اطلعت في الآونة الأخيرة على تقرير أعده مركز نسمات للدراسات الاجتماعية الحضارية تحت عنوان “انهيار دولة القانون في تركيا”، فهالني ما قرأت. صحيح أننا كنا نقرأ فيما أصدرته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة العفو الدولية من تقارير عن انتهاكات للقيادة التركية في مجالات متعددة منها القضاء، لكن لم يصدر تقرير مثل تقرير نسمات يسلط الضوء خصيصا على منظومة القضاء وما أصابها من دمار.

أرقام صادمة

العجيب أن التقرير يعتمد في معلوماته على وسائل إعلام موالية للقيادة التركية، مما يزيد التقرير إثارة عجيبة، فضلا عن اعتماده على تقارير دولية أخرى موثقة.

ومن خلال نظرة سريعة على الغلاف الخلفي للتقرير تطالعنا أرقام مرعبة حول التصفيات التي قام بها أردوغان ونظامه في تركيا في مؤسسات الدولة نفسها. فقد تم فصل حوالي ١٥٠ ألف موظف حكومي من وظائفهم واعتقل حوالي ٧٧ ألف شخص، وفصل ٤٤ ألف مدرس، وأكثر من ١٠ آلاف ضابط في الجيش، بالإضافة إلى إغلاق ٣ آلاف جامعة ومدرسة خاصة. من أحب أن يستزيد فيمكنه أن يراجع التقرير نفسه ويحمّله من موقع نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية بصيغة بي دي إف أو وورد.

تقرير نسمات يعتمد في معلوماته على وسائل إعلام موالية للقيادة التركية، مما يزيد التقرير إثارة عجيبة، فضلا عن اعتماده على تقارير دولية أخرى موثقة.

عندما قرأت عدد المفصولين من أعضاء القضاء صدمت، فقد فصل ٤ آلف و٤٦٣ قاضيا ومدعي عموم من وظائفهم، وهو يساوي حسب التقرير ثلث العاملين في المنظومة القضائية، ولم يكتفوا بفصلهم، بل تم اعتقال أغلبهم وزج بهم في السجون كما أبعدت زوجاتهم وعوائلهم من الوظائف الحكومية.

قوائم جاهزة سلفا

العجيب أن عملية الفصل هذه تمت في صبحية اليوم التالي من الانقلاب، فكيف عرفت الحكومة في صباح اليوم التالي من الانقلاب أن هذه الأعداد الكبرى من القضاة والمدعين العموم متواطئون مع الانقلابيين، هل تم التحقيق معهم؟ بالتأكيد لا، إنما تم فصلهم بناء على قوائم مسبقة. ولم تكن تمثيلية الانقلاب في ١٥ يوليو ٢٠١٦ سوى ذريعة لتصفية الدولة كلها من أسماء تم إعداد قوائم مسبقة عنها.

يشير التقرير إلى الحالة المزرية التي وقعت فيها محكمة الدستور، تصوروا أن محكمة الدستور تحكم لصالح الصحفيين محمد ألطان وشاهين ألباي وتصدر حكما بإطلاق سراحهم، لكن محكمة ابتدائية تتصدى محكمة الدستور ولا تتطبق الحكم وتحكم بعدم نفاذ قرار المحكمة الدستورية. فإذا كان هذا هو وضع المحكمة الدستورية وهي أعلى محكمة يرجع إليها في البلاد، فكيف يمكن أن يثق المواطن بالمنظومة القضائية؟

العجيب الحكومة التركية تبنت تنفيذ فكرة الكيان الموازي بسرعة مذهلة، وهو الأمر الذي كانت تتهم به حركة الخدمة. فقد أشار التقرير أنه عقب إبعاد ٣٨٢٠ قاضيا في موجة من موجات التصفية فتحت باب التعيين لـ٣٩٤٠ قاضيا جديدا وبسرعة البرق وتم اختيارهم وفق معايير سياسية.

بين العصا والجزرة

هناك فصل لافت في تقرير نسمات بعنوان “القضاة بين العصاة والجزرة” تقرأ فيه العجب العجاب من تسييس المنظومة القضائية لصالح السلطة التنفيذية، بل سلطة حكومة أردوغان. “ففي الوقت الذي يتم فيه التنكيل بالقضاة الذين يصدرون أحكاما وقرارات لا تتطابق مع ما تراه السلطة التنفيذية الحاكمة، يتم ترقية قضاة آخرين أصدروا أحكاما تلائم أهواء السلطة”.

تقرير نسمات أقوى تقرير صدر حتى اليوم حول ما تعرضت له منظومة القضاء من اغتيال مقصود من قبل حكومة أردوغان بصورة مفصلة.

“ومن أغرب ما يمكن عرضه في هذا الإطار أن ثلاثة من القضاة ممن تمت ترقيتهم سابقا لإصدارهم أحكاما قضائية توافق رغبات الحكومة، قد عزلوا من مناصبهم لاحقا في ٣ أبريل ٢٠١٧، عندما أصدروا قرارا بإخلاء ٢١ صحفيا أمضوا ٨ أشهر في الحبس الاحتياطي”.

التقرير تناول المنظومة القضائية في تركيا وما تعرضت له من تلاعب ودمار بصورة مرتبة، يمكن من خلالها الاطلاع على معاناة المحامين وحرمان المعتقلين من حقهم في الدفاع، ثم محكمة النقض وما تعرضت له من ضربات، ومآسي المحاكم الإدارية، والمحكمة الدستورية. العجيب أن أردوغان قد أسس محاكم جديدة أشبه ما تكون بمحاكم التفتيش أيام القرون الوسطى من أجل ملاحقة أبناء حركة الخدمة ومن كان على صلة بهم، بل من أجل ملاحقة كل من يعارض الحكومة الحالية.

أقوى تقرير

تقرير نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية أقوى تقرير صدر حتى اليوم، وقد استطاع أن يطلع القارئ العربي على ما تعرضت له منظومة القضاء من اغتيال مقصود من قبل حكومة أردوغان بصورة مفصلة. كما أكد التقرير للقارئ أن انقلاب يوليو ٢٠١٦ لم يكن فاشلا البتة، بل التمثيلية الأولى كانت مقدمة للانقلاب الحقيقي الذي قام به أردوغان وحلفاؤه لتصفية كل معارضيه. إنه انقلاب أردوغان على الدولة التركية برمتها، ونسف لدولة القانون من أساسها.

في مشهد كهذا قد انهار فيه مفهوم العدل، تصبح دعوة المعارضين إلى تركيا للمثول بين يدي القضاء خالية من أي مصداقية ومدعاة للسخرية، إذ لا يوجد قضاء مستقل في تركيا، فكيف يمكن الوثوق به والمثول بين يديه؟

فهل يمكن لبلد أن يستمر طويلا بلا قانون. القانون صمام أمان كل بلد. فإذا انهار القانون انهارت البنية الاجتماعية والنظام الاقتصادي والنظام السياسي كذلك.

السؤال هل يمكن لأردوغان أن يعود إلى القانون؟ سؤال طرحه العديد من المراقبين، وكانت الإجابة كلا. لأن عودة المحاكم العادلة تعني محاكمة أردوغان بجرائم لا نهاية لها. فإما أن يعود أردوغان للعدالة أو تنهار تركيا مع أردوغان. فهل من ناصح له؟ وإن جاءه الناصح فهل سيسمعه؟