الملخص:

يحدد كتاب “الغرباء” وفتح الله كولن الوصفة المحصنة للإنسان الجديد من أمراض الطريق، ويجعل “العشق” اختيارا لا محيد عنه رغم كل شيء، رغم المشانق والسجون والمطاردات والتضييق ورغم النفي ورغم كل شيء، لقد بذر هؤلاء الغرباء بذرتهم، واستقرت في تربة هذا العالم، وسيسقيها “الغرباء” بدموعهم ودعواتهم وتوسلاتهم للأقدار بأن تزهر في قريب الأيام…هذا هو ما تقوله عناوين كتاب “الغرباء”، إنها تعلن بأعلى صوتها، إنّا وإن كنا غرباء بقيمنا وعشقنا عن واقع هذا العالم، فإننا الأحياء حقا لأن طاقة “العشق” التي تشربتها قلوبنا وجوارحنا هي الآن منهمكة في شحن العالم بهذه الطاقة الإيجابية…”. تلك كانت وجيزة الوقفة التي وقفها الكاتب مع عتبات كتاب “الغرباء” للأستاذ كولن، الذي صدر حديثًا عن دار الانبعاث بالقاهرة، وهو الكتاب الثاني من سلسلة كتاب نسمات. الكتاب هو مجموعة من مقالات الأستاذ كولن التي نشرت في افتتاحيات مجلة حراء في أوقات متفاوتة، بدءًا من عام 2005 حتى شهر مارس عام 2018.

المقال:

أما قبل

فإن قراءة الأستاذ فتح الله كولن ليست بالأمر السهل، لأنه يفرض على متلقيه وقرائه عدم قراءته قراءة عابرة، ولا قراءته قراءة واحدة، لأن عالمه الفكري لا يعطيك كله في قراءة واحدة، ففي كل قراءة يعطي المتلقي بعضه، ويدفعه دفعا إلى العودة إليه مصدرا للتزود المعنوي ومصدرا للزاد الفكري ومعينا للحلول الوجودية المتصلة بالإنسان في علاقته بالوجود وخالق الوجود، ومن هنا فإن قارئ عالم فتح الله كولن ملزم بأن يتسلح بعتاد ضروري حتى يتمكن من التفاعل إيجابا مع هذا العالم، ومن أهم ما يجب على المتلقي التسلح به وهو مزمع الدخول إلى هذا العالم هو الوعي بالسياقات الكبرى، التي أحاطت بحياة فتح الله كولن باعتباره مفكرا إصلاحيا ومثقفا حركيا، برزت قوة شخصيته في فقهه العميق لتفاصيل الواقع واستيعابه الكبيرة لحركية التاريخ وصيرورته، وكتابه “الغرباء” الصادر في بحر سنة 2018، كتاب يحتم استحضار السياق العام، الذي صدر فيه، وأخذ هذه السياقات بعين الاعتبار، لأن من يدخل عالم هذا الكتاب وهو على وعي بسياق الصدور، أو لنقل وهو على وعي بأسباب النزول، الكتاب يقترح نفسه على المتلقي في بعده العام، وعلى المتلقين الذين يفترض أنهم يعرفون فتح الله كولن.

في ضوء الملاحظات السالفة فإن الكتاب يقترح على قرائه أن يُقرأ والذهن منفتح على التاريخية والتحولات التي يمر بها العالم، والتي فرضت نفسها بقوة إلى درجة استحالة صرف الطرف عنها أو تجاهلها. ومن جهة أخرى فإن قراءة الكتاب يفرض استحضار مضامين تلك الحوارات، التي قدمها الأستاذ فتح الله كولن لوسائل الإعلام الدولية، لأن لهذه الحوارات وسياقها أهمية قصوى في التفاعل الإيجابي مع هذا الكتاب.

رؤية صاحب كتاب “الغرباء” تقوم على ضرورة تحالف الروح والعقل وتحالف الروح والفكر في صناعة الانبعاث وخلق التجدد، إذ لهذا التحالف طعم خاص وعذب لا تجده إلا النفوس المكابدة.

أما بعد

فإن كانت الأحداث الأخيرة والحملة التي تعرض لها فتح الله كولن قد أعطت انطباعا لدى الرأي العام المتابع بكون الرجل شخصية ذات بعد سياسي، إلا أن الكتاب يأتي في هذه المرحلة ليؤكد أن الرجل مفكر ومثقف وعالم، بل ليؤكد أن أبعاده الفعلية هي العلم والفكر والحكمة.

التأمل في الأحداث التي ارتبطت بفتح الله كولن توحي بأن اهتمامه منحصر في رقعة جغرافية محددة وهي تركيا، إلا أن الكتاب يأتي لينزع البعد المحلي عنه، ويؤكد الطابع الإنساني العام لحكمته التي يتعذر نزع صفة العالمية عنها، ولعل هذا البعد هو أحد أهم أسباب الخلاف بين الرجل والزعامة السياسية القائمة في تركيا، ربما لأن الرجل رفض وضع رصيده الإنساني العالمي رهن إشارة السياسة التي لا تعترف بالمواقف الثابتة وتنزع إلى الابتعاد عن القيم والأخلاق. ففتح الله كولن في “الغرباء” يخاطب العالم كله مؤكدا بأن الغربة هي قدر كل من انضوى تحت مظلة الحكمة والتبصر، وتصدى للانحراف الفكري بالسبل المشروعة ما وسعه السبيل إلى ذلك.

إن شعور الغربة إحساس ثابت في أصل فطرة الإنسان، يلتهب أواره كلما تعارضت قيم الذات وقيم الواقع، وقد يجد البعض هذا الشعور نوعا من أنواع الفرار، ومدخلا من مداخل الانهزام، ولونا من ألوان الانزواء بعيدا عن الواقع وعن المجتمع. وقد يعتبره البعض صيحة مدوية ترتفع عاليا عندما تجد الحكمة نفسها في مواجهة واقع منحرف تتحكم فيه المصالح المتوحشة والدوافع الغريزية.

كتاب “الغرباء” تجسيد لمظاهر الغربة في بعدها الإيجابي، بل هو دعوة صريحة إلى التبصر والحكمة، وصيحة مكتوبة بدم المعاناة في فضاء يحكي قصة ذلك الصراع الدرامي والأبدي بين الخير والشر، ويحكي حكاية غربة الخير في زمن الانحراف. وهو كذلك تجسيد لصوت الحق في وجه الظلم، وتجسيد لموقف الاستضعاف في مواجهة الاستكبار.

هذا الكتاب أو هذه الصيحة عرض دقيق لمفهوم الغربة في أبعادها الإيجابية المتطلعة إلى البناء، وهو بقدر ما يحتويه من مشاعر صادقة وأحاسيس فياضة، بقدر تعبيره عن رؤية موقف تجاه تناقضات الواقع، بل هو رؤية أخلاقية تشع قيما سامية لا يخطئها المتأمل، ولا تنغلق عن الراصد، كل ما في الكتاب يؤكد ذلك بدء من العتبات، وانتهاء بالعمل كله.

ما يريد فتح الله كولن الإلحاح عليه هو أن تجد الأمة قدوة سامية تسترشد بها وهي تشق طريق التجدد، ليس بإعادة إنتاج ذلك الماضي، بل بالاهتداء بمعالمه وركائزه وعمقه الفكري والوجداني في بناء خصوصية الحاضر.

