توطئة: أكبر إشكال معرفي يواجه الباحث في فكر الأستاذ فتح الله كولن ، هو صعوبة تصنيف الرجل معرفيا، نظرا لأن كل مفاهيم تصنيف الرجال والأعلام لا تستطيع استيعاب الطبيعة المعرفية المركبة للرجل. ويبقى العنصر الناظم لكل مواهبه المعرفية هو قدرته على التأثير، وهي الميزة التي صُنّف على أساسها الشخصيةَ المثقفة الأكثر تأثيرا في الناس في القرن العشرين، من خلال استطلاع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy الأمركية المعروفة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.

يفرض التناول العلمي والموضوعي ألا نستعرض من شخصية فتح الله كولن المعرفية إلا المعارف الكسبية التي اكتسبها منذ طفولته، وأثناء شبابه والمراحل الأخرى؛ لأن المتنعم في مجموع حياة الرجل سيلمس أن جوانب وهبية في شخصية الرجل حاضرة بقوة، وهبت لفتح الله برياضة روحانية ألزم نفسه بها، ومسلك صوفي معتدل ومتوازن تظهر ملامحه في شخصيته وكتاباته ومواعظه وخطبه، فهذه الجوانب موجودة في شخصية الأستاذ لا يمكن إنكارها.

وأما الجوانب الأخرى الكسبية فتكشف بأن الرجل قد كتب له في طفولته أن يتحصل معرفة تقليدية رصينة ساهم فيها العديد من مشايخ المدارس العتيقة المنتشرة في بوادي الأناضول، والتي كانت تقدم المعارف الإسلامية بأسلوب عتيق وتقليدي، وساهم فيها الأسرة وخاصة الجد القوي الشخصية والجدة كذلك صاحبة الروحانية العالية.. ثم الوالد الذي أبى إلا أن يكون أبا وصديقا لفتح الله الفتى القوي الشخصية، وأن يصاحبه في طلب العلم ويشجعه عليه.. أما الأم فلم تدخر جهدا في أن يتقن الطفل فتح الله القرآن الكريم منذ سن مبكرة. والحاصل أن فتح قد أتيح له أن يتربى تربية إسلامية أصيلة رغم الظروف القاسية التي كانت تجثم على الواقع وتحاصره.

أولا: التعدد المعرفي في شخصية فتح الله كولن

بالنظر إلى مختلف المصادر المعرفية التقليدية التي درسها على شيوخه أو التي درسها وحده، فقد أكسبه هذا كله استحقاق صفة “العالم”. ولذلك فإن فتح الله عالم من علماء الشريعة المجتهدين، جلس للإفتاء ودرس العلوم الشرعية وتخرج على يده ثلة من الطلبة والعلماء هم اليوم فرسان في الحركة الطيبة التي تأسست بفضل صدقه وإخلاصه، وبعبارة أخرى إن شخصية العالم وفق المنظور الإسلامي الدقيق تنسجم كلية مع الأستاذ فتح الله.

لكن هذا التصنيف مع ذلك يظل بعيدا عن أن يوفي الشخصية المعرفية للأستاذ حقها، لأن الرجل كان مسكونا منذ طفولته بحب المعرفة وحب المطالعة، فلم يوفر جهدا في سبيل تحصيل معارف أخرى، ولذلك لم ير الأستاذ إلا بين الكتب أو في شأن له علاقة بها، فتعرف على العديد من المجالات المعرفية كالفلسفة وعلم الاجتماع والآداب العالمية المختلفة بإبداعها ونظرياتها ومناهجها، ومن أبرز من قرأ لهم من مفكري الغرب “وليام شيكسبير”، “بلزاك”، “فولتير”، “جان جاك روسو”، “كانط”، “زولا”، “غوثة”، “ألبير”، “كايموس”، “سارتر”، “بنارد”، “راسل”، “بوشكين”، “تولستوي”، وكانت له وقفات عميقة ودقيقة مع العديد من النظريات العلمية وخاصة تلك التي تعارض المعرفة الدينية والسنن الكونية، والتي غزت بعض العقول فأفسدتها.

استطاع فتح الله بفضل عصاميته وبفضل ثقافته الأصيلة أن يقف على مواطن الخلل في كل هذه النظريات وأبطل ادعاءاتها بخطاب علمي منطقي عقلاني، بالإضافة إلى استحضاره روح القرآن الكريم، وبعبارة أخرى يمكن القول إن الأستاذ فتح الله قد حصل ثقافة عصرية تصنفه في دائرة المثقف العصري، لكن هذا المفهوم يحمل حمولة غربية لأنه صيغ في ظل الفكر الحداثي الذي ساد في أوروبا منذ القرن السابع عشر، ولا أظن بأن هذا المفهوم يساعد على تصنيف الرجل معرفيا بالإضافة إلى أن الأستاذ نفسه قد لا يقبل أن يصنف في هذه الدائرة.

وللأستاذ مواهب أخرى تضاف إلى شخصية العالم، ويتيح بعضها الآخر تصنيفه في دوائر معرفية مختلفة، فالمعروف أن الأستاذ خطيب مفوه وقدرته على التأثير في الجموع كبيرة، بالإضافة إلى مهارته في الحوار، دون الوقوع في الجدل حتى مع أشرس المعارضين والخصوم، وهذه في حد ذاتها أوصاف كان السلف الصالح وعلماء الأمة السابقون يتصفون بها.

والأستاذ إلى جانب كل هذا كاتب لا يتوقف قلمه، فهو مؤلف ماهر يحتل المقام الأول في مجاله من خلال كتابته للمقال الرئيس في العديد من المجلات والصحف، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب والمؤلفات، يزيد عددها عن ستين كتابا ترجم بعضها إلى لغالت أخرى كالإنجليزية والألمانية والروسية والفرنسية. وبالنسبة للعربية فقد ترجمت بعض كتبه، والقارئ العربي والمهتم على الخصوص متشوق لمعرفة جديد الأستاذ فتح الله.

إن الطابع الفكري الذي يغلب على جانب التأليف قد يسمح بتصنيف الأستاذ على أنه مفكر معاصر، لكن هذا التصنيف كذلك لا يستجيب لخصوصيات الرجل في هذا المجال، لأن فتح الله المفكر لا يحصر رؤيته في نطاق ضيق، بل يتجاوز ذلك إلى اعتبار نفسه مسؤولا عن جميع أفراد المجتمع الإنساني، ومسؤولا عن إنقاذ إنسانية الإنسان والسير بالجميع إلى بر الأمان والخلاص، ولذلك فهذا التصنيف أضيق من أن يستوعب الرجل؛ فهو مفكر لكنه ليس مفكرا عاديا، إذ يبدو في كثير من المواطن أكبر من المفكر، لحرصه على جعل فكره ورؤيته إطارا يعكس بدقة عالمه الروحي المشحون دائما، ولا يمكن تصور الرجل يكتب أو يحاضر أو يعظ أو يخطب دون أن يكون في حالة توتر روحي. وبالنظر إلى أن الأستاذ لا يكون إلا في حلقة درس أو موعظة أو صحبة أو مجيبا عن سؤال في مجلس إفتاء، أو في حلقة الدرس يلقن طلابه، فإن كل حياته هي نوع من السمو الروحي الذي تظهر ملامحه بارزة بقوة فيما يقوله ويكتبه.

