إذا قمنا بدراسة كتابات وأعمال فتح الله كولن، فسيكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن “هل خُوجَه أفندي (السيد الأستاذ) كما يناديه تلاميذه، صوفي أوْ لا؟”

ففي أوقات مختلفة من حياته اضطر كولن أن يدافع عن حركته وأن يفند اتهامات بأنه ابتدع طريقة صوفية جديدة وأنه هو “شيخها”[1]. لكن الاتهام بتأسيس “طريقة صوفية” في تركيا اليوم يحمل في طياته تهمتين مزدوجتين، كما أن له تداعياتٍ قانونيةً وسياسيةً؛ لأن الطرق الصوفية لا تزال محظورة قانونيًّا في تركيا، فإن تأسيس طريقة جديدة يعتبر نشاطا غير قانوني. وينظر العلمانيون إلى التصوف على أنه جزء من ماضي ما قبل الحداثة، وأنه من آثار العهد العثماني، وأحد عوائق التقدم والتنمية والازدهار والرفاهية.

يرى كولن أن مرشده في رقيّه الروحي هو القرآن، وأن القرآن ليس فقط أفضل مرشد، بل هو مصدر كل الأفكار والممارسات الصوفية الصحيحة.

وفي المقابل هناك تيار ديني يرى أن التصوف هو السبب في ابتعاد الأمة الإسلامية عن الوظيفة التي كلفها الله بها، وهي بناء مجتمع يتفق مع قواعد القرآن والسنة، كما يتهمون الصوفية أيضًا بأنهم يشجعون على ظهور البدع التي لا أصل لها في الدين، وإظهار تدين سلبي، والتركيز على الجانب الروحي والذاتي فقط في الدين.

وردًّا على هذا الاتهام يؤكد كولن أنه لم يؤسس طريقة صوفية، وأنه لم ينتم شخصيًّا لأي طريقة صوفية قط، فهو يقول:

“إن الطرق مؤسسات ظهرت باسم تمثيل الصوفية بعد ستة قرون من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، ولها نُظُمها وقواعدها الخاصة بها. إنني لم أنضم قط لأية طريقة صوفية ولم تربطني أيضًا أية علاقة بأي منها”[2].

وبالنسبة لمسألة تلقيبه بـ”خُوجَه” -وهو اللقب الذي يطلقه الصوفيون عادة على معلمهم في العهد العثماني- أجاب بأن هذا اللقب لا يحمل أية دلالات إيحائية أو تتعلق بتسلسل هرمي، وإنما هو ببساطة “نوع من التوقير”[3].

يرى كولن التصوف والشريعة وجهين لحقيقة واحدة، فهما طريقتان للتعبير عن الحقيقة نفسها، فاختلاف التعبير يرجع إلى اختلاف المشارب، وليس اختلاف في محتوى الرسالة.

صوفي بلا انتماء

ولكن هل عدم انتماء كولن لأي من الطرق الصوفية ينفي عنه التصوف؟ في الدراسة التفصيلية التي قام بها “زكي ساري توبراك” عن نزعات كولن الصوفية وَصَفه بــ”الصوفي على أسلوبه الخاص”[4]، كما يؤكد ساري توبراك أن هناك الكثير من الصوفيين لا ينتمون لطريقة صوفية معينة. فخلال القرون الستة الأولى من الإسلام لم يكن هناك أية طرق صوفية بالرغم من وجود العديد من الصوفيين البارزين، وحتى بعد ظهور الطرق الصوفية في الأمة الإسلامية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر كان هناك العديد من الصوفيين المعروفين، ولكنهم لم ينتموا إلى الطرق الصوفية. غير أن ساري توبراك يعترف بالموقف الإشكالي للصوفي المعاصر الذي لا ينتمي لطريقة معينة وليس له مرشد روحي. يقول ساري توبراك:

“لم يكن للصوفيين الأوائل طرق ولا تنظيمات صوفية، فرابعة العدوية والجُنيد البغدادي والحارث المحاسبي وبِشر الحافي والغزالي وفريد الدين العطار وحتى الرومي لم ينتموا إلى طريقة معينة رغم أنهم كانوا من الصوفية. ووفقًا للأساسيات المحورية للمؤسسة الصوفية فإن مسألة تصوفهم تصبح جدلية؛ لأن هؤلاء الصوفيين الأوائل لم يكن لهم أي مرشد روحي”[5].

