س: بداية أشكركم لإتاحتنا هذه الفرصة لإجراء هذه المقابلة، هناك من يتحدثون عن عودتكم إلى تركيا وأنها ستكون على شاكلة عودة الإمام الخميني إلى إيران في سبعينيات القرن الماضي فهل سيحدث ذلك؟ وإذا أردتم العودة إلى تركيا فهل ستعودون قريبًا؟

ج: أتيت إلى أمريكا (1999م) في حينٍ كانت هناك ضغوطات سياسية كبيرة في تركيا، وكانت الأجواء السياسية مشحونة مستعرة، والدعايات الانتخابية في وضع سيء. جئت إلى هنا لإجراء عملية جراحية وتلقّي العلاج، وعندما وصلت إلى هنا وجدت المكان يتحلى بالسلام والأمان، فبدأت بالكتابة والتأليف وتدريس الطلبة وتعليم الأصدقاء والمقربين. لا شك أن الابتعاد عن الوطن بركان يغلي في قلبي إلا أنني وجدت المكان هنا يمتاز بالأمان والاستقرار كما تراه بعينك. وفيما يتعلق بالدعايات التي تتحدث عن عودتي إلى تركيا كما عاد الخميني إلى إيران فإنني لم أفكر بذلك أبدًا، لم يراودني هذا النوع من التفكير حتى في الأحلام.

س: أنتم وأردوغان كنتما صديقين، وبشكل من الأشكال كنتما حليفين، وحركتكم أشبه ما تكون بحركة تربويّة، فما الذي دفعكم إلى السياسة؟ وما الذي حصل بينكم وبين أردوغان فعرقل استمراريّة صداقتكما كما كانت؟

ج: الحقيقة لم يكن هناك تحالف بيني وبين أردوغان في شكل تحالف سياسيّ. وعندما كان أردوغان يسعى إلى تأسيس حزبهم زارني مرة واحدة، وأنا تحدثت معه، والتقيت به مرة أخرى حينما كان رئيسا لبلدية إسطنبول، كنّا قد نظمنا آنذاك مباراة خيرية من أجل ضحايا حرب البوسنة والهرسك. التقيت أردوغان مرة أو مرتين آنذاك، لم يكن هناك أيّ تحالف بيننا، لكن الناس كانوا يعتقدون بأننا متحالفون. علاقتنا الحقيقية بهم علاقة مواطنة فقط، وهي علاقة مبنية على وعود قطعوها على أنفسهم للمواطنين أثناء تأسيس الحزب. فهم وعدوا الجميع بسيادة القانون وتطبيق العدالة، ووَعدوا باحترام الرأي الآخر ولو كان معارضا، ووعدوا باحترام الحريات الدينية، والانفتاح على العالم.

فبناء على تلك الوعود ساند محبونا وأغلبية الشعب التركي أردوغان كما ساندوا السياسيّين قبلهم مثل “سليمان دَمِيريل” رئيس الوزراء التركي الأسبق الذي ترأس مجلس الوزراء وأصبح رئيسًا لتركيا فيما بعد أو “طورغوت أُوزَالْ” والذي كان أيضًا رئيس وزراء ومن ثم أصبح رئيسًا لتركيا أو “بولنت أجاويد” الذي كان رئيس وزراء لدورة واحدة. فكل واحد من هؤلاء السياسيين تمكن من الحصول على دعم الشعب التركي في فترات مختلفة، بناء على وعود مماثلة قطعوها على أنفسهم للشعب التركي مثل تنمية الديمقراطية واحترام سيادة القانون وتوسيع نطاق الحريات الفردية إلخ. ما نلاحظه اليوم أننا لم نر من أولئك المسؤولين السابقين تلك المعاملة السيئة التي نتعرض لها اليوم من قبل أردوغان. لم نر من “سليمان ديميرال” ولا من “بولند أجاويد” هذا النوع من الابتزاز والقمع الذي يتعرّض له المواطنون في تركيا على يد أردوغان. فهذه تجاوزات لم نعشها قط في السابق.