وإلى جانب هذه الشخصية تبرز شخصية الأديب الشاعر والعارف بدروب الكتابة. والأستاذ فتح الله ليس مجرد متذوق للأدب الرفيع والفن الرفيع، بل أديب شاعر مرهف الإحساس، قصائده الشعرية تنبض بالحياة يلمس فيها المتلقي حرارة المشاعر وصدقها، ويجد في كل نصوصه قلبا واسعا يحتضن العالم كله بالحب والإخلاص. ولا تكاد مقالة من مقالاته ولا كتاب من كتبه يخلو من إشارة إلى الأدب الرفيع والفن الراقي الجميل.

وبالإضافة إلى ذلك ففتح الله كولن منظّر من مستوى راق جدا في مجالي الفن والأدب. وقد عرض في كتابه “البيان” أهم تصوراته حول الأدب والفن في دائرة التصور الإسلامي، وعرض فيه كذلك مجموعة من التصورات النظرية التي تؤسس لفن وأدب جميلين يراعيان الفطرة الإنسانية والقيم الأخلاقية السامية.. والمتأمل في إبداع الأستاذ وفي أفكاره النظرية يسمح بتصنيف الرجل في دائرة في الأدب والفن، لكنه أديب من طينة خاصة تعتمد الإشراقات الروحية المتعالية وعلى جعل الأدب والفن وسيلة للرقي بالإنسان، فهو يجمع بين ملكة الإبداع وملكة التنظير وملكة النقد. فهل نعتبره شاعرًا أديبا أم منظّرا أم ناقدًا، أم هو شيء جديد يستوعب شموليته؟!

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن لفتح الله رؤاه المميزة في علم الاجتماع وفي علم النفس وفي السياسة والاقتصاد، والفلسفة المعاصرة والقديمة، الإسلامية وغير الإسلامية، بالإضافة إلى معرفة دقيقة بتاريخ الأمم والحضارات، وبعلل صعود نجم الحضارة وأفولهما.. وهو عندما يتحدث في المجال تحسبه مؤرخا متخصصا في تاريخ الحضارة والمدنية والعمران.

والأستاذ فوق كل ذلك رجل تربية وتعليم، وصاحب تجربة عميقة في هذا المجال؛ فقد مارس التعليم بصنوفه المختلفة العصرية والتقليدية، وألف في هذا المجال، وكتابه التعليمي “تعليم العربية بطريقة حديثة” أكبر دليل على أنه رجل تعليم، يستحق أن يصنف كذلك، دون إغفال تلك الأفكار الناضجة التي يثيرها حول التعليم والتربية في مقالاته وكتبه.

وفي الحقيقة كلما أوشكنا على ختم الحديث في مجال معرفي للأستاذ فيه موطئ قدم، يبرز مجال آخر جدير بالذكر وجدير بأن يهتم به.

ومن هذه الحقول المعرفية يبرز حقل فكر الحوار والتسامح الذي كوّن فيه الأستاذ رصيدا هو اليوم محط اهتمام العديد من الباحثين ومراكز البحث والجامعات والمعاهد. فهو رجل الحوار بكل امتياز تدل على ذلك أفكاره المتقدمة، والمنجزات التي رعاها بالإشراف والتوجيه. ويُعرَف الأستاذ فتح الله عند المثقف التركي بكونه مؤسس صرح الحوار الوطني في تركيا، ونجاحه في تفيعله تفعيلا إيجابيا انتهى بتنازل العديد من المثقفين والتيارات الفكرية والسياسية عن خلافاتهم وبناء دعائم حوار دائم من خلال ملتقيات “أَبَنْت” و”وَقف الصحفيين والكتّاب”. إضافة إلى انفتاحه على الخارج من خلال زيارته للفاتكان واجتماعه بالبابا الراحل جون بول، واجتماعه بشخصايات دينية أخرى يهودية ومسيحية وغيرها.

من هذه الزاوية فإن فتح الله كولن أهم مفكري الحوار والتسامح في العصر الحديث، إذ يتفوق بروحه المُحِبّة لكل إنسان في كل مكان كيفما كان دينه وثقافته وجنسه، لأنه مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى، ومن هذه الزاوية فهو يعتبر نفسه مسؤولا عن كل إنسان في هذا العالم.

وعلى العموم فإن شخصية مركبة بالمعنى الإيجابي كشخصية الأستاذ فتح الله يصعب أن تصنّف في خانة معرفية محددة، ولكن الوصف الذي ينطبق على الأستاذ فتح الله ويمكن تصنيفه هو كونه مجدد العصر الذي تنطبق عليه الكثير من مقومات الشخصية التي ستغير أفكارُه وجه العالم في المستقبل.

هناك صفة أخرى تجمع كل مواهبه المعرفية الكسبية، هي كونه حكيم العصر. والحكمة تعني إدراك مقامات متقدمة في النضج الفكري والمعرفي، ولذلك أرى أن الأستاذ هو حكيم الأمة ومجدد العصر.

وأما الإشكال المعرفي الآخر الذي يواجه الباحث في شخصية الأستاذ فتح الله، فهو إشكال الجوانب التطبيقية المرتبطة بفكر الأستاذ فتح الله؛ فـ”الخدمة” -برجالها ومؤسساتها وحركتها الدؤوبة المستمرة- انعكاس لفكر الأستاذ وللشحنات الروحية التي ظل الأستاذ على مدى خمسين سنة يشحن بها فرسان الروح والقلب والحركية، ولذلك جاز القول بأن الخدمة ومؤسساتها هي الصورة العملية لرؤية فتح الله الإصلاحية ورؤيته الفكرية. ولا يمكن لمس شمولية المشروع الذي دشنه فتح الله إلا بربط الفكر بصورته المنزلة، لأن من أهم مميزات شخصية فتح الله الفكرية هو حرصه الشديد على الانتقال من مرحلة “إشباع الأذُن” إلى مرحلة “إشباع العين”، وأهم مظاهر صور الفكر المطبقة هي النماذج البشرية التي تلقت من الأستاذ وتربّت على يده، والتي تساهم في تفعيل وتأطير مختلف مؤسسات الخدمة من مدارس، وجامعات، ومؤسسات ثقافية وفكرية، ومؤسسات الحوار، وقنوات الإذاعية والتلفزة، وصحف ومجلات ودور نشر ومراكز للدراسات والبحوث، ومستشفيات، وغير ذلك من المؤسسات التي لا يمكن استيعاب رسالتها الحضارية إلا في ظل المشروعًا الحضاريًّا للأستاذ في شموليته. ليس هناك أدنى شك في أن للأستاذ مشروع حضاري يعمل على إنزاله بتدرج وفق خطة مرسومة قبلا في أعماقه، ولعل هذا ما قصده فريد الأنصاري بالسر الذي لا يبوح به لأحد.