العتبة ومشروعية الدخول

إذا كان لكل شيء مدخل وعتبة ينبغي المرور منها للولوج إلى الداخل أو إلى العالم الداخلي لكل شيء، فإن النصوص كذلك ذات عتبات ينبغي المرور منها قبل الدخول إلى عالمها الداخلي، وإلا كان الدخول تسللا غير مشروع، أو إتيانا للبيوت من غير أبوابها، أو على الأقل قد يفوت على المتلقي الكثير مما قد يكون حاسما في أبعاد النص/النصوص. وكتاب “الغرباء” بالتحديد يفرض على المتلقي الوقوف عند العتبات وخاصة عند عتبة العنوان، لأنها تقول أشياء كثيرة، ومن يعرف فتح الله كولن الكاتب، يعرف أن عناوين كتبه ليست عناوين اعتباطية بل هي عناوين دالة، تتضمن أبعادا تغري المتلقي بدخول عالم النص حتى يكتشف ما كشفت العتبات وخاصة العنوان دلالاته.

لم يشذ فتح الله كولن في هذا الكتاب الجديد عن القاعدة، فعنوان “الغرباء” يحمل العديد من الدلالات والإيحاءات التي ضمنها المرسل قصدا، وهو يريد من متلقيه إدراكها وفك شفرتها، وكأن العنوان يبعث بتحد يمتحن نباهة المتلقي في كشف إيحاءات العنوان وأبعاده.

إن كشف إيحاءات العتبة/العنوان ليس ترفا لغويا، ولا مجرد ترف بياني يورد الجزء ويقصد الكل، بل هو أكبر من ذلك، فهو يحتاج من المتلقي ألا يتوقف عند التداعيات اللغوية والبيانية، وأن يجتاز ذلك إلى ربط العنوان بسياقاته التاريخية الراهنة، وفي الغالب لن يخرج السياق عن تلك الظروف الصعبة التي مر بها أبناء الخدمة، والتي جعلت من صاحب الكتاب محط اهتمام المهتمين، ناهيك عن الحملة التي تعرض لها إلى درجة اتهامه بتدبير انقلاب عسكري للاستيلاء على الحكم في بلده. والجدير بالذكر في هذا المقام هو افتراض معرفة المتلقي بالكاتب وبالحركة التي التفت حول فكره ورؤيته الحضارية.

أول اتصال يربطه المتلقي بعنوان “الغرباء” سيتكون لديه شعور بأن العنوان يرمز إلى أولئك القابضين على الجمر، لأنهم قبضوا على دينهم، ولم تتزعزع مبادئهم وظلوا متشبثين بقيمهم رغم كل ما يتعرضون له من أصناف التضييق والمحاصرة والمتابعة.

فـ”الغرباء”، هم هؤلاء المتشبثون بشعار “لا حياد عن الحق رغم فساد واقعنا، ورغم فساد الناس الذين يؤثثون هذا الواقع”، و”الغرباء” كذلك عنوان وقضية، بل هو عنوان ورؤية للعالم تقوم على الاحتضان، في مواجهة رؤية تتأسس على الاستكبار.

تستمر عناوين “الغرباء” في التدفق كالشلال العذب مشكلِّة منارة ترشد الغرباء وغيرهم في هذه المرحلة العصيبة من واقع الأمة، بل من تاريخ الإنسانية، حيث تكسرت البوصلة وترك الحكماء مقام الإرشاد مرغمين.

العنوان مقصد وإضاءة

“الغرباء” عنوان يتضمن حمولة مقصدية ظاهرة يعسر القفز عليها وتجاهلها، بعبارة أخرى إن هذا العنوان يتضمن دلالات وإيحاءات مقصودة، ولذلك جعل ثريا فوق النص/الكتاب ليضيء عالم النصوص/المقالات الواردة في الداخل أو ليضيء عالم النص باعتباره كلا، وما يؤكد هذه الملاحظة هو كون هذا العنوان عنوان مقالة من مقالات الكتاب، فإذا جرى تبئيره ورفع مقامه ودرجته ليصير فوق كل العناوين/ النصوص الأخرى، ولم يرفع إلا ليمارس تأثيره في توجيه القراءة، فلا شك أن لكل العناوين الواردة في الكتاب دلالة معينة، لكن عنوان “الغرباء” اكتسب الصفة الأبوية على العناوين الأخرى، وظله حاضر مع كل عنوان وفي كل نص. وبعبارة أخرى إن “الغرباء” باعتباره عنوانا أبويا هو المفتاح الذي يفتح مغاليق كل العناوين الأخرى، وكأن لكل مقالة من مقالات الكتاب عنوان ضمني هو “الغرباء” وآخر فعلي هو عنوان المقالة.

لا تتوقف إيحاءات “الغرباء” العنوان القضية عن توليد ما يشد المتلقي، وهذه المرة من خلال تبئير اسم المؤلف وهو فتح الله كولن، إذ توحي القراءة الأولية أن يكون المقصود هو أن المؤلف سيبين مفهوم الغرباء من وجهة نظره، وكأنه يتجه إلى المتلقي الذي تسلح بما يكفي من معطيات سياقية وهو يتلقى الكتاب أو يتعرف عليه، وقد يكون هو أن المؤلف نفسه هو أحد الغرباء إن لم يكن حكيمهم في هذا العصر.

فتح الله كولن هو عقل حركة الخدمة، وواضع منظومتها الأخلاقية ومنظرها الفكري وملهمها العملي، وهو الذي ربى عددا من المريدين في ضوء هذه المنظومة، وحثهم بعد ذلك على الانتشار بين ثنايا المجتمع والعمل على إصلاحه في كافة مجالات الحياة، وجعل ما تشبعوا به من قيم سلوكا عمليا غايته تغيير المجتمع إلى الأفضل، خدمة للمصلحة العامة ولمصلحة الإنسانية كلها، ولما تعارضت هذه القيم مع قيم المجتمع استحق هذا الرجل الملهم ومن معه المحاصرة، وأُعلنت الحرب على الخدمة ورؤيتها الحضارية في كل مكان، ولم يسلم من هذه الحملة حتى المؤسسات التي أنشأتها في مجال التربية التعليم خارج تركيا، فأغلقت العديد منها في دول كثيرة.

فالرؤية الحضارية التي ظلت الخدمة تبشر بها وتعمل على تنمية مقدراتها بوعي فكري ومعرفي، وروح متسامحة، لا يخطئها النظر الحصيف، لم تعد تستجيب للتحولات الكبرى التي رصدها من عزموا أمرهم على محاصرة فكر هذا المشروع الحضاري لأسباب سيكشف التاريخ القريب ماهيتها، ومن هنا فليس مستغربا أن تستحق الخدمة العنوان الذهبي “الغرباء”.

فتح الله كولن صاحب رؤية منهجية تتأسس على تنمية قدرات الشباب، وعلى رفع مستوى أدائهم السلوكي والفكري والمعرفي العلمي، مع فتح المجال واسعا أمامهم لإثبات ذواتهم.

