاح الإنسانية، والمفعمة بحب الله تعالى أسُسًا هامة، وقواعد أصيلة في سياق بناء مشروع حضاري إنساني، يخرج العالم من وهدة سبات الروح، ويُحرر الإنسان من نفسه المهلكة له، ويُحفِّزه في الوقت ذاته للاهتمام بمشاكل الوجود الإنساني، والبحث عن حلول عملية لها.

لقد تميز فتح الله كولن في خطابه التجديدي بالإصلاح الذي يحمل طابعًا قيميًّا أخلاقيًّا وتربويًّا، يتركز في مجمله حول الإنسان، وإعادة بنائه وصياغته، فالإنسان هو المركز الذي يدور حوله الكون، وهو خليفة الله في الأرض، وعليه يقع عمرانها المرتبط بأهليته لحمل مسؤوليات هذا الاستخلاف.

وقد صدر مؤخرًا عن دار النيل بالقاهرة كتاب جديد بعنوان “جهود التجديد” للأستاذ فتح الله كولن، يواصل فيه كاتبه تخطيط ملامح مشروعه الكوني الإنساني الذي يسعى إلى تشييد صرح الأمة الروحي وإشعال جذوة حماسها المعنوي، لاستئناف انبعاثها الحضاري الرامي إلى تهيئة مناخ إنساني سلمي عبر جسور من التواصل بين الثقافات والحضارات.

وتأتي أهمية صدور الكتاب لتزامنه مع تفشي وباء الإرهاب فرديًّا وجماعيًّا بما يحمله من أفكار هدامة تدعو إلى التناحر والتعادي والتقاتل، وتُعد ذلك تضحية في سبيل الدين والمعتقد، حتى ظن كل طرف أنه شهيد في سبيل قضيته ودعوته، فالتبس لدى كثير الحق والباطل، وعميت الرؤى عن تحديد الميزان القويم الذي تنضبط به الأمور. وأي كتاب جديد يصدر للأستاذ كولن يطلعنا على مزيد من تفاصيل هذا المشروع الإنساني الإسلامي الرائع الذي يشتغل عليه هو ورفاقه، وهو –من وجهة نظري- يحتوي عديدًا من الوصفات العلاجية التي تقضي على هذا الداء من جذوره، وتفرغ طاقات شباب الأمة في مسارات إيجابية بديلة تنأى بهم عن كل عمل غاشم وعنيف يهدم ولا يبني، ويخرب ولا يعمر، ويشوه رسالة الرحمة السامية بدلاً من أن يعمل على نشرها(1).

وسأحاول في هذا المقال أن أعرض بعض الملامح العامة التي لفتت نظري، وأتقاسمها مع القراء الأعزاء، وهي بالطبع لا تعدو سوى قراءة أولية، تفتح شهية القارئ لارتشاف مزيد من المعاني والأفكار وخطط السير ومنهاج الطريق.

سلسلة الجرة المشروخة

يندرج هذا الكتاب ضمن سلسلة “الجرة المشروخة”، والتي تحتوي على دروس متنوعة ألقاها الأستاذ كولن في السنوات الأخيرة، أثناء إقامته في أمريكا، وقد صدر باللغة العربية منها سابقًا: “إشراقات الأمل في دياجي الحزن والأسى” و”شد الرحال لغاية سامية”، بيد أن ما يميز هذا الكتاب عن سابقيه، أنه يتضمن الأسئلة التي وجهت للأستاذ كولن في السنوات العشر الأخيرة بما شهدته من أزمات وصدامات. بالإضافة إلى أنه يحمل عصارة فكر الأستاذ، وتجربته بعد كل هذه السنوات في طريق الدعوة والإصلاح والتربية وخدمة الآخرين، ويعطيك مؤشرًا على رسوخ الفكرة لديه، ووضوح الهدف، وكمال الرؤية.

لغة الكتاب

لغة الأستاذ فتح الله كولن في كتاباته لغة أدبية رصينة، ذات مستويات عديدة في الخطاب، تتضمن معاني عميقة وإشارات ذات مغزى، فهو أديب شاعر، ومفكر فيلسوف، وخطيب مفوَّه له تأثيره الذي لا يُنكَر على جماهيره، وقد تجلى ذلك واضحًا في رصانة عبارات كتبه “ونحن نقيم صرح الروح” “ونحن نبني حضارتنا” وعمق معاني كتابه “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، وجزالة لغة مقالاته في افتتاحيات مجلة حراء، ولولا هموم الدعوة ومشاغلها لشهدت تركيا الحديثة أديبًا متفرغًا فذًّا لا يقل عن أدبائها المشهورين من أمثال محمد عاكف أرصوي(2)، ونجيب فاضل(3) وأمثالهم.

لكن لغة هذا الكتاب جاءت مختلفة عما سبق ذكره، فهي تتميز بسهولة الألفاظ، وبساطة التراكيب، ووضوح الأفكار، والاستطراد أحيانًا، ويرجع ذلك إلى ما أسلفنا ذكره حول طبيعة هذا الكتاب من أنه مجموع من دروس متنوعة ألقاها الأستاذ كولن على طلابه في حلقات خاصة بثت على الشبكة العنكبوتية ثم تشكلت منها مجموعة “الجرة المشروخة”، وبطبيعة الحال نجد فيها مراعاة لأحوال المخاطبين ذوي المستويات المختلفة والمشارب المتنوعة.

ومهما يكن من شيء فالأستاذ في أدبياته كلها -مهما تنوعت أساليبه- يصرِّف القول في قضايا وأفكار محورية ظل طيلة حياته الدعوية التي تناهز الستين عامًا ينحتها فكرًا وسلوكًا، فالمحور الفكري للأستاذ ثابت لا يتغير ولا يتبدل، ولن يغيب عن متقصي آثار الأستاذ كولن وعوالم عقله الثبات والتناسق في جوهر أفكاره وعدم تناقضها أو تخالفها؛ بل يشهد تكاملها مع بعضها وتساندها وسيرها في طريق رئيس، شوطًا بعد شوط، ترسم حدود الإحياء والانبعاث في الفكر والحركة والدعوة.