وعلى العموم فالإحاطة بشخصية محمد فتح الله كولن الفكرية والحركية تحتاج إلى عمل فريق من الباحثين والدارسين، بل إن الظاهرة في شموليتها في حاجة إلى أن تدرس في الجامعات وأن يسترشد بها في كثير من المجالات وخاصة المجالات المتعلقة بالإنسان مباشرة. ومن هنا فالباحثون مدعوون إلى كشف وإبراز خصوصيات الخطاب الفكري وآليات اشتغاله، وتفكيك كل مكونات مؤسسات الخدمة وتحديد الخلفيات الحضارية والفكرية المحركة.. وستحاول هذه الدراسة مقاربة بعض من هذه الجوانب.

لا توجد عبارة دقيقة تلخص شخصية الأستاذ فتح الله، لكن عبارة “المثقف الإصلاحي” أو “المفكر الإصلاحي”، قد تضع إطارا منهجيا لمقاربة عالمه. ففتح الله عالم ومفكر ومثقف، صاحب معرفة واسعة عميقة يوظفها من أجل إنسانية الإنسان، ومن أجل سعادته. أفكاره تدهش الباحثين وتلهمهم.. تقول الباحثة الأمريكية جيل كارول” “عشت مع كولن من خلال كتاباته… وما زالت أفكاره تلهمني، ولقد عرفت بعد لقائه لماذا ألهم هذا الرجل ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا ومنحهم الدافع -رجالا ونساءً- لبناء عالم جديد. إنه رجل بداخله قدر هائل من الروحانية والإخلاص والتعاطف، وهو شيء واضح للغاية في كتاباته وفي شخصيته”.

وبقدر ما تبدو فيه قضية الموسوعية أمرا يسهل تناول شخصية الأستاذ فتح الله كولن في ضوئها، بقدر ما تظل جوانب أخرى خفية، خاصة بالنسبة لمن يريد الإمساك بالمنظومة التي تصل مختلف الحقول والمجالات التي نجد فيها للأستاذ فتح الله كولن موطئ قدم.

فتح الله كولن خطيب وواعظ مفوه يتقن منهج التأثير في الجموع ويتقن استمالة ألبابهم، وهي مهمة تستوجب معرفة دينية واسعة وعميقة، حصلها منذ طفولته الأولى بأساليب تقليدية خاصة وعامة. وهو كذلك مثقف ينتمي إلى ثقافة العصر لأنه درس أغلب الأفكار الفلسفية والاجتماعية، ومختلف النظريات في مجالات مختلفة أدبية وفنية وفكرية وعلمية، وغيرها.. ودراسته لم تكن سطحية، بل غاص في عمقها، وحللها تحليل من يبحث عن مكامن القوة والضعف فيها.

وهو مستوعب لتاريخ العلوم الطبيعية مع قدرة كبيرة على شرح حقائقها، وتقريبها من الأفهام والأذهان. ورغم اتساع هذه الحقول ودقتها فهو يستطيع طرح اقتناعاته المركزية دون تناقض ولا تضارب بين الأفكار والحقائق. ومرد ذلك كله هو أن الرجل صاحب عقلية فذة، ورؤية بعيدة الغور، بل هو عالم مُؤتًى له للقيام بمهمة محددة هي وضع قطار الإصلاح على “خط السير” وتعهده أثناء سيره حتى يصل إلى محطة وصوله.

كل هذا وغيره يجعل الإمساك بعالم الأستاذ فتح الله أمرًا صعبا، لكنه ليس محفوفا بالمخاطر، وليس فيه أي منزلقات، نظرا لانسجام رؤيته ووضوح معالمها الفكرية والمنهجية. فمن يريد البحث في عالم الأستاذ فتح الله كولن مجبر على التسلح بالصبر المعرفي وعدم الاستعجال في قطف الثمار فحسب.

ما هي الجوانب التي يجدر بأن يركز عليها؟ هل يركز على الرجل وفكره وشخصيته الكاريزمية -إن كانت هناك كاريزما معينة-، أم على الحركة التي صارت اليوم مرتبطة بأفكاره، والمعروفة في كل مكان بـ”الخدمة”، أم عليهما معا..

وهل يمكن تصور شخصية الأستاذ بعيدا عن الحركة التي استلهمت أفكاره؛ من جهة أنه لولا حركة الخدمة التي تنشط اليوم وتتميز في مجال العمل المدني ما كان لشخصية فتح الله أن تثير الاهتمام.. بعبارة أخرى هل معرفة حركة الخدمة تغني عن معرفة شخصية الأستاذ؟

إن الأستاذ فتح الله كولن ومدرسته الفكرية وما تنتجه هذه المدرسة موضوع معرفي واحد، لأن القضية تتعلق بشخصية عالم خبر التراث الإسلامي واستوعب كل مصادره ومقوماته وفهم مكوناته، ليخرج بخلاصة هي أن الصورة المثالية التي بنتها أجيال الرعيل الأول من الصحابة الكرام، قابلة للتحقق في هذا العصر.

المفكر الحق هو من استوعب العمق المعنوي للتجربة السعيدة في العهد النبوي، ثم بلْورها في قيم ومفاهيم وأفكار ومصطلحات يسهل تداولها وتحويلها إلى حركية وفعل. بعبارة أخرى لقد فهم الأستاذ المنظومة التي تربّى فيها الرعيل الأول، وعمل على نقلها إلى الأجيال الحاضرة، لكن بمفاهيم العصر ومصطلحاته وبمنهج متجدد. ولا يتأتى ذلك إلا لمستوعب لخصوصية العصر في كافة المجالات، وخاصة الأخلاقية والمعرفية والاجتماعية، بالإضافة إلى عنصر الواقعية.