إضاءات المقدمة

انتقال القارئ المتلقي إلى عتبة المقدمة سيطلعه على إضاءات كثيرة تؤكد الأبعاد الدلالية لعنوان “الغرباء”، وتؤكد إيحاءاته ومقصديته، لتؤدي هذه العتبة مهمتها الأساسية وهي استيعاب أبعاد النص ودلالاته وإدراك كل إيحاءاته. وعلى هذا الأساس فالمقدمة موجِّه ضروري للقارئ/المتلقي وهو يهم بدخول عالم النص، فـ”الغرباء” باعتباره عنوانًا مركزيًّا يوجه نظر المتلقي في اتجاهين:

الاتجاه الأول: هو كون القيم والأفكار التي يحملها حكيم الغرباء، أفكار قد توصم بالجنون لأن الرؤى السائدة لم تعد ترى للقيم والأخلاق بصورة عامة دورا تؤديه في الواقع، بل لقد صارت المصلحة الفردية، التي تغلب عليها الأيديولوجيا والفلسفة المادية هي الموجّه، إلى درجة أن صار الدين باعتباره منظومة قيم ومنظومة أخلاقية مجرد وسيلة لتبرير الفوضى والتسلط والظلم والصراع والفتنة، إلى غير ذلك مما هو ناتج عن توظيف الدين وقيمه ببعد أيديولوجي.

ولا حاجة للتنبيه أن ما يقترحه “الغرباء” هو رؤية ترفض توظيف القيم والأخلاق، والدين بصفة عامة وسيلة لتأليب الحشود وتوظيف سيكولوجية الجماهير لتبرير المواقف والسلوك والتصرفات، تحقيقا لمصالح ضيقة مزركشة بألوان سياسية في الغالب، ولا يخطئها إلا المغفلون.

أما الاتجاه الثاني: فأساسه الإيمان برؤية، والاعتقاد بوجاهتها رغم المصاعب والفتن المصاحبة لهذا الإيمان والاعتقاد، فـ”الغرباء” جزء من ذلك النداء الذي توشح به الأنبياء والرسل جميعا وتشبث به أبطال الحق في كل زمان رغما عن الاستكبار ورغما عن الموانع التي لو استطاعت ملء كل المنافذ في السماء والأرض لما ترددت، و”الغرباء” كذلك هو نداء من سلك درب الحق والعدل يريد الإصلاح والصلاح، وصوت أولئك الذين تحرر فكرهم من ربقة العبودية لغير الله، وتحرروا من تسلط سلطة المادة، ودافعوا عن ذلك كله بالطرق المشروعة ودون الحياد عن الحق قيد أنملة.

إن مقالات كتاب “الغرباء” تشكل مجتمعة رؤية واحدة، بل هي حلقات رؤية واحدة تكّون في الأخير مشروعا للانبعاث من جديد، وعنوان “الغرباء” هو المفتاح الذي يفتح كنوز هذا المشروع.

تقول أول فقرة في المقدمة محددة لسياق التلقي: “قراءةُ ما كَتب الأستاذ فتح الله كولن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، لا تعدو أن تكون إمَّا ضربا من ضروب الجنون، أو لونا من ألوان الإيمان:

جنونٌ؛ لأنَّ كلَّ ما يصدر عن الأستاذ من أفكار تكاد تجد نفسها غريبة عن زمانها، مثالية على ما يبدو أكثر مما اعتاد الناس، أو واقعية أبلغ مما تخيله الناس؛ إذن هي أفكار غريبة ليس لأنها جاوزت نصابها، أو انحرفت عن خطها؛ لكن لأنَّ الناس مالوا وانجرفوا، فابتعدوا عن المركز “كأنهم لا يعلمون”.

وإيمانٌ؛ لأنك تكاد تلمس لهيبا حارقا وأنت تمارس عملية الفهم المضنية لما ترسمه يد الأستاذ وهو يبدئ في واقع الأمة ولا يعيد؛ واقع مرٌّ مريرٌ، وسرابٌ يحسبه الظمآن ماء “حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ”.

تكاد الفقرة الأولى من المقدمة تتحدى المتلقي، وهو تحد يريد جعله مشتركا بكل كيانه في قراءة الكتاب، لأن اللحظة التاريخية وسياقها يفرض ذلك، فقراءة المتعة والتسلية مجرد نافلة يمكن الاستغناء عنها، لأنها حاجز وحجاب يحول دون نفاذ هذا المتلقي إلى عمق فكرة الكتاب واستيعاب مقصدية مقالاتها، ومن هنا فالإنسان الذي لا يجد في داخله -وهذا هو ما توحي به المقدمة- داعيا يلح عليه في طلب الحق، وإذا لم تكن الحسنة ضالته، وإذا لم يكن ملحاحا في البحث عنها، فلن يدرك مضامين الكتاب العميقة، لأن ما في الكتاب من رؤى وأفكار وحزن وآهات وآلام، قد يعتبرها من لا يحمل قلبا حيا ينبض بالحياة الحقة، جنونا ونغمة نشاز عن هذا العصر، وبالمقابل سيجد من لا يعرف فتح الله كولن، فضلا عمن يعرفه حق المعرفة أنه يكاد يحترق من شدة حرارة ما يعتلج في قلبه من حزن وألم وتقطُّع قلب على ما آل إليه الإنسان وواقعه من تردٍّ أخلاقي وابتعاد عن القيم وابتعاد عن الدين، بل سيجده قلبا يتقطع ألما على كل من افتقدوا الحكمة واتخذوا من القيم والأخلاق والدين أيديولوجيا لتبرير المواقف والمصالح الضيقة.

يتبادر إلى الذهن سؤال عن هوية كتاب “الغرباء” وطبيعته هل يقرأ الكتاب قراءة متعة وتمضية الوقت خارج تاريخية نزوله وسياقه؟ ولرفع اللبس ينبغي الإشارة إلى أن أهل القلم صنفان:

-صنف يكتب من أجل التسلية، ومن أجل الإمتاع والمؤانسة ملبيا هاتف البحث عن ذلك في الإنسان، فهذا النوع من الكتابة يجد غايته وجماليته منحصرة في هذه الدائرة قد لا يتعداها، فدورها مقصور على تغذية مشاعر المتلقي وإشباع عواطفه، والإنسان بطبعه متشوق لذلك، خاصة إذا كانت ملتزمة بالحد الأدنى للقيم والأخلاق، وكتاب “الغرباء” قد يتوسل ببيان ومنهج هذا الأسلوب، لكنه حتما ليس للتسلية.

-وأما الصنف الثاني من أهل القلم، فهو الذي يحمل الهم والهمة، ويحمل على عاتقه مسؤولية همٍّ ثقيلة تتجاوز الذات إلى الغير وإلى الآخرين، صنف يعيش لأجل الآخرين أينما كانوا ومتى ما وجدوا. صنف يحمل في قلمه المشدود إلى قلبه همَّ تغيير العالم إلى الأصلح ودفعه دفعا إلى ما فيه مصلحته، فهذا القلم دأبه البحث عن الحلول لمشاكل عالمه، ولذلك فإن ما يكتبه هذا الصنف من أهل القلم إنما يكتب للتأمل والتفكر، ويكتب من أجل أن يبقى رؤى خالدة ومرتكزات نظرية للتفاعل والتنزيل الواقعي، لأن مداد هذا القلم خلق ليعيش فوق الزمن. وقلم كتاب “الغرباء” يستمد مداده من مداد هذا القلم.