ويعد وجود مرشد أو معلم روحي مسألةً جوهرية، فالغالبية العظمى من الصوفية لا تشجع بل وتمنع اتباع شخص ما للطريق الصوفي دون أن يكون له معلم أو شيخ، غير أنه لم يزل هناك أقلية من الصوفيين ترى دائما أن هذا المرشد الروحي لا يجب أن يكون شخصًا على قيد الحياة، فبعض الصوفيين مثلًا يدّعون أن مرشدهم هو “الخضر” عليه السلام.

كولن لم يسمِّ نفسه صوفيا قط، فالمرء ليس صوفيا بالاسم ولكن بالروح والقلب كما يقول الرومي.

أما كولن فهو يرى أن ما يرشده في رُقِيّه الروحي هو القرآن والسنة، ويعتقد أن القرآن ليس فقط أفضل مرشد بل هو مصدرُ وينبوعُ كل الأفكار والممارسات الصوفية الصحيحة، وحيث إن مصدر التصوف القرآن والسنة، والذين طبقوا الآيات القرآنية من خلال (مجاهدتهم)، فلا ينبغي اعتبار التصوف مجرد بديل يتبعه بعض المسلمين الخارجين عن الشريعة أو المناقضين لها، ولكن ينبغي النظر إليه على أنه أحد علوم الإسلام الأساسية.

فالتصوف لا يتعارض مع أي من الأساليب الإسلامية المستندة إلى الكتاب والسنة، بل إنه يبعد كل البعد عن التعارض، حيث إنه يستقي من نفس مصادر العلوم الدينية الأخرى (القرآن والسنة) بالإضافة إلى الاستنتاجات التي استنبطها العلماء الأجلاء من القرآن والسنة عن طريق “الاجتهاد”[6].

“ولما كان التصوف طريقًا للعبادة جُلّ اهتمامه الباطن، ويتناول الجانب الروحي للأحكام الشرعية ومدى تأثيرها على القلب، والأعماق التي تشف في الوجدان، فهو بالنسبة للمسالك الأخرى أكثر غورًا ولدنّيةً وأوسع مدى وأصعب فهمًا، إلَّا أنه من حيث الهدف والمنطلق نابع من الكتاب والسنة لا ينافي أي طريق إسلامي آخر. بل هو كالعلوم الشرعية الأخرى، يؤكد روح العلم والمعرفة واليقين والإخلاص والإحسان وما شابهها من الحقائق، مستندًا إلى الكتاب والسنة والاجتهادات الخالصة للسلف الصالح”[7].

فبالنسبة لكولن، التصوف والشريعة وجهان لحقيقة واحدة، أو بمعنى آخر: هما طريقتان للتعبير عن نفس الحقيقة، فالاختلاف في التعبير بطريقتين ينبع من الاختلاف في المشارب، وليس لاختلافات في محتوى الرسالة. يقول كولن في هذا الصدد:

“ظن قسم من المسلمين في بعض العهود أن الشريعة شيءٌ وروحُ الشريعة التي تشكِّلها المراقبة والرياضة والمجاهدة… إلخ شيءٌ آخر –وهما في الأصل وجهان لحقيقة واحدة-؛ فاستمسك بعضُهم بواحدة منهما والبعضُ الآخر بالأخرى، فأخذ كلٌّ منهما موقف العداء من الآخر، بتوهم أن إحداهما تشبُّثٌ بالظاهر والأخرى تشبُّث بالباطن. وفي الحقيقة أن ما أَوْجد -إلى حد ما- ظهور هذا الاختلاف هو أن الفقهاء وأهل الفتوى مثّلوا جانب الشريعة النظري، بينما مثّل الصوفيةُ جانبها الباطني. والحال أن هذا الاختلاف يمكن النظر إليه على أنه نتاج لميل طبيعي في الإنسان، وهو أن يعطي كلُّ شخص الأولويةَ للأسلوب الذي يتوافق أكثر معه ومع استعداده الشخصي”[8].

ولم يزل هناك مِن الصوفيين المنحرفين عن الشريعة مَن ادعوا أن اتّباع الأحكام الفقهية “الظاهرية” للشريعة لا حاجة له بالنسبة لهؤلاء الذين يسلكون طريق “الباطن”. ولكن من الواضح أن كولن من الذين يؤكدون على ضرورة عدم التخلي عن الشريعة. فهو بمثابة امتداد لسلسلة صوفية تحتل الشريعةُ الإسلامية الصدارة في تصورهم، والتي تمثلت في تقاليد الطريقة القادرية والنقشبندية في القديم، وفي سعيد النورسي الذي يرى التصوف جانبًا مهمًّا من جوانب حياة المسلم المخلص الذي يبحث عن سبل لينقل رسالة القرآن والسنة إلى الحياة بشكل كامل في العصر الحديث.