وإذ نؤمن حقا بأن الأستاذ فتح الله رجل مُؤتًى له كما كان الأستاذ بديع الزمان النورسي، فإن روحانيته تجيز التنازل عن بعض من العقلانية في تحليل بعض أفكاره ومواقفه. إن رؤى فتح الله كولن نابعة من عمق التصور الإسلامي ومن روحانيته، ونابعة من القرآن والسنة وسيرة الرسول الكريم  وصحابته الكرام. وهذه ميزة يشارك فيها كبار علماء الأمة في القديم والحديث الذين اكتسبوا تلك الطاقة الدافعة التي تحرك السواكن وتهز الجوانح، فهو مثل هؤلاء مملوء بطاقة روحية هائلة تحركه من حيث لا يدري. ولهذا نقول مع “محمد أنَس أَرْكَنَة” بضرورة التخلّي عن حواسنا وفكرنا المتسم بالعقلانية إذا شئنا النفاذ إلى الأعماق الروحية للأستاذ فتح الله كولن الذي يدعو “الجماهير إلى أمور أسمى من الأمور اليومية الصغيرة التي ينشغل بها الإنسان في حياته اليومية، وإلى القيام بخدمات أسمى وأهمّ، وإلى مشاعر متأجّجة، وإلى قيم إنسانية عليا. هذا هو لب نضاله وجوهره، أي يناضل ضد الارتخاء والارتماء في أحضان الدنيا.. إنه استصغر الدنيا وملذاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين، مما يعني التوجه نحو الأزلية”.

ثانيا: العالم المفكر لا المفكر الأيديولوجي

قد يظن الذين يصدرون أحكام القيمة قبل النفاذ إلى عمق المحكوم عليه وتبيّن حقيقته أنّ الأستاذ فتح الله صاحب أيديولوجية إسلامية ترمي إلى التحكم في المجتمع التركي وتوجيهه وفق نمط محدد يحقق في النهاية أهدافا سياسية أو دنيوية.. بل هو على عكس من ذلك كله وليد التقاليد الإسلامية الصرف، يتذوق لذة التحلي بها، ويعيشها كما عاشها الصحابة الكرام وهم في كنف من نزل عليه الوحي محمد . فقد ألزم نفسه بأن يعيش روحانية الإسلام متأسّيا بالرسول  وكما عاشها الصحابة الكرام في “عصر السعادة” كما يطلق عليه. فالأستاذ فتح الله كولن ليس مجرد وسيط ينقل روحانية هذا العصر، بل هو رجل ألزم نفسه بنظام دقيق من التزكية الروحية، وبنظام غذاء روحي يُسكِت النفس ويصفّرها. بهذا النظام الصارم استطاع الأستاذ فهم حقيقة ما عاشه الصحابة الكرام وهم في مدرسته ، ولم يشأ أن يظل هذا الخير المعنوي الذي أدركه حكرا عليه وحده، بل سعى بكل رسوخ إلى إقناع الناس بأهمية العيش في هذا الجو الروحاني العجيب ولم يشكّ لحظة واحدة في تحقق ذلك معتبرا الإنسان -في كل مكان، وكيفما كان لونه ودينه وجنسيته- موضوعا يجب أن يصل إليه هذا الخير.

عندما تنظر إلى الأستاذ فتح الله تشعر بأنه رجل يحمل همًّا ثقيلا جدا، يتجاوز همومه الخاصة وهموم المجتمع التركي، إلى هموم المسلمين في كل مكان وإلى هموم المجتمع الإنساني بأكمله. حزنه عميق دائم. يشعر كل من يقترب منه أنه يتألم ويئنّ ويبكي ويتضرع ويتأوّه من أجل الآخرين. فأي عقل يستطيع الانكباب على هذه النفسية الخاصة والمركبة وتفكيك مكوناتها وضبط آليات منجزاتها. إن العقل ليعجز عن تقديم تفسير لهذه الحالة الخاصة، ولم يبق سوى الجانب الروحي ملجأً للتفسير والاقتراب من هذا العالم الفسيح فساحة عالم الإسلام الروحاني.

وإذا كان هاتف العقل يدعونا إلى أن ضوابط البحث تفرض الاتكاء على الملموس في فهم الشخصية فإن هاتفا آخر من داخل العقل يقول قد يعسر إيجاد تفسير عقلي منطقي لبعض جوانب هذه الشخصية، لأن الجواب على ذلك يوجد في عالم الأرواح أو في عالم المعنى. وهذا لب ما عبر عنه الأستاذ فريد الأنصاري في عمله الأدبي الرائع عن سيرة الأستاذ فتح الله كولن الذي اعتبره “رائدا للفرسان القادمين من وراء الغيب” حيث افتتح السيرة أو الرؤية بالقول: “فتح الله لديه سر ليس يبوح به.. فتح الله لديه سر تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحدا.. فتح الله يحمل في قلبه ما لا طاقة له به، ولذلك لم يزل يبكي حتى احتار الدمع لمأتمه.. فتح الله وارث سر لو ورثه الجبل العالي، لانْهدّ الصخر من أعلى قمّته ولخرّت أركان قواعده رهبا.. فتح الله فارس ليس تلين عريكته، ولا تضعف شكيمته.. ولَصوتُه في الكر أشد من قرقعة الرعد.. يقاتل في النهار حتى تذوب الشمس في دماء البحر، فإذا خلا لأشجان الليل بكى.!”.

هذا الاستهلال الذي افتتح به الأستاذ فريد الأنصاري رواية أو سيرة الأستاذ فتح الله كولن، يؤكد بأن جوانب من شخصية الأستاذ فتح الله لا تدرك من خلال استحضار صرامة العقل. وبعبارة أخرى إن جوانب من العالم الروحاني للأستاذ فتح الله كولن تدرك بالانغماس الروحاني في عالمه الروحاني.

وبناء على ما تقدم فإن دراسة الأستاذ فتح الله من الناحية الإجرائية تفرض الوقوف على أهم العناصر التي ساهمت في تكوين شخصيته، وتنقسم هذه العناصر إلى:

  • أهم المحطات في حياته
  • أهم المصادر التي أثرت في تكوين شخصيته
  • شخصيته الحركية وأهم الجوانب التي تمثل هذه الحركية وتوجهها
  • الحركة التي تأسست حول رؤيته الفكرية

ثالثًا: مصادر بناء معالم شخصية الأستاذ فتح الله

ومن هنا فإن ما سيطرح لنا من قضايا وأفكار هو “ما هي المصادر التي تدل على شخصية الأستاذ فتح الله كولن؟”.