مركز الكتاب هو “الغرباء” الموصول بخط معنوي يدور في كل اتجاه، وفي كل دورة تزداد دلالة الغربة تعمقا، لكن هذا البناء رغم دورانه فإن طرفه الأخير منفتح على المستقبل وعلى الآفاق البعيدة والوجود.

الكتاب في أصله مجموعة من المقالات كانت مجلة حراء نشرت بعضها مقالات افتتاحية، وكونها كذلك يؤكد أنها مقالات كتبت لكي تظل موجِّها نظريا ورؤيوية لكل من يريد الانخراط في إصلاح العالم.

إن احتلال أغلب هذه المقالات لمقام الافتتاحية يحمل أكثر من دلالة بالنظر إلى الرؤية التي كانت مجلة حراء تتحرك بها ومن خلالها، ولا شك بأن اختيار عنوان “الغرباء” ليكون قاسما مشتركا بين هذه المقالات كلها، دليل آخر على كون هذا العنوان مفتاحا يفتح ما في مقالات الكتاب مقالة مقالة من رؤى وأفكار ومواقف.

وتسترسل المقدمة في بيان عالم العنوان، وهو عالم فسيح يحتضن الكون كله، لكن من زاوية من ترك السلبية جانبا، وتوشح برداء الإيجابية، ولم يتوقف عند لحظة الألم باكيا، بعبارة أخرى إن من يتفاعل مع هذا العنوان إنما يتفاعل مع الكون كله، والإشارة هنا ليست مقصورة على الأبعاد الإيحائية التي تفوح من العنوان، بل هي منفتحة على كل العناوين الواردة في هذا الكتاب، وعلينا ألا ننسى بكون هذه العناوين قد ازدانت وازدادت رونقا بتعليق عنوان ” الغرباء” كالثريا فوقها لتضيء عالمها، فهي دعوة لقراءة كل عناوين الكتاب في ضوئه، فطيف حقيقة “الغرباء” تضيء فضاء كل نص وكل عنوان، والبنية التركيبية لـ”الغرباء” جعلته عنوانا متصلا بالكتاب كله، فإذا اعتبر هذا العنوان مبتدأً، فالكتاب هو الخبر، وهو أيضا كل عنوان مقالة على حدة. يقول فتح الله كولن مبرزا حقيقة الغرباء ومن يكونون: “الغرباء ثلة من أبطال القلوب وفدائيي المحبة، وقلة من الأطهار المجهولين. أنين متواصل هم، وتأوّهات ممتدة لا تنتهي، وحرقة أليمة تكوي الفؤاد كيًّا. إنهم عُشّاق حقيقة سامية وناشرو رسالة نبيلة. في سبيلها يتعرضون للأذى والألم، ومن أجلها يُطرَدون عن الأبواب. تلفحهم عشرات المخاطر كل يوم، وتتهددهم إنذارات الموت كل لحظة، وتنهمر عليهم ألوان الإهانة والتحقير كل حين، تلك هي حياة الغرباء.

ليس الغريب من ابتعد عن وطنه وداره أو فارق أهله وخلاّنه، إنما الغريب من بات مغتربا في مجتمعه حالاً ومنهجًا وسلوكًا. فهو الحامل لأحلام سامية وغايات أخروية، وهو المضحّي بملذّاته الشخصية من أجل غيره، والمتألق بهمته العالية وعزيمته الخارقة”.

“الغرباء” هو نداء من سلك درب الحق والعدل يريد الإصلاح، وصوت الذين تحرر فكرهم من ربقة العبودية لغير الله وتحرروا من تسلط سلطة المادة، ودافعوا عن ذلك كله بالطرق المشروعة ودون الحياد عن الحق قيد أنملة.

وتسترسل المقدمة في بيان من يدركون هذه الأبعاد، بعبارة أخرى ليس كل متلق مؤهلا لأن يدرك هذه الأبعاد، وكأن المقدمة تريد اختيار وتحديد متلقيها، وهم أولئك الذين احتضنوا الكون كله بصدق ومدوا خيوط جوارحهم للتفاعل مع هذا العنوان الثريا. تخبر المقدمة متلقي الكتاب بأن: “كتاب “الغرباء”، ليس كتابا من الكتب، وليس مقالا ضمن المقالات، وليس سِفرا يُلحَق بالأسفار؛ وإنما هو واحة ودوحة، جنة وجنان، سماء وأرض، ماء وخضرة، حبٌّ ووفاء، صبر واحتراق، سماحة وسلام، بكاء وألم… هو مزيجٌ من المعنى لا يملك العقل إدراك مداه، ولا القلبُ الغوصَ في قاعه؛ إذا لم يكن عقلاً فطنًا مؤيَّدًا بالوحي، وإذا لم يكن قلبًا حيًّا مشدودًا إلى الفردوس الأعلى، مشدوهًا متوترًا بما كان وما سيكون… عقلاً لا يستظل نهارًا إلا بشمس القرآن الكريم، وقلبًا لا يسري ليلاً إلا تحت ضوء نبي القرآن .” فالكتاب قد يكون لعموم الناس، لكنه من الراجح أنه موجه على وجه التحديد لكل الغرباء في كل زمان وفي كل مكان، لأن مقالات الكتاب تعمل على التقاط همسهم الساري منذ زمن بعيد بين ثنايا الكون والوجود، وهو كذلك التقاط لنبض من احتضنوا الوجود كله التماسا لإيقاعه في دواخلهم، يقول الأستاذ مؤكدًّا هذا المعنى: “الغرباء أزهار شقّت بأكمامها أديمَ الأرض مبكرة قبيل الربيع. أزهار الفجر تلك، تواجه الثلج والجليد في كل بقعة تبرز فيها، تنتصر عليهما، ثم تخوض معركة بطولية مع العواصف والأعاصير. فما أروع أزهار الثلج ترسل بغمزاتها إلى الشمس، وتلوّح بمناديلها البيضاء وسط الثلوج الفضية تغنّجًا ودلالاً!.. وما أعظم قَدْرَ الغرباء في الملأ الأعلى.. أولئك الذين انطلقوا نحو النور مهللين بهتافات النصر!.. فهم يظهرون قبل أن تسقط الجمرة الأولى على الثلج، وقبل أن يذوب الجليد. يواصلون حياتهم بمشقة وعنت، يبارزون المخاطر الجسام التي تتصدى لهم، فيصابون بجراح قاتلة، وينزفون، وتَخور قواهم، وتتداعى أجسامهم. يغادورن الحياة دون أن يذوقوا منها أي لذة في معظم الأحيان، يغادرونها وقد “باتوا خرابًا وترابًا”، لكن يغادرونها مغادرة الأبطال. فعندما يأوون إلى حضن التربة لا يتلاشون ولا يندثرون، بل يُزهِرون ورودًا.. يموتون فُرادَى، وينبعثون عشرين عشرين.” هؤلاء هم الغرباء الذين يتغنى بهم فتح الله كولن، وتسطر على ذلك مقدمة الكتاب، فهذا العنوان، والمقالة التي اعتلى قمتها هي مفتاح لفهم كل العناوين الأخرى، ومفتاح لإدراك كنه المقالات كلها، والافتراض هو أن يجد القارئ ظلا لهذه الروح في كل المقالات، وفي كل عنوان. وبالطبع فهذه الصورة تستحضر صورة أخرى مناقضة، وهي صورة الغرباء الآخرين، الغرباء عن ذاتهم وعن القيم، فهم غرباء بالمعنى السلبي، الغرباء الذين تاهوا عن الطريق وتوقفت بوصلتهم ولم يعد بإمكانهم التقدم، فهؤلاء هم البؤساء بملفوظ فتح الله كولن حين يقول: “في مقابل هؤلاء غرباء، أو بالأصح بؤساء، ابتعدوا كل يوم خطوة عن ذاتهم وإنسانهم وثقافتهم فأضحوا أجانب منكَرين. هؤلاء يشبهون غرباءنا حزنًا ومكابدة واضطرابًا. لكنهم متهافتون، متهدّمون، يائسون، من الإيمان محرومون إذا بحثت عن حياة قلبية أو روحية لهم فهيهات أن تجد شيئًا من ذلك. لا صوت لحركة، ولا بصيص لنور، ولا بارقة لأمل. أيام هؤلاء أشد ظلمة من لياليهم، ولياليهم مقابر حالكة السواد.”، فشتان بين الغرباء الذين يعيشون الغربة عن واقعهم وعن وطنهم بسبب ما يلقونه من مجتمعهم من إعراض عن الحق وابتعاد عن القيم والأخلاق وبين من عادوا الحق وتركوا العقل والتعقل بعيدا، فهؤلاء غرباء لأن القيم التي يحملونها لا تجد لها من يتفاعلون معهم، ولأن حياتهم القلبية مفعمة بالأمل ولذلك فهم لا يتوقفون عن القيام بوظيفتهم، لإدراكهم بأن حياة أخرى تنتظرهم، وبأن جزاءهم هناك. وأما الغرباء بل البؤساء فلانعدام الحياة القلبية لديهم ولانعدام الإيمان في حياتهم ولأنهم لا ينتظرون حياة أخرى بعد الموت، ولاعتقادهم بأن العدم ينتظرهم بعد الموت فغربتهم مجرد حمل ثقيل، ومجرد حمل لا طعم له، ولا يجدون له لذة. وشتان بين الغربتين، بين غربة الرؤية والفكر والحركية، وبين غربة اللاأدرية وغربة الأفق المنعدم.