يرى كولن أن التصوف هو البعد الداخلي للشريعة، وينبغي ألا يفصل الباطن عن الظاهر. فإن أداء الشعائر دون التنبه إلى قوتها التحولية الداخلية يؤدي إلى تطبيق جاف لها.

روافد مؤثرة

وترى “أ.د. أليزابيث أوزدالجا” أنه هناك ثلاث نقاط مرجعية إيجابية شكلت فكر فتح الله كولن وهي:

1- الإسلام السُّنِّيّ.

2- التقاليد الصوفية للطريقة النقشبندية.

3- الحركة النورية وهي تسمية تطلق على الذين تأثروا بكتابات سعيد النورسي[9].

أما النقشبنديون فهم يصرون دائمًا على الأداء الحريص لقوانين الشريعة، إذًا فلا تعارض لديهم بين التصوف والشريعة، لكن كولن يختلف عن الطريقة النقشبندية من حيث إن تابع هذه الطريقة يقدَّم له برنامج صريح خاص بالتطور الروحي، والذي ينفذه تحت إشراف شيخه… في حين أن برنامج كولن يؤكد على الأعمال الصالحة التي لا حد لها أو الخدمة المتواصلة في سبيل الإنسانية أكثر من تأكيده التدريبات والرياضات الروحية[10].

 ربما كان سعيد النورسي من أهم العوامل المؤثرة إيجابيًّا على تطور فكر كولن بوجه عام وفهمه للصوفية بوجه خاص[11]. وكما فعل النورسي الذي نبع فكره أيضًا من داخل الطريقة النقشبندية لكنه اختار العمل والتعليم خارج حدود طريقة ثابتة، فإن كولن أيضًا يرى أن التصوف أقرب إلى أن يكون حكمةً تراكمية لعلماء الإسلام أكثر منه ضرورة مؤسسية لتحقيق قيم الإسلام داخل الفرد.

ويرى النورسي أن “هناك تحت عناوين التصوف والطريقة والولاية والسير والسلوك حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، أعلن عنها كثير من علماء أرباب الكشف والأذواق وتناولوها بالدرس والتمحيص والتعريف، فكتبوا آلاف المجلدات حولها فأخبروا الأمة وأخبرونا بها”[12].يقول النورسي:

“لا يمكن أن تدان “الطريقة” ولا يحكم عليها بسيئات مذاهبَ ومشارب أَطلقت على نفسها -ظلمًا- اسم “الطريقة”، وربما اتخذت لها صورةً خارج دائرة التقوى، بل خارج نطاق الاسلام. فلو صرفنا النظر عن النتائج السامية التي تُوصل إليها الطريقة سواء منها الدينية أو الأخروية أو الروحية، ونظرنا فقط إلى نتيجة واحدة منها ضمن نطاق العالم الاسلامي نرى أن “الطرق الصوفية” هي في مقدمة الوسائل الإيمانية التي تُوسّع من دائرة الأخوة الإسلامية بين المسلمين وتبسط لواء رابطتها المقدسة في أرجاء العالم الإسلامي”[13].

لم يَمنع احترامُ وتقدير كولن لشيوخ الصوفية وأساتذتها من نقد بعض تطبيقاتهم أحيانًا.

معنى التصوف عند كولن

وينظر كولن إلى التصوف باعتباره “البُعد الداخلي والروحاني للشريعة”، ويرى أن بُعْدَي الإسلام لا يجب فصلهما أبدًا؛ فإن أداء المظاهر الخارجية دون الالتفات إلى قوتها التحولية الداخلية يؤدي إلى تطبيق جاف للشعائر، وكذلك التركيز على الضوابط الباطنية ورَفْض ما فُرِض من شعائر وسلوك يقلل من القدرة الروحية على اتّباع الأشياء المفضلة والميول الشخصية. ولذلك لن يستطيع المرء أن يسلم حياته كلها بتواضع لله إلا من خلال تنشيط بُعْدَي الإسلام معًا.

