عظيم الروح، عظيم الإدراك، واسع العقل، خصب الفكر، بعيد الخيال… رجل مثل هذا يمكن أن يكون مؤهلاً لكتابة سير الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وبإمكانه إلى حَدٍّ ما أنْ يلامس الآفاق العالية لروح النبي عليه السلام، ويتتبع هذا الروح العظيم من خلال الأحداث والوقائع في سني حياته المباركة.

فحياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليست كأي حياة، إنها حياة ليست كحياة البشر، وإنْ كان هو بشريًّا خالص البشرية… فهو وحده من بني البشر تهيأ له أن يكتشف جدار الوجود وهو يريد أنْ ينقض على ساكنيه فأقامه وعدَّله، كما يشير إلى ذلك “فتح الله كولن” صاحب “النور الخالد” الذي نحن بصدد التهميش على بعض صفحاته وأفكاره… وقد مَرَّ محمد صلى الله عليه وسلم بالإنسان فرآه واقفًا على أطلال الديانات السابقة يذرف الدمع، وينعي نفسه لنفسه.. فواساه وكفكف دمعه، وخاطبه قائلاً: أنا اللبنة التي ظل مكانها فارغًا في الصرح الروحي العظيم، الذي بناه الأنبياء والمرسلون من قبلي، جئت لأكمل الصرح وأكون على رأسه وقمّته.

فقد ناقش “كولن” من خلال “السيرة المحمّدية” في هذا الكتاب مشاكل القلب البشري، ومشاكل انعكاساته في مجاري الحضارة العوراء القائمة.. فهو يرى أنَّ “التاريخ” روح عظيم سرمدي الحياة، يتمظهر في الأحداث والوقائع الإنسانية… وعلى ضوء هذه النظرة يرى أنَّ سيرة محمد عليه السلام ليست سيرة نبي جاء إلى الدنيا، وماتت سيرته بموته.. بل هو يرى أن سيرته تشكل أعظم حيويات التاريخ البشري منذ ولادته عليه السلام، وإلى أن تقوم قيامة العالم… فهذه السيرة ليست جزءً من التاريخ، بل هي قوام التاريخ، وكبرى أعمدته التي يقوم عليها، ويتأثر بها، ويتفاعل مع أحداثها شاء أم أبى… لأنها هي العقل الموزون في جنون العالم، والصواب في أخطائه، والحق في أباطيله، والاستقامة في انحرافاته.. لذلك لم يعد العالم اليوم في حاجة إلى نبِيّ جديد، لأن سيرته عليه السلام تقوم مقام أي نبِيّ جديد حتَّى على فرض قدومه.

وكل كتابة في السيرة لا تنطلق من مفهوم الخلود الذي اختاره لها القدر، فهي كتابة قاصرة لا ترقى إلى المستوى المطلوب في تناول حياة هذا الرسول الكريم عليه السلام. ومن هذا المفهوم جاء عنوان كتابه “النور الخالد”.

ولئن كانت هذه “السيرة” لا تلقى ما تستحقه من الاهتمام عند الإنسان اليوم، فليس ذلك بسبب قصورها الذاتي عن الامتداد الآفاقي والأنفسي، بل بسبب الهبوط الإدراكي لمشاكل وجود الإنسان المآلي والمصيري، وارتباط ذلك كله بأسباب البقاء والخلود.

فهذه السيرة -في رأي “كولن”- تمدُّ قارئها ومعايشها بقوى الحياة، إذا ما ضعفت هذه القوى في نفسه لأي سبب من الأسباب، كما أنها تستنهض قواه الذاتية الخافية لتسهّل له عملية رسم أشكال سامية من الحياة لم يكن ليحلم بالوصول إليها.. فيرى عندئذ روح القدر وهو يسوق الأحداث نحو مآلاتها المقرَّرة في اكتساب المزيد من المعارف الإلهية التي خُلِق الإنسان من أجلها، فينحاز في كل سلوكياته إلى المطلق من الصفات والمعاني، ويعزف عن النسبيات والمحدوديات، ولا يجعلها تستحوذ عليه وتفقده وعْيه وإداركه.

إنَّ السيرة المحمّدية لم تكن يومًا ما تاريخًا فحسب، بل هي تربية روحية وأخلاقية وإرهافية وتهذيبية وجمالية للذي يقرأها، فضلاً عن الذي يعايشها؛ لأنه يلتقي محمدًا صلى الله عليه وسلم صاحب السيرة وجهًا لوجه من خلال أحداث سيرته ووقائعها.

“أجل، إنه حيّ ونضر في صدورنا إلى هذه الدرجة.. فكلما تقادم الزمن ازْداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا… إنَّ الزمن يتقادم ويشيخ، وإنَّ بعض المبادئ والأفكار تتعفَّن وتتهاوى، أما منـزلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فتبقى متفتّحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، وستبقى نضرة في القلوب على الدوام”[1].