ليس الغريب من ابتعد عن وطنه أو أهله وخلاّنه، لكنه من اغترب في مجتمعه حالاً ومنهجًا وسلوكًا. فهو الحامل لأحلام سامية وغايات أخروية، المضحّي بملذّاته الشخصية من أجل غيره، والمتألق بهمته العالية وعزيمته الخارقة”.

المقدمة وتكاملية الوجود

وفي عتبة المقدمة يجد القارئ المتلقي وجودا متكاملا يدعو المتلقي إلى احتضانه، فكتاب “الغرباء” “ليس كتابا من الكتب، وليس مقالا ضمن المقالات، وليس سِفرا يُلحَق بالأسفار؛ وإنما هو واحة ودوحة، جنة وجنان، سماء وأرض، ماء وخضرة، حبٌّ ووفاء، صبر واحتراق،سماحة وسلام، بكاء وألم… هو مزيجٌ من المعنى لا يملك العقل إدراك مداه، ولا القلبُ الغوصَ في قاعه؛ إذا لم يكن عقلا فطنًا مؤيَّدا بالوحي، وإذا لم يكن قلبًا حيًّا مشدودا إلى الفردوس الأعلى، مشدوها متوترا بما كان وما سيكون… عقلا لا يستظل نهارا إلا بشمس القرآن الكريم، وقلبا لا يسري ليلا إلا تحت ضوء نبي القرآن  “فالكتاب قد يكون لعموم الناس، لكنه في العمق هو موجه للغرباء وموجه لمن احتضنوا الكون والوجود وتفاعلوا مع الوجود بكل جوارحهم حتى صار نبض قلوبهم هو نبض الوجود. أو على الأقل هذا ما يريد من أشرف على نشر الكتاب الوصول إليه.

فالكتاب موجه لأهل القلب والعقل، موجه للقلوب الحية والعقول المفكرة، موجه لأرباب المستوى وأهل الفكر والحركية، لذلك الصنف من الناس الذين استطاعوا إدراك شحنات المعنى النابعة من كل مقالة والنابعة من كل عنوان، باعتباره عنوانا على الغربة في بعدها الذي يعرفه فتح الله كولن.

تؤكد المقدمة مرة بعد الأخرى أن الكتاب موجه إلى أرباب المعنى، الذين يتميزون بخصال قل نظيرها في هذا الزمان، إذ “هو مزيجٌ من المعنى لا يملك العقل إدراك مداه، ولا القلبُ الغوصَ في قاعه؛ إذا لم يكن عقلا فطنًا مؤيَّدا بالوحي، وإذا لم يكن قلبًا حيًّا مشدودا إلى الفردوس الأعلى، مشدوها متوترا بما كان وما سيكون… عقلا لا يستظل نهارا إلا بشمس القرآن الكريم، وقلبا لا يسري ليلا إلا تحت ضوء نبي القرآن” ما يمكن للمتنعم استخلاصه هو سيطرة خطاب ضمني موجه للغرباء من أبناء الخدمة، الذين يعيشون في الآونة الأخيرة أزمة حقيقية فهم إما في السجون أو مشردون بعيدا عن الأهل والوطن وإما محاصرون ومطالبِون باللجوء السياسي، وكأن المقدمة تحمل جملة نصائح موجهة إلى هؤلاء، والنصيحة الكبرى هي أن يجعل الغرباء الوحي مرشدهم في كل وقت وحين، لأن درب الغربة هو درب الرسل والأنبياء ودرب الصالحين منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض.

يجد المتلقي في المقدمة توجيها آخر يكشفه حين يضع لمقالات الكتاب بناء معماريا محددا يوحي بأن ترتيبها وعناوينها لم توضع اعتباطيا، بل نظمت وفق بناء هندسي يخدم الإشارات السالفة ويؤيدها، والتنعم السريع في هذا المعمار يوحي بأنه يبدأ من نقطة أو بداية، ثم يأخذ في التوسع دون فك ارتباطه بالبداية، أو بالنقطة المركزية ليظل بعد ذلك في العناوين المرتبة في الآخر منفتحا وغير مغلق، موحيا بأن الكتاب ليس نهاية بل هو مجرد حلقة من حلقات عقد متواصل، وليوحي كذلك بأن الكتاب متصل بالفضاء الواسع والكون الفسيح.

مركز الكتاب هو “الغرباء” الموصول بخط معنوي يدور في كل اتجاه، وفي كل دورة تزداد دلالة الغربة تعمقا، لكن هذا البناء رغم كونه يدور إلا أن طرفه الأخير منفتح على المستقبل وعلى الآفاق البعيدة وعلى الوجود، إنه يكاد يكون بناء حلزونيا، يبدأ بوتيرة حزينة ملؤها البكاء والحزن على الحاضر الصغير، الذي يحمل في طياته المستقبل فالطفل رمز يحيل على الآمال المنتظرة وعلى المستقبل.