قراءة أولية في المنهج

ينطلق الأستاذ فتح الله كولن في كل كتبه من منطلق رؤية حضارية تكشف عن نفسها بواسطة قلمه، وفكر هذه الرؤية الحضارية وعقلها الباطن، وعالمها الروحي يمكن رؤيته منعكسًا في كتاباته التي منها هذا الكتاب.

هذه الحضارة التي يُبشِّر بها كولن جديدة كل الجدة على السلوك الإنساني المعاصر، لذا تراه في هذا الكتاب يحاول معالجة هذا السلوك الغارق في تشييد صرح الأنانية إلى الاهتمام بمسألة إحياء الآخرين. فيحث السالكين في مسيرة التجديد إلى ضرورة بلوغ أعلى مراتب التدين، والتي تبدأ بإحياء الجانب النظري، مرورًا بالجانب العملي المتضمن معايشة الدين وجعله روحًا للحياة، وصولاً إلى جعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار” (أخرجه أحمد في مسنده) هدفًا ونبراسًا له، على أن يرسم الإنسان حياته وفقًا لهذه الغاية. وسوف أقف في السطور التالية على بعض ملامح هذه الرؤية الكلية من خلال هذا الكتاب ومنها:

1توقير الإنسان

من أهم المسائل الجوهرية التي عُني بها الأستاذ كولن مسألة توقير الإنسان حتى لو كان مخالفًا في العقيدة، أو متجاوزًا حدوده في التعامل المشترك، فيقول: “علينا أن نبدي الاحترام اللائق بماهية الإنسان، لأن الإنسان مخلوق كريم لا بد من احترامه وتقديره، يقول تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) فالله عز وجل يبين أن الإنسان مخلوق كريم محظي بقيمةٍ فوق القيم، وهو في طبيعته يعبر عن مثل هذه القيمة. ولا يخفى عليكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عَلَيهِ بِجِنَازَةٍ قَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا” (متفق عليه)، ومن ثم فعليكم ألا تتخلوا عن احترامكم لهذا الإنسان الذي خلقه الله مكرَّمًا وإن أساء معاملته معكم، حتى وإن استخفّ البعضُ بقيمكم وأساء الأدب مع الله ورسوله فعليكم أن تحافظوا على أسلوبكم معهم محافظتكم على شرفكم وعرضكم، ويجب ألا تنسوا أنكم مسلمون مزوَّدون بالأدب المحمدي والخلق القرآني؛ بمعنى أن أخلاقكم هي أخلاق القرآن، فكيف لكم أن تتصرفوا مثل الآخرين؟! قد يفلت لسان الآخرين، وبعضهم يدنّس المكان الذي يمرّ به، ولكنكم لستم مثلهم، إنكم مضطرون إلى أن تعبروا عما تتميزون به وتختلفون فيه عنهم حتى في أسوأ الظروف”(4).

2مصدرية الوحي في النهوض الحضاري

الوحي بمصدريه (القرآن الكريم والسنة النبوية) من الركائز الأساسية التي اعتمد عليها الأستاذ فتح الله كولن في عملية الإقلاع الحضاري من جديد. وهذا الاعتماد لم يقف عند حدود الخطاب بل تعدى إلى الحضور الفعلي في الواقع الحياتي، فتربية نماذج إنسانية تستمد انبعاثها وطاقتها الحيوية المتجددة من هذا المصدر، وتقتفي أثر  رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في الحياة ومنهجه في التفاعل مع الكون كان هو الشغل الشاغل الذي نذر له الأستاذ حياته، يقول الأستاذ كولن: “فكما أننا بأمسِّ الحاجة إلى الحماسة بمعناها الحقيقي؛ فنحن كذلك في حاجة إلى كثيرٍ من المبادئ التي قنّنَتْها محكماتُ آيِ القرآن الكريم؛ حيث إنه ينبغي لنا أن نَزِنَ كلَّ أفعالِنا وتصرُّفاتنا بميزان القرآن والسنة، فضلاً عن آراء وأقوال الخلفاء الراشدين، امتثالاً للحديث الشريف: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ” (أخرجه أبو داود في سننه) ؛ لأننا إن كنا نؤمنُ بصدق هدفنا وغايتنا التي نسعى من أجلها فلا بدّ أن يكون الطريق الذي نسعى من خلاله إلى هذا الهدف محفوفًا بالثقة والأمان، وهذا لا يتأتّى إلا بالسير على نهج القرآن والسنة، واتباع سادتنا الصحابة، لا سيّما الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عن الجميع.”(5).

إن فتح الله كولن يعتقد أن القرآن الكريم الذي أقام حضارة إنسانية منذ أربعة عشر قرنًا، تقوم على العدالة الحقيقية والمساواة المتوازنة والفضيلة وحرمة الظلم والشرك والجهل وإقامة الأخلاق الفاضلة، قادر كذلك أن يقول كلمته في العصر الحاضر والمستقبل، وهو كذلك على يقين بأن القرن الواحد والعشرين سيكون عصر القرآن: “ليس من المبالغة أبدًا النظر إلى المستقبل بأنه سيكون عهد القرآن، وذلك لأنه الكلام الذي يرى الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحدٍ”(6).

والسنة النبوية لا تقل كذلك أهمية عن القرآن الكريم في رؤية الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحية، فإذا كان “المصدر الرئيس للعلم هو آثار الحق تعالى، والقرآن الكريم المعجز البيان هو القول الشارح والتفسير الواضح والبرهان القاطع والترجمان الساطع لهذه الآثار” فإن “السنة الصحيحة هي المبيّن والمفسر للقرآن الكريم”(7)، ومن ثم تُطلق الحكمة على السنة السنيّة للصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن مفعمٌ بحكمٍ تعجز أمامها العقول ولا تملك إلا أن تذعن وتُسلِس له قيادَها، فجاءت السنة الشريفة؛ ففصّلت القضايا الإجمالية في كتاب الله تعالى سواء ما يتّصل منها بالحياة الفردية أو الاجتماعية أو الأخروية، ولقد تناول شمسُ الفضيلة صلوات ربي وسلامه عليه الآيات البينات ففصّل مجملها، وقيَّد مطلقها، وخصّص عامّها، ولم يدع جانبًا غامضًا فيها؛ مما دعا بعض المفسرين إلى أن يُفسّروا “الكتاب” في الآية بـ”القرآن”، و”الحكمة” بـ”السنة” الشريفة”(8).