من جانب آخر، لقد كنا داعمين ومساندين لأيّ إصلاح في الدستور يتم على أساس ديمقراطي. فمثلًا ساندتُ التعديل الذي جرى على الدستور عام (2010م)، وكان الهدفُ منه إدخال الديمقراطية على النظام القضائيّ، ولكننا لم نؤسّس أيّ حزبٍ سياسيّ، ولم نتصل بأيّ حزب، ولم نجعل من أنفسنا سياسيّين، ولكننا وببساطة كنا وما زلنا مدافعين عن المبادئ الفكريّة والقيم الأساسية التي نؤمن بها والتي تتمثّل في أربعة أسس رئيسية هي (القيم الإنسانية العالمية – والسلام العالمي – والتعايش – ومواجهة الفقر). هذه هي الأسس الرئيسة الأربعة التي تبنّيناها ولم نَحِد عنها. فلو كنا نرغب في مشاركة حزبية أو في مطالبة بمقاعد برلمانية أو مناصب حكومية لكنا فعلنا ذلك وتمكنا من ذلك، لكنّنا لم نرغب في ذلك أبدًا. هم من وضعوا خريطة البرلمان والتشكيلة الحكومية والدستور بالشكل الذي تمنّوه لأنفسهم، والعالم يشهد على كل هذا.

إذا أردت أن تناقش الانشقاقات الحاصلة والتفرقة الواقعة فإن سببها الأساس هو أن أردوغان وحزبه قد عدلوا عن كل الوعود التي قطعوها على أنفسهم للمواطنين في تركيا. إننا لم نغيّر مواقفنا ولم ننحرف عن القيم التي آمنا بها. هم من نكثوا عهودهم وخالفوا وعودهم، وهذا هو السبب في سحب دعمنا لهم.

س: تتحدّثون عن العدالة والاختلاف في الرأي، إن تقارير حقوق الإنسان المتعلقة بتركيا تشير إلى أن الآلاف من الكرد راحوا ضحايا، وأن آلاف البلدات والقرى تم تسويتها مع الأرض لمجرد أنهم يحملون الهوية الكردية. وبإمكاني القول: ليس الكرد هم الضحية فقط، صحفية أمريكية تقول بأن تركيا أصبحت معتقلًا  كبيرًا للصحفيين، فما هو موقفكم حيال هذا، وخصوصًا المواطنين الكرد المدنيين والأطفال والنساء ممن ليس لهم أيّ علاقة بالسياسة، ولكنهم يسقطون ضحايا العمليات العسكريّة التي تنفذها حكومة أردوغان؟

ج: لم يتغير رأيي طوال الأعوام الخمسين الماضية؛ فإن كاتب النشيد الوطني التركي حين كتب النشيد قد ذكر اسم صلاح الدين الأيوبي الكردي مع السلطان محمد الفاتح التركي. وإن لنا مع الكرد مواقف مشتركة، وشاركنا في جبهات القتال ضد قوى التحالف في معركة الدردنيل،¹ كما شاركنا في الحملات ضد الصليبيين وكنا معًا في خندق واحد، وإن اسم “نور الدين زنكي” واسم “شيريكوه” قد ورد ذكرهما معًا في قصيدة واحدة.