ما يقترحه “الغرباء” هو رؤية ترفض توظيف القيم والأخلاق، والدين بصفة عامة وسيلة لتأليب الحشود وتوظيف سيكولوجية الجماهير لتبرير المواقف والسلوك والتصرفات، تحقيقا لمصالح ضيقة…

رؤية واحدة ومقالات عدة

كتبت أغلب المقالات على فترات، ونشرت في مجلة ‘سيزنتي’ المشهورة، قبل أن يعاد نشرها مترجمة إلى اللغة العربية، والعين الحصيفة ستلمس خيطا يصل بينها في تناغم عجيب، وكأن كل مقالة جوهرة رائعة من صنع سائغ حاذق واحد، وهي كذلك لأن من كتبها يصدر عن رؤية واحدة متكاملة. بعبارة أخرى إن مقالات كتاب “الغرباء” تشكل مجتمعة رؤية واحدة، بل هي حلقات رؤية واحدة تكون في الأخير مشروعا للانبعاث من جديد، وعنوان “الغرباء” هو المفتاح الذي يفتح كنوز هذا المشروع، الذي تبرز فيه كل مقالة على حدة وصفة دقيقة لحل مشكلة من مشكلات الواقع في هذه اللحظة التاريخية.

وبنظرة تأملية أخرى في عناوين الكتاب سنجدها تلخص رؤية الغرباء في زمن الغربة وفي زمن اشتد فيه ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الصلاح والفساد وبين الاستقامة والانحراف، لذلك تجد فتح الله كولن متوجها إلى أولئك الذين رفع عنهم القلم الذين لا يجدون من يكفكف دموعهم، لكن فتح الله كولن والغرباء قد أعلنوا النفير العام للقيام بهذه المهمة القدرية، لأنهم يدركون بأن لا أحد لهذه البراعم بعد الله سواهم، ولأن هذه البراعم تمثل البراءة وفيها يبزغ المستقبل والأمل. إن هذا الإعلان بقدر ما يتضمنه من أبعاد تقريرية، بقدر ما يحمل توجيها متجددا يريد بعث الحياة من جديد انطلاقا من الاهتمام بهموم من يرمزون للمستقبل.

إن بكاء هذه البراعم ليس بكاء بطل “الغرباء”، لأن دموعه دموع الباحث عن الإنسان وعن البطل القادر على مسح دموع الصغار، والصغر هنا مجرد رمز، رمز بقدر ما يحيل على مرحلة عمرية من عمر الإنسان بقدر ما يحيل على صغر الأحلام والآمال التي تنتظره والتي سيترعرع فيها من أجل المستقبل المأمول، أو لنقل المستقبل الذي ينتظره فتح الله كولن نظرا لغياب الإنسان الذي يهيئ الصرح الذي يمسح دموع الصغار، إنه البحث عن بطولة حقيقة، بل هو بحث عن البطولة المفقودة.

ومن خلال هذا الهم الثقيل، هم البحث عن البطولة المفقودة، فإن بكاء “طويلا بكينا” هو بكاء هم البحث عن طينة إنسان جديد وأبطال يمسحون الدموع في “كفكف دموعك يا صغيري”، على أن طريق “الغرباء” هي طريق واحدة لم تتبدل، فهي الطريق الوحيدة الطريق إلى الله، بمعنى أن الغاية والغرض هي مرضاة الله.

ولعل هذه الطريق التي يعلن كولن تعلقه بها، ويعلن بملء صوته أنه السبيل الوحيد، ليس مفروشًا بالورود، بل هو محفوف بالمتاعب ومملوء بتعارض قيم الذات مع القيم السائدة، ورغم ذلك لا حياد عن الصبر والمرابطة، وإذا كانت المكابدة قدر “الغرباء”، فإدراك البطولة يقتضي المرابطة، والمرابطة هي أصل المكابدة والغربة.

هذا الأمل الواسع وهذه الهمة العالية، تحتاج إلى همة أخرى أعلى عالية، وإلى أمال أوسع، تحتاج حركية لتتحول إلى واقع ملموس وإلى سلوك، بمعنى أن التغيير يحتاج لوسائل، وأولى الوسائل هي إيمان الذات بضرورة التجدد المستمر ودون توقف، لأن تغيير الواقع وبناء المستقبل يسبقه حتما اقتناع الذات وإيمانها بكل كيانها ومن أعماقها بوجوب التجدد وضرورته، لأن التجدد هو شرط البقاء ومن لا يتجدد يموت، والماء الراكد يتعفن. ولهذا فإن الرغبة في التجدد ليست ترفا بل ضرورة، قضية تنطلق من الفرد لتصل إلى المجتمع، بل هي اختيار مجتمعي، ومقدمات المنهج المؤدي إلى التغيير تبدأ من هاهنا.

“الغرباء”، هم هؤلاء المتشبثون بشعار “لا حياد عن الحق رغم فساد واقعنا، ورغم فساد من يؤثثون هذا الواقع”، و”الغرباء” عنوان ورؤية للعالم تقوم على الاحتضان، في مواجهة رؤية تتأسس على الاستكبار.

هذه المهمة المقدسة السامية تستوجب أن يكون المجتمع شجرة واحدة، وأن يكون الشعور بروح الأمة هو المحرك والعنصر الغالب، ولذلك لزم التنازل عن الأنانية والتفكير في الذات بمعزل عن الذوات الأخرى، وإذا كان الظاهر الصوري يوحي بوجود ذوات، إلا أن الأصل هو ذات واحدة. وبعبارة أخرى إن شعور الأمة شعور مركزي في كل عملية تجدد، إنها “الروح الباعثة” النابعة من عالمه الفكري وعمقه الوجداني، ومن اللازم في هذا المقام أن تكون المعاني القادمة من الماضي مسجِّلة بكل افتخار مواقف في سجل الإنسانية لا يعتريها البلى هي المرشد.

ما يريد فتح الله كولن الإلحاح عليه في هذا المقام هو أن تجد الأمة قدوة سامية تسترشد بها وهي تشق طريق التجدد، ليس المطلوب إعادة إنتاج ذلك الماضي، بل المراد هو الاهتداء بمعالمه وركائزه وعمقه الفكري والوجداني في بناء خصوصية الحاضر، كل هذه المكونات لابد لها من التضحية، فهذه الطريق لا يسير فيها من يبحثون عن تحقيق النتائج العاجلة بل يسير فيها من كانت التضحية ونكران الذات وإيثار الآخرين على النفس حاديه. المكابدة المقدسة، وعذب العذاب و”العذاب المقدس” هو سبيل الوصول إلى “الوجود الأبدي”، وهو سلوان روح الأمة الذي سيحول عذابها إلى ثمار وجنات وارفة الظلال.