3روح الأدب الرفيع

يظهر جليًّا من خلال هذا الكتاب عادة الأستاذ كولن وديدنه الذي يتمثل في روح الأدب الرفيع في تعظيم الله عز وجل وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم،  فالأستاذ فتح الله كولن من هؤلاء الأفذاذ الذين تقطر كلماتهم النابعة من الفطرة بنفحات أُنس وأدب جمٍّ في التعامل مع آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، فهو لا يذكر الله عز وجل إلا بإحدى صفاته من الجمال أو الكمال أو الجلال، أما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ينزله منزلة عالية ويوقره، فتجده لم يذكره قط بلفظ محمد مفردًا، بل جُلُّ حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بألفاظ فى غاية التبجيل والتقدير فأحيانًا يلقبه بفخر الإنسانية  وفى أحيان أخرى بصاحب الشريعة، أو سيدنا النبي، أو العظيم روحًا ومعنى، أو الرسول الحبيب، أو الرسول الأعظم، أو سيد الأنام، أو فداك روحي وكياني. وكذلك الحال مع الصحابة الكرام، لا يذكر اسم الصحابي رضي الله عنهم إلا مقرونًا بـ(سيدنا) أو بما اشتُهروا به من الصفات ولا يختم الحديث عنهم إلا بـ(رضي الله عنهم)، ولا يصف الأحداث التي مرت على المسلمين إلا وهو يعايشها بأحاسيسه النزيهة وفكره المتفحص المقلب لصفحات الأسرار. وبالأسلوب عينه من الاحترام والتوقير كان يتحدث عن السلف الصالح والعلماء الأجلاء رضي الله عنهم جميعًا.

4المنهج الأصولي

إن الفقه وأصوله من أهم وأبرز قيم حضارتنا، وهما كما يقول الأستاذ فتح الله كولن: ” ثمارُ مساعٍ حثيثة وكدحٍ مضنٍ، ومن حيث إنهما من غير مثيل أو شبيه لهما في التاريخ- مَنبعان لا ينضبان ومصدران قابلان للتوسع والثراء الرحيب بحيث إن الشعوب التي تمتلك هذين المصدرين، تُعَدُّ مالكة لأهم الأشياء الحيوية. إن كل حضارة تَفخر بقيمٍ تخصها بالذات… وأحسب أننا لو كنا نحتاج إلى أن نَصِف حضارتنا -باعتبار ماضينا- بصفة، لكان من الأنسب أن نصفها بـ”حضارةِ الفقه وأصول الفقه”… حضارة الفقه وأصول الفقه المنفتحة أبوابُـها على مصاريعها للفكر والحكمة والفلسفة”(9).

 من هنا فإن من يقرأ كُتب الأستاذ فتح الله كولن يجد نفسه أمام فقيه وأصولي بامتياز، والأدلة على ذلك كثيرة أهمها، أن منطلق الأستاذ دائمًا في إجابته على الأسئلة الشرعية يكون من خلال مراعاة الحفاظ على الكليات الخمس (الدين والنفس والنسل والمال والعقل)، وقد ظهر ذلك في أكثر من موضع في الكتاب، لا سيما عند حديثه عن قضية الانتحار والعمليات الانتحارية -وسوف يأتي بيان مزيد لها- حيث بنى تحريمه للعمليات الانتحارية من منطلق حفظ النفس، التي تأتي في غرة الضروريات الخمس.

كما أنه حينما يناقش موضوعًا يتعلق بمجال الفقه والأصول، لا يترك الموضوع حبيس ساحة واحدة فقط كشأن الأسلوب الأكاديمي، بل يظل يبحث عن الآثار الاجتماعية والثقافية لمضمون ذلك الموضوع، فتراه يناقش ويدخل في تفاصيل النتائج الأخلاقية والفكرية والمعرفية التي عسى أن تتمخض عما تناوله من المبدأ الفقهي أو الأصولي.

فهو يذكر أن من المعاني التي تطلق عليها الحكمة “الاطّلاع على باطن الأشياء وخلفيّاتها، والوقوف على المقاصد والمصالح في خلق الله للكون والإنسان، ومعرفة أن كلّ شيء في الكون موضوعٌ في نصابه، وليس فيه من عبث.”(10).

5تفعيل المصادر الذاتية

يؤكد الأستاذ كولن على أن أولوياتنا التي ينبغي أن يقوم عليها عالمنا الفكري، والمقاييس التي يجب الاعتماد عليها، والمعايير التي ينبغي أن نكون أوفياء لها، هي الأدلة الشرعية الأصلية، وفي مقدمتها المصادر الأساسية لثقافتنا، والتي يمكن أن نتعرف من خلالها على مشاعرنا وأفكارنا وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأدلة الشرعية الفرعية مثل: العرف والعادة والمصلحة والاستحسان.

فإذا ما تعرف الفرد جيدًا على مصادره الأساسية، وأضاف إليها المعلومات التي يستقيها من المصادر الأخرى، والفلسفات الحديثة والنظريات الغربية رغم ما قد يوجد فيها من فكر منحرف، إلا أنه ينبغي ألا نحرم أنفسنا من بعض الجماليات الموجودة بها والتي تضفي على معارفنا حينئذٍ طابعًا مميزًا ولونًا خاصًّا. أما إذا ما أهملت تلك المصادر الأساسية ولم نتمسك بعلم الأصول فالنتيجة أن شبابنا سيتلقف كل ما يصل إلى يديه على الفور دون اعتبار لغثٍّ أو سمين، ولا انتباهٍ أو مراقبةٍ لما قد يُدس في العسل من السم، فننساق كالعميان، ونقع في فخ التكلف والخيال.