يحددها الدكتور إبراهيم بيومي في ثلاثة مصادر أساسية، أو بالأحرى يحدد ثلاثة معالم أساسية تدل على العالم المصلح بقول: “ثلاثة يعرفوننا على الداعية الإسلامي: محمد فتح الله كولن… والثلاثة يأتون بهذا الترتيب من حيث الأسبقية، والشهرة في ساحات الواقع بأبعاده المتعددة، ومشكلاته المتكاثرة، وتحدياته المتجددة. ويخرج هذا الترتيب عن المألوف في سِير أغلب كبار العلماء المجددين وقادة الحركات الإصلاحية، حيث تكون كتاباتهم وأقوالهم أسبق وأشهر من أعمالهم وإنجازاتهم، ثم يكون تلامذتهم ومحبوهم وأنصارهم… معبرين قولا وسلوكا وعملا عن عمق تأثرهم بهم، وأخذهم بتوجيهاتهم ووصاياهم.

وبحسب الترتيب الزمني، كانت كلمات وكتابات “خُوجَا أَفَنْدِي” هي الأسبق ظهورا، تلاها تلامذته ومحبّوه، ثم ظهرت بعد ذلك مؤسسات “الخدمة” ومشروعاتها بالعشرات في مجالات متنوعة.

ومن هنا فإن الدليل الأول للتعرف على قوة الأستاذ فتح الله المعرفية والحركية، يكون بالنظر في شخصية وأخلاق وسمت وعلم تلاميذ الأستاذ فتح الله كولن، وهؤلاء قد بدأوا في الانتشار عبر مختلف مناطق العالم شرقا وغربا، من خلال عملية هجرة فعلية تتطلع إلى تحقيق مفهوم الهجرة وتوابعها كما هاجر الرسول  وصحابته الكرام. وهذه الهجرة تحركها نية “الخدمة”، و”الخدمة” فلسفة خاصة يقيم عليها الأستاذ فتح الله، والمقتنعون بفكره فعاليتهم وحركتهم، فهم يأتون إلى الناس “بخدمة” يقدمونها بكل حب وإخلاص وبكل تفان وإتقان، لا يريدون سوى مرضاة الله تبارك وتعالى، في شكل عمل تربوي وتعليمي، وفي شكل أعمال إغاثية، وفي شكل عمل ثقافي، وفي شكل تنمية بشرية ومحاربة الفقر ومساعدة ذوي الحاجة، أو في شكل حوار بين أتباع الديانات المختلفة وغير ذلك من أنواع “الخدمة”.

وفي هذه الخدمة يبرز الجانب الثاني الذي يفسر جوانب عديدة من شخصية الأستاذ فتح الله كولن، وهو تلك المنجزات التي وجّه الأستاذ فتح الله محبيه وتلامذته إليها فأنجوزوها، وهي تعتبر اليوم من أقوى المؤسسات تأثيرا في تركيا وفي أماكن عديدة في العالم كله وخاصة في أمريكا وفي أوربا.

كل من تعرّف على هذه المنجزات يؤكد على أهمّيتها وعلى أهمية الرؤية الحضارية التي تحركها. ولذلك فإن كل الذين يتعرفون على هذه المنجزات يزدادون احتراما لمن دفع الناسَ إلى إنجازها وتحقيقها. وهنا تكمن ملاحظة مهمة جدا وهي أن الذي يتعرف على هذه المنجزات، يجد نفسه مدفوعا بكل قوة إلى معرفة الرجل بغرض استيعاب المنهج الذي حرك الناس وحولهم وصنع منهم طاقات فاعلة تنفع مجتمعاتها، وتنفع المجتمع الإنساني عامة.

رابعًا: بطاقة هوية فتح الله كولن

هو محمد فتح الله كولن “الأناضولي الموطن، والتركي الجنسية، ولد يوم 11 نوفمبر سنة 1938م وهناك تاريخ آخر هو تاريخ 27 أبريل 1941م، وهو تاريخ الرسمي أو التاريخ الإداري.

هذا الاختلاف في تاريخ الميلاد يتضمن بعض الدلالات التي قد تحيل على طبيعة العلاقة التي كان الأهالي وخاصة في القرى البعيدة ينظرون بها للمظاهر التي تسبغ الشرعية على النظام الحاكم في أنقرة. إذ كانوا يعزفون عن تسجيل مواليدهم بسرعة بدوافع متعددة، منها عامل عدم الاعتراف الداخلي والنفسي بأن السلطة المركزية العلمانية تمثلهم حق التمثيل.

ويمكن قراءة هذا الاختلاف من زاوية أخرى وهي بعد الإدارة عن المناطق النائية، إذ لم تكن السلطة الإدارية المركزية بعد مرور عشر سنوات على الثورة قادرة بعد على الإشراف الكلي والمباشر على جميع المناطق التركية وخاصة في عمق مناطق الأناضول البعيدة وفي القرى النائية. ولهذه القضية دلالتها التي تفيد الباحث في الإجابة عن مسألة بقاء الأتراك في هذه المناطق النائية محافظين على صفاء العلاقة بالإسلام، أو بالأحرى مسألة بقاء الإسلام والاعتقاد فطريا في نفوس فئات واسعة من المجتمع التركي.

ويكشف هذا الأمر عن جانب آخر متعلق بما حققته محاولات التحديث في تركيا منذ عهد التنظيمات، إذ الظاهر أن آثار التحديث كانت محدودة، واقتصرت على بعض المدن الكبرى والمراكز الكبرى والمدن، وأما المناطق البعيدة فظلّت بعيدة عن هذه التحولات، وبعبارة أخرى لقد ظلت القرى التركية والبوادي والمناطق الجبلية منعزلة عن التحولات وعمليات التحديث التي عرفتها المدن الكبرى.

الشاهد هو أن الأستاذ فتح الله ولد في ظل واقع لا يمت لواقع الجمهورية الحديثة ثقافيا بصلة تذكر، وهو العامل الذي يمكن أن نعتبره عاملا مساعدا في تكوين شخصية الأستاذ فتح الله.. فالبيئة كانت بيئة محافظة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، بل هو عامل مساعد على تنشئةٍ تُقدِّم لمن يولد فيها ويترعرع حصانة ضد ثقافة التحديث التي كان المجتمع التركي ينظر إليها نظرة شك وتخوف.

ويوحي يوم ميلاده  الفعلي (أي 11 نوفمبر 1938م) بإشارة مهمة جدا لا تجد لها أي داعم عقلي، لكنها في الإطار المعنوي ذات دلالة خاصة وهي أنه اليوم التالي الذي توفي فيها مؤسس الجمهورية، أتاتورك. وفي هذا الاتفاق دلالة ما، وهي أن يكون القدر قد كتب لتركيا ميلادا آخر يوظف الواقع الجمهوري بكل ما له وما عليه إلى حالات إيجابية تعود بالفائدة الحضارية على الإنسانية كلها.