“إن أساس التصوف هو الرعاية لآداب الشريعة ظاهرًا، والوقوف على تلك الآداب باطنًا، فالسالك الذي يُحسن استعمال هذين الجناحين يرى من الباطن ما في الظاهر من الأحكام، ويشعر ويعيش في الظاهر بالأحكام التي في الباطن. وبفضل هذه المشاهدة والشعور يسير دومًا بأدب نحو الهدف، ويجول قريبًا منه ويحوم حوله”[14].

وكما أن التصوف هو “إحياء علوم الدين” على حد تعبير الغزالي، فالشريعة هي الرسوخ والتعمق في التعاليم والتقاليد الإسلامية. يقول كولن:

“إن لم يستطع السالك إعداد قلبه وفقًا لمتطلبات كل من رحلته الروحية وأوامر الشريعة -بمعنى أنه حين يحلق بمشاعره في أجواء لا نهائية إن كان لا يضبط فكره وفهمه في ضوء النبوة- فلا جرم أنه سيسقط، وسيرتبك ويختلط عليه الأمر في كلامه وأفعاله التي لا تتوافق مع روح الشريعة”[15].

   ويرى “ساري توبراك” أن المرء لا يسمى بـ”الصوفي” بانتسابه إلى طريقة. ويستشهد بـ”مولانا” إن المرء لا يكون صوفيًّا بظاهره، ولكن بنقاء طويته وطيب سريرته. يقول ساري توبراك:

“إن كولن لم يسم نفسه صوفيًّا قطّ؛ فالمرء ليس صوفيًّا بالاسم ولكن بالروح والقلب، وكما يقول الرومي: كيف يكون المرء صوفيًّا؟ إنه نقاء القلب وليس الرداء المرَقَّع أو الشهوات الجنسية المنحرفة لهؤلاء الدنيويين الذين يسرقون هذا اللقب، لكن الصوفي الحقيقي هو الذي يعطي الأولوية لتصفية الروح. وخلاصة القول أن كولن يدرك أن المرء يفني نفسه ويتلاشى في أشعة الحقيقة من خلال إدراكه لعجزه وفقره وتفاهته”[16].

وإذا اعتبرنا أن كولن صوفي في الروح على الأقل إن لم يكن بالاسم أيضًا، فماذا يعني التصوف في نظره؟ يقدم كولن تعريفه الخاص للصوفي فيقول:

“التصوف هو التحرر من الصفات البشرية إلى حد ما، واكتساب الصفات الملائكية والأخلاق الإلهية، والعيش في فلك المعرفة والمحبة الإلهية والذوق الروحاني”[17].

يبدو أن كولن يعطي أولويةً للإرادة مؤكِّدًا على أن التصوف يعني التغلب على الصفات البشرية، والوصول إلى حول الله وقوته ورحمته، واكتساب الفضائل والسلوكيات التي يرتضيها الله في عباده. ومن يستطع أن يعيش على هذا النحو يَتَرقَّ في “المعرفة” أو الحكمة الروحية و”المحبة” و”العشق” لله وللآخرين، ويُنعم الله على المؤمن الذي يتبع هذه الطريق بالسعادة الروحية التي تشجعه وتعطيه الثقة. ويتوافق هذا الفهم مع الاتجاه العام للسلوك الصوفي عبر القرون، حيث يبذل الصوفي جهده لينال المقامات الروحية المختلفة، وعندها تنزاح الحواجز الواحد تلو الآخر بين العبد والرحمة الإلهية، وعندها ينبغي له أن ينتظر في ثقة لينال “الأحوال” الروحية للمعرفة والحب والبهجة.

كولن يرى أن التصوف أقرب إلى أن يكون حكمة تراكمية لعلماء الإسلام أكثر منه ضرورة مؤسسية لتحقيق قيم الإسلام داخل الفرد.

دور التصوف عند كولن

ولكن لماذا اهتم كولن بالتصوف؟ وماذا يوجد فيه من جاذبية تستهويه؟ لقد قال في تصريح معبر له: إنه لاحظ أن المسلمين عبر القرون الذين كانوا أكثر تأملًا وطلبًا لتطبيق القيم الروحية التي يعلِّمها الإسلام، والذين طوروا أنظمة تعليمية روحية للسيطرة على نزوات الأنانية، كانوا في الواقع صوفيين. إذن نستطيع القول بأن التصوف هو “جوهر” الإسلام، أو كما يقول كولن في موضع آخر هو “روح” الإسلام، حيث قال:

“إنه من الطبيعي أن يؤكد الإسلام على العالم الروحي، وهو يَعتبر تربية النفس مبدأً أساسيًّا، ولذلك نجد مبادئ مثل: الزهد والتقوى والبر والإخلاص تحتل مكانة كبيرة في هذا النوع من التربية، وفي التاريخ الإسلامي كان التصوف هو الفرع الأكثر تركيزا على هذه المبادئ، ومعارضة هذا بمثابة معارضة جوهر الإسلام نفسه”[18].

وبعبارة أخرى، تتجلى عبقرية التصوف -وفقًا لكولن- في قدرته على تجسيد رسالة القرآن والسنة في داخل الإنسان فيؤثر في سلوك المسلم ويُشَكِّله، ومن خلال التصوف يتعلم المسلم أن ينظر إلى ما هو أبعد من مجرد طاعة الأوامر والشرائع، وهو إدراك جوهر الإسلام، والذي يصبح جزءًا لا يتجزأ من أسلوب حياة المؤمن. فالتصوف يوضح كيف يتسامى المسلم على أهدافه الشخصية وكيف يتعامل مع الإحباط والتحديات، وكيف يتغلب على التثبيط والرتابة عن طريق الصبر والمثابرة، كما يمكِّن التصوفُ المسلمَ من اكتساب الصفات الفاضلة والانضباط الذاتي الذي يؤهله للعيش وفقًا لإرادة الله. ويقود التصوف إلى حالة “الشوق والسعادة”، فيتحول تطبيق الالتزامات الدينية من مجرد عبء مرهق ثقيل يحمله المرء مكرهًا، إلى قبول الحياة بحب وسعادة. إن ما يهم كولن بالدرجة الأولى هو تلك القدرة الصوفية على تقديم برنامج عملي يمكّن المسلم من تبني الإيمان والتطبيق، وليس طقوس الانتشاء والتجارب الصوفية الخارقة للعادة التي يزعمها بعض المتصوفة أو التي تُنسب إليهم أحيانًا.

  لم يَمنع احترامُ وتقدير كولن لشيوخ الصوفية وأساتذتها من نقد بعض تطبيقاتهم للحياة الصوفية أحيانًا، فكثيرًا ما تبددت نشاطات المتصوفين الأوائل في الأشكال المؤسسية التي تشكلت في الطرق الصوفية اللاحقة وبخاصة في العصر الحالي، حيث اعتزل العديد من المتصوفين الحياة الواقعية، وانخرطوا في تأملات باطنية غير مجدية. ويرى كولن أنهم إحدى المجموعات المسؤولة عن أزمة التعليم في تركيا الحديثة، بل إن جهود كولن في مجال التعليم يمكن النظر إليها على أنها رد فعل طبيعي لعدم وجود بديل في برامج التعليم المقدمة للطلاب الأتراك. إن الافتقار إلى التكامل بين المعرفة العلمية والقيم الروحية هو ما دفع كولن ورفاقه لتصور نوع جديد في التعليم.

وقبل الابتداء في المشروع التعليمي الذي يتبناه كولن ورفاقه كان الطلاب في تركيا يُجبَرون على الدراسة إما في المدارس العلمانية الحكومية، أو في المدارس التقليدية، أو في التكايا، أو في الأكاديميات العسكرية، لكن كل هذه المؤسسات لم تتمكن من تحقيق التكامل الحقيقي بين التدريب العلمي والقيم الإنسانية والروحية؛ حيث ركزت المدارس الحديثة على تدريس المبادئ الأيديولوجية، وانفصلت مؤسسات التعليم الديني عن الحياة، وانخرطت مؤسسات التزكية (التكايا) في فلسفةِ ما وراء الطبيعة فقط، أما الجيش فقصر جهوده على القوة فقط، ولذلك كان تحقيق التكامل الحقيقي بين هذا كله مستحيلًا من الأساس.

 ويؤكد كولن أن المدارس العلمانية لم تستطع أن تحرر نفسها من التقاليد والأحكام المسبقة للأيديولوجية العصرية، وذلك على الرغم من أن المدارس الدينية لم تُبد اهتمامًا كبيرًا أو قدرة على مواجهة تحديات التكنولوجيا والفكر العلمي فهي تفتقر إلى المرونة والرؤية اللازمين للانفصال عن الماضي وإحداث التغيير، وتقديم هذا النوع من البنية التعليمية التي يحتاجها الطلاب اليوم. وبالرغم من أن التكايا الصوفية شغلت نفسها بتشجيع تنمية القيم الروحية إلا أنها لم توفَّق في مواجهة تحديات المجتمع المعاصر، كما يقول كولن: يشتغلون بتسلية أنفسهم بقيمِ وكرامات الأولياء الذين عاشوا في القرون السابقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] توماس ميتشل: “فتح الله كولن المربي”، استشهد بها في كتاب ألفه م. هاكان يافوز وجون ل. إسبوزيتو (المحررون) بعنوان “التطبيق التركي للإسلام والدولة العلمانية: حركة كولن”، سيراكيوز: مطبعة جامعة سيراكيوز، 2003م، ص. 69.

[2] استشهد ل.ي ويب بهذه العبارة في كتابه “فتح الله كولن: هل يوجد المزيد عنه أكثر مما ترى العيون؟” (باتيرسون، ن.ج. زينور للكتب، 1983م)، ص. 103.

[3] المصدر السابق، ص. 80.

[4] يوافق على هذا الرأي إحسان يلماز، ويقول إن معظم الباحثين الذين كتبوا عن كولن يتفقون على أنه عارف إسلامي روحاني يسعى من خلاله إلى تلبية احتياجات الناس الروحية وتعليمهم، والسعي وراء الاستقرار أثناء أوقات الاضطراب (انظر كتاب إحسان يلماز، بعنوان “الاجتهاد والتجديد عن طريق السلوك: حركة كولن”) استشهد به م. هاكان يافوز وجون ل. إسبوزيتو (المحررون) في كتاب “التطبيق التركي للإسلام والدولة العلمانية: حركة كولن”، ص. 208 – 237.

[5] زكي ساري توبراك: “فتح الله كولن: صوفي على طريقته الخاصة” ، هذا البحث عرض خلال مؤتمر بعنوان “الحداثة الإسلامية: فتح الله كولن والإسلام المعاصر”، جامعة جورج تاون، 26-27 أبريل 2001م، تحت الطبع، ص. 7. هذا البحث هو أول دراسة توضح عناصر الصوفية في فكر كولن. سأحاول ألا أعيد ما أوضحه ساري توبراك.

[6] فتح الله كولن: “في ظلال الإيمان (İnancın Gölgesinde)”، (إزمير: كايناك 1997م)، ص. 9، بـ[اللغة التركية].

[7] فتح الله كولن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، “التصوف من حيث المنشأ”، ص. 22 (دار النيل – 2011).

[8] المصدر السابق، ص. 19.

[9]  “الزهد الدنيوي في الطرح الإسلامي: إلهام التقوى والفعالية لدى فتح الله كولن”، مقال نقدي لإليزابيث أوزدالجا (خريف 2000م) ص. 91.

[10] المصدر السابق، ص. 93.

[11] في تقديمه على كتاب النورسي “المثنوي العربي النوري” (دار النيل- 2012م) يشجع كولن على ضرورة التعمق في دراسة أعمال الأستاذ النورسي.

[12] بديع الزمان سعيد النُّورسي: رسائل النور، المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، القسم التاسع، ص. 543، (دار النيل، 2011م).

[13] المصدر السابق، ص. 546.

[14] فتح الله كولن: “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، “التصوف”، ص. 14.

[15] فتح الله كولن: “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، “الدهشة والحيرة”، ص. 229.

[16] ساري توبراك، ص. 18-19.

[17] فتح الله كولن: “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، “التصوف”، ص. 14.

[18] فتح الله كولن، استشهد به ويب في كتابه ص. 103.

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر كولن، كتاب مشترك، ص: ٣٧-٤٨، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤، الطبعة الأولى، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال وعناوينه الجانبية من تصرف المحرر.

About The Author

الأب الدكتور توماس ميشيل، (مستشار البابا ومستشار الفاتيكان للشؤون الإسلامية سابقاً)، درَّس اللغة الإنجليزية في أندونيسية وهناك بدأ اطلاعه على الإسلام، انتقل إلى القاهرة لتعميق معرفته بالعربية والإسلام، ودرَس في الجامعة الأمريكية ودار العلوم والأزهر، عمل سكرتيرًا لمجلس أساقفة آسيا للحوار بين الأديان، ثم سكرتير الأمانة اليسوعية للحوار بين الأديان في روما، درَّس في كثير من جامعات العالم، وله عديد من الكتب والمقالات بلغات مختلفة.

Related Posts