كما ينبه الأستاذ كولن في هذا الصدد إلى نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي نقطة الإنسان المتكامل، إنسان الروح والعقل أو إنسان الفكر والقلب فيقول: “من أجل الاستفادة بحق من المصادر الأساسية القيمة قيمة الكنز فإننا بحاجة إلى سعة وجدانٍ تُحلِّق في أفق القلب والروح، وتتعرف على ما يجب التعرف عليه مما يختص بهذا الأفق، وتطَّلع على وجهة نظرٍ تكشف عن معاني كتاب الكون، وتستفيد منها وتفسرها، ولكن كم عدد أصحاب هذا الأفق الذين يمكننا أن نشير إليهم اليوم؟ فمن زمن طويل ونحن نعاني عند تربية الإنسان من انعدام المؤسسات التي تتناول وتخاطب نواحي الإنسان المادية والمعنوية والقلبية والروحية والعقلية والفكرية وغيرها”(11).

ثم يختم الأستاذ حديثه في تلك القضية بضرورة أن يكون هناك اتحاد ثلاثي أو تشكيل حامل ثلاثي عند القيام ببناء عالمنا الفكري، وذلك باندماج المدرسة التقليدية والمدرسة الحديثة، أو بين المدرسة التقليدية وبين التكايا والزوايا، وبين ذلك كله وبين نظام وانضباط الثكنة العسكرية.

6الأفق الكوني

من الملامح العامة في خطاب الأستاذ فتح الله كولن في هذا الكتاب كونية الخطاب، وقد أكَّد عليها في مواطن عديدة، فهموم الإنسانية حاضرة في ذهن الأستاذ كولن بشكل متواصل، فهو لا يبحث عن حلول لمشاكل الأمة الإسلامية فحسب؛ بل إن مشاكل الإنسانية تحتل جانبًا كبيرًا من تفكيره، وهذا يدل على أنه ينقل المسلم من الشعور بالمسؤولية الفردية إلى الشعور بالمسؤولية الكونية. يقول كولن: “يجب أن تكون غاية حياتنا تمثيل الإسلام على الوجه الأكمل، وإبراز صورته الحقيقية وتقديمه للإنسانية من جديد وفقًا للصورة التي جاء عليها من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. إن كل مكان في العالم قد اندلعت فيه النيران، وعدم إدراك الإنسان هذه الحال البائسة التي تعيشها الإنسانية بسبب تلك النيران التي تسري في أوصالها، وعدم الشعور بها في النفس، وعدم معالجة المسألة بهذا القدر من الدقة والحساسية، هو غفلة بالنسبة لمن يسعون في سبيل خدمة الحق والحقيقة”(12).

7واقعية الحلول

في إطار أجوبة الأستاذ كولن عن الأسئلة الموجهة إليه والتي تتعلق برؤيته في حل بعض المشكلات، يجد القارئ أن الأستاذ كولن دائمًا وأبدًا لا يقترح حلولاً نظرية تدور في فلك العقل والخيال فقط، ويصعب تطبيقها على أرض الواقع، بل يجده على العكس من ذلك تمامًا يقترح في حل المشكلات آليات عملية، ويدعو دائمًا إلى تفعيل الأفكار، والتطبيق العملي الفعال للحلول التي يقترحها، والتي هي حاضرة في ذهنه دائما.

فقد تناول الأستاذ في الكتاب مسألة الإصلاح بين المتخاصمين، فبين أهمية إصلاح ذات البين، واقترح حلولاً عملية لتحقيق هذا الإصلاح، كتشكيل فريق يُعوَّل عليه القيام بهذا الإصلاح، يمكن أن نطلق عليه (هيئات الصلح)، على أن يكون الفريق من شخصيات تتمتع بخبرات في هذا المجال، هذا الفريق له دراية بنفسية الإنسان بما يساعده على حسن استقراء مخاطبيه، وأن يتميز هذا الفريق بقوة المنطق، وسلامة الحجة، وفصاحة البيان.

ونظرًا لأن خطاب الأستاذ كوني فقد اقترح أن توسع دائرة الوساطة بين المتخاصمين لتتعدى المستوى الفردي إلى مستوى الحي والقرية والمدينة إلى الدولة؛ بل الذهاب بها إلى أبعد من ذلك في ترميم العلاقات بين الدول، ومن هنا يتحقق الثواب الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم كل من يسهم في تحقيق هذا الأمر حينما قال: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ” (أخرجه أبو داود في سننه) (13).

إلا أن الاقتراح الأمثل -كما يرى الأستاذ كولن في عامة أدبياته- يكمن في مكافحة الخلاف والفرقة في عصرنا المتمثل في الأنشطة التعليمية؛ التي تُخَرِّج أفرادًا كاملين من حيث القيمة العالمية والفضائل الإنسانية مثل السلم والسماحة والحوار، وليتخصص هؤلاء في فروع العلم المختلفة، على أن يكونوا متشبعين أيضًا بالقيم والفضائل الإنسانية، ومفعمين بمثالية الإحياء، ولْيُجرِ هؤلاء دراسات الدكتوراه وما بعدها حتى ينفعوا الإنسانية حيث كانوا، وحينذاك سيُشار إليهم بالبنان ويُصبحون عناصر فاعلة كابحة لزمام الفتن والاضطرابات؛ وبذلك يؤدون مهمة عظيمة في هذا الموضوع؛ وهذا ما يعنيه الأستاذ كولن بالإصلاح على المستوى العالمي.