خامسًا: الأقدار ترعى الفتى

نسج القدر خيوطا ستهيئ لفتح الله كولن أجواء تدل على أن الله تبارك وتعالى كان راعيًا لهذا الرجل قبل أن يولد. فقد ولد في قرية “كُورُوجك” وهي قرية من قرى قضاء “حصْن قَلْعة” في محافظة “أَرضروم”، وهي قرية مكونة من مجموعة من الأسر (حوالي 70 أسرة) هاجرت إليها من منطقة “أَخْلاط التاريخية”، وستظل هذه النسبة موجودة في أسرة آل كولن إلى اليوم. فهو إذن فتح الله كولن الأناضولي الأخلاطي، إذ كان جدّه معروفًا بالأخلاطي نسبة إلى هذه المنطقةُ التي تقع بين الجبال، وفي أحضانها. عَرفت هذه المنطقة الإسلام منذ العهد العباسي وتشبعت بروح القرآن، فكانت ثمار التعرف على الإسلام أجيالا من المؤمنين المعتزين بهويتهم الإسلامية.

انحدر فتح الله كولن من صلب رهط سكن الجبال وألف الأعالي وهي بيئة تطبع لا محالة سكّانها بطباع خاصة استمرت في كل من انحدر من أصلاب هؤلاء، وفتح الله أحدهم. وكان منهم أسرة الأستاذ فتح الله وخاصة جده ووالده اللذان سيقومان بدور كبيرة في تهيئته وتكوين شخصيته، يضاف إلى هذه الرمزية رمزية أخرى هي رمزية القرية والقضاء، الذي كانت تنتمي إليه قريته، فاسمها يدل على أنها كانت فعلا قلْعة محصنة لأنها استطاعت أن تحافظ على صفاء طويتها، وأن تحافظ على فطرتها من كل الاختراقات الثقافية والفكرية التي كانت تركيا عرضة لها خلال عقود من الزمن.

ولا تقف عناية القدر عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى الجذور، فأسرة فتح الله كولن تنحدر من بيت النبوة، وكانت هاجرت إلى المنطقة ضمن السادة الأشراف الذين هاجروا زمن العباسيين تجنّبا للفتن التي عمّت الجزيرة العربية واتقاء لشر الخوض في هذه الفتن.

سادسًا: القلوب المطمئنة

اسمه إلى جده الرابع هو محمد فتح الله، بن رامز أفندي، بن شامل، بن الملا أحمد، بن خورشيد، بن خليل. واسم فتح الله كولن يوافق أسلوب التسمية الذي جاء مع قيام الجمهورية، وهو يحمل الكثير من الدلالات ذات البعد التاريخي ويعكس في الوقت نفسه مستوى الحرب التي مارسها النظام العلماني على المجتمع التركي، وكل مكوناته وفي المقدمة الإنسان المتعلق بهويته العقدية والثقافية. يذكر إبراهيم بيومي في الدراسة المشار إليها سالفا إلى أن الأستاذ استعمل ترجمة كولن بالعربية وهي “الضحاك” لتوقيع مقالاته في صورة اسم مستعار.

عائلة فتح الله من العائلات الممتدة في تلك المنطقة، وحال العائلة كان بين الغنى والفقر، أو لنقلْ إنها حالة العائلة متوسطة الحال، لكن مكانتها العلمية كانت كبيرة، وكان طلب العلم ثروتها الفعلية والحقيقية، فقد عرف سكان المنطقة وأهلها بشغفهم بطلب العلم وحبه وحب أهله، كما يذكر ذلك بعض تلامذة الأستاذ فتح الله كولن.

كان جده الأكبر لأبيه “خورشيد بن خليل” فلاّحا معروفا بحب العلم والتقوى والورع، تحكي أخبار قريته أن جده هذا لم يُرَ في آخر ثلاثين عاما من عمره نائما في وضع الاضطجاع، إذ كان يضع يده على خده لينام قليلا، وكان يمضي أغلب وقته في العبادة بين العمل والذكر والصلاة.

ويتحدث الأستاذ عن جده شامل بأنه كان محترما في القرية، وكان ضحكه التبسّم، وكان عصيا على البكاء، لكنه بكي مرة محتضنا محمد فتح الله.. لقد كان لهذا الحادث أثر إيجابي على نفسية الطفل، فأن يعلق في الذهن والذاكرة هذه الصورة القوية لجد سمته الوقار والجدية والحرص على الظهور بكل مظهر لا يوافق الرجولة والانتماء إلى عمق الإسلام، يترك أثره البليغ في نفسية طفل ذا همة عالية. ولهذا فإن الأستاذ فتح الله قد سجل في ذاكرته حدث بكاء جده الوقور العابد، لأن الحدث في حد ذاته يستحق أن يسجل في الذاكرة ويستحق أن يذكر أمام التلامذة والمحبّين، ويستحق أن يذكر لأنه يسجل النموذج الإنساني الأناضولي الذي ظل معتزا بهويته وثقافته الإسلامية، وظل حريصا رغم التحول الذي عرفه الواقع على الظهور بمظهر إسلامي قوي. وهنا لا بد من أن نثير الانتباه إلى أمر مهم جدا وهو أن اجتثاث الإسلام من هذه التربة لم يكن بالأمر الهين، وهذا ما يريد الأستاذ فتح الله كولن التنبيه إليه من خلال سرده لهذا الحدث.

وكما تحدث الأستاذ فتح الله عن جده الذي طبع شخصيته بالجدية والوقار، تحدث كذلك عن جدته “مؤنسة” بالحب نفسه الذي كان يكنّه لجده، وربما تكون جدته “مؤنسة” أقوى أثرا في شخصية الأستاذ نظرا لأن جانبا منها ظل ملازما للأستاذ فتح الله إلى اليوم، هو “البكاء” ورقّة القلب ورهافة الإحساس. فإذا كانت صفة البكاء ملازمة لشخصية الأستاذ فتح الله نظرا لكثرة بكائه خشوعا لله وخشية منه، فهو أمر متصل في العمق بما تركته فيه جدته مؤنسة من أثر إيجابي، يقول عنها: “كانت تعيش حياة روحية خاصة، فهي كثيرة التفكير والبكاء، وتحترم المشايخ والعلماء الكبار، لم أرها مرة واحدة تنظر إليّ نظرة غضب، كانت رقيقة القلب لينة الطبع، لها عمق البحر المحيط، مؤمنة بربها، ورِعة تقية، وشخصية أصيلة.”

