إن أصل الحوار هو القرآن الكريم، الكتاب المنزّل من الله تعالى بطريق الوحي على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والمتضمن لكثير من الحوارات بين الله تعالى وملائكته وحوار الله تعالى مع رسله الكرام، وحواره تعالى مع المؤمنين والمشركين، وحواره عز وجل مع أهل الكتاب وأتباع الأديان الأخرى، كما يشتمل على حوارات الأنبياء مع أقوامهم. والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي المتخذ الحوار فيه منهجًا أساسيًّا كاملاً وشاملاً ومعجزًا.

المبلغ هو بطل الشفقة والرحمة قبل كل شيء. لا يتوسل لدفع الآخرين إلى قبول الحق الذي يدعو إليه بالوسائل الخاطئة كاستعمال القوة والخشونة والإكراه.

أساليب منهج الحوار في القرآن

1 – بيان كيفية التعامل مع الأديان الأخرى على أساس استباق النية الحسنة ضمن كافة الأخلاقيات الكريمة التي وضعها الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى:” وَمَنْ جَاهَدَ فِإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَن الْعَالَمِينَ”(العنكبوت:6).

2 – بيان كيفية مخاطبة العقل بالمنطق العلمي المقنع. ويظهر ذلك في قوله تعالى: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللهَ لَفَسَدَتَا فَسُبْحاَنَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ”(الأنبياء: 22).

3 – استخدام أسلوب الأمثلة لتقريب المفاهيم إلى الأذهان بما هو ظاهر أمامنا مثلما ضرب الله تعالى لنا مثالاً بالبعوضة، ومثالاً بالذباب.

4 – توضيح طرق التحاور والتعامل من خلال سرد قصص الأنبياء الكرام، وأحاديثهم مع أقوامهم ويتضح فيها أخلقيات هذا الحوار، وأمثلتها أكثر من أن تُحصى.

5 – تعليم الله عز وجل أنبياءه طرق المخاطبة باللين حتى لأحب وأخص أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. ويتضح ذلك في قوله تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهَمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران: 159).

من يبلغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يقوِّم أحواله وأطواره وتصرفاته وفق تلك الأهمية؛ لأن أي امتعاض يستشعره المخاطب من أطواره، ربما يكون سببًا لتنفيره.

كولن وتطبيق منهج القرآن في الحوار

تزخر مؤلفات الأستاذ فتح الله كولن بتوضيح الاهتمام ببعض النقاط الرئيسية في الدعوة إلى الحوار، وتعتني بتطبيق منهج القرآن الكريم في الحوار ويمكن إيضاحها في النقاط التالية:

أ – ضرورة العلم بلغة وأخلاق وعادات وسلوك من يُراد مخاطبتهم، فَيُخاطب الناس بلسانهم وبالأسلوب والمستوى الفكري الذي يفهمونه وبأدلة عقلية ونصائح حسنة، وذلك بأسلوب بلاغي يسهل للجميع فهمه وإدراكه، والتعرف على ما ينتسب إليه الناس من المذاهب والتقاليد الدينية والعلوم والفنون الدنيوية، بحيث يستطيع إزالة الشبهات من قلوبهم وأن يضع الحلول لمشكلاتهم فيُخاطبهم على قدر عقولهم. وفي معرض كلام الأستاذ كولن في هذا الشأن يقول: “إن المبلِّغ يتفقد أحوال مخاطبه عن كثب، فيتصرف تجاه أخطائه برحابةِ صدرٍ، فيتخذ تجاه المؤمن طور المروءة. أما مع أهل الكفر والإلحاد فيتصرف بالدراية والكياسة. وبهذه الأساليب يتمكن أن يتقرب إلى قلب مخاطبه ومنطقه من جهة، محببًا إليه ما يريد تبليغه ويسوقه إلى القبول. نعم المبلّغ يعرف جيدًا أوضاع مخاطبه، فيبتعد كليًّا عن كل ما ينفره من أسلوب أو تصرف. فما يبلِّغ إلا أمورًا سامية طاهرة.

ولا شك أم من يبلغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه واليوم الآخر ويحبب ذلك إلى قلب مخاطبه يُقدِّر مدى أهمية عمله، فيقوِّم أحواله وأطواره وتصرفاته وفق تلك الأهمية؛ لأن أي امتعاض يستشعره المخاطب من أطواره، ربما يكون سببًا لتنفير ما هو مكلف أن يحببه إليه. فهل من خسارة أفدح من هذا؟ وسنتحمل جميع المسؤوليات في الآخرة إن كانت نابعة من أحوالنا وسلوكنا، وعلى المرشدين والمبلغين أن يهتموا اهتمامًا جادًّا بالبناء الفكري لمخاطبيهم والإحاطة بمستواهم الاجتماعي وبناه الثقافي[1].