وفي إطار دعوة الأستاذ كولن لإقامة حوار إنساني بنَّاءٍ، ومد جسور سلام بين مختلف المفاهيم والديانات والثقافات، نبَّه إلى أنه ينبغي إنشاء ذلك الحوار على أساس من التسامح، وإنزال الناس منازلهم، والنظر إليهم على أن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، واعتبارهم من حيث فطرتهم واستعدادهم مرآة لتجلي الألطاف الإلهية. ثم اقترح إقامة مراكز لتطوير الخطاب الإنساني حتى نصل إلى خطاب يسع الجميع فقال: “…بعد إدراك الإنسان أنه ابن هذا الزمان ويعيش في هذا المجتمع، لا بد من تحديد الأسلوب وتطويره، وإنني أظنّ أن عدم استطاعتنا تطوير مثل هذا الخطاب الشامل الذي يسع الجميع ويحتضنهم لمن أعظم عيوبنا في هذا العصر، فيا ليتنا نجد هنا ــ إن جاز التعبير ــ مراكز لتطوير الخطاب على غرار مراكز الحوار؛ يمكنها أن تُكسب إنسان هذا العصر مثل هذا المستوى الرفيع؛ وليت هذه المؤسسات تضطلع بتوضيح كيفية التعامل مع أصحاب المفاهيم والثقافات المختلفة وإقامة حوار معهم دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع أيّ ردٍّ سلبيٍّ، والحق أن لدينا مرجعين فسيحَين قادرين على حل مشكلات كل العصور؛ وهما الكتاب والسنة، ولكنني أرى أن ثمّة حاجة ماسة إلى لغةٍ خطابية مشتركة من أجل تقديم هذين المرجعين بشكل يتناسب مع أبناء الثقافات والمجتمعات المختلفة”(14).

8محو الأنانية و تصفير الذات

يُلِحُّ الأستاذ فتح الله كولن إلحاحًا شديدًا على ضرورة التيقظ إزاء مخاطر الأنانية، فمن المعاني الأساسية في فكر الأستاذ كولن “تصفير الذات”، فهو يريد من الإنسان أن يُصفِّرَ شهوته وحبَّه للظهور حتى تكثر الأصفار، وينبه إلى ضرورة إرجاع الفضل إلى صاحب الفضل وعدم ادعاء امتلاك ما ليس لنا، بل لكي يزيد الفكرة رسوخًا في القلوب يطور الأستاذ مفهوم “تصفير الأنا” إزاء أفضال الله تعالى فيقول “صفّر نفسك أمام الله”، مواصلاً: “لا قيمة للصفر بحد ذاته، ولكن إن وضعنا إلى جانبه رقمًا صار له قيمة. تخلّ عن دعوى الأنانية، صفِّر نفسك، ودع خالق الأرقام يضع الرقم الذي يريد إلى جانبك”(15).

إن الأستاذ كولن يعتبر تصفير النفس شرطًا لضمان استمرار هطول ألطاف الله تعالى، ويعتبر بروز الأنا سببًا في انقطاع تلك الألطاف، فيقول:”إذا أردت للعناية الإلهية أن تستمر بالهطول عليك في نجاحاتك، فتخلّ عن ادعاء الفضل لذاتك، اعمل على محو “الأنا”، وانسب الفضل إلى صاحب الفضل، وتواضع أمام الله”، ويحذِّر بالمقابل من مخاطر الأنانية: “الحذرَ الحذرَ من الوقوع في براثن الأنانية، فردية كانت أو جماعية. لأن الأنانية سبب الحرمان من عون الله”(16).

كما أن من أعظم المخاطر التي تواجه إنسان الخدمة كما يرى الأستاذ كولن، هي محاولته إثبات نفسه وإبرازها، ويؤكد أنه إن ربط الإنسان نفسه بأهداف بسيطة؛ كأن يجعل الإنسان أمله في أن يُشار إليه بالبنان؛ فمن الممكن أن يصل إلى هذا الأمل في الحياة الدنيا، لكن الخسارة التي سيُمنى بها هذا الإنسان في الآخرة ستكون كبيرة.

9إحياء الآخرين والعيش من أجلهم

قد يعاني الإنسان بمقتضى فطرته الهموم بسبب علله الشخصية أو مشاكله الأسرية، وقد تتوسع دائرة هذه الهموم لتشمل مدينته ودولته، لكن الهمَّ الأكبر -كما يؤمن الأستاذ فتح الله كولن- يجب أن يتجاوز ذلك كله بانشغال الإنسان بمشاكل البشرية جمعاء والبحث عن حلول لها، وفتح قلبه وصدره للإنسانية بأسرها.

وبهذا فإن الشعور الذي يجب على المؤمن أن يشعر به إزاء الآخرين هو: ليتني أُحدّث هؤلاء الإخوة وأوقد في قلوبهم جذوة حبّ الله عز وجل، ليتني أُثير فيهم الرغبة في معيته جل جلاله، ليتهم يرتقون في مدارج الدعاء إلى أن يصلوا في دعائهم إلى مرحلة من القرب يقولون فيها: “اللّهُمَّ عَفْوَكَ وَعَافِيَتَكَ وَرِضَاكَ وَتَوَجُّهَكَ وَنَفَحَاتِكَ وَأُنْسَكَ وَقُرْبَكَ وَمَحَبَّتَك ومَعِيَّتَكَ وَحِفْظَكَ وَحِرْزَكَ وَكِلاءَتَكَ وَنُصْرَتَكَ وَوِقَايَتَكَ وَحِمَايَتَكَ وَعِنَايَتَكَ”(17).

ومن جانب آخر فإن هذا الإنسان المؤمن يتلوَّى همًّا من أن يضل الناس أو يزلّوا أو ينحرفوا، ويعمل على وضع خططٍ وحلول لهذا الأمر، قائلاً في نفسه: “يا تُرى! ماذا يمكنني أن أفعل حتى أُجَنِّب الناس مواضع الزلل”(18)، وفي طريق السعي لإحياء الآخرين يُنبِّه الأستاذ كولن إلى ضرورة الحرص على عدم اتباع الأساليب الخاطئة في العرض حتى لا تلقى قيمُنا ردَّ فعلٍ عنيفٍ من الآخرين. وحتى نحمي الإنسانية من خطر الحروب والصراعات يرى: “أن نقيم جسور سلام بين مختلف المفاهيم والثقافات، وإلى جانب نقل بعض الأشياء للآخرين نستلهم منهم بعض الأشياء، وبذلك نبرهن على أن مختلف الثقافات ليست غريبة عن بعضها أو منافية تمامًا، وأنه لا توجد فروق جذرية تؤدي إلى النزاع بين مختلف الثقافات والحضارات”(19).