الجدير بالذكر في هذه المكابدة و”العذاب المقدس” هو ضرورة تسيد الروح على الجسد، هذا هو عمق ما عمل فتح الله كولن على تثبيته في كتاب “الغرباء” وهو يرسم منهاج الانبعاث من جديد ومنهج التجدد، ولم يتوقف لحظة واحدة على التنبيه على أهمية الكيان الروحي للإنسان الذي يرغب في التجدد، فلا بد من “انتصار الروح”، فقد ينهزم الواقع وينكمش ويتراجع، لكن الروح الحية لا تتوقف عن القيام بواجبها، لأن بهجة الواقع بالتأكيد ليس غايتَها، يقول فتح الله كولن “إن الأبطال الذين ربطوا قلوبهم بأعظم الغايات وعمّروها بحب الإنسانية، قد ضبطوا ميزان طاقة القلب، وشحذوا عواطفهم للتحليق نحو أسمى الآفاق، وبلغوا الخلود في قرارة ذواتهم. هؤلاء السعداء الذين تخلصوا من العيش الحيواني بقفزة واحدة وتجاوزوا شهواتهم الجسدية، قد مكّنوا أرواحهم من التحليق، وقلوبهم من الرفرفة والتسامي، وحققوا انتصارات متعاقبة للروح في أبعادها الإنسانية رغم أنف النفس ونوازعها”.

على هذه الصورة تستمر عناوين كتاب “الغرباء” في التدفق كالشلال العذب مشكلِّة منارة ترشد الغرباء وغيرهم في هذه المرحلة التاريخية العصيبة من واقع الأمة، بل من تاريخ الإنسانية كلها، حيث تكسرت البوصلة وترك الحكماء مقام الإرشاد مرغمين.

ولا يقف شلال عناوين الكتاب عند هذا الحد، بل يستمر في التركيز على بعث الحياة في المعاني البانية للتجدد والانبعاث، وانتصار الروح في حاجة ماسة إلى الفكر المهموم بهمّ التجدد، فرؤية صاحب كتاب “الغرباء” تقوم على ضرورة تحالف الروح والعقل وتحالف الروح والفكر في صناعة الانبعاث وخلق التجدد، إذ لهذا التحالف طعم خاص وعذب لا تجده إلا النفوس المكابدة، والنفوس المكابدة هي مسكن الروح التواقة إلى الوجود الأبدي، وهي مسكن الفكر الملهم والمبدع، الذي يعتقد بأنه مسؤول عن الفعل والسلوك والعمل، وبأن النتائج ليست مسؤوليته.

التأمل في الأحداث التي ارتبطت بفتح الله كولن توحي بأن اهتمامه منحصر في رقعة جغرافية محددة، إلا أن كتاب “الغرباء” يأتي ليؤكد على الطابع الإنساني العام لحكمته التي يتعذر نزع صفة العالمية عنها.

إذا كان هذا الهم أمرا يعني المجتمع كله ويعني جميع أفراده، فإن المستقبل يشرق في الشباب، ولذلك تجد الكتاب يركز على هذه الشريحة من أبناء المجتمع، لأنهم أكثر شرائح المجتمع عرضة للمغريات والانحرافات، التي تنخر جسد المجتمعات. إذا لم يجد الشباب ما يحفز هممهم ويوجهها في اتجاه السمو فلا شك في أن الأفق سيكون قاتمًا والمستقل سيكون مكفهرًا. ولذلك نجد كتاب “الغرباء” ينادي منبهًا الشباب إلى أهميتهم في عملية التجدد، وتقترح مقالات الكتاب، من خلال مشروع فتح الله كولن لإعادة الانبعاث، أن يتم تحصين الشباب وبراعم المستقبل، ضد كل آفات العصر بالتربية والتعليم وتنمية قدراتهم الفكرية والعقلية وتزكية أرواحهم والسير في درب النور. وعلى هذا الأساس يخاطب فتح الله كولن “روح الفتوة” التي هي الطابع المميز لهذه الشريحة الاجتماعية، والتي لا تعرف المستحيل من خلال ما تتميز به من قدرة على الإبداع والابتكار يقول: “إن روح الفتوة بهذا المعنى، يَسمو أصحابُها بإراداتهم، ويُحكِمون السيطرة على أهوائهم، ويجددون محاسبة أنفسهم مرات كل يوم، يعيدون النظر في تصرفاتهم ويقبضون على زمامها، ينفضون الغبار عن أنفسهم ويحققون انبعاثًا في عالمهم القلبي ويثبتون أنهم أحياء، يشحذون أرواحهم بأسمى المشاعر وأرقّ المعاني ويحلقون بها في عوالم وراء المنظور. تلك النفوس السامقة التي تجسدت فيهم معاني الفتوة بأفضل صورها، يمثلون الدماء النقية التي تتدفق في شرايين المجتمع الذي يعيشون فيه ويبعثون فيه النضرة والنماء.”.

والجدير بالذكر في هذا المقام هو أن فتح الله كولن صاحب رؤية منهجية تتأسس على تنمية قدرات الشباب، وعلى رفع مستوى أدائهم السلوكي والفكري والمعرفي العلمي، مع فتح المجال واسعا أمامهم لإثبات ذواتهم، وتقوم هذه الرؤية كذلك على دفع الشباب ليكسروا القيود التي تجول دون انطلاق الطاقة الإيجابية الكامنة فيهم، والمشدودة إلى جذور فطرتهم الصافية وإلى منظومة القيم التي حملها جيل السعادة وانتشروا بها في العالم كله بناة مبشرين، لا مهدمين ولا مخربين ولا مرهبين.

عندما تجتمع الفتوة مع حضور الوعي، أي عندما يتحكم “مجتمع الضمير”، وتصير النفوس الفتية نفوسا نافعة تفكر في مصلحة المجتمع قبل مصلحتها، بل تتجاوز ذاتها من خلال استحضار مبدأ الإيثار، ستلوح طلائع فجر جديد وأيام مشرقة، وشتان بين من تاه عن هدفه، وبين من حدد اختياره عن إيمان واقتناع، فالأول حائر عاجز، وقاصر عن أن يكون مسكونا بروح الفتوة، وأما الثاني فقد وضع طاقته كلها خدمة لهذه التطلعات والآمال.

ورغم ما قد يضفيه عنوان الكتاب “الغرباء” من مشاعر الحزن والعجز وضيق الأفق وانحصار الآمال والتطلعات، فإن شعاعًا بل أشعة من الأمل هي المعلم الأبرز في هذا الكتاب، إذ من خلال شدة الغربة تحرص بعض المقالات وعناوينها على بعث بشائر خير تتمثل في براعم الأمل. فتباشير الخيرية تلوح في الأفق من خلال مجموع مؤشرات يقدمها الأستاذ فتح الله كولن على هذا الأساس، فالوجود سيتفتح “.. في راحة إنسان المستقبل المستنير روحًا والمتقد ذهنًا كبرعم وردة يتفتّح ورقة ورقة. ويمضي الإنسان السعيد نحو المستقبل المنير مكتشفا أقاصي الأكوان متنقلا من نصر إلى نصر كالفاتحين العظام، حتى يصل إلى اكتشاف سر أن الأشياء كلها مسخرة لبني الإنسان، ويسير تحت أقواس النصر الواحد منها تلو الآخر، لينصب راية الفكر والوجدان على برج مرضاة الله تعالى، ويرى قدرته في عجزه، وغناه في فقره، فيحلّق بأجنحة الشكر” ومن هنا فإن الانبعاث من جديد سيكون بيد الشباب بالصفات التي يريدها فتح الله كولن ويقدمها، أكيد بأن الانبعاث من جديد ليس مهمة سهلة المنال فهي تتطلب العديد من الشروط لأن”.. تجديدًا كاملاً غير ناقص، لا يتم إلا عبر جهود متضافرة بين الروح والذكاء والحس والإرادة، فتفعيل طاقة الروح وقدراتِها إلى حدها الأقصى، واستثمارُ المعارف المتراكمة عبر الماضي دون هدر لأصغر جزئية منها، والانفتاحُ الدائم على نسمات الإلهام ونفحات المعنى والوجدان، وعدمُ الانحباس في ممارسات التقليد الأعمى، والالتزامُ بالرؤية المنهجية والسلوك المنظّم باستمرار… هي بعض المقومات الأساسية لأي تجديد منطقي معقول.”، في ضوء هذه الرؤية يبدو المجتمع المتفاعل إيجابيا مع هذه الروح وهو المجتمع المطلوب بناؤه، على أساس أن النشود هو طبيعة الروح السارية في حمَلة مشعل التغيير، ومجتمع هذه طبيعته مجتمع مثالي.

