من عادة المقدِّمات أن تكون منهجية، موضوعية، أكاديمية، صارمة؛ إلاَّ أني آثرت في هذا المؤلَّف الذاتيةَ الصادقةَ على الموضوعية الموهِمة؛ أسوتي في ذلك من أعلنها مدوِّية مجلجلة، فقال لا خفر الله له ذمَّة: “أعشقُ الصدق وأمقتُ النمطية؛ ثم إني أفضِّل مخاطبة القلوب الضارعة والأرواح النابضة، جنبا إلى جنب مع العقول الذكية والقرائح الفطنة؛ ولكَم تألمت حين قراءتي لنصوصٍ جافَّة لا همَّ لها إلاَّ التلغيز والتعقيد، تحت مسمَّيات كبيرة، ومبرِّرات كثيرة”…

وصدق من قال “إنَّ السياق ضاغط”، و”إنَّ الإنسان -كما الأسلوب والمنهج- ابن بيئته، وثمرة تربته، ونتيجة سباقه ولحاقه”.

من ثمَّ كان “أرباب المستوى” عملا منهجيا أساسًا، يتبنى رسالة واضحة صريحة، مؤدَّاها أنَّ الكاتب لا يعنيه أن ينظِّر ويتبحَّر، ولا أن يقيِّم وينقد، ولا أنْ يقعِّد ويعقِّد… والحال أنَّ أمَّته، في دوائرها المنداحة، تئنُّ وتترنَّح، إذ كلُّ قطعة من وطنه الإسلامي عموما، والعربيِّ بالخصوص؛ بل من العالم أجمع… كلُّ قطعة -بلا استثناء- شاغرة فاها، حائرة هائمة ضائعة، تستمطر القطر من السماء كلَّ حين، وتسأل اللهَ الفرجَ؛ يحدوها الحزن القاتل والأنين…

فهل يجوز “مع ذلك”، و”عند ذلك”، و”بعد ذلك” أن يخلُد المثقف إلى برجه العاجيِّ، وأن يُعمِل فكرَه خارج إطار الزمان والمكان، ليقال عنه: “هو عالم موضوعيُّ”، أو “هو العالم النحرير”، أو “إنه وحيد دهره وفريد زمانه”؟!

لا، وألف لا…

الاحتراقُ، والمعاناةُ، والمكابدةُ، والكدحُ… هي وقود كلِّ فكر وكلِّ فعل، وهي روح كلِّ علم وكلِّ عمل؛ اليوم وغدًا… بل دائما وأبدًا…

أمَّا النيةُ، والصدقُ، والإخلاصُ، والشجاعةُ… فهي عرصات منهجنا الخالد، الذي تعلَّمناه من قرآننا الكريم، وتشرَّبناه من نبينا الحكيم؛ وإنه بحول الله تعالى، المنهج الذي ارتضيناه وقبلناه، آمنَّا به وعقدنا العزم على اقتحام العلم والمعرفة من بابه؛ ولا ندَّعي أنَّنا بلغنا قدره، ولا أننا أدركنا شأوه، عزاؤنا في ذلك قول ربنا الرحيم: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ(النِّسَاء:100)؛ ورجاؤنا أن نكون ممن طلبَ الحقَّ، سواء بعد ذلك أدركه أم لم يدركه؛ لا أن نكون ممن طلب الباطل، سواء في ذلك أدركه أم لم يدركه… وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(الأَحْزَاب:4).

“أرباب المستوى”: مقاربةٌ ومحاولةٌ، مقدِّمةٌ وتجربةٌ… في “الجماعات العلمية”، وفي “نظرية المعرفة”، وفي “الرؤية الكونية”، وفي “رؤية العالم”… بل في “علم المناهج”، وفي “الدراسات الفكرية والحضارية” عمُوما؛ موقنين أنَّ مثل هذه العلوم والمداخل معقَّدة أساسًا، مستعصيةٌ ابتداء؛ ولذا حاول الكاتب جهده، من خلال “أرباب المستوى”، أن يجعلها مستساغةً ميسَّرةً سلسلةً، رفيقةً هيِّنةً ليِّنةً؛ دليله في ذلك قول نبيّنا الحبيب، عليه صلوات ربي وسلامه: «إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلاَّ زانه، ولا يُنزع من شيء إلاَّ شانه»، ثم قوله كذلك، مخبرا ومبشِّرا ومعلِّما: «إنَّ الله تبارك وتعالى رفيق يحبُّ الرفق، ويرضى به، ويُعين عليه، ما لا يعين على العنف».