10الفوضى لا تقيم دولة

يؤكد الأستاذ كولن في هذا الكتاب، أن الفوضى التي تقوم في أي مجتمع لا تنتج شيئًا نافعًا أو ذا قيمة، ويشير إلى أن من يضطلع بهذا العمل ربما يقوم به بحسن نية، لكنه ينبه في ذات الوقت أنه لا يمكن الجزم بالنتائج التي تسفر عنها الأحداث العشوائية؛ ولهذا فإن قلق الأستاذ فتح الله كولن ومخاوفه تزداد من الحركات والأعمال التي تسيطر عليها العشوائية، ويؤكد أن أوّل قضية لا بد من حلها لإصلاح أي مجتمع: هي إقامة روح الإيمان لدى الفرد مجدّدًا، وإعادة صياغته من جديد، ثم العمل على تناول مسألة الإصلاح من كل جوانبها، فيقول: “إن كان لا بدَّ من تحقيق تغيير حقيقي فلا بدَّ من تناول المسألة بكل جوانبها، فكما أن الجسد لا يستطيع أن يقوم بوظائفه على الوجه الأمثل إلا بوجود الحيوية في جميع أعضائه فكذلك إصلاح الحياة الاجتماعية يستلزم تناول هذه الحياة بكل جوانبها، فإن تجاهلتم ثغرة واحدة من الثغرات الواجب سدّها؛ هويتم على الأرض من فوركم دون وعي أو شعور”(20).

أفكار لافتة في الكتاب

حرص الأستاذ في دروسه على ترسيخ منهج الخدمة في نفوس من سمَّاهم ورثة الأرض وفرسان الوجد، وتأكيد هُويتهم التي ينبغي أن تكون طابعًا مميزًا فيهم، يرسمون به صورة المسلم الحق، ومن ثم لم تغب عنه في هذا الكتاب قضايا تطرح نفسها دائمًا على واقعنا المعاصر؛ لذا نراه يحاول معالجة كثيرٍ من تلك القضايا، فيعالج مسألة الحساسية الدينية وغيابها عن كثير من المسلمين رغم تمسكهم بمظاهر التدين، ويقدم مفهومًا جديدًا للغلول، ويلقي الضوء على كثير من الأمراض الاجتماعية كالحسد والغيرة التي تفتت الجماعات والمجتمعات. وسوف نقف مع بعض هذه الأفكار اللافتة وقفة سريعة نستطلع من خلالها رؤى الأستاذ كولن فيها، ومن ذلك:

أالتدين والحساسية الدينية

يفرق الأستاذ كولن في هذه النقطة بين التدين والحساسية الدينية، فيرى أن التدين يعني: تطبيق تعاليم الشرع على الصعيد الشخصي، وأن للتدين مراتب شتَّى؛ تبدأ في الجانب النظري من احترام المبادئ الدينية والانصياع لأوامر الدين، وفي الجانب العملي من معايشة الدين إلى جعله روحًا للحياة.

أمَّا الحساسية الدينية فينظر إليها الأستاذ كولن نظرة أوسع وأعمق، فهي تعني أن يراعي الإنسان بدايةً المعايير الدينية في حياته الشخصية ولا يحيد عنها قيد أُنملة، وأن يُظهر دقَّته الشديدة وحساسيته البالغة في سبيل أن يُطَبِّق الدين بين أفراد الدائرة القريبة منه والبعيدة عنه ومن يَتحلَّقون حوله ويترقبون أوامره. ويقصد الأستاذ بهذا المعنى أن يكون الإنسان شغوفًا بإحياء الآخرين، وانتشالهم من رقدتهم.

بـمفهوم عصري للغلول

يشرح الأستاذ كولن الغلول بمعنييه فيقول: “الغلول بمعناه العام هو أن يتعدى الإنسان على شيء ليس من حقه، وينتفع به، فيخون الأمانة…. وبالمعنى الخاص هو أخذ شيء من الغنيمة قبل القسمة، واختلاس المال العام، وإساءة استخدام مال الدولة”(21) ويطلق الأستاذ كولن على هؤلاء وصف”لصوص النجاح”، ويرى أن احتكار الإنسان لنجاحات حققتها هيئة ما يدخل في باب الشرك الخفي، ومن ثم فليس للإنسان الحق أن ينسب لنفسه النجاحات التي أُحرزت نتيجة مساعي وجهود الملايين من الناس، ولا أن يعتبر توجّه الناس إليه حقًّا له، فهذا يعد غلولاً وذنبًا عظيمًا وخيانة للأمانة، فأي نجاح قد تحقق فهو جهد فريق، وبالتالي فهو حق للجميع.

جـمنهج ورثة النبوة في تنظيم الحياة

يعرض هنا الأستاذ كولن منهجين ويقارن بينهما، ويؤصِّل لأحدهما كمنهجٍ ينبغي اتباعه، لا سيما في ظروف عصرنا الراهن. المنهج الأول: هو منهج الاعتزال والانقطاع عن الغير والانغلاق على النفس بالعبادة الفردية في الخلوات، وهذا المنهج يعود لأرباب المتصوفة الخلوتية الذين اعتزلوا الدنيا، وعاشوا حياتهم في عزلة وانزواء فأغلقوا أبوابهم على أنفسهم حتى لا ينشغلوا بشيء ولو طرفة عين عن العبادة لربهم، وهو مع ما يبديه لهذا المنهج من الثناء عليه وإضفاء الاحترام له، ينبهنا أنه ينبغي علينا ألا ننسى أن هذا المنهج ليس سبيل ورثة النبوة.

أما المنهج الثاني فهو منهج الفاعلية والمشاركة والمعاشرة والتبليغ والموازنة بين الدين والدنيا، وهنا نجد الأستاذ كولن يتبنى هذا المنهج، ويشير إلى أن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وهو يبلغ رسالته لأتباعه أخبرهم أن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.

دالحسد فرديًّا وجماعيًّا

يرى الأستاذ كولن أن الحسد مرض روحي يصعب التغلب عليه إذا ما تمكن من الإنسان، ويمثل لذلك بحسد الشيطان وتمرده وعناده في مسألة السجود لأبينا آدم عليه السلام، ويشير إلى أن السبب الأساس في هذا التمرد والعناد المؤدي إلى الحسد أن قلب إبليس كان موغرًا بالحقد والغل لأبينا آدم عليه السلام، مما دفع إبليس لعدم التفكير بإيجابية.