وإنني قبل عشرة أعوام أرسلت خطابا إلى رئيس الوزراء التركي،² وكان عبارةً عن مشروع يتضمن عشرة مقترحات لتحسين ظروف الكرد في مناطق شرقي وجنوبي شرقي تركيا، فتحدثتُ عن مجموعة من الأفكار لتحسين ظروف الكرد الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق، وتحدثتُ عن كيفية تحسين الظروف المعيشية للكرد في تركيا. اقترحت أن تتحسّن ظروفُهم المادية وترتقي إلى مستوى ظروف حياة الكرد في شمالي العراق. اقترحت أن تقوم الحكومة بتوفير احتياجاتهم الضرورية كي يطمئنوا إليها ويثقوا بها، وطلبتُ من الحكومة أن تتيح الفرصة لمن لديه مشاريع جديدة، وتحدثت عن ضرورة توفير فرص تربوية لتلك المناطق مع التأكيد على السماح باستعمال اللغة الكردية. كان المرحوم سعيد النورسي يتحدث عن إنشاء جامعة في المناطق الكردية بحيث تكون الدراسة والتحدث فيها باللغات العربية والتركية والكردية. تحدثتُ عن ضرورة إنشاء مراكز صحية هناك، اقترحت أن يكون لكل عائلة طبيب خاصّ بها، وتحدثت عن لزوم إنشاء وحدات صحية في المدارس الابتدائية ليلقي المتخصصون محاضراتهم فيها، واقترحت بأن يكون انتخاب الحكام والقضاة والمسؤولين من قبل الناس ومن خلال فلسفة التعددية والعدالة وليس عن طريق تعيينهم دون اللجوء إلى انتخابات، وأن تتكفل الدولة بتقديم الحماية والأمان والعون للمجتمع كله؛ إلا أن هذه المقترحات تم رفضها بذريعة أن الحكومة عينت مسؤولًا عن تلك المناطق، لكنه مع الأسف فشل في خدمة المواطنين هناك، وطلب إعفاءه من الوظيفة فورا. وتذرعو بأنهم لا يجدون مسئولا يتطوع للذهاب إلى هناك، في حين أن أعدادًا كبيرة من الولاة والمحافظين والإداريين كانوا جاهزين ليخدموا هناك بكل رغبة.

صحيح أن تلك المقترحات تم إهمالها ووضعُها على الرفوف لكي تنسى تماما، إلا أنني ما زلت أكررها دون زيادة أو نقصان، أقولُها وأذكّر بها انطلاقًا من شعوري بالمسؤولية تجاه أمتي وابتغاء لمرضاة الله تعالى فحسب.

وإذا أردتم التأكُّد مما أقول وأنني نبّهتهم إلى حلول منذ مدة طويلة؛ فبإمكانكم أن تنظروا في كتاباتي ومقالاتي التي كتبتها في الأعوام الخمسين الماضية، لن تجدوا فيها شيئًا مناقضًا لما ذكرته لكم. واليوم، بدلًا من تفعيل تلك المقترحات، حولوا المناطق الكردية إلى بحار من دماء للأسف. لقد تعايشنا مع الأكراد طوال التاريخ، خضنا معارك جنبا إلى جنب، تقاسمنا الحلو والمر، دافعنا عن بيضة الإسلام معًا. ولكن للأسف تحولت تلك المناطق إلى برك من دماء. هذه هي خلاصة أفكاري في الموضوع.

س: لقد ذكرتم المرحوم بديع الزمان سعيد النُّورْسي (1877- 1960م)، هل حضرتكم الآن على أيّ علاقة بأيّ عالم أو قياديّ دينيّ أو سياسيّ كرديّ؟ وما رأيكم بشأن مفاوضات السلام بين الأكراد والحكومة التركية؟ هل سيسود السلام في تركيا؟ وماذا لديكم من حلول وبدائل عن العمليات العسكرية التي تشنّها الحكومة التركية ضدّ الأكراد في تركيا، ألتمس منكم مقترحات ونصائح بشأن تلك القطعة من العالم كيف يمكن أن يسود السلامُ هناك من وجهة نظركم؟

ج: خلال فترة حياتي التي قضيتها في تركيا قابلتُ الكثيرين من علماء الكرد والقادة الدينيّين، للأسف لا أتذكر أسماء جميعهم إلا أنني أتذكر اسم “الشيخ بدر الدين” و”الشيخ نور الدين”، وبعد مغادرتي لتركيا زارهم الإخوة نيابة عني مرارا، وحين فقد الشيخان الفاضلان أولادهما قام أصدقائي بزيارتهما وتقديم التعازي لهما. وإننا نأمل في أن يساهم أبناء وتلاميذ هؤلاء القادة والمفكّرين في نشاطات الخدمة. والحقيقة أن مجموعةً من هؤلاء بدؤوا العمل في عدة منظمات خيرية تم توجيههم من قبل مؤسسات الخدمة في العالم.