البكاء ميزة تُمَيِّز فتح الله عن كثير من الدعاة والمفكرين، بل إن البكاء قد يكون عنصرا من عناصر التأثير في الجماهير، لأن بكاء الأستاذ فتح الله كولن بكاء يدل على أشياء كثيرة جدا، منها ثقل الهمّ الذي يحمله هذا الرجل، ويدل على عمق الإخلاص الذي يكنّه لما يؤمن به من قيم ورؤى يتطلع إلى غرسها في قلوب الناس وفي عقولهم. إن بكاء الأستاذ فتح الله كولن بكاء ذو نغم خاص ونكهة نادرة. فهو بكاء وجودي يحقق به الأستاذ وجودا نظيفا بعد أن يغسله بدموعه ويسقيه بالعبرات المتدفقة من مقْلته لعل الثمار التي غرسها تنمو وتثمر. يقول أديب الدباغ: “فتح الله كولن عبقرية غلاّبة لا شك في ذلك، ولكنها عبقرية حزينة بعض الشيء، غير أن حزنها عذب وبنّاء ومعطاء؛ فأي يقظة ذهنية إذا ما اتسعت وأخذت أعظم مدَياتها صاحبها آلام روحية وجسدية عانى منها “فتح الله كولن” السنين الطوال؟! ومع كل هذه الآلام فإن تفكيره في ارتفاع دائم، وشعوره بالقوة والحيوية لا يوصف، ومغالبته لأوجاعه وآلامه أمر يكاد لا يصدق”.

توفي جده وجدته معا في يوم واحد سنة 1954م، ويقول فتح الله كولن بأنه بكي عندما وصله خبر وفاتهما معا في يوم واحد وقد أشعره فقدانهما بالغربة: “إن جدي شامل كان كل حياتي، أما جدتي “مؤنسة هانم” فما كنت أتخيل أني أستطيع مواصلة حياتي من دونها، وإذا بي أفقدهما معا في يوم واحد.. فكيف أقوى على تحمل حزني وأساي على فراقهما؟ حتى إني تضرعت إلى الله قائلا: إلهي توفّني وألحقْني بهما”.

القضية لا تتعلق بمجرد حب بريء يستطيع كل طفل أو شاب أن يكنه لجده وجدته، فهذا إحساس طبيعي، خاصة إذا كان لهما أثر ما في حياة الطفل أو الشاب، لكن القضية بالنسبة للفتى فتح الله كولن أكبر من ذلك وأعمق بفقدانهما، وحرصه على أن يذكر الحدث وأن يسطر عليه بكل قوة فيه إشارة إلى أن فقدانهما بالنسبة له هو فقدان لعنصر الاتصال بتلك الصورة الصافية الأصيلة التي كان أهل الأناضول يمثلونها، وهي صورة مستمدة من عصر بعيد قريب سيعمل الأستاذ فتح الله حياته كلها على بعثها في نفوس وعقول وأفئدة الناس في هذا العصر، أو في العصر الذي تحكمت فيه الحداثة، ومظاهر العصرنة التي لا تقوم على أصل ثابت.

ألم يؤمن الأستاذ بإمكانية استرجاع عصر السعادة أو عصر الصحابة كما سنبين ذلك لاحقا، ونذر حياته كلها من أجل ذلك، بل سعى إلى أن يبني حياته كلها على تحقيق هذه الصورة في نفسه قبل غيره؟! ومن هنا فإن جانبا من الجوانب التي تفسر عمق إيمانه تحقيق ذلك يكمن فيما كان يراه في جده وجدته من مظاهرة وأحاسيس صادقة تذكر بذلك العصر السعيد.

سابعًا: والد ووالدة مفعمان بالأمل والقوة

وإذا كان الجد “شامل أفندي” رجلا قرويا أمضى حياته كاملة في قرية “كوروجك”، فإن والد الفتى “رامز أفندي” قد تنقّل بين عدد من القرى والمدن، وعمل في الخدمة العسكرية في بداية العهد الجمهوري، لأنه كان يجيد القراءة والكتابة، وكان وُظف ليعلّم الجنود الأمّيين القراءة والكتابة، وهي مهمة دقيقة، فرغم انخراط الوالد في الجندية لم يكن انخراطه مجرد انخراط فحسب، لأن انخراطه كان في الأصل أعمق من الجندية، وهي التربية والتعليم، وغير مستبعد أن يكون لهذا العامل تأثيره في نفسية الفتى فتح الله.

أتم “رامز أفندي” حفظ القرآن الكريم وهو في الثلاثين على يد الشيخ “خليل أفندي”، ولهذا الحدث دلالته الخاصة المؤثرة في شخصية الطفل فتح الله، هي حب العلم وحب طلبه والإصرار على ذلك حتى سن متقدمة. وأما حرص رامز أفندي على تعليم الجنود القراءة والكتابة فخصلة طيبة ورثها الأستاذ فتح الله، وظل طيلة حياته محبا لها وحريصا على تطويرها. فمهمة التربية والتعليم كانت أجل ما تلقاه من والده، وأظن بأن الاستاذ فتح الله كولن لو خُيِّر في المهنة التي يحب لكانت هي مهنة التربية والتعليم.

شَغفُ “رامز أفندي” بالعلم والمعرفة يفسره اقتناؤه بعض الكتب والدواوين الشعرية عربية وفارسية. وما يؤكد هذا الشغفَ رحلتُه إلى قرية “مصلحت” والإقامة فيها لمدة عامين من أجل حضور دروس “خليل أفندي” رغبة في إتقان اللغة العربية واللغة الفارسية.

حرْص رامز أفندي على تعلم اللغة العربية والفارسية يخفي تجذر التقاليد الثقافية العثمانية في لاوَعْي الإنسان التركي في منطقة الأناضول، ويدل على أن مصدر شغف الأستاذ فتح الله كولن باللغة العربية وبالأدب والفن يرجع إلى حرص الوالد. لقد ورث الأستاذ من والده حبه للعلم وحبه للقرآن وحبه للغة العربية. ويذكر إبراهيم بيومي أن رامز أفندي كان محبا للشعر، وكان كثير الترديد لقصيدة البردة في مدح الرسول  للإمام البوصيري، حتى حفظ الأستاذ فتح الله هذه القصيدة سماعا من كثرة ترديد والده إياها. وسلوك هذا ديدنه يغرس في قلب طفل حب الشعر وحب قراءته وحفظه وترديده، والأهم من ذلك حب الرسول  وحب آل البيت.

وراثة الأستاذ لهذا السلوك الطيب آت من عمق محبة الوالد لشخص الرسول ، وإلا كيف نفسر إصرار الوالد على ترديد نص في مدح الرسول ، يعد من أهم ما أبدع في مدحه ووصف خصاله وشمائله أمام الابن اليافع سوى أن تكون الحب والرغبة في نقل هذا الحب إلى أبنائه.