“أرباب المستوى”، وصفٌ لما هو كائن، وتنظيرٌ لما ينبغي أن يكون، بناء على مدخل معرفيِّ عرفانيٍّ غير مألوف في البحوث الكلاسيكية المنفصمة عن أصولها؛ وإن كان مدخلا أصيلا متجذِّرا في الفكر الإسلامي، بخاصَّة في عصر السعادة، ثم في العصور الذهبية المتألِّقة؛ ولا يدَّعي المؤلِّف أنه قد أصاب الهدف، أو أنه قد بلَّغ المقصود؛ ولذا يصدق أن يُعتبر عمله مقدِّمة لأعمال أكثر رصانة وتحكُّما، وبذرة لجهود أكثر عمقا وألَقا؛ فهو يقول لكلِّ قارئ خرِّيت:

  • خذ اللبَّ وذر القشور؛ حباك الله من فضله.
  • ابتغ الحقَّ فيما تأتي وما تذر؛ هداك الله بكرمه.
  • اِنْوِ العمل، ولا تركن إلى الترف الفكريِّ؛ وفَّقك الله بعزِّه.

فليس ثمة علم، مهما علا شأوه، مقياسًا للحقِّ والباطل؛ إلاَّ كلام الله تعالى، الذي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(فُصِّلَتْ:42). وليس هنالك بشرٌ، مهما سما شأنه، ميزانا للخير والشرِّ؛ إلاَّ النبيُّ المصطفى، والحبيبُ المجتبى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(النَّجْم:3-5). ثم يتوزَّع الناس مكانةً وقدرًا، حسب قربهم أو بعدهم من هذا المعين الخالص الصافي، ومن ذلكم المورد العذب الوافي…

والحقُّ أنه يكفي مقدِّمة لهذا السفر نصٌّ للأستاذ فتح الله، اعتُصر منه العنوان اعتصارا؛ لما يحمل من دلالات عميقة، ومن أبعاد دقيقة، ومن معانٍ يليق أن تُعتبر فهرستًا للكتاب، وأن تصاغ قواعدَ في المنهج؛ ضمن مقال بعنوان “الوعي الجمعيُّ”؛ مما جاء فيه: “لا شكَّ أنَّ أصحاب المشاريع الكبرى إذا نجحوا -أثناء إنجاز مشاريعهم- في أن يقدِّموا العقل على العاطفة، والتجربة والملاحظة على السلوك الحماسيِّ، وأن يحيطوا مشاريعهم بأنوار الرسالة الربَّانية… إذا نجحوا في ذلك، فلسوف تدخل الحشود المندفعة بالعاطفة تحت تأثير تلك الحركة الحكيمة المتثبِّتة المتوازنة، وتنخرط في سلكها، وترقى في تحرُّكها إلى موقع التعقُّل والاتزان والانضباط، فتلتقي مع أرباب الاستقامة وأهل الاعتدال على خطٍّ واحد.. وهنا بالتحديد سوف يَبرُز “أربابُ المستوى” ممن تفوَّقوا على الجماهير تبصُّرًا وحكمةً وفكرًا؛ ليتفاعلوا معهم، ويقاسموهم عواطفهم الجيَّاشة وحماسهم المتدفِّق؛ وبالتالي سوف يظهر فضاءٌ مركَّب عجيب من حركة العقل والعاطفة”…