ثم يستطرد الأستاذ كولن في ضرب الأمثلة مستقرئًا التاريخ استقراءً سريعًا، فيذكر قصة ولدي آدم عليه السلام، وما كان يحمله قلب أحدهما للآخر من حقد وحسد، حتى أدَّاه ذلك إلى أن يقتل أخاه، وما تعرض له كذلك فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم من أحقاد على أيدي مشركي قريش وعلى رأسهم أبي جهل، ثم يضرب مثالاً معاصرًا على ذلك بما قام به البعض من إعلان ضجره واستيائه مما تقوم به مدارس الخدمة ورجالها، رجال نذروا أنفسهم لخدمة قضايا التعليم، من إقامة مهرجانات للثقافة واللغات، وذلك بمشاركة طلاب من كل دول العالم، في أبهى صور التعارف على ثقافات الشعوب، وتوجيه أنظار العالم إلى منظومة القيم الروحية والمعنوية المتجذرة في الثقافة الإسلامية، حيث ادّعى هؤلاء أن ما يقوم به فدائيو المحبة ما هو إلا دعايات إعلامية، متجاهلين المشقات التي تكبدها فرسان الوجد هؤلاء والمعاناة التي عاشوها في سبيل إخراج تلك الفعاليات إلى النور. وبالرغم من تفنن هؤلاء الحاقدين الحاسدين في إلصاق الافتراءات بالقائمين على هذا الخير النافع للإنسانية جمعاء، نجد الأستاذ فتح الله كولن يوصي محبيه بأن الوظيفة التي تقع على عاتقهم في مقابلة الحسد والغيرة من الآخرين، هي استيعاب كل هذا واحتضان الجميع؛ فالله تعالى يقول في كتابه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)

ويعقب الأستاذ كولن على تلك الآية بقوله: “بمقتضى هذه الآية عليكم أن تكظموا غيظكم وتعفوا عن غيركم، ولا تقابلوا الإساءة بالإساءة؛ لأن الخسارة تقل عند اصطدام سيارتين إحداهما واقفة والأخرى سائرة، ولكن إذا كانت السيارتان على نفس السرعة واصطدمتا كانت الخسارة فادحة، وعلى نفس الشاكلة عليكم أن تقللوا الضرر بألا تقابلوا الإساءة بالإساءة؛ حتى تُذيبوا جليد الحسد والغيرة الذي يحيط بمعارضيكم”(22).

هـالعمليات الانتحارية (الجناية المضاعفة)

من القضايا المهمة التي يتناولها الكتاب، قضية العمليات الانتحارية، التي بدأت أولاً في الغرب ثم انتشرت بعد ذلك في بعض الدول الإسلامية، والقائمون بهذه العمليات -كما يقول الأستاذ كولن- يمنحونها غطاءً شرعيًّا، فيصفونها “بالانتحار المشروع”، ويحاولون بهذا أن يمنحوها في سبيل خدمة أيديولوجياتهم قيمةً ومعنى اسميًّا، معتقدين أنهم بذلك يحمون دينهم وتديُّنهم!، وهنا يؤكد الأستاذ كولن أن مثل هذه العمليات تعتبر جريمة مضاعفة؛ لأن هؤلاء الجناة الغافلين الذين لا يمتُّون للإنسانية بصلة، ولا يعرفون عن دين الله شيئًا لم يكتفوا بأن يتدحرجوا في دركات جهنم بسبب قتلهم لأنفسهم، بل قتلوا الكثيرين من الأبرياء أيضًا، لذا سيحاسبهم الله تعالى فردًا فردًا على تلطيخ أيديهم بدماء هؤلاء الأبرياء مسلمين كانوا أو غير مسلمين أطفالاً أو شبابًا أو شيوخًا؛ لأن الإسلام يوجب على أتباعه سواء في السلم أو الحرب الالتزام بقوانين وقواعد معينة، وكما لا يجوز للإنسان أن يقتل الآخرين في حال الصلح، فكذلك لا حق له في أن يقتل الأطفال والنساء والشيوخ من الأعداء حتى ولو في حالة الحرب.

ثم يتحدث الأستاذ كولن عن رأيه في تلك العمليات وأنها ليست من الإسلام في شيء قائلاً: “…نؤكد على أنه لا يمكن أن نطلق لفظ المسلم على الإنسان الذي يرتكب هذه الجرائم، وهو على تلك الحال التي يحمل فيها مثل هذه الأفكار والخطط الهدامة. ونؤكد مرة أخرى على أنه لا يمكن التوفيق ألبتة بين الإسلام وبين ما يقوم به هؤلاء الجناة من إزهاقٍ لأرواح الأبرياء من خلال استخدامهم للأحزمة الناسفة، أيًّا كانت الدولة أو الحزب الذي ينتمون إليه”(23).

كما ينبه الأستاذ كولن على أن مثل هذه العمليات تعطي انطباعًا سيئًا عن الإسلام، وتشوه صورة الإسلام الناصع البياض فيقول: “من جانب آخر فمن المسلَّم به أن مثل هذه العمليات الانتحارية من شأنها أن تُسوّد وجه الإسلام الساطع وتُدنِّس مُحيَّاه اللامع؛ لأن هذه الجرائم التي تصطبغ بصبغة الإسلام وتعطي انطباعًا بأنها في سبيل الدين، ينسبها من لا علم له بالإسلام وأصوله إلى الإسلام؛ ومن ثم سيكون من العسير جدًا على المؤمنين أن يصححوا مثل هذا الفهم الخاطئ”(24).