تلقى الأستاذ فتح الله كولن حب الرسول  منذ طفولته الأولى وهو في كنف جده وجدته ووالدته والده. كيف لا يحب الرسول  وقد كان والده يرتعش كلما سمع اسم الرسول  أو سمع ذكر أحد الصحابة الكرام.

رافقت أحوال محبة الرسول  الأستاذ طيلة مراحل حياته، فحبّه للرسول  يفوق التصور، وكذلك حبه للصحابة الكرام. ويمكن ملاحظة الأحوال التي يكون عليها فتح الله كولن عندما يذكر شخص الرسول ، فهو دائما يقف إجلالاً للرسول  عندما يذكر. لقد غُرِست هذه الخصال في قلب فتح الله منذ الصبى، وتَشبّع بها، لأنها كانت سلوكا طبيعيا في الوسط العائلي والأسري، وحتى في الوسط القروي الذي عاش وترعرع فيه.

حفظ الأستاذ فتح الله في ذاكرته صورة كتب سير الصحابة شبه ممزقة من كثرة قراءة الوالد لها ومن فرط تعلقه بهم. يقول الأستاذ: “كنا نحب الصحابة وكأنهم أفراد عائلتنا، وعندما يتحدث أبي عن الصحابة كان ينهمر في البكاء وكأنه يعيش في عصرهم”.

إن لكل شيء أصلاً.. ومحبة الرسول ، ومحبته للصحابة الكرام إلى درجة الهوس، تجد أصلها في الوسط الذي عاش فيه الأستاذ فتح الله كولن وتجد أصلها في التربة التي غذّته. ووسطٌ هذا ديدنُه عامل تأثير إيجابي في مثل نفسية فتح الله كولن.

وكما أثر الوالد رامز أفندي في فتح الله، أثر فيه سلوك أمّه وتقواها، إذ يظهر من حديثه عنها أنها وافقت الوالد في سلوكات وخصال كثيرة. ويبدو مما يحكيه عن والدته أنه ورث منها كثرة البكاء وكثرة التضرع إلى الله والمداومة على الذكر.

صاحبت الأسرة وبعض أفراد العائلة فتح الله في جميع أطوار حياته وعنهم تلقى صلابة الإيمان وقوته، فعَلاقته بهم لم تكن علاقة قصيرة، بل طالت مدة من الزمن ليست بالقصيرة. وهذا الطول في المصاحبة والعشرة من شأنه أن يصنع نموذجا إنسانيا متميزا. يقول إبراهيم بيومي: “قدر الله له أن يصاحب جدّه وجدته أكثر من ستة عشر عاما، وأن يعايش والديه لسنوات عديدة، بلغت ستا وثلاثين عاما من عمر أبيه، وحوالي ستين عاما من عمر والدته التي توفيت في 27 من ذي الحجة 1413هـ / 18 يونيو 1993م. ومثل هذه المدة الطويلة تتيح للابن أن يتشبع من خصال آبائه وأجداده، وبقية أقاربه الذين عاصرهم في محيط العائلة، وأن يرتوي تماما من أخلاقهم، وأن يتطبع بكثير من طباعهم، كانت الأم هي مدرّسته الأولى، وكان الأب هو معلمه الأول”.

من يشاهد الأستاذ وهو يعظ على المنبر وهو يبكي لا تكاد عيناه تتوقفان عن الدموع، يدرك بأن لهذا الحزن العميق ولهذا البكاء الغزير أصلا في عائلة الأستاذ وأسرته، بل يدرك أن في عائلته سلسلة من البكائين عيونهم كثيرة الدمع خشية الله، تبدأ السلسلة من الجد “الملا أحمد” والجدة “مؤنسة” هانم، ثم الوالد “رامز أفندي” والوالدة “رفيعة” هانم، وتستمر مع “فتح الله كولن”، الذي أضحى كبير البكائين المعاصرين، إذ لا يكاد يلقي موعظة أو درسا دون بكاء…

كل هذا الذي تقدم يؤكد لنا أن الكثير من الجوانب البارزة في شخصية الأستاذ فتح الله إنما اكتسبها من وسطه الأسري.

ثامنًا: حال اجتماعية متواضعة

ويذكر الأستاذ إبراهيم بيومي أن أسرة الأستاذ تنتمي بالكاد إلى الطبقة المتوسطة، فقد كانت أسرة تعيش ظروف حياة لا تنحدر إلى حد الفقر، ولا ترتفع إلى حد الغنى والترف، ولكن لها من الاعتزاز بالقيم والعادات والتقاليد، القدر الكثير بالإضافة إلى حب طلب العلم، واعتبار ذلك ثروة كبيرة لا تقدَّر بثمن. وفي مثل هذه الأوساط تزدهر “النزعات الساعية للتغيير والإصلاح، إلى جانب التطلع الدائم نحو المستقبل عبر بناء الذات، وبذل أقصى ما في الوسع للنجاح فيما تمارسه من أعمال ومهن مختلفة”. ولهذا فإن الأستاذ فتح الله كولن ظل طيلة حياته وإلى اليوم يعتبر أن ثروته الفعلية هي العلم وإسعاد القلوب وابتغاء مرضاة الله والسعي في ذلك بخدمة الآخرين وإرشادهم إلى ما يخلص إنسانيتهم ويمكنهم من الفوز بآخرتهم، فالجاه الأصلي عند الأستاذ هو جاه العلم ومكارم الأخلاق، والسيرة الحسنة.

وسطٌ محافظ، وأسرة أكثر محافظة على الدين والتقاليد، وملتزمة بالقيم، كل هذه المكونات الإيجابية، أثّرت على أسلوب تحصيل فتح الله كولن للعلم والمعرفة. فتحصيله يخفي بعض التوافقات المعنوية تستشف من بعض الأحداث التي طبعت مساره الدراسي، ومن جوانب أخرى قد يشترك فيها مع أغلب أقرانه ممن ينتمون إلى الفئة الاجتماعية نفسها، وخاصة في الوسط القروي الذي ترعرع فيه، ومن ذلك أنه كان يمكنه الانتظام في سلك التمدرس الرسمي، وأن يشق طريقه كما يشقه شخص مميز في ذكائه ورجاحة عقلية، فتكون الحصيلة هي غير حال الأستاذ فتح الله اليوم، لكن القدر أراد له مسارا يكون فيه التحصيل الأول على الصورة التقليدية ونموذجها المكتمل. ولهذا فإن جو التكية وجو المدارس التقليدية العتيقة كان تدبيرا إلهيا من أجل تهيئة الفتى فتح الله لأمر عظيم.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.