وبقراءة هذه السيرة -كما هو مجرّب- يمكن استعادة “الصحة الروحية” التي كثيرًا ما يفقدها الإنسان في خضمّ هذه الحياة ولأسباب مختلفة. فهي تَصُبُّ في النفس استعدادًا هائلاً وطاقة عظيمة لصد أسوأ ما يمكن أن يعتري الإنسان من غفلات كما يؤكد على ذلك “كولن”. كما أنَّ هذا الغموض المزعوم للعالم عند البعض يبدأ بالانكشاف ويتخذ صفة المعقولية الوجودية عند ما تنسب لخالق الوجود أولاً وآخرًا. وهذا ما يحاول “كولن” إثباته من خلال الوقفات عند المنعطفات الكبرى من السيرة. فعذابنا الذهني الذي كثيرًا ما يؤجّج في نفوسنا جحيمًا لا يطاق نظل نتقلب فيه السنين الطوال، يمكن الخلاص منه إذا ما عرفنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم على حقيقته بصدقه وأمانته، وبالحق القرآني الذي أوحي به إليه. فآلام محمد صلى الله عليه وسلم وعذاباته وهو يصدع بالحق الذي أُنزل عليه كان الترْياق المنشط لقيامه بأعباء الدعوة دون توقف، وهو المثال والقدوة الحسَنة لكل ما يصيب دعاة اليوم من آلام وعذابات كما يؤكّد “كولن” من خلال كتابه آنف الذكر. فالسيرة عند “كولن” هي عملية تنظيمية لكيفية استقبال الحياة تحت أقسى المقاييس وأشدّها، وهذا هو المثل الأعلى الذي يمكن استخلاصه من أحداث السيرة ووقائعها.

إنّ هذا الكتاب جولة مباركة في آفاق السيرة النبوية الشريفة، تحت نظر القلب، وبمعية الروح والوجدان. إنه يتتبع النور المحمدي الخالد، ويمضي معه في اختراقه سدف الظلام، وتدفقه في شعاب التاريخ والإنسان.

فالسيرة عند مؤلف الكتاب “فتح الله كولن” حضور دائم لا يغيب، يعايش أحداثها المباركة في فكره ووجدانه، ويمتلئ بها حسُّه وشعوره… إنها نبض القلب، وخفق الجنان… إنها تشكل عقله، وتنظم فكره، فتنعكس عنه سلوكًا محمديّ البصمة، وسننًا يحرص على أن يشكل منها واقعه وواقع الناس.

وسيرى قارئ هذا الكتاب كيف أكثر المؤلف من الوقوف عند المنعطفات الكبرى في السيرة، وكيف زاد من تأملاته في أحداثها الخطيرة، وأشبعها فحصًا ودراسة، واستخلص منها العبر والعظات، واستنبط الدروس، ورَتّبَ المهم لحياتنا الحاضرة وما هو أكثر أهمية، وما هو مُلحٌّ وأكثر إلحاحًا، وأشار الى التوافق بين سنّته صلى الله عليه وسلم والسنّة الكونية، وكيف أكّدت السنة على الحيطة والحذر والأخذ بالأسباب في صغير الأمور وكبيرها، وكيف جاءت السيرة موافقة لها… فالنجاح -كما تؤكد السنة- قمينٌ بِمَنْ يعقل ويتوكل، لا بِمَنْ يتوكل ولا يعقل.

كل هذه الأمور سيجدها القارئ في هذا الكتاب مؤطرة بإِطارٍ روحيٍ عالٍ، وبعقلانية موزونة لا إفراط فيها ولا تفريط.

  • فهو رؤية متميزة في دراسة السيرة النبوية.
  • وجولة مباركة في آفاق السيرة الشريفة، بعقل المؤرخ، وبمعية الروح والوجدان.
  • ومحاولة جادّة من أجل جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حضورًا دائمًا لا يغيب عن عقل المسلم وعن وجدانه.
  • ووقوف عند المنعطفات الكبرى في السيرة وإشباعها فحصًا ودراسة.
  • وتوكيد على التوافق بين سنته صلى الله عليه وسلم والسنة الكونية والحياتية.
  • وعرض لنماذج تطبيقية من حياة الصحابة الكرام عن مدى فهمهم وتشربهم لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • وإفادة من السيرة الشريفة، واتخاذها نبراسًا يهتدي بها الدعاة إلى الله في هذا العصر.

•        وتوكيد على شمولية الإسلام من خلال معطيات السيرة، وأنه دعوة عالمية يخاطب الإنسان في كل مكان وزمان.

[1]     انظر مقدمة كتاب “النور الخالد” للمؤلف فتح الله كولن.

 

Leave a Reply

Your email address will not be published.