كذلك حينما  كنت واعظًا في مناطق الشرق وجنوب شرق تركيا -ومنها مدينة “ديار بكر” ذات الغالبية الكردية- كنتُ ألقي خطبًا عامة، فكان معظم المستمعين من الأكراد. لقد كانوا يجلّون العبد الضعيف ويقدّرونه مع أني لست أهلا لذلك. لم أميّز بيننا وبين إخواننا الأكراد في حياتي أبدا، لم أقل أبدا هذه لغتنا وتلك لغتهم، وهؤلاء قومنا وأولئك قومهم.

نحن أمة واحدة، نحن أبناء الأناضول، تجري في عروقنا روح الإسلام، يجب أن تُبنَى علاقتنا مع المواطنين الآخرين على مبدأ الاحترام المتبادل، هذا ما دافعت عنه وبذلت من أجله جلَّ حياتي. لقد حاولت أن أحمل رموز لغة الأكراد فوق رأسي احتراما لهم، لكن مع الأسف فإن الأمور اليوم آلت إلى منعطف خطير، وبدأ الأكراد يتعرضون للظلم والإيذاء.

لطالما حذّرتُ من ذلك ووجهتُ رسائل إلى المسؤولين في الحكومة وقلت لهم بأن هذا المسلك غير صحيح، إلا أنهم لم يصغوا إلينا، ولجئوا إلى استخدام القوة القمعية، لم يصغوا إلى نصائحنا في هذا الأمر، كما لم يكترثوا بالمقترحات التي قدمناها لهم بشأن المأساة الإنسانية التي تقع أمام العالم في “سورية”.

حين زارني مسؤولون من الحكومة التركية وكان أحدهم أحمد داود أوغلو وزير الخارجية آنذاك قلت لهم لا يمكنكم حل الأزمة السورية بتوفير ملاذ آمن للاجئين فقط، عليكم أن تساعدوا سورية، عليكم أن تجدوا صيغة مع النظام الحاكم لإطلاق مرحلة انتقال ديمقراطيّ، وعليكم أن تقدموا مساعدات مادية لإنجاح هذه المرحلة إذا اقتضى الأمر. كل ذلك لمساعدة سورية على الانتقال إلى نظام ديمقراطي بشكل تدريجي. حينما يتم إرساء دعائم الديمقراطية بإحكام، فإن كافة المكونات من الكرد والعرب والتركمان والسنة والفئات الأخرى سيمتلكون مقاعد في البرلمان ويكون لهم تمثيل ضمن سورية موحدة تتمتّع بنظام ديمقراطي.

هذه هي توصياتي التي قدمتها للحكومة باستمرار. ولكن يبدو أنهم كانوا يفكرون بطريقة أخرى، يقولون هل سنصغي إلى نصائح داعية بسيط ونحن من نحن في التخطيط الإستراتيجي؟ كانوا يرون أنفسهم في مواقع عليا، ويعاملون الناس بكبرياء، ولا يسمعون نصيحة أحد، وكنتُ أُردّد موقفي الذي ما زلتُ مصرًّا عليه، وهو أن هذه المشاكل يستحيل حلّها بتوجيه فوّهات البنادق إلى بعضنا البعض، إنما الحلّ يمكن في الاحترام والثقة المتبادلة، علينا أن نفتح صدورنا لكافّة الناس حتى لمن يوجهون فوّهات بنادقهم إلينا. نحن بحاجة إلى نشءٍ جديد مثل المزهرية تفتح صدرها لشتى أنواع الورود والزهور بكل ثقة واطمئنان.

 

* تم بث هذا الحوار بتاريخ ٤ أغسطس 2016.

١. معركة الدردنيل هي حملة عسكرية شنتها قوات بريطانية وفرنسية مشتركة خلال الحرب العالمية الأولى بهدف احتلال إسطنبول، دارت المعارك في شبه الجزيرة جاليبولي على مضيق الدردنيل عام 1915، باءت جهود الحملة بالفشل وقتل ما قُدّر عدده بحوالي 55 ألف جندي من قوات التحالف (بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا، فرنسا) وحوالي 90 ألف جندي عثماني ومئات الآلاف من الجرحى من الطرفين.

٢. انظر: إلى دولة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مقترحات لحل المسألة الكردية، ص:297 من هذا الكتاب.