يحدد كتاب “الغرباء” وفتح الله كولن الوصفة المحصنة للإنسان الجديد من أمراض الطريق، ويجعل “العشق” اختيارا لا محيد عنه رغم كل شيء.

وقد يكون مفهوم المجتمع المثالي نوعا من المثالية الزائدة، لكن الصورة التي يقصدها المؤلف، أو يلمح إليها كتاب “الغرباء” هي صورة المجتمع الذي يعي دوره ويعي حقيقة وعيه، ويعي عمق التطلع إلى الانبعاث من جديد. ووجب التنبيه في هذا المقام كذلك إلى اليقينية التي ينطلق منها فتح الله كولن وهو يسطر رؤيته في “الغرباء”، فيقينه في تحقق هذا المجتمع، يكاد يكون يقينا مطلقا، بل هو يقين مطلق، لأنه يضع نصب عينيه الاعتقاد بأن الله قد وعد عباده بأن يمكن لهم، ويضع نصب عينيه الخطاب القرآني الذي يكرر دائما هذا الوعد.

إذا كان المجتمع هو الإنسان، فإن الصورة المثالية يحققها نموذج إنساني استوعب هويته الثقافية والأخلاقية وانتصر لقيمه، واستحق صفة الإنسان الكامل، وإذا كانت الأمة قد مر عليها حين من الزمن تاهت فيه عن هويتها وتسابقت نحو قيم وأفكار دخيلة وغريبة عن الذات، فتاه عن هدفه وغايته، فإن إنسانا جديدا سينبثق من خلال هذا الركام، وقد تكون ولادته ولادة عسيرة، لكنها ولادة مباركة ستلد إنسانا يحمل صفات تؤهله لحمل مشعل التغير المؤدي إلى الانبعاث من جديد.

وجب التنبيه إلى أنه في ظل فترات التحول التاريخية الكبرى، قد تتحول هذه الولادة إلى مجرد حماسة فارغة من كل معنى، وإلى شيء مجذوب بسيكولوجية الجماعة المندفعة دون تفكير ودون وعي، مما قد يهدر طاقة المجتمع بسبب الاندفاع والتهور. وما يحصن المجتمع ويحول دون وقوعه بين براثين هذا البركان الجارف الذي يبدد مقدرات الأمة المعنوية قبل الموارد المادية، إن ما يقي الأمة هذه المخاطر هو سيادة “الوعي الجمعي” باعتباره سلوكا “يحمل في أعماقه أسباب وجودنا وأسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية وهويتنا الذاتية، وبفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية. إن الأفعال التي تصدر عن أبناء “الوعي الجمعي” تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن. وإذا ما تم تثمين هذه الأفعال في “فترات التحوّل” فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها تبلغ قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي تقوم به. وشتان بين قيمتها في الظروف الحرجة وقيمتها في الظروف العادية. أما الأفعال التي تصدر عن حشود مندفعة بـ”سيكولوجية الجماهير” فإنها لا تخلو من أخطاء كبيرة واضطرابات مدمرة.”

يؤكد كتاب “الغرباء” أنه في خضم التحول المجتمعي قد يعترض طريق المجتمع عوائق ينبغي الانتباه إليها، وعدم الانجراف معها، خاصة في هذا العصر الذي تجبر فيه الاستكبار وأصيبت بجنون العظمة والقوة، ولتجاوز ذلك ولتخطي “المخاطر المبذورة على طريقِ مسيرتنا نحتاج إلى أبطال تشبّعوا بروح الإيثار، لا يعيشون لأنفسهم فقط؛ هؤلاء الأبطال المرتقَبون الذين سيُنقذون الإنسانية اليوم لا تهمّهم ذواتهم أبدًا، بل ينذرون حياتهم كلها لإحياء الآخرين.”

ومن هنا فإن المجتمع العالمي في حاجة ماسة إلى “رجال مثاليين”، ينذرون أرواحهم للحق يتفاعلون بقلوبهم قد يهتزون لكن لا يسقطون، بمعنى أن هذه الحركة المباركة في حاجة إلى “نماذج من ذاتها”، فهؤلاء هم من صناع المستقبل المانحين للأمن بتسامحهم وتنازلاتهم المستمرة.

لكن هذه الأناشيد الجميلة والقصائد البديعة، ملزمة بالتعامل مع الواقع بكل تناقضاته وبكل تشعباته، فقد تعترض طريق هذه النماذج موانع وعوائق، وسيجدون في مسيرتهم من يزرع الشوك في طريقهم ويعمل على عرقلة حركتهم المباركة الطيبة حسدا من عند أنفسهم، ولأنهم لا يجدون راحتهم في الأجواء النظيفة الصافية، هؤلاء هم من يحبون الاصطياد في المستنقعات العكرة، لكن هذا لن يمنع الناي الجميل من إصدار أنغامه العذبة، لأن هذه النماذج قد ارتفعت إلى مقام العشق.

يحدد كتاب “الغرباء” وفتح الله كولن الوصفة المحصنة للإنسان الجديد من أمراض الطريق، ويجعل “العشق” اختيارا لا محيد عنه رغم كل شيء، رغم المشانق والسجون والمطاردات والتضييق ورغم النفي ورغم كل شيء، لقد بذر هؤلاء الغرباء بذرتهم، واستقرت في تربة هذا العالم، وسيسقيها “الغرباء” بدموعهم ودعواتهم وتوسلاتهم للأقدار بأن تزهر في قريب الأيام بل ستزهر غابات خضراء في كل مكان، لأن الأصل أن ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

هذا هو ما تقوله عناوين كتاب “الغرباء”، إنها تعلن بأعلى صوتها، إنّا وإن كنا غرباء بقيمنا وعشقنا عن واقع هذا العالم، فإننا الأحياء حقا لأن طاقة “العشق” التي تشربتها قلوبنا وجوارحنا هي الآن منهمكة في شحن العالم بهذه الطاقة الإيجابية، التي سيحتاج إليها في القريب، بعد أن انخفض منسوب الطاقة السلبية التي تملأ العالم في الوقت الراهن، وهي وإن كانت في أوج تمكنها إلا أنها لن تلبث أن تسقط بعد أن تكتشف الإنسانية أنها لا تستجيب لفطرتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

About The Author

أستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة 1993م. حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 2002م. عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية منذ سنة 1994م. عضو مؤسس لمنتدى الحوار الأدبي. مؤلف كتاب «أشواق النهضة والانبعاث قراءة في مشروع الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي».

Related Posts