ولا يسعني أخيرا، إلاَّ أن أذكر بالخير من ساهم في تأليف هذا العمل الجماعيِّ بقسط وافر، ورعاه بعناية واهتمام بالغيْن؛ وأخصُّ بالذكر كلاًّ من الأساتذة الكرام: نوزاد صواش، وأشرف أونان، وجمال ترك، ومصطفى أوزجان، وحميد أولجون، وأنس أركنه، وأجير أشيوق، وإبراهيم الخليل يوجاداغ، وبركات الله غفور، وجابر باباعمي… وغيرهم كثير، ممن لا يسع ذكرهم جميعا بالاسم؛ لكنَّ الدعاء من خالص القلب يحفُّهم بحول الله تعالى، وهو الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملا…

ثم لا يمكن أن يُنسى جهد الأساتذة الذين راجعوا النسخة المسوَّدة قبل تمامها، وأسدَوا ملاحظات سديدةً، وأهدَوا تلعيقات مفيدةً، كانت للمؤلِّف مددًا وسندًا؛ من بين هؤلاء يذكر الأساتذةُ الكرام: مصطفى باجو، ومصطفى وينتن، وصابر عبد الفتاح، وإبراهيم بحاز، ومحمد ناصر بوحجام، ومحمد حمدي، وطه كوزي… ومن خلال ملاحظاتهم تأكَّدت مرَّة أخرى أنَّ العمل الفرديَّ لا خير يرجى منه؛ وأنَّ البركة كلَّها في العمل الجماعيّ، وفي التوافق والتعاون؛ أولم يقل ربنا الكريم: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(الْمَائِدَة:2)، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا(آلِ عِمْرَان:103)، وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا(الأَنْفَال:46).

ويصدق أن يقال في هذا المقام: “إذا أصبحنا كيانا متوحِّدا وكلاًّ متوافقا، فسوف تتنزَّل علينا من الألطاف ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسوف نمتلك القدرة على رفع أحمالٍ أثقلَ من جبل قاف”،  من هنا نقرِّر “أنَّ اللطف والسند الذي ينزل على الأفراد لن يداني حجمَ اللطف والسند الذي ينزل على الجماعة المتوحِّدة أبدا، حتى وإن كان هؤلاء الأفراد عمالقة في العلم والعرفان، جبالا في الزهد والتقوى، وحيدي أزمانهم في مواهبهم الذاتية وإقبال الناس عليهم وتقربهم من الله جل وعلا”.

فهل لي، أخيرا، أن أهمس في أذن كلِّ قارئ حبيب، بصرخة كصرخة البجعة…

وهل لي، آخرا، أن أغمس في قلب كلِّ عالم أريب؛ أغنية كأغنية البجعة…

فأقول:

“أخي الوفي، يدًا بيد، نحو جماعة علمية (بل جماعات علمية) حقيقة: تُعيد للعلم ألقه، وللمعرفة رونقها، وللمعنى جماله، وللروح جلاله، وللعمل صلاحَه، وللحياة سعادتها، وللأمَّة فجرها، وللغد أملَه، وللآخرة مثوبتها…”

أوليست «يد الله مع الجماعة»، أو لم يقل ربنا الصادق: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(العَنْكَبوت:69)…؟!

إلى أن يتحقَّق الحلم، يبقى الدعاء موصولا لربِّ العالمين، أن إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ(الفَاتِحَة:5-7).

 

جاكارتا، أندونيسيا

جوف الليل، يوم 30 جوان 2012م

فهرس الكتاب

About The Author

ولد عام 1967م في يزجن بــالــجــزائــر. حـصـل على الماجستير فـي العقيدة والفكر الإسلامي من جامعة الـخـربـة. ثــم حـصـل على الدكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان من جامعة الأمير عبد القادر بالقسنطينة. يعمل حاليا مديًرا لمعهد المناهج للدراسات العليا بالجزائر العاصمة. لـه العديد من الكتب والمؤلفات العلمية والفكرية منها «مـن بنات الأسفار»، «مطارحة معرفية»، «البراديم كولن.. فتح الله كولن ومشروع الخدمة»..

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.