وروح التفاني العاقلة

من الواجب في نظر كولن أن يكون لدى إنسان الخدمة حماس جنوني حتى ليوشك أن يهلك نفسه أو ينقصم ظهره من الهمّ، أو ينخلع قلبه وتتصدع رأسه وتنتفخ أوداجه حزنًا على هذه القلوب المحرومة من الإيمان، فلو وجدنا إنسانًا لديه مثل هذا الحماس الجنوني فعلينا أن نوجِّه هذا الحماس الذي قد يصل إلى حدِّ النشوة إلى الثبات على الحق والدوام عليه، ولضمان استمرارية هذه الروح المفعمة بالعزم، على الإنسان كما يرى كولن ألا يضحي بالعقل والمنطق في سبيل الحسّ والحماس؛ لأن هذه الحال تؤدّي إلى الإفراط وعدم الاتزان؛ ولذا لا بدّ من أن تنبض القلوب وتخفق، ويتقدم العقل والمنطق على الانفعال والحماس على الدوام، ويُوجَّه الانفعال إلى الإيجابيات.

ز- نشوة النصر واختلال التوازن

في معرض حديث الأستاذ كولن عن الدروس المستفادة من غزوة حنين، تحدث عن أثر نشوة النصر في اختلال توازن الإنسان، وأنه يجب ألا يسمح الإنسان للنجّاح أن يُطيِّر صوابه، ويُكدِّر بصره، ويُنسيه عبوديته لربه عز وجل، فيقول: “كما أيَّد الله عز وجل برعايته وعنايته الإلهية سادتنا الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ونصرهم على أعدائهم فقد يمنُّ على مسلمي اليوم بمزايا وأفضال متنوِّعة، المهم هو أن يحتفظ المسلمون بمستواهم حينذاك وأن ينسبوا كل ما يجري إليه سبحانه، بل عليهم أمام كل نجاح تدخَّلت فيه إرادتهم أن يُمَزِّقوا حجاب الأسباب ويسحقوه بأرجلهم ويدركوا أن وراء هذه الأسباب مسبِّبَ الأسباب سبحانه وتعالى، ويذعنوا قائلين: “كل شي منه جلا وعلا”(25).

تعقيب وخاتمة

بعد هذا التطواف السريع في متن الكتاب، وما اشتمل عليه من رؤى منهجية وأفكار لافتة بقي لنا أن نعبر عن بعض ما قد يأخذه القارئ على هذا المحتوى أسلوبًا وفكرًا، فمن ذلك بساطة الأسلوب والاستطراد أحيانًا في بعض الجوانب، وتكرار الفكرة الواحدة في أكثر من موضع. ويُعزى ذلك إلى ما قد سبق الإشارة إليه من أن هذا الكتاب حلقة في سلسلة مجموعة كتب “الجرة المشروخة” المؤلفة من دروس الأستاذ الأسبوعية التي يلقيها على طلابه إجابة على أسئلة يوجهها بعض الحضور عليه، ومن ثم فخصائص الخطاب فيها تنحو منحى الأسلوب الشفوي الارتجالي، الذي يغلب عليه طابع التكرار والاستطراد والانتقال إلى فكرة أخرى ثم العودة من جديد إلى الفكرة السابقة.

ولا شك أننا إذا جمعنا خطاب الأستاذ كولن في هذه الكتب، إلى جانب خطابه في الكتب الأخرى المجموعة من مقالاته التي كتبها بنفسه واعتنى بإخراجها قبل نشرها فسيعطينا ذلك تصورًا كاملاً عن خصوصية أدبيات الأستاذ بصورة كلية.

أما عن ترتيب المحتوى الذي قد يراه البعض مفتقدًا للوحدة الموضوعية في بعض الأحيان فالأغلب أنه يرجع إلى تصرف هيئة التحرير بما رأته مناسبًا للحال أو الظرف الذي نشر فيه الكتاب، لكن هذا أيضا قد يسمح للقارئ بأن يرتب قراءة المحتوى حسب ما يعنُّ له من خاطر وينظر إليه من منظور خاص ليستكشف ملامح رؤية الأستاذ فيما يبتغيه.

إن هذا الكتاب بما اشتمل عليه من محتوى تلقائي يطلعنا على عملية التكوين الحي المباشر الذي يمارسه الأستاذ مع طلابه وكيفية إحياء ثوابت الأمة في نفوسهم فكرًا وسلوكًا وتطبيقًا ومعايشة، والله من وراء القصد وإليه وحده المرجع والمآب.

الهوامش

(1) راجع مقال الأستاذ كولن “لكي لا يكون شبابنا فريسة للتنظيمات الإرهابية” مجلة بوليتكو، 8، يونيو، 2017، على الرابط التالي:

http://gulenarabic.com/%D9%84%D9%83%D9%8A%D9%84%D8%A7

(2) شاعر من أب تركي وأم بخارية ولد في إسطنبول سنة 1290 هـ الموافق 1873، كتب نشيد الاستقلال الذي أقره البرلمان التركي ليكون نشيدًا رسميًّا لتركيا.

(3) أحمد نجيب فاضل قيصا كيوريك” ولد عام 1904 في إسطنبول،  وهو أحد أهم الشعراء والكتاب الأتراك المعاصرين.

(4) فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2017، ص18.

(5) المرجع نفسه، ص285/286

(6) فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ7، 2012، ص145.

(7) فتح الله كولن، جهود التجديد، مرجع سابق، ص 115

(8) المرجع نفسه ص 155

(9) فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2014، صـ79ــ80.

(10) فتح الله كولن، جهود التجديد، مرجع سابق، ص 155

(11) فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا،مرجع سابق ص311.

(12) فتح الله كولن، جهود التجديد، مرجع سابق، ص187.

(13) انظر “هيئات الصلح”، جهود التجديد، مرجع سابق، ص52.

(14) فتح الله كولن، جهود التجديد، مرجع سابق، ص171.

(15) المرجع السابق، ص219 بتصرف.

(16) المرجع نفسه، ص293.

(17) المرجع نفسه، ص24.

(18) المرجع نفسه، ص25.

(19) المرجع نفسه، ص34.

(20) المرجع نفسه، ص93.

(21) المرجع نفسه، ص59.

(22) المرجع نفسه، ص359.

(23) المرجع نفسه، ص334.

(24) المرجع نفسه، ص335.

(25) المرجع نفسه، ص.326