المبلِّغ يتفقد أحوال مخاطبه عن كثب، فيتصرف تجاه أخطائه برحابةِ صدرٍ، فيتخذ تجاه المؤمن طور المروءة. أما مع أهل الكفر والإلحاد فيتصرف بالدراية والكياسة

2 – استخدام الوسائل الصحيحة والمنطقية وسيلة تؤدي إلى بلوغ الحق، ويعبر كولن عن ذلك بقوله: “لا يمكن الوصول إلى الحق بوسائل باطلة. يجب أن تكون الوسائل المستعملة وسائل حق”[2].

3 – عدم اليأس والقنوط، مهما عظمت المصاعب وانتابته النوائب. ويوضح كولن ذلك بقوله: “لقد قمت بما أملته عليك فطرتك السليمة وسجيتك …وأصبح ما حواليك حديقة زهور وزنابق ..إذن فَلِمَ الشكوى من وجود ثلاث أو أربع أشواك بجانب كل هذه الورود والزهور؟ ولا سيما إن كان وجود هذه الأشواك نتيجة نقص عند التنشئة والإعداد”[3].

4 – التلطف في القول والرفق في التعامل طبقًا لقوله تعالى: “وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنْ” (النحل: 125). ونشر المحبة والشفقة والكلام الطيب والصوت الحنون بدلاً عن القسوة والعنف والضرب والقتل. وخفض جناح الرحمة على الجميع ومشاركتهم الأفراح والأتراح. وفي هذا يقول الأستاذ كولن: “إن المبلغ هو بطل الشفقة والرحمة قبل كل شيء. لا يتوسل لدفع الآخرين إلى قبول الحق الذي يدعو إليه بالوسائل الخاطئة كاستعمال القوة والخشونة والإكراه؛ لأن استقرار الإيمان بالله في القلوب ليس بهذه الوسائل قطعًا. بل الشفقة في الإرشاد تليّن القلوب وترقق الوجدان، وتجعلهما تستأنسان وتتهيآن لقبول الإيمان بالله وبرسوله”[4].

5 – تحمل مسؤولية التبليغ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تطبيقًا لقول الله تعالى: “وَأْمُرْ بِالْمَعْروفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرْ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور” (لقمان: 17).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) فتح الله كولن، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، ترجمة إحسان صالح القاسمي، دار النيل للطباعة والنشر، إسطنبول، 2003، صـ128/ 129.

([2] ) فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، المترجم إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، 2002، إسطنبول، صـ270.

([3] ) فتح الله كولن، المرجع السابق، صـ37.

([4] ) المرجع السابق، صـ187.

المصدر: هدى درويش، تقارب الشعوب موعد الحضارات “دعوة المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن نموذجًا”، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2010، صـ118/ 119/ 120.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.

About The Author

- عميد معهد الدراسات والبحوث الآسيوية – جامعة الزقازيق سابقا. - وكيل معهد الدراسات الآسيوية بالزقازيق لشئون البيئة وخدمة المجتمع سابقا. - رئيس قسم الديانات بمعهد الدراسات والبحوث الآسيوية جامعة الزقازيق. - مؤسس ومدير مركز الدراسات الإسرائيلية بجامعة الزقازيق . - نائب مقرر المجلس القومي للمرأة فرع الشرقية. - عضو اتحاد المؤرخين العرب (مصر). - عضو الجمعية التاريخية (مصر). - رئيس وحدة تطوير المشروعات – جامعة الزقازيق. - عضو المنتدى الإبراهيمي للحوار بألمانيا. - المسؤول الأكاديمي عن برنامج التثقيف الإسلامي الخاص بجامعة مونستر الألمانية. - عضو اللجنة العلمية بالمجلس الأعلى الصوفي ونقابة الأشراف. - عضو اللجنة العلمية بنقابة الأشراف. - عضو اللجنة العلمية للمجلس الأعلى لمشيخة الطرق الصوفية. - عضو الاتحاد الدولي لشؤون المصريين بالخارج - عضو جمعية الحضارة والفنون الإسلامية بالقاهرة. - ممثل أسر ذوى الاحتياجات الخاصة بالأولمبياد الخاص المصرى . حصلت على الجوائز التالية: - جائزة جامعة الزقازيق العلمية لأفضل رسالة دكتوراة فى مجال الآداب والعلوم والدراسات الإنسانية لعام 2001 – 2002م.لأهميتها الوطنية والقومية . وعنوانها "العلاقات التركية اليهودية وأثرها على البلاد العربية (منذ قيام دعوة يهود الدونمة 1648م إلىنهاية القرن العشرين) - جائزة جامعة الزقازيق التشجيعية فى مجال الآداب والعلوم والدراسات الإنسانية 2006/2007. - حاصلة على مجموعة من الدروع وشهادات التقدير في مجال التعاون مع المؤسسات العلمية في مصر وخارجها